الرئيسية / رواية / أيام الشارلستون

أيام الشارلستون

 

 

اليوم الأول

وبينما يلقى محمد شهدى كلمته الحماسية عن خطبة الأمس التى ألقاها “الريس” فى الاتحاد الاشتراكى لم أكن أتوقع أن يكون قريباً منى إلى هذا الحد..

فجأة لمست يده كتفى. وكان هذا وحده سبباً لأن يصيبنى بأعلى درجات الذعر. ليس فقط لأننى جرؤت أن أضحكت فى طابور الصباح. بل لأننى تحركت من مكانى. ورغم أننى أفعل ذلك كل صباح، لكننى لم أتوقع أن تلمس يداه كتفى اليمنى بمثل هذه السرعة.

قاومت رغبتى الشديدة فى أن ألتفت إليه حتى لا أعرف من يكون حقيقة. فكلا الرجلين اللذين يمكنهما أن يلمسا كتفى فى مدرسة العباسية يستطيع أى منهما أن يحول يومى إلى سعير لا يهدأ من النيران. فى كسور من اللحظات التى ركبنى فيها هذا الرعب الملتهب، لم أستطع أن أتخيل مصيرى لو أن الرجل الذى اكتشف أننى أضحك فى الطابور هو أحمد السلكاوى، أشهر ناظر فى المدينة. والرجل المرعب لكل تلاميذ المدرسة. كما لم أستطع أن أتنبأ بما يمكن أن يحدث لى لو أن الذى اكتشف جرمى هو الأستاذ “فيصل”. مدرس التربية الرياضية، الذى يشرف على طابور الصباح أيام السبت والاثنين والأربعاء بالتناوب مع الأستاذ نصيب الذى يتولى الإشراف على نفس الطابور أيام الأحد والثلاثاء والخميس.

صاح، وهو يقف أمامى كأنه “فرقع لوز” كما يحلو لنا أن نسميه فيما بيننا:

– الله.. الله.. فى مدرستنا خنفس..

وكان هذا هو آخر ما توقعت أن يلاحظه فى تسريحة شعرى. دفعنى بعضلاته القوة، وبصورة لم أتوقعها إلى خارج الصف، وقال بصوت خفيض، حتى لا يفسد على الآخرين متعة متابعة كلمة الصباح التى اعتاد “محمد شهدى” إلقاءها كل يوم، وقال بعبارات تخلو من الانفعال، لكنها تحمل كل الوعيد:

– نهارك كله خنفسه!!

ورغم أن الجملة نُطقت بما يثير الضحك فى الصفوف المتراصة وراء بعضها من طلاب المرحلة الثالثة من المدرسة، فإن أحداً لم يجرؤ حتى على الابتسام، ربما لأنه أكمل كلماته قائلاً بحسرة:

– أمثالك هم الذين أتوا لنا بالنكسة!!

كأن ذلك وحده سبباً لأن أتوقع أن ما سيصيبنى اليوم على يدىّ الأستاذ فيصل سيكون أشد علىّ من النكسة، والحزن العام الذى يسيطر على الناس منذ أكثر من ثمانية أشهر.

فى تلك اللحظة كان شهدى قد أنهى كلمته، ووقف أمام الميكروفوان بأعلى درجات السلم يلتقط أنفاسه الحماسية. فانطلق لهاثه عبر المكبر. بينما دفعنى الأستاذ فيصل إلى داخل الساحة الفارغة التى يمكن من خلالها لكل تلاميذ المدرسة أن يروا طالباً فى الصف الثالث، وقد مشط شعره بطريقة غريبة، فتهدلت خصلته بطول جبهته أسوة بما يفعل “رنجو ستار” أحد أعضاء فريق الخنافس الأربعة الذى يعرف الكثير من أسماءهم. يدفع هذا الطالب مدرس الألعاب الرياضية، كأنه يريد أن يريهم العينة التى عليها أن تُعاقب صباح اليوم.. توقعت منه أن يقوم بتجريسى، ويفضحنى أمام الجميع. وأن يعلو صوته ليصب جام غضبه على أمثاله من المخنثين. لكنه لكزنى، وصاح:

– هناك.. أمام الغرفة واحد..

وقبل أن أتحرك من مكانى حتى لا ينتبه إلى وجودى ناظر المدرسة. صاح الأستاذ فيصل مخاطباً الهواء:

– دور الفصل..

وراح طلبة النشاط يقرعون الطبول.. كان على كل الصفوف أن تتحرك. كل إلى فصله. فعلى اليمين، يتوجه طلاب أولى أول فى البداية، ليدخلوا الفصول التى تقع بالدور الأرضى، ثم على اليسار يتحرك طلاب ثالثة أول نحو الأدوار العلوية، ولأول مرة أحس أننى لا أعرف طريقى. راحت قدماى تتعثران وهما ثابتتان فى مكانهما، فلاشك أن الغرفة واحد مليئة بالفئران. والحشرات القارصة، وعلىّ أن أقضى بها يومى عقاباً لى على “خنفستى” الوقحة. لكن، لا أعتقد أن مدرسة ثانوية مثل العباسية بها مثل هذه الغرفة التى كانوا يخيفوننا بها فى مدرسة الارتقاء الوطنية الابتدائية، دورة المياه بها مظلمة طيلة ساعات النهار. ممنوعين من الاقتراب منها. حتى لو اشتدت حاجتنا إلى أقصى مداها للدخول إليها.

دفعتنى حاستى كمذنب أن أجد نفسى واقفا أمامها. إنها غرفة الألعاب الرياضية التى يمكننا أن نجد فيها، فى أى وقت، كلا من الأستاذ فيصل، والأستاذ نصيب. ولأول مرة منذ دقائق تتملكنى الشجاعة. ليس لأننى رأيت الأستاذ نصيب جالساً على مكتبه يكتب فى وريقات أمامه، ولكن لأن هناك مذنبين آخرين كانا واقفين على مقربة من باب الغرفة.

ابتسم أحدهما، وصاح:

– آه.. أنت الخنف؟!

كان يضحك كأن الأمر لا يعنيه، نظرت إليه فى دهشة، وحاولت أن أرى فى شعره علامات تؤكد أنه يقلدنى فيما فعلت. لكننى لم ألحظ فى وجهه ما يثير الانتباه. أشار إلى زميله الذى يقف إلى جواره وقال:

– اكتملت اللعبة.. السيد بريسلى.. و..

ثم غير من لهجته وقال: فرغلى.. اسمك فرغلى.. أليس كذلك.

وقبل أن أصحح معلوماته عن اسمى، أكمل بنفس السخرية:

– فرغلى خنفس..

أحسست أن أموراً ما قد تغيرت.. من الرعب الشديد الذى أصابنى، والأستاذ فيصل يضع يده على كتفى ثم يدفعنى نحو الربع الخالى من الطابور، إلى ذلك الساخر الذى يهزأ بى أنا وزميلنا المذنب، رفعت رأسى إلى “السيد”، ولم ألحظ شيئاً غير عادى فى وجهه، مثلما يبدو على تسريحة شعرى. فإذا كان هذا الساخر يطلق اسم “السيد بريسلى” على زميلنا المذنب الثالث، باعتباره يقلد ألفيس بريسلى، فإنه، ولله الحمد، لا يحمل أية صفة من صفات المطرب الأمريكى الذى نتهافت على رؤيته فى سينما بارك وبلازا، والهمبرا، أمام حسناوات الزمان، وفتيات العصر والأوان، يطوف بهن جزر هاواى، ومدينة لاس فيجاس، والبحرية الامريكية، وقد أمسك جيتاره، وتحلى بابتسامته، وهو يغمض عينيه ويغنى لواحدة منهن، وقد مشط شعره بطريقة جذابة جعلنا نضع كثيراً من صوره بين دفتى كراريسنا وكتبنا الدراسية، بل أن نرسل بطاقات منها إلى فتيات مدرسة محرم بك الثانوية.

قلت متسائلاً: بريسلى.. أتقصد ألفيس بريسلى؟

وكأنما تلك الكلمات، كانت مفتاح زنبرك، سرعان ما حركت “السيد” من مكانه. فراح يفرك سبابته وغبهامه فى يده اليمنى على طريقة ألفيس فى فيلم “حب فى لاس فيجاس”، وبدأ يهز ساقه اليمنى، ورأسه على طريقة مطربنا المفضل، ومثلما يفعل كثير منا وهم يتزاحمون فى طرقات السينما، حتى يعرض أحد أفلامه.

أحسست بالجزع، وأنا أحاول المقارنة بين نجمنا الوسيم الذى يملأ الأماكن التى ذهب إليها بالبهجة، والفرحة، والطرب، ويتمتع بوسامة ملحوظة وبين “سيد بريسلى” المزعوم هذا. فإن “سيد” يحاول أن يبدو أشبه بألفيس. تمنيت لو توسلت إليه ألا يفعل ذلك، وألا يمسخ صورة مطربنا الوسيم مهما كان يحبه.

فجأة، لمحت خياله، يتحرك نحونا. تجمدت مكانى. أعتقد أننا نحن الثلاثة وقفنا صفاً واحداً. نرفع رؤوسنا إلى الهواء، وثبت كل منا يديه إلى جانبه، كجندى الحراسة، لكن بدون سلاح. راح كل منا يتوقع أن تبدأ مباراة السخرية المتوقعة، بأن يروح يستهزىء بنا، وأن تسمع آذاننا ما لا تريد أو تستحسن سماعه.

أعتقد أنه دخل غرفته دون أن ينظر إلينا، أو لعله لم ينتبه بعد إلى وجودنا. سمعناه يتحدث إلى الأستاذ نصيف. ثم تناثرت ضحكته من الغرفة إلى أذنى، مما دفعنى إلى التساؤل وأنا فى حالة تصلب أصابنى لوجوده: هل يمكن لمثل الأستاذ فيصل أن يضحك مثلما نفعل نحن؟

فى تلك اللحظات، خلا فناء المدرسة الواسع تماماً من الطلاب، وأصبح محظوراً لمدة ساعة إلا ربع أن يظهر شبح أى منهم خارج الفصول. بدا من الواضح أن المذنبين الثلاثة لهذا اليوم لن يدخلوا الفصول ولن يتلقوا دروس اليوم إلا بعد أن ينالوا ما يستحقون لما اقترفه كل منهم.

خرج من الغرفة، وسمعناه يقول كأنه يحدث زميله الأستاذ نصيف:

– سوف أحضر أولى سابع إلى الفناء..

عندما اختفى، ارتخت أجسادنا، وتنهدت صدورنا، وعلق زميلى الذى لم أعرف اسمه بعد هامساً:

– اسمه.. فيصل حركات..

نظرت إليه فى هلع، ووددت لو سددت فمه، حتى لا يتضاعف عقابنا الذى لا نعرف مداه. لكنه لم يترك لى الفرصة، وراح يقول:

– هل لاحظت بنطاله.. يكاد يلامس صدره..؟

ثم ضحك. بينما رحت أنظر غليه. كأننى أحاول أن أتعرف عليه، أو أعرف جرمه. فطالما أنه يرى بنطال الأستاذ فيصل يكاد يلامس صدره، فإن زميلى يرتدى بنطاله بطريقة مختلفة، يدفع طرفه حتى أعلى منطقة بطنه، وقد لف حوله حزاماً عريضاً أبيض، به بعض الأزرار الحديدية، بدا بنطاله ضيقاً، مصنوعاً من تيل أزرق، وقد ثنى طرفه الأسفل، بينما بدا قميصه غريب الشكل بالمربعات الكبيرة متعددة الألوان، التى يغلب عليها اللون البنى الغامق. تذكرت فجأة محمد زكى الذى كان أهم ما يميزه “البف” الحاد الذى يندفع أمامه وهو يعبر حارة الفهد، أو يقف عند إحدى “القمم”، وهو يمسك بميدالية بين يديه، اصطلح الجميع على تسميته “محمد جيمس” لكثرة إعجابه بالممثل الأمريكى “جيمس دين” الذى لم ير أحدنا حتى الآن أى فيلم من أفلامه، لكن الكل يؤكد أنه صنع “الجسمنة” فى العالم. هو بمثابة داعية شهير لارتداء الملابس بهذه الطريقة التى يرتدى بها زميلى ملابسه.. تلك الطريقة التى أكد بها جميع شباب حارتنا أنها كانت السبب فى أن يكون “محمد جيمس” هو صاحب أكبر رصيد من صيد البنات فى حارتنا الطويلة.

نظرت إليه، وسألته مازحاً:

– محمد جيمس.. أليس كذلك؟

أجاب بكل ثقة، حتى يمنعنى من السخرية به، كما يسخر هو من “سيد بريسلى”، وقال:

  • لا.. اسمى نادر وهيب..

وقبل أن يكمل عبارته “الظاهر أنك لا تعرفنى”، كنت قد جمعت فى ذاكرتى كل ما سمعته عنه. فهو لا يحتاج أن نتعرف إليه لكثرة ما ذكر اسمه فى خطبة الصباح، ولائحة العقوبات، وحكايات أخرى يتناقلها الطلاب. قيل إنه لم يكمل يوماً دراسياً واحداً طوال العام. وإنه موجود دائماً فى محطة الرمل. وإنه “روك هدسون” مدرسة العباسية الثانوية، وإن أحمد رمزى يمكنه أن يأخذ على يديه دروساً فى علم شقاوة التلاميذ، وأن حسن يوسف صفر على الشمال إلى جانبه.

انتابنى إحساس بالفخر، فهأنذا فى صف واحد من المذنبين الذين يضمون من بينهم نادر وهيب. وغداً تذاع أسماؤنا نحن الثلاثة جنباً إلى جنب. ولعل الشهرة تصيبنى فى كل أنحاء المدرسة عندما يعرف الجميع أن مستجداً فى عالم التقاليع انضم إلى فرقة المشاغبين. رغم أن أحداً لا يعرف أنها المرة الأولى التى أمشط فيها شعرى على طريقة الخنافس: قصة من الأمام، وشعر طويلة إلى حد ما من الخلف، ولا أكثر. هكذا رأيتهم فى إحدى صور صحيفة الأهرام أمس الأول. يمسكون بآلاتهم الموسيقية، والمقال عنهم يؤكد أن شباب أووربا راحوا يقلدونهم، ويطلقون شعورهم على طريقتهم. وأن هذه الموضة الجديدة التى يسير على هداها الشباب فى كل الدنيا. أحسست أنها راحت على “ألفيس بريسلى” و”كليف ريتشارد”، و”روك هدسون”. رأيت شاباً فى محطة الرمل يطلق شعره كما البنات فيلفت أنظار من حوله. يشيرون إليه إعجاباً. فقد كان شعره جميلاً، ملفتاً للعيون. هنا انتابتنى الفكرة. فلماذا لا أحاول أن أجذب الأنظار نحوى مثلما فعل الشاب. لماذا لا أجعلهم يشيرون نحوى. ويقومون بتقليدى؟ إذن فلأبدأ بقص شعرى على هذا المنوال. لم أتصور أن أمرى سوف ينكشف بهذه السرعة. وأننى سأكون الخنفس الأول فى مدرسة العباسية الذى يتم اخراجه من الطابور..

إنه الأستاذ فيصل، دقيق الملاحظ، الذى تمكن بلفتة واحدة وسط الصفوف أن يخرجنا نحن الثلاثة. بأشكالنا الغريبة، الأول طرز نفسه على غرار “ألفيس بريسلى” دون أن يعرف أنه لا صلة قط لشكله بما نعرفه عن “ألفيس”، والثانى بدا أقرب إلى “جيمس دين”، تلأه “الجسمنة” رغم أنه أقرب فى وسامته إلى “روك هدسون”، أو “أحمد رمزى”. أما الثالث فقد قلد فريق الخنافس الغنائى. ويعلم الله وحده. هل هو أقرب فى جاذبيته إليهم أو لا..؟

راح يتكلم عن نفسه، باعتبارنا نعرفه جيداً. فهو “أجمس” ولد فى محرم بك. يرتدى كل يوم طاقماً جديداً، وأحياناً طاقمين. طاقم فى الصباح يأتى به إلى المدرسة. وآخر يرتديه بعد الظهيرة. وعرفت أنه مضرب الأمثال فى الجسمنة، وأنه لا يوجد مدرس واحد فى المدرسة لديه مثل هذه الأطقم المنافسة فى ألوانها. أخذ يسخر من المدرسين الذين يأتون إلى عملهم فى بزات، مهما كان الجو حاراً. ثم قال إن “جيمس دين” أول من لبس التيل فى حياته العادية وهو نوع من الملابس المألوفة التى اصطلح على تسميتها بالجينز.

بدا ابن الهرمة، مبهراً بكلامه، واثقاً بنفسه، لم يعبأ بصوته المسموع، إن الأستاذ نصيف يمكن أن يسمعه فيخرج لينهر أباه والذين أنجبوه… وخلفوا أجداده، لكن يبدو أن الأستاذ نصيف اعتاد على سماعه، أو لعله جعل أذناً من طين والأخرى من عجين فانشغل بما يكتبه.

تكلم عن أناقته وملابسه، فنسينا الأستاذ فيصل الذى انشغل بحصة التربية الرياضية لفصل أولى سابع، لم نعد نبالى بما يمكن أن يحدث لنا على يد الناظر، ولا حتى على يدىّ الأستاذ فيصل. أقوى المدرسين شخصية فى كل مدارس المنطقة وكيف لنا أن نبالى ونحن نسبح فى هذا العالم المثير، دنيا تملأها شخصيات معروفة بأناقتها، ووسامتها، وبساطتها، وأصبحت فى كل مكان رمزاً للجاذبية. الست “مارلين مونرو” والأخ “جيمس بوند” والبنت “كيم نوفاك”.. وربما “لبنى عبدالعزيز”، ويمكن الممثلة الجديدة “نجلاء فتحى”.

عدّد الأسماء التى لا أكاد أعرفها. ممثلين، ورجال سياسة، ومطربين، وعارضات أزياء مثل “جين شرمبتون”. لدرجة جعلتنى أمد – ودون أن أدرى – أصابعى إلى شعرى وأحاول أن أعيده إلى شكله التقليدى. ليس محواً لآثار أحاول إخفاءها عن الأستاذ “فيصل” إذا جاء وأراد عقابى، لكننى أحسست أن محيطات واسعة، لا نهاية لها تفصلنى عن هذه الأسماء وغيرها. فكيف لى أن أكون خنفساً صغيراً فى عالم به مثل هذه الحيتان فى عالم الأناقة والوسامة. ليس لأننى لا أمتلك وسامتهم. ولكن لأن أمى إذا اشترت لى قميصاً واحداً فى العام الدراسى، فإن هذا يعتبر إنجازاً كبيراً. وجدت نفسى أتحسس البنطال الذى قامت بضبطه بإبرتها كى يناسب جسمى بعد أن منحنا خالى “بدرى” لفة ملابس منذ أسبوعين، بدأنا نرتدى منها جميعاً.

للحق. فإن قلبى خفق بدرجة أقل حين رأيناه أمامنا للمرة الثالثة جاء يقفز بملابسه الرياضية. فوجدنا منتصبين فى أماكننا، ملأنى الشوق لأن أسمع بقية حكايات “نادر وهيب” المثيرة. لم تقل درجة خوفى من العقاب لأننى نجحت فى إخفاء جريمتى بسهولة، ودفعت شعرى جانباً، فاختفت كافة علامات “الخنفسة” لكن لأن العالم الجذاب الذى يتحدث عنه نادر وهيب بدا هائلاً لدرجة يتضاءل عندها أى عقاب.

بدا شموخ أجسادنا أمامه، كأنه أقرب إلى التحدى منه إلى الخوف من عقابه، أو احتراماً لمهابته. تنبه إلينا هذه المرة. فلم يدخل إلى الغرفة واحد مباشرة مثلما فعل فى المرة السابقة. راح ينظر إلينا، كأنه يثير الخوف فى قلوبنا أكثر. خلته وهو ينظر إلىّ كأنه يتذكر نوع جرمى الذى ارتكبته بعد أن أزلته، ثم قال:

– هذه المرة. سأريكم ما لم ترونه فى حياتكم.

نزلت عباراته كالزلزال فى كيانى. فلاشك أنه يأخذنا بجرائر بعضنا، بل لعله سيعاقبنا هذه المرة بأثر رجعى عن كل ما اقترفه “نادر وهيب” فى المرات السابقة. نظر إليه، وقال له بتحد ملحوظ:

– وعامل لى جيمس يا سيد نادر.. طيب.. إن ما خليتك تمسح المدرسة مسح.

أشار إلى صناديق القمامة الثلاثة التى لم نلحظ وجودها إلى جوارها منذ أتينا إلى المكان، قال بكلمات سريعة قبل أن يدخل غرفته:

– أريد هذا الفناء نظيفاً خلال نصف ساعة.. مثل بيوتكم إذا كانت لكم بيوت.

لم يتركنا نراجعه فيما اتخذه من قرار. لأنه يعرف أن أحداً لا يمكن أن يفعل ذلك. فالفناء ملىء بما خلفه الطلاب قبل الطابور. ومن الواضح أنه يريد إهانة كرامتنا نحن الثلاثة، فبينما فريق الخنافس يحقق ملايين الجنيهات باسطواناتهم وأغانيهم، وفيلمهم الأخيرة، وبينما “ألفيس بريسلى” يصبح معبوداً للفتيات فى كل الدنيا، وبينما “نادر وهيب” يؤكد أن ما لديه من ملابس يكفى مدرسة بأكملها، يغير منها ما يشاء ليل نهار، فإنه يريدنا أن نمسك الصناديق، ونلم الأوراق التى نثرتها الرياح، وألقاها الطلاب. من أجل أن تتكسر مكواة بنطال “سيد بريسلى” وياقة “نادر” المنشاة، وربما شعرى الذى أكد قبل قليل إننى سليل الخنافس..

ردد “نادر” فى سخرية واضحة”:

– فلير من ينفذ كلامه.

كان صوته عالياً لدرجة أن الرد جاء بسرعة من داخل الغرفة:

– إنت يا حمار.. نفذ ما قاله لك..

ارتعشت القلوب.. فهذه المرة لم يكن الأستاذ فيصل هو المتكلم. بل جاءنا صوت الأستاذ نصيب الأجش مليئاً بالحزم. ارتجفت أجسامنا، ونظرت إلى زميلى دون أن أنطق بكلمة واحدة، لكن أعيننا بدت كأنها تقول:

– إنه يسمعنا منذ الوهلة الأولى.

كان نادر وهيب أول من انحنى ليلتقط أحد الصناديق بيده اليمنى، بعد أن دس “أجندته” أسفل إبطه الأيسر، وتقدم نحو الفناء الكبير. فى تلك اللحظات انطلق جرس المدرسة يعلن نهاية الحصة الأولى، وأصبح فى حكم المؤكد أن كل طالب سيخرج من فصله أثناء الفسحة بين الحصتين يمكنه أن يرانا نحمل الصناديق ونشرع فى لمّ بقايا الأوراق التى يمتلىء بها الفناء.

هنا تمتم “وهيب” : وحياة أمه. لن ألمّ ورقة واحدة..

عقب “السيد” وراءه: ولا أنا.. وليفعل ما يفعله.

ووجدت نفسى فى امتحان صعب. فهل أخرج عن طوع الأستاذ فيصل أم أخرج عن قانون وجدت نفسى مقيداً به، يصنعه كل من “نادر” و”سيد بريسلى”. فأقوم بجمع البقايا وحدى. فالفناء ليس مقسماً إلى ثلاثة أقسام تم توزيعها علينا بالتساوى.

أمام المفاجأة الجديدة التى وجدنا أنفسنا فيها، أسرع “نادر” بالتصرف بذكاء. وقلب الصندوق إلى جوار السور وجلس فوقه، بينما وجدت صندوقى يتدلى بين أصابعى، وأصبح علىّ أن أفعل مثله أو أن أجر الصندوق ورائى وأملأه عن آخره.

يا لها من لحظات عصيبة. ألتفت خلفى إلى ممرات الفصول، وخلت أن كل المدرسة قد خرجت من أجل متابعة آخر التطورات فيما سنفعله بينما ردد “نادر وهيب”:

– إنهم لا يعرفون “نادر وهيب”.. سلطان البلياردو.

لم أفهم ماذا يقصد بالضبط.. بينما راح “سيد بريسلى” يردد بصوته الأجش:

– لاف مى.. لاف مى.. كويك.

وكرر ما يغنيه أكثر من مرة. هنا بدأت أتأكد من أنه ينطق أغنية “ألفيس” بنفس الطريقة مع فارق جمال الصوت. حاولت أن أجد شيئاً أثبت به مواهبى. لم يكن أمامى سوى أن أشدو بإحدى أغنيات فريق الخنافس. لكننى تنبهت فجأة أننى لا أكاد أحفظ أية أغنية من أغانيهم. وأن كل علاقتى بهم تتمثل فى تلك الصور التى خلبت لبى عندما شاهدتها فى مجلة “الكواكب”.

قرع الجرس مرة ثانية معلناً بدء الحصة الثانية. وبدأ الطلاب يتسربون إلى فصولهم مرة أخرى، ومن الفناء أمكننى رؤية بعض المدرسين يدخلون الفصول، أو يهرعون إلى هناك. ففى مدرسة العباسية، لا يمكن لأحد أن يتأخر عن أداء عمله. بدأت أحس أن علىّ الانتهاء من مهمتى، حتى يمكنن اللحاق بالحصة الثالثة بأى ثمن.

 

يبدو أن “نادر وهيب” فكر بنفس الطريقة، لذا فما إن خلا المجال حولنأ، حتى قام من فوق صندوقه، وحمله، ثم راح يتحرك فى الفناء. تبعه “سيد بريسلى”، ووجدت قدماى تدفعانى إلى الطرف الآخر، كى ألتقط ما يمكننى من الأوراق.

تناثرنا فى الفناء الكبير.. لم تمر سوى دقائق قليلة، إلا وملأت صندوقى عن آخره. وقبل أن ألتفت إلى الغرفة واحد، سمعت صوتاً ينادينى من أطراف الفناء. ما إن التفت إليه، حتى وجدت صاحبه يقفز من أعلى السور بمهارة ويطلب منى قبل أن يختفى أن أبتعد.

لم أفكر فيما يجب أن أفعله، فقد بدت روحى فى أطراف حلقى مع آخر وريقة قمت بلمها، كان “نادر وهيب” قد رمى بصندوقه بينما اختفى صندوق “سيد بريسلى”، وراح صندوقى يتطاوح فى الهواء بعد أن رفعته بقدمى اليمنى بكل ما أملكه من قوة، وأنا أتمنى أن يدخل من باب الغرفة واحد قبل أن أرمى بحقيبتى خارج إطار السور، واستجمع كل قوتى كى ألحق بها قبل أن يكتشف أحد ما افعله.

تم كل شىء بأسرع مما تصورت، ولا أعرف حتى الآن كيف وجدت نفسى خارج المدرسة، أتسلق السور العالى، وأرتمى وراءه ليلتقطنى “نادر” و”سيد”. لأكون مديناً لهما بعدم تحطيم جزء، لا أعرف ما هو، من جسدى النحيف.

تحركت الأشياء بسرعة، اندفع “نادر” أمامنا ليدلف من الحارة المقابلة، نحو شارع محرم بك، وليقذف قبلنا إلى ترام رقم 4 الجديد كى نرمى بأنفسنا معه عند أعتاب محطة مصر. ونمشى فى شارع المحطة، نحو كوم الدكة ثم سينما أمير، وشارع صفية زغلول. لم نكن قد تبادلنا جملة واحدة خلال تلك الفترة. تقدمنا “نادر” كأنه يقود فرقتنا الصغيرة. وهو يعرف طريقه جيداً. أما “سيد” فقد بدا أشد مراساً منى، لم يكف عن دندنة أغنيات تخيلت أننى أعرفهال لألفيس بريسلى. بدا كأنه أطلق كل ما يمكن أن يحدث فى المدرسة وراءه. وإنه لا يشغله شىء سوى الدندنة.

حاولت أن أجد شيئاً أتغنى به. فأدركت مجدداً أننى لا أكاد أعرف هؤلاء الأربعة الذين عوقبت وهربت من المدرسة لأننى حاولت تقليدهم. وإننى أحفظ أغنيات “عبدالحليم”، و”فريد”، و”نجاة”، و”أم كلثوم”، وبعض أغنيات “شادية”، و”صباح”، و”محمد قنديل”، لكننى لا أحفظ أبداً أية أغنية ما شدا بها “ألفيس بريسلى”، فى أى من أفلامه.

قلت وأنا أشير إلى أفيش فيلم إيطالى على جدران سينما مترو:

– جينا لولو.. العرائس..

كنت أحاول أن أجذب انتباه “نادر” إلى أهمية الفيلم، لكنه بدا كأن الأمر لا يعنيه بالمرة، وأنه إذا كان علينا أن نتقبل قيادته. فلنمشى وراءه دون مراجعة. دفعنا أقدامنا إلى جوار سينما ريالتو التى علقت إعلانات فيلم “عودة العظماء السبعة”، لكن من الواضح أن الفيلم لن يلفت أنظار “نادر”، ولا “سيد بريسلى”، ورحت أتكهن بما يمكن أن نفعله فسألت:

– هل سندخل سينما الهمبرا؟

لم يرد، عرفت أن هذا يعنى النفى، أشرت إلى قهوة السلطان حسين التى تمتلىء بالطلاب المزوغين من فصولهم:

– الا نلعب كوتشينة؟

كانت الإجابة نفسها.. ولاتزال أقدامنا تدفعنا وراءه.. يتقدمنا ببضع خطوات، وهو يضع يده اليمنى فى جيبه، ويطلق صفيراً مميزاً، كأنه مارش عسكرى أجنبى، وددت أن أسال رفيقى “هل كان جيمس دين يفعل مثله؟”. لم أشأ حتى لا أكشف جهلى المطبق. وأننى لا أستحق كل الشرف الذى أحظى به الآن..

ما إن عبرنا تقاطع السلطان حسين، وسرنا بضع خطوات داخل النصف الثانى من شارع صفية زغلول، حتى رأيته يدخل من باب ضيق لكازينو لم أتخيل قط أننى سأدخله يوماً. أدركت أنه اختار هذا المقهى المتطور. باعتبار أنه يليق بكل الحكايات التى رواها لنا فى الصباح.

لم يجلس على تلك المقاعد الخالية قريباً من الرواد الشباب. إلا من بعض الرجال الذين طالت الشيبة أغلب شعر رؤوسهم، وجاءوا ليحتسوا الشاى باللبن، فى هدوء. سار عبر الممشى الطويل ثم انحرف يميناً.. هنا رأيت منظراً عجيباً لم أتخيل أن أراه.

هتف واحد من الواقفين الذين يمسكون بعصا طويلة بين أصابعهم:

– هاللو.. نادر..

صاح كأنه وجد رفاقه الحقيقيين: نهاركم بلياردو.. يا تُحف.

بدت الإضاءة أضعف من أن تستوعبها العين. بينما راح يسأل:

– هل هناك “مائدة” خالية يا غجر؟

لم أستطع فى البداية أن أميز أن هناك أكثر من عشر موائد فى تلك الساحة الجانبية من المكان، وأن هناك نوعين من الموائد التى توزع حولها اللاعبون ومشجعوهم. لكن أكثر ما لفت انتباهى هو تعدد الكرات الملونة وكثرة عددها فى بعض الموائد، بينما لم تزد عن ثلاث كرات فى موائد أخرى.

سرعان ما انشغل “نادر وهيب” عنا، بينما راحت عيناى تستوعبان ما يجرى فى المكان. حصل “سيد بريسلى” على عصا ومائدة بعيدة عن مائدة “نادر”. الذى بدا كأنه المايسترو “على إسماعيل”، حين يقف أمام الفرقة الغنائية يقود أوركسترا لأغنية يشدو بها “عبدالحليم”، يمسك مربعاً صغيراً من الطباشير بين وقت وآخر، فيروح يدهن بها طرف عصاه، وبكل دقة يضرب كرة صغيرة، كى تندفع عبر المائدة، لتصيب كرة أخرى لا تلبث أن تتحرك كى تصطدم بالكرة الثالثة، وهنا يتقدم نحو سبورة صغيرة على الحائط، فيدون شيئاً يؤكد أنه قد حقق كسباً ما.

بدا كأنه نسانى تماماً. وانشغل بهذه المباراة التى لم تنعكس حرارتها على وجوه أصحابها، بعد ساعة واحدة رحت أحس بالتآلف مع المكان، وأسمع نفس العبارات، والفاظ الاستحسان الباردة الخالية من الحماس لدرجة تجعل المرء لا يصدق أن هناك رابحاً وخاسراً. فصارت أصوات خبطات عصا البلياردو بالكرات أشبه بلحن يمكن لأى غريب أن يألفه.

بدوت أشبه بنبت غريب فى ذلك المكان. الجميع يتبادل الموائد، والعصى، ونفس اللغة عداى. لم تنتابنى الرغبة أن أصبح واحداً منهم، فهذا سوف يكلفنى ما لا أستطيع أن أدفعه.. رحت أتخيل نفسى أشاهد فيلماً حياً اقرب إلى “احنا التلامذة” فيه يبدو “نادر وهيب” وقد تقمص شخصيتى “يوسف فخر الدين” و”عمر الشريف” معاً، أما أنا فلا أعدو أن أكون ذلك الساذج الذى عليه أن يصدم فيما يراه..

يصدُم. وأية صدمة يمكن أن يصدمها من هم أمثالى. خاصة أن عينىّ لا تكذبان وسط هذا الضوء الخافت.. إنه هو.. بشحمه ولحمه.. الأستاذ “فيصل”.. إنه يدخل الصالة، لقد جاء بالتأكيد للبحث عن الهاربين الثلاثة، وضبطهم هنا متلبسين..!

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اليوم الثانى

 

مدرسة العباسية بأكملها لا يمكن أن تنسى ذلك اليوم الذى عاد فيه الأستاذ “فيصل” من محطة الرمل، دافعاً أمامه ثلاثة تلاميذ، عثر عليهم فى صالة البلياردو. وأصرّ أن يقوموا أمام كل طلاب المدرسة بعد الفسحة الثانية، وقبل الانصراف إلى الحصة السادسة، قبل الأخيرة، بلمّ ما خلفه الجميع فى الفناء والطرقات فى صناديق القمامة الثلاثة.

لم ينطق الأستاذ فيصل بكلمة واحدة، ولا هؤلاء التلاميذ بالطبع، ولم تمس يده صدغ أى منهم. لكنه نطق بعبارة واحدة شهيرة فى طريق العودة:

– لست من المدرسين الذين يستدعون أولياء الأمور. طالما أننى ولىّ الأمر..

اليوم، وبعد ثمانية أشهر، يجلس الاستاذ فيصل إلى جوار باب حانوت الحاج هاشم صاحب أشهر عمارة بنيت أخيراً فى شارع النيل، وقد امتلأ بالحماس، وهو يدفع “قواشيط الطاولة”، كى ينهى الدور الساخن الذى استغرقه طوال ربع الساعة التى وقفت أنتظر فيه الأتوبيس القادم من كوم الشقافة كى يقلنى إلى الأزاريطة.

لا أعرف  هل تأخر الأتوبيس عن موعده، أم أننى تعمدت عدم الركوب، كى أقف على رصيف المحطة، أنظر إلى الجهة الأخرى من الشارع إلى الأستاذ فيصل أراهن نفسى أنه سوف يكسب الدور من منافسه المحترف “الحاج هاشم” فلا يعنى أن الأستاذ فيصل سوف يكسب الدور أن مكانته تعلو أكثر لدينا، بل يكفى أن نراه جالساً إلى جوار “الحاج” أمام محله. يعنى أن مدرس الألعاب الرياضية، يصادق أغنياء القوم، وهذا وحده كفيل بأن يقف كل التلاميذ احتراماً وتقديراً.

بكل ما لديه من قوة، ضرب “القشاط” فوق الطاولة، كأنه يحسم معركة انتهت لصالحه. ثم قام من مكانه بحركة رياضية بالغة الرشاقة. كأنه يتنهد، وفى لحظة عابرة التقت عينانا، حاولت أن أشيح بوجهى عنه، حتى أتفادى تحيته، لكنه توقف عندى بعينيه، وبدا كأنه نسى انتصاره الساحق، وأشار إلىّ بيده..

خفق قلبى، وجف لعابى، التفت خلفى، وأنا أعرف أنه يقصدنى، فهو لا يخطىء أحداً عند الإشارة إليه، بدوت كمذنب العام الماضى وتخيلت أنه سوف يدفع بصندوق القمامة لألم مزيداً منها تحت الأرصفة، خاصة أننى أمشط شعرى اليوم بنفس الطريقة: “الخنفسة”..

وجدت قدمى تقفزان تقاطع الشارع، كى أجرى نحوه، كما اعتدنا أن نفعل، هالنى أن الصفارة هذه المرة ليست معلقة فى صدره، ربت على كتفى، وسألنى:

– إلى أين.. بهذه الأناقة؟

طالت قامتى، وانتفخ صدرى وتلعثمت فخراً بما أقول:

– فى الكلية.. حفل تعارف..

يعرف أن المجموع الذى حصلت عليه مكننى من الالتحاق بكلية الآداب، وأن “نادر وهيب” التحق بالمعهد العالى للتربية الرياضية بأبى قير، نفس المعهد الذى تخرج فيه، وأن “سيد بريسلى” التحق بأحد المعاهد المسائية لتحسين مجموعه فى العام الدراسى الجديد.

أردت أن أخبره أن طرقات الكلية، ومدرجاتها المخصصة للصف الأول، بالأقسام المختلفة، امتلأت بإعلانات عن الحفل الذى ستقيمه اللجنة الاجتماعية بمناسبة بدء العام الدراسى، بهدف التعرف إلى طلاب السنة الأولى.. ووددت أن أقول له إن البعض فسر سبب إقامة هذا الحفل بأنه دعاية للانتخابات التى ستقام فى الأسبوع الثانى من ديسمبر. لذا حرصت أن أكون على “سنجة عشرة”. أعيد تلميع الحذاء الذى اشترته لى أمى بمناسبة بدء العام الدراسى، أرتدى السترة المقلمة، وبنطالى الأزرق، وأطلق شعرى على طريقة “رنجو ستار” دون أن أخشى اعتراض أحد فى الكلية.

سأل بمودة بالغة:

– لماذا لم تركب الأتوبيس الذى مر منذ قليل؟

أدركت أنه منتبه إلى وجودى. وأن انشغاله بالطاولة لم يمنعه من الإحساس بنظراتى إليه. مد يده إلى شعرى، وراح يربت عليه، وقال بصوت خفيض كدت ألا أسمعه:

– اسمع.. هل معك نقود؟

فهمت مقصده، فقلت بكل فخر: طبعاً.. معى اشتراك الأتوبيس..

تعمد أن يسير بجانبى، وأن نمر معاً أمام مقهى “اللبان” ولم أحس به يمده فى جيبه، كأنه كان قد جهز نفسه لأن يدفع فى جيبى بشىء قائلاً:

– اقض وقتاً جميلاً..

مددت يدى إلى جيبى، حاولت إخراج العملة الورقية التى وضعها هناك. لكن ضغطة اصابعه على كتفى كانت كفيلة أن تجعلنى أحس أن ما يفعله ليس مثلما فهمت، بل هو أمر علىّ تنفيذه. تمتمت:

– لكن..

حسم الأمر وهو يسأل:

– هل ستتأخر..؟

أجبت: لا أعرف.. ربما الساعة العاشرة.

كنت أعرف أنه لابد من العودة قبل العاشرة، فاشتراكات الطلبة لا يسرى العمل بها بعد ذلك الموعد. أردت أن أخرج له الوريقة التى دسها فى جيبى، لكنه أشار إلى الأتوبيس القادم من ناحية شركة الغزل، ودفعنى قائلاً:

– هيا.. أتوبيسك قادم..

وقبل أن أنطلق لألحق بالأتوبيس سمعته يكمل: يا خنفس أفندى.

فى الأتوبيس، تدفقت، كشريط السينما صور كل المدرسين الذين قاموا بالتدريس لنا طوال سنواتنا فى مدرسة العباسية. رحت أقارنهم ببعض الدكاترة والمعيدين الذين يدرسون لنا الآن فى الكلية. فحتى الآن لا أعرف لماذا هذه الهالة التى تحوط الدكاترة. رغم أن المدرسين كانوا أقرب لنا. هل هى الأناقة، وإصرار كل دكتور أن يدخل المحاضرة بالبدلة؟. لدرجة أن أحدهم يتباهى أمامنا بالحقيبة السوداء التى يصر أن اسمها “سمسونيت” ويفتحها متعمداً أمامنا حتى نكتشف أن بداخلها أوراقاً، ونظارته الطبية. لو أن الأمر ينحصر فى الأناقة، فلا أحد يمكنه أن يضاهى الأستاذ “عبدالعزيز” مدرس التاريخ فى الصف الأول الذى سمعت من خلاله لأول مرة أسماء “ليوناردو دافنشى”، و”رفايللو”، وكان يتغنى بما فعله “مايكل أنجلو”. استطاع أن يجعلنا نعشق مادته ونحن ننظر إليه بافتتان. بدلته الأنيقة التى يرتدى دائماً غيرها فى الدرس التالى، وطريقته فى الشرح. وثقافته الواسعة. لا أعرف لماذا افتتنت به. هل لأسلوبه فى الشرح، أم لأناقته الزائدة عن الحد لدرجة أن كل التلاميذ اعتادوا التصفيق له فى كل حصة يدخل إليهم بلا سبب، إلا لأن البدلة الجديدة أكثر أناقة من سابقتها. ولعله لهذا خصص يوماً للحديث عن الأناقة:

  • لو قرأتم تاريخ البشر، فستلاحظون أنه تاريخ ملابس يرتديها الناس. فلكل الشعوب ملابسها الأنيقة. والخاصة بها. وقد اكتسبت الشعوب سماتها مما تلبسه. وتقول الأمثال: “عدى على عدوك معرش، ولا تعدى مكرش”، ثم ضحك وراح يشرح رأيه فى هذا الأمر، سمعنا يوماً ما قاله باهتمام شديد، تمنيت لو رزقنى الله مثلما رزقه لألبس أحلى الملابس، فما ذنب الناس أن أبدو أمامهم رث الهيئة، لكن اليوم، تغيرت أشياء كثيرة فى العالم، فهناك فى أمريكا الآن من يطلقون على أنفسهم “هيبز”، إنهم “أوسخ البشر” فى ملابسهم، لكنهم ينادون بالسلام العالمى، والأمن الداخلى.. وكم وددت أن أسمع رأى الأستاذ “عبدالعزيز” فى ذلك.

كان الأتوبيس أسرع من أفكارى. فوجئت به يقف أمام المجمع فى محطة الأزاريطة، رحت أنظر إلى نفسى فى الزجاج العاكس للمجمع. طبعاً شتان بين هذه السترة القديمة، وبين ما كان يلبسه الأستاذ “عبدالعزيز”. لكن هذا لا يمنع أن أكون طيباً مثل هؤلاء “الهيبز” الذين لا يضعون للأناقة والملابس أى اعتبار.

اكتشفت أننى جئت قبل موعد الحفل بوقت طويل، بوغت أن المكان ليس مزدحماً مثلما تصورت. رأيت مسرح الكلية مغلق الأبواب، رجعت مرة أخرى إلى الحديقة، لعلى أعثر على شخص أعرفه. رغم صعوبة الأمر. فالطلاب هنا يلتقون بين المحاضرات، أما فى المدرسة فقد كانت السبع حصص تجمعنا كل يوم.

جلست تحت الشجرة أنتظر، أرقب القادمين فرادى أو جماعات تحت أضواء المصابيح التى بدأت تعمل عندما اختفت الشمس. تمنيت لو أن الأستاذ “عبدالعزيز” موجود هنا، ليكتشف أن أناقته تختلف تماماً عن الألوان المتعددة التى تسود المكان. ليس فقط فى الفساتين القصيرة التى تشد العيون بما تحتويه من أجسام فاتنة، وبما تضمه من ألوان زاهية. كما تمنيت لو يجىء الأستاذ فيصل ليشاهد بنات الكلية حتى يراجع نفسه فيما فعله ذات يوم، حين اكتشف أن ثلاثة طلاب يقصون شعورهم على طريقة الخنافس و”ألفيس بريسلى” و”جيمس دين”. فهنا يمكنك أن تجد جونلة أقصر طولاً مما ارتدته سعاد حسنى فى فيلم “شباب مجنون” وشاباً فتح أزرار قميصه ليكشف عن شعر صدره الأكثر كثافة من “أحمد رمزى”. ووجه أكثر جمالاً من “زبيدة ثروت”، وشبانا أجمل من “عبدالحليم حافظ” و”عمر الشريف”، وعمالقة يرتفعون بقامتهم عن “رشدى أباظة”، و”جون واين”.

وقفوا فى الطرقات جماعات، تنطلق من أعماقهم ضحكات رنانة مجلجلة، تهز القلوب، وترتج الآذان، وجدت لذتى فى متابعتهم يتحركون كى تجىء مجموعات غيرهم، لم أتساءل إلى أى عام دراسى ينتمون، فمن الواضح أنه حفل للكلية جميعهاً، سمعت أحدهم يطلب من زميله أن يسرع إلى المسرح لحجز مكان قبل الزحام، بينما لم يبال الآخرون، كأنهم أتوا للوقوف فى الرطيقات، فالبنات بصفة خاصة، يقمن بتقليد “رجاء الجداوى” التى شاهدت صورها فى جريدة الأخبار فى الأسبوع الماضى، وحول الصور ريبورتاج لم يجذبنى عن المينى جيب (الجونلة القصيرة) وهل هى موضة تناسب بلادنا، فى مثل هذه الظروف؟

سمعته ينادينى بصوته الجهورى المألوف الذى عرفته لتوى رغم أننى لم أقف معه سوى مرة واحدة. فليس هناك فى كلية الآداب من له مثل هذا الصوت الجهورى، الذى يمكن سماع نبراته الهامسة لو وقفت على مسافة أمتار سوى “مجاهد الوكيل”.

وجدت قدمىّ تنطلقان إليه. ولماذا لا أنطق ما إن أسمعه ينادينى، وقد أكسبنى بنفسى ثقة لا حدود لها، قابلته فى المرة السابقة، قدمنى إلى “ريم” كأننى أهم شخصية فى الوافدين الجدد إلى كلية الآداب.

ارتفعت يده الغليظة إلى أعلى، كى تلتقط يدى التى ارتمت فى مساحتها الواسعة، حاولت أن أرتفع بقامتى كى اصل إلى وجهه المميز، سمعته يقول بطريقته الودودة:

– ماذا يا رجل.. أين أنت؟

قبل أن أرد على سؤاله، فعل مثل المرة السابقة، حيث راح يتحدث عنى إلى زملائه الذين يحوطونه:

– إليكم فنان كلية الآداب الجديد.. شاعر موهوب..

وقبل أن يسمع كلانا تعليقات المحيطين به أخفض صوته الجهورى، كأنه يكلمنى وحدى:

– هل تعرف، يا ولد، كنت أكتب الشعر مثلك؟

هززت رأسى فى بله، ولففتها حولى. وأنا أوقن تماماً أن هؤلاء الحسان لابد أن يجعلن من أى شخص شاعراً لا يشق له غبار، وهل رأى أحد من الشعراء الكبار مثل هذا الجمال مجتمعاً من قبل. إنها كلية الآداب بما لها من شهرة دفعتنى أن أكتبها كرغبة أولى فى استمارات الرغبات. بدوت كأننى أبحث عن “ريم” التى وقعت أن تكون حيث يقف “مجاهد” الذى لكزنى فى كتفى وسألنى كأنه صاحب البيت:

–  هل أنت سعيد هنا؟

هززت رأسى دون نطق كلمة واحدة. هل فى إمكان أحد أن ينطق وهو يشاهد كل الجونلات القصيرة الزاحفة فى الممر، أعلنت “ريم” استياءها الشديد فى المرة السابقة، حين تعرفت عليها من خلال “مجاهد”. لم تكف خلالها عن الضحك، بإطلاق النكات، أو سماعها. بدت جميلة بسيطة فى أناقتها، وجاذبية عينيها الأقرب إلى عسل النحل فى لونيهما، وإلى بشرتها البيضاء، وشعرها الأصفر، وقامتها المفرودة بشكل فريد. قالت يومها كلاماً كثيراً لا أذكر منه سوى كلمة رددتها تدل على ثقة شديدة مصاحبة هذا الجمال الذى وقف أمامنا ينتفض ثقة بالذات، وأنها تسخر من كل الفتيات اللاتى يرتدين الجونلات القصيرة “عاطل على باطل” وأعلنت ساخرة:

“مسكين المينى جيب. لقد أهين بين صاحبات السيقان العجفاء”.

نطقت كلمة “جيب” بلكنة غريبة، التوى لسانها بسرعة وهى تلفظ حرف الجيم فى الكلمة بما يدل على أنها تدربت عليها بشكل جيد لا تستطيع واحدة أن تفعل مثلها. ما دفعنى طيلة أيام أن أستقى أية معلومات عنها: من تكون، من أبوها، هل هى مصرية، وما حدود علاقتها بـ “مجاهد”؟ كل ما عرفت عنها أنها فى الصف الثالث بقسم اللغة الفرنسية. وأنها قررت البقاء فى الكلية لأطول وقت ممكن منذ أن التحقت بها قبل خمس سنوات. وهل هناك امتياز لمثلها – كما قالت – أكثر من البقاء فى الكلية لعدة سنوات أخرى؟

توقعت أن أراها اليوم فى شلة “مجاهد”. ولما لم تظهر فى الدائرة الصغيرة التى تشكلها المجموعة، قررت أن أسأله عنها. قلت:

– هل بدأ الحفل؟

رد “مجاهد” بلا مبالاة، اختلفت تماماً عن الطريقة التى حيانى بها قبل قليل:

– نعم طبعاً.. إذا أردت فادخل..

أحسست أنه يود التخلص منى.. وأننا نحن تلاميذ سنة أولى لسنا سوى دميات صغيرة يثبت بها لزملائه اتساع دائرة معارفه، انسحبت من المكان دون أن أستأذن، وحتى لو فعلت، فإن أحداً لم يكن يحس بى. فباعدت خطاى عن المكان، كأننى أبحث عن شىء، توجهت ناحية مسرح الكلية دون أن أعثر على صحبة تناسبنى، ترحمت على الأشهر الأخيرة التى تعرفت فيها إلى “نادر وهيب” ففتح لى آفاقاً لم أكن أعرفها، مما جعلنى أفتقده فى هذا المكان، والذى علق عليه قائلاً فى آخر لقاء لنا منذ شهر:

– يا لحظك.. كلية الآداب.. مليئة بالآداب..

ضحك ضحكة لا أنساها، إنه الآن فى معهد التربية الرياضية للبنين. ولا شك أنه يتمنى أن يكون فى مكانى. فجأة، وأنا أدخل من الباب دفعنى شخص، بدا كأنه يود أن يلحق بموعد مهم، التفتت خلفها، وهى تعتذر. ثم صاحت دون أن تفعل:

– أين أنت؟.. اظهر وبان.

وجدت لسانى يبتسم. أردت أن أقول شيئاً. لكنها صعدت سلماً صغيراً إلى جوار الستار واختفت، بينما وقف طالب يتكلم فى مكبر الصوت، كأنه يستهل الحفل:

– بسم كل شهيد نفتتح حفلنا السنوى..

دوى تصفيق حاد فى أرجاء القاعة المزدحمة بالواقفين والجالسين، سكت وكأنه يترك فرصة للجميع أن يعبر عن شعوره الوطنى ثم أكمل كلامه:

– للعام الثانى على التوالى، تقيم كليتنا حفلها وبلادنا فى ظروف تستدعى من الكل الوقوف إلى جانبها، نحن نشعر جميعاً كأننا الجسد اقتطع منه شىء بعد أن تمكنت يد الغدر من احتلال سيناء.

ساد وجوم شديد فى المكان، وراح يكمل خطبته الحماسية، وبدا كم هو متمكن فى نطق الكلمات:

– ولذا، وقبل أن نبدأ الحفل، أعلن لكم الليلة عن تكوين جماعة أصدقاء المقاتل. ويمكن لمن يرغب، وكلكم بالطبع ترغبون، أن يسجل اسمه صباح يوم السبت لدى الزميل “محمد سرحان”، أمين اللجنة الاجتماعية.

دوى تصفيق آخر حاد. وانطلقت من السماعات الملتصقة بالحوائط موسيقى السلام الوطنى فوقف الجميل فى أماكنهم، اعتدلت وأنا إلى جوار الحائط. ارتجفت أوردتى. ثم جاء صوت “الريس” وسط الموسيقى: “لا يعلو صوت فوق صوت المعركة” فدوت القاعة بالتصفيق من جديد.

بعد قليل وقف الشخص نفسه أمام الميكروفون. وبنفس الثقة راح يتكلم:

– الآن. نبدأ الحفل. وحفل الليلة ليس كمثله حفل. فيه الرقص والتمثيل والاستعراض والغناء.

بدا شخصا غريباً عن سابقه. كأنه انسلخ منه إلى إنسان آخر. سرعان ما اختفى عن الخشبة ليترك مكانه لمجموعة الراقصين والراقصات الذين ملأوا المكان فجأة، بألوانهم الغريبة. بعضهم يحمل أعلاماً لمصر، وللاسكندرية بفناراتها، ولكلية الآداب، والبعض الآخر يتحرك برشاقة ومهارة كأنه درب أن يفعل ذلك طوال الأجازة الصيفية. بدت ملابسهم متناسقة طلاباً وطالبات. استطاعوا أن يجذبوا إليهم الأنظار بشكل مبهر لمهارتهم فى الحركة. وددت أن ألتفت إلى أى من الواقفين جانبى أسأله إن كان أحد من الراقصين عضواً فى فرقة رضا، لكننى لم أجرؤ حتى لا أضيع على نفسى متعة الفرجة.

فجأة توقفوا واختفوا عن المكان، كما ظهروا.. لم يتركوا الفرصة للتصفيق الحار كما يليق بهم، لكنهم سرعان ما خرجوا مرة أخرى. خلتهم يرقصون ثانية، لكنهم راحوا ينحنون أمامنا كأنهم يحيوننا.

لم تكفا يدى عن التصفيق، بينما حاولت عيناى أن تبحثا من جديد عن شخص أعرفه. لكننى لم أجده ومع ذلك لم أتوقف عن التصفيق.

ما إن عادوا إلى الكواليس، حتى ظهر الشخص الذى يقدم الفقران، لم أعرف اسمه حتى الآن. كى يقدم الفقرة التالية، فوقف أمام الميكروفون بكل ثقة، وراح يتكلم كأنه يمثل:

– الموضة.. آه.. من الموضة.. ويا عينى على الموضة. مرة حذاء ذو كعب كريب، ومرة طربوش، ومرة طويل.. ومرة قصير.. ومرة جيمس دين، ومرة خنافس.. لكن كله كوم.. إلا.. إلا… الـ…. المينى جيب.

ضجت القاعة بالضحك لطريقته فى الكلام، وهو يرفع بنطاله الواسع فيكشف عن ساقين عجفاوين، مكملاً طريقته فى التمثيل. وهو يكمل.

– الآن.. مع اسكتش المينى جيب.

اختفى فى الظلام وسط ضحكات صاخبة وتصفيق، شاركت فيها بالطبع، ما دفعنى أن ألتفت إلى الطالب الذى يقف خلفى وسألته وأنا مازلت أضحك:

– ما اسم هذا الطالب؟

لم يكن يصفق، بل استند إلى الحائط فى القاعة المزدحمة. قال بنعرة جامدة:

– “سمير ملفوظ”..

بدا الاسم غريباً، أحسست كأنه يسخر منه، فسألته ثانية:

– تقصد محفوظ..

رد بنفس الطريقة: لا.. ملفوظ.. ملفوظ..

لم أكن فى حاجة للاستفسار، وإلا ضاع الاسكتش، الذى بدأ بدخول ثلاث بنات مختلفى القامات، والجمال، والهيئة، واحدة منهن سمراء داكنة، تضع على رأسها منديلاً بأوية، وتلف جسدها بملائة سوداء، وهى “تتقصع” بشكل ملحوظ، وتلوك بلسانها لباناً، أما الثانية فترتدى ثوباً واسعاً كنا نسميه حتى العام الماضى، قبل أن يختفى، شوالاً، وتحمل على كتفها حقيبة مصنوعة من الخوص، أما الثالثة فتغطى وجهها ببرقع ومن أسفل ترتدى ملابس طويلة.

رحن يتحركن فى المكان على سجيتهن ثم فجأة دوى صوت الموسيقى، وظهر طالب قصير القامة، يرتدى قميصاً “مشجراً” وراح يغنى وهو يشير إلى الفتيات الثلاث:

ودى أمى.. وخالتى.. وأختى..

ودى ستى وطنط ونينتى..

لابسين ع الموضة..

مرت كل منهن بما تلبسه، وبدت لابسة الجونلة القصيرة لافتة للنظر، وراحت كل منهن تتحرك على سجيتها. بينما قام المغنى بتمثيل أنه مندهش لما يراه، وضع يده فوق رأسه. ثم عاد للغناء على طريقته:

يا اخواتى على اللى جرى لنا..

يا اخواتى على اللى حصل لى..

فجأة سمعنا صوت نفير أتوبيس، واتسع المسرح فجأة ليدخل هيكل سيارة متوسطة الحجم، وقفت عند منتصف المسرح، أمام البنات الثلاثة واللاتى راحت كل منهن تصعد إليه برشاقتها وخفتها، ورحن يجلسن فوق المقاعد، وقد بدت وجوههن للمتفرجين، ما إن جلست الفتاة ذات الحقيبة حتى أحسست أن شيئاً ما مكشوفاً من ساقيها، وعلى صوت “المحصل” أسرعت بتغطية وركيها.. بالحقيبة لكنها لم تغط شيئاً.

سرعان ما تحول “المغنى” إلى “المحصل” الذى وضع طربوشاً على رأسه، كأنه يرمز إلى أنه “دقة قديمة” فأمسك بحقيبته وراح ينادى: “تذاكر، يا بنات الحلال.. تذاكر”..

وقف مشدوهاً أمام الفتيات الثلاث. وتحدث إلى نفسه قائلاً:

– ماذا جرى.. هل هناك أزمة فى “الدبلان” الآن..؟

ولما لم يجد إجابة، تساءل من جديد: ربما “الكستور” فى أزمة ولا “البوال”.. لكن بصراحة.. أحسن..

اقترب من واحدة منهن، وصاح: تذاكر..

مدت له الفتاة الأولى بعملة، وهى لا توليه اهتماماً. نظر إلى وركيها، وقال: هذه تستحق نصف تذكرة.

ضجت القاعة بالضحك، لما يحمله التعليق من أكثر من معنى، فقد كانت الفتاة تكشف عن نصف وركيها تقريباً، ثم مد لها بوريقة وهو يردد:

– إلهى يقصر من تذاكركن..

اقترب من الثانية، وصاح: “تذاكر” وتحدث إلى نفسه: وهذه تستحق ربع تذكرة.

ضحك المشاهدون أكثر. وفجأة وضعت الفتاة وركاً فوق آخر، فشدهت عينى المحصل، مثملا شدهت عينى أيضاً، وتوقف عن الحركة قليلاً، وهو يؤدى حركة مسرحية، كأنه تجمد فى مكانه. وراح يردد:

– أكيد. هذه كانت آخر قطعة فى الثوب.. نصف متر.. أى والله نصف متر.. لا أكثر..

وانطلق الجميع صاخبين لما قاله، وللطريقة التى نطق بها كلامه، نظرت إلى القاعة المزدحمة، فأدركت لأول وهلة لماذا حرص هؤلاء على الحضور. لعلهم سمعوا الاسكتش مسبقاً. لاحظت أن البنات يضحكن بتحفظ، ووسط الظلام، هالنى أن الكثيرات لم يرتدين الجونلات القصيرة، حاولت أن أفتش بعينى عن بعضها، لكننى أرجأت هذا إلى ما بعد متابعة الاسكتش.

اقترب المحصل من الفتاة الثالثة، الأكثر جمالاً، وكشف عن وركيهأن فالتفت إلينا، وصاح:

هذه لا تستحق تذاكر بالمرة.. أليس كذلك؟

جاءت الإجابات من القاعة تؤكد كلامه. تحولت الإجابات إلى صخب، دفعنى أن أقول:

– اقطع لها.. ليس هناك واحدة أفضل من الأخرى..

ضاع صوتى وسط الصخب المتراكم. لكن فجأة، راح المحصل يرمى بتذاكره إلى أعلى، كأنه قرر أن يقدم استقالته من الوظيفة لكثرة ما رآه فيها، وللأعاجيب التى عرفها، راح يكرر أغنيته ساخراً من زمن الجونلة القصيرة التى سوف ترتدى فيه خطيبته مثلها، وأيضاً زوجته الحامل وابنته. وسرعان ما تحركت البنات فى دلال، ونزلن من الأتوبيس. ورحن يرقصن على نغمات الأإنية التى يغنيها وسط تصفيق حار قبل أن يسدل الستار.

أضيئت القاعة لبضع دقائق، بدا الحاضرون كأنهم يلتقطون الأنفاس من الضحكات الصاخبة التى أطلقها كل منهم. بحثت عيناى مجدداً عن زميل لى فى القسم، أو عن شخص أعرفه، ثم راحتا تفتشان عن الأوراك..الملفوفة فى كلية اشتهرت بناتها بأنهن أجمل من فى المدينة. اكتشفت أن كثيرات ضحكن أثناء الاسكتش لأنه يسخر من ملابسهن.

سرعان ما انطفأت الأضواء مرة أخرى. وتأهب الجميع للفقرة التالية. عندما افتتح الستار، رأينا فرقة موسيقية بشكلها التقليدى تجلس على مقاعدها. بينما وقف “سمير ملفوظ” (لا أعرف أم محفوظ) أمام الميكروفون يتلقى تصفيقاً جديداً من الحاضرين، ثم بدأ يعلن فقرته التالية.

– الآن. مع مطربة الجامعة. ومطربة كل الجامعات..

ووسط التصفيق الحاد، راح لسانى يردد معه: “ريم الحكيم”.

ظهرت “ريم”. وقورة جميلة، أنيقة، ترتدى فستاناً طويلاً من يراها لا يصدق أنها تلك الفتاة المنطلقة التى تفخر أنها تجلب لبلادها بالموضات الجديدة قبل أن يأتى بها أحد آخر، لأن أمها فرنسية تعيش بين الاسكندرية وباريس. وهى أول من ارتدى البنطال الضيق، والنايلون، والهيلانكا، كما أنها أول من لبست الجونلة القصيرة فى شوارع الاسكندرية التى ترتديها الآن الكثير من بنات الأحياء الشعبية خاصة كرموز، وكوم الشقافة، وغيط العنب، والورديان.

وقفت أمام الميكروفون، ترد بثقة شديدة على التصفيق، قبل أن تنطق بكلمة واحدة.. ثم بدأ عزف الموسيقى لنراها تغلق عينيها، وترفع يداها إلى أعلى، كأنها تصلى. تبدو بملابسها البيضاء أشبه بملاك يغنى. بل يصدح فى السماء، استطاعت أن تمتلك مشاعرنا، وأن تجمعنا جميعاً، أقسم على ذلكن أن نغلق أعيننا، ونرفع أيدينا إلى أعلى مثلما تفعل. وتجعلنا نبتهل فى صورة غناء إلى الحياة، والجمال والسلام. أن يستمروا فى هذه الأرض، وإلى الوطن، والأيام، والناس وإلى الحب، والبراءة والطفولة، إ نها كلمات غريبة لم يسمعها أحد منا من قبل، اهتزت قلوبنا، وارتجفت أبداننا، وتمنينا ألا تنته هذه الصلاة قط، لم نتمكن من التصفيق عندما انتهت، وهل يمكن لأحد أن يصفق وهو بهذا الحال من الارتجاف.

أردنا أن نطلب منها أن نعيد نفس الأغنية مرة أخرى. لكن من الواضح أن الإنسان لا يعيش مثل هذه المشاعر سوى مرة واحدة فى حياته. لذا، خلا المسرح فجأة من ريم الحكيم، وبقيت الفرقة الموسيقية كأنها تنتظر أن نفيق جميعاً مما أصابنا، ثم تلتهب أيادينا تصفيقاً، ليس فقط لهؤلاء العازفين ولكن للمطربة التى اختفت.

فجأة، تنبهت أننى يجب مغادرة المكان، التفت إلى الطالب الواقف خلفى كى أسأله عن الساعة، لكننى لم أجده، بل كانت هناك طالبة بدا أنها لم تخرج بعد من حالتها. لم أود إزعاجها، ووجدت نفسى أنسحب من القاعة، وأخرج إلى الحديقة مرة أخرى، كان هناك طلاب كثيرون فى الطرقة. أدركت عندما عرفت أن الساعة قد تجاوزت التاسعة والنصف، أننى يجب أن أعود بسرعة، كى يحق لى استخدام الاشتراك التى تنتهى صلاحيته فى العاشرة مساء. تذكرت العشرة القروش التى أعطانى إياها الأستاذ “فيصل” وقررت ألا أحرم نفسى من متابعة الحفل.

رأيتها خارجة من طرف القاعة. وقبل أن أقرر هل أعود إلى المنزل أم لا، اندفعت نحوها، ترتدى بنطالاً ضيقاً، وبلوزة بيضاء خفيفة، قبل أن ينتبه إليها أحد آخر:

– رائع يا “ريم”.

التفتت إلىّ، وقبل أن ترد على مجاملتى سألت:

– ما رأيك.. يا شاعر؟

لم أتمكن من الرد، فقد عاجلتنى: اسمع يا شاعر.. هل أعجبك كلام الأغنية؟

وقبل أن أرد، سألت: هل تستطيع أن تكتب مثلها؟

وقبل ان أهز رأسى قالت: سأعطيك رقم هاتفى.. لتتصل بى. وتزورنى فى البيت..

وقبل أن أتمكن من التعليق كان البعض قد التف حولنا..

 

 

 

 

 

اليوم الثالث

 

مين يشترى الورد منى..

وأنا بأنادى وأغنى..

هنا فقط قررت الخروج من المنزل، وأن ألحق بأتوبيس الكلية المتجه إلى المنتزه.

فى بداية الأمر تكاسلت، وأردت أن أستمتع بيوم إجازة. فلماذا يخرج الناس كل عام، فى مثل هذا اليوم بالذات إلى الحدائق والأماكن العامة؟. يأكلون السردين والفيسخ، ويتركون خلفهم الزهور فى حالة دمار. والزبالة فوق الأماكن التى زاروها.. لكن “ليلى مراد” أطلقت صوتها كى يوقظنى فى الثامنة والنصف وخمس دقائق بعد أن انتهت “همسى عتاب”.

انتفضت من فوق الأريكة الضيقة التى أنام عليها. دفعت النافذة الصغيرة، كى تطل منها نسمة، وراحت “ليلى مراد” تلح على أبناء مصر أن يخرجوا من بيوتهم لشم النسيم. فاندفعت أخلع ملابسى، وراح قلبى يدق بعنف خشية ألا ألحق الأتوبيس، أنا الذى لم تكن لدىّ أية رغبة فى الخروج قبل دقيقة واحدة.

عندما وصلت إلى قمة الحارة أدركت أن كل ما فعلته كان عبثاً، فلا يمكن لأى أتوبيس أن ينتظرنى حتى الساعة التاسعة. وليس هناك داع العجالة، وما أسهل أن أتجه إلى محطة مصر لأركب قطار أبى قير وألحق بزملائى. وقفت هناك ألهث. ثم تنبهت أن ليلى مراد لم تكن وحدها التى أيقظت الذين يتحركون فرادى. أو فى مجموعات متجهين إلى أماكن عديدة، الحدائق، والشواطىء. من النزهة إلى المنتزه، وشاطىء ستانلى، والأنفوشى. وسيدى بشر وغيرها. لعل هناك أسباباً أخرى غير أغنيات “الورد جميل” و”شوف الزهور بقى واتعلم”، و”آدى الربيع عاد من تانى”، و”يا ورد مين يشتريك” و”يا وردة الحب الصافى”. وفهمت أن الأغنيات التى تنطلق من “صوت العرب” و”الشرق الأوسط” و”هنا القاهرة” سمعها أغلب هؤلاء الخارجين إلى النزهات وهم يستعدون للخروج منذ السادسة صباحاً.

حفزنى منظرهم أن أنطلق نحو محطة مصر بخطى متعجلة، فربما أصل إلى المنتزه قبل أتوبيس الكلية. لكن فجأة توقفت أمام الفتاة التى تتكلم فى الهاتف، بدت سعيدة وهى تخاطب شخصاً أغلب الظن أنه حبيبها، قرأت فى كلماتها التى تناثرت منها وأنا أسير إلى جوار المحل أنها تمنى نفسها بنزهة تنتظرها طوال عام طويل، لا أعرف ما الذى ثبت قدمى من مكانهما. هل لأنى أحب سماع هذا النوع من الحوارات، أم لأننى قررت مخابرة “ريم” فى منزلها فى مثل تلك الساعة.

جاءنى صوتها يحيينى، سألتها:

– هل أيقظتك..؟

قالت بطريقتها المعهودة: كيف حالك يا “واد”..؟ من أين تتكلم؟

أعرف أنها تستيقظ فى الخامسة صباحاً، تأخذ دشاً بارداً حتى لو فى منتصف الشتاء، ثم تحتسى الشاى باللبن، وتدير الجرامفون على واحدة من الأوبرات العالمية، ثم تجلس لقراءة كتباً باللغة الفرنسية. تفعل ذلك كل صباح وتبدأ يومها فى العاشرة. سألتها:

– أين ستشمين النسيم؟

بادرتنى بسؤالها: وأنت أين ستشمه؟

أجبت: فى المنتزه.. مع الرحلة..

امتزج صوتها بسخرية وهى تردد: خيبك الله.. هل هناك من يذهب فى رحلة مع الكلية؟ كلهم غجر..

بطريقتها المألوفة فى الكلام عاجلتنى: ما رأيك يا “واد” أن ترى أشخاصاً لا تتخيل أن تقضى معهم شم النسيم.

كدت أن أقول لها إننى منذ أن زرتها أول مرة، وأنا فى كل مرة أرى أشياء وأشخاصاً لم أتصور قط أن أصير منهم، فنانين، وأدباء، وأساتذة جامعة. وصحفيين مشاهير. ورجال سياسة. نظرت إلى صاحب المحل وأدركت أننى ربما أدفع مكالمة لمدة ثانية. فقلت منهياً المحادثة:

– انتظرينى.. سوف آتى لك حالاً..

قالت قبل أن أضع السماعة: لا تتأخر يا “واد”.

وهل لىّ أن أتأخر. وددت أن أخترق المسافة إلى منزلها الواقع فى محطة الرمل فى دقائق معدودة لكن أتوبيس مدرسة العباسية اعترض طريقى. وقف أمامى يطلق نفيره، كأن الاستاذ فيصل يتتبع مسيرتى. نادانى، وهو بداخل الأتوبيس:

– اركب بسرعة.

نظرت إلى تلاميذ مدرسة العباسية الثانوية الذين يتطلعون إلى الشخص الذى أوقف الأستاذ فيصل من أجله الاتوبيس، سرعان ما أدركت مصيرى، فلن أذهب إلى “ريم” كى أقابل الأشخاص الذين ما تخيلت قط أن أقضى وقتاً معهم. ولن أكون فى صحبة أجمل بنات كلية الآداب فى رحلتهن إلى المنتزه. قلت متردداً:

– أنا ذاهب إلى المنتزه..

رد بحماس: ونحن أيضاً.. اركب..

أدركت أننى قد وقعت فى فخه، فأنا أعرف أن الرحلة التى ينظمها كل عام للمتفوقين رياضياً من المدرسة تذهب إلى حديقة النزهة. لم أتوقع أن تكون رحلة هذا العام إلى المنتزه، لاحظ ترددى. ضحك، التفت إلى الطلاب وقال:

– زميلكم فى كلية الآداب.. وأنتم تعرفون كلية الآداب.

قلت مازحاً: خاصة قسم اللغة الفرنسية..

صاح السائق ساخراً: يا وعدى..

ردد طالب خيل لى أن صوته أقرب إلى “نادر وهيب”: اللهم اجعلنا من بركاتك.

ابستمت، ردد الأستاذ فيصل بحماس، وهو يضحك قبل أن يغلق باب الأتوبيس القديم:

– سلم لى على “الدنيارة”..

رحت أسبق الأتوبيس الذى سار إلى جوار، الطلبة بداخله يلوحون بأياديهم، ويهللون، كأنهم يتبركون بى، أو يحسدوننى على الدنيارة التى سأذهب إليها.. حاولت أن أبتعد عن الاتوبيس، بدا كأنه يطاردنى، رأيت الأستاذ فيصل يبتسم ابتسامته المعهودة. فهو يعرف “ريم” جيداً، منذ أن رويت له عنها، منذ أن أعطتنى رقم الهاتف، وأخبرته أنها تودنى أن أزورها. فى البداية تردد، واقترح ألا أذهب إلى منزلها. وبعد عدة أسابيع أخبرنى أنه يتمنى لو تعرف إلى الفتاة، ليس لأن أباها أحد كبار تجار القطن فى البورصة، وليس لأن أمها الفرنسية تتكلم ثمانى لغات، لكن كى يطمئن أن كل ما أقوله عنها صادق مائة فى المائة. وهل يعقل لأحد أن يصدق أن فتاة، صارخة الجمال مثل “ريم” يمكنها أن تجالس شاباً مثلى فى شقتها الواسعة التى تبلغ مساحتها فدانا على أقل تقدير، يجلس الاثنان وحديهما يستمعان للموسيقى، أو يتحدثان عن أجمل الاسطوانات الغنائية فى العالم الكلاسيكى منها والحديث؟

رأيته يغمز لى، قبل أن ينحرف الاتوبيس يسارا، ويختفى، كأنه يؤكد لى أن أبلغها تحياته. إنها أيضاً تعرفه، فقد حدثتها عنه طويلاً، وقرأت عليها قصيدتى، التى كتبتها ليلة خطبته. وأهديتها إلى عروسه، بدت الصغيرة كأنها لا تفهم ماذا تعنى الكلمات الموزونة عن خطيبها النحيف، الملىء بالشهامة، وقوة الشخصية، عندما سمعتها ريم قالت:

– القصيدة ركيكة.. لكنها صادقة..

رحت أدافع عن كل كلمة كتبتها، فلا يمكن أن أكتب فى الأستاذ فيصل، بشكل خاص، قصيدة ركيكة. حاولت أن أقنعها أن علاقتها بالشعر العربى ضعيفة، ومن الأفضل أن تقرأ الكثير من الدواوين الشهيرة.

عندما دخلت من باب شقتها الواسعة، قلت:

– الأستاذ “فيصل” يهديك السلام..

ترتدى نفس الملابس المعتادة.. سألتنى: هل تناولت فطورك؟

قلت: لماذا لا تذهبين إلى المنتزه؟

سألتك هل تود الخروج..؟

هززت رأسى.. سألت من جديد: هل تود أن تذهب إلى سيدى عبدالرحمن؟

لم تتركنى أجيب. قامت من مكانها، وغابت لتعود حاملة صينية الشاى الفخمة. وعليها أكثر من كوب، وأبريق ومياه ساخنة، وأكياس قهوة وشاى كى أختار ما أشاء. جذبت علبة بسكويت من فوق المائدة مثلما تفعل فى كل مرة. ثم اختفت من جديد، لتعود مرتدية ملابس الخروج، بدت بسيطة، بنطالها، وبلوزتها الحمراء وحقيبتها المصنوعة من القش، تأهبنا للخروج، قلت:

– والأكواب؟

ردت: فوزية سوف تتولى الأمر..

بعد قليل،، انطلقت سيارتها فوق طريق العجمى.. فوق المدق الضيق إلى مكان لم أره من قبل. خلت أننى فى فيلم سينمائى وأنا جالس إلى جوراها. بل أنا فى هذا الفيلم منذ ان زرتها فى شقتها الواسعة أول مرة. وأنا أصبح شخصاً يتجول فى الأماكن الواسعة التى تندرنا نحن الأصدقاء أن هناك أشخاصا يعيشون بداخلها، أثاث عتيق، لوحات قديمة على الجدران، وطريقة غير مألوفة فى تحية الضيف، وتقديم الشاى أو المشروبات له. تصورت نفسى فى البداية، أننى حين ينغلق باب شقة على اثنين من جنسين مختلفين، فلابد أن توسوس اللذة لكلينا أن نتعرى ونتأوه. لكنها لم تترك فرصة للجالس أمامها أن يفكر أن هناك شهوة جنسية وشقتها مليئة بالكتب المتناثرة فى أماكن متعددة تنتظر من يقرأها، أو لعلها انتهت من التهامها، والاسطوانات دائماً إلى جوار المسجل الذى لا يتوقف عن البث، والحديث عن الوطن الجريح الذى هزمه الاسرائيليون، وتآمر عليه الأمريكيون، والطائرات التى تطلع من وقت لآخر لتضرب أعماق مصر كما تشاء، والرادار الذى تمت سرقته فى البحر الأحمر.

جالسة إلى جوارى بنفس الزى الذى تفضله كلما خرجت من المنزل، بنطال كاوبوى، جاءها خصيصاً من فرنسا وبلوزة بيضاء خفيفة، أما شعرها فقد عقدته بتوكة بسيطة، بدت مختلفة تماماً عن الفتاة التى تعرفها كلية الآداب، فهذا البنطال الممزق عند الركبة يؤكد أنها تؤمن بالهيبز الذين ينادون بالسلام على الأرض ويرتدون الملابس الرثة، ويطلقون شعورهم بلا تصفيف، ويحملون آلات الجيتار، ويتصرفون على السجية كما يشاءون. يغنون، بينما تنطلق الروائح النتنة من بعضهم. يفكرون بنفس الطريقة التى غنت بها منذ أشهر طويلة فى حفل الكلية، تصورنا أيامها أنها تغنى للسلام الوطنى، فإذا بها تشرح لى فيماب عد أنها تؤمن بسلام البشرية عامة، وأن الوطن ليس إلا جزءا من العالم.

سألتها:

– هل يتناسب السلام مع الملابس الممزقة؟

ابتسمت عبر السيارة الصغيرة المكشوفة، وفهمت أننى أفتح الموضوع من جديد:

– اسمع يا “واد”.. انت عبقرى.. لكن غبى.. أنت تأخذ القشور مثل الناس.. تتصور أنك “خنفس” بمجرد أن تلف خصلة شعرك مثل “رنجو ستار”. وإنك ستكون “هيبز” لو لم تمشط شعرك..

بدت أنها انتبهت أننى أطلقت لشعرى العنان دون تمشيط وأننى تركت الزرار الأول من قميصى مفتوحا كى أكشف شعيرات تنبت الآن فى صدرى. قلت:

– وأنت.. هذا الكاوبوى الممزق.

ردت بجفاف باد: أولاً.. ليس اسمه كاوبوى.. اسمه جينز.. هذا البنطلون الممزق أغلى من بدلة سموكنج جديدة.. إنها موضة يا عبيط..

ابتسمت فى بلاهة، قلت: أتعرفين أنها أنسبة موضة دخلت بلادنا، تناسب كثيراً أهالى كرموز.

صاحت كأنها تتذكر الزيارة التى جاءت فيها إلى غرفتنا الصغيرة فوق السطح:

– وماله.. لماذا تتكلم عن هذه الغرفة باعتبار أنها ضيقة؟

وددت أن أذكرها بما حدث فى ذلك اليوم، حين جاءت لترى غرفتى التى كسوت كل جدرانها بصورة “ألفيس بريسلى”، و”شون كونرى”، و”ستيف ماكوين”، و”مارلين مونرو”، و”جونى هاليداى”، وغيرها التى انتزعها من مجلة “سالى لوكوبان”. جاءت ومعها صديقة عمرها راضية، وأحد المهووسين بالسينما “حكيم”. بدت “ريم” و”راضية” فى غاية الدهشة من غرابة المكان، أطلقتنى بعبارات الدهشة، أما “حكيم فأخذ يلعن ويسب فيمن كان سبب الزيارة، لأن هذه الغرفة، تذكره بأيام الفقر التى عاشها فى مثل هذا المكان. أما “راضية” ابنة أحد الباشوات السابقين، فقد رددت “آه.. أورجينال” وعلقت “ريم” ببساطتها المتناهية “هنا يكون السلام الحقيقى للإنسان”..

قلت والسيارة تنطلق بنا فوق المدق الضيق نحو “سيدى عبدالرحمن”:

– ما أجمل الحياة فى الصحراء!!

لم تعلق.

سألت: هل يشم أحد النسيم فوق الرمال..؟

كنا قد أوشكنا على نهاية الرحلة. انطلقت السيارة فوق مدق رملى نحو مبنى أصفر، محاط بأسوار عالية، ما إن اقتربنا منه، حتى أطلقت نفير سيارتها، فانفتح باب خشبى عتيق، أشبه ببوابات القلاع القديمة، وظهرت وراءه امرأة متشحة بالسواد، حيتها “ريم” قائلة:

– كيف أحوالك يا أم حسين؟

ردت المرأة بلهجة بدوية: زين والله.. يا ست “ريم”..

اقتربت المرأة من نافذة السيارة، ورأتنى أبتسم لها، سألتها “ريم”:

– ما الأخبار؟

ردت المرأة بنفس اللكنة: جاءوا جميعا يا ست ريم.. عدا الست “زكية”..

لوحت بيدها، قبل أن تستكمل قيادتها للسيارة داخل مكان هو أقرب إلى الجنة، لا يفوح منه النسيم فقط، بل كل أنواع العطور، بما تحوطه بكل ما يخطر على البال من زهور، ويطل مباشرة على البحر بلونه الغريب الذى لا نألفه فى شواطىء الاسكندرية.

تركتنى ألتفت حولى فى هوس ملحوظ، لا تستطيع عيناى أن تلتقط كل ما بالمكان من خضرة، ولا يمكنها أن تصلا إلى نهاية الأفق البعيد. خلت أننى داخل فردوس أرضى، قرأت عنه فى كتاب “أرض الأحلام” لزكى نجيب محمود. فجأة سمعنا نفير سيارة من خارج البوابة الخشبية. علقت:

– أكيد إنها زكية..

لم توقظنى كلامها من حلمى المبهر الذى سبحت فيه بمجرد دخولى من البوابة الخشبية، فجأة أوقفت السيارة فى الممر، ونزلت وهى تصيح هاتفة:

– إيه.. يا زكية.. كل سنة وأنت طيبة..

سمعت صوت زكية يرد التحية، لم أهتم بالالتفات إليها عندما أحسست أننى أعرف صاحبة الصوت وإننى سمعتها كثيراً ما تتكلم، ما إن رأيتها حتى عرفت فيها الممثلة “زينات زين العابدين”. رأيتهما تتبادلان القبلات وتضحكان كصيدقتين حميمتين. وجدت نفسى أفتح باب السيارة، وأنزل لأراها عن قرب، أدركت عندما سمعت “ريم” تكرر كلمة “زكية” أكثر من مرة أن هذا هو اسمها الحقيقى. رأتنى فتوقفت عن الابتسام، وقالت:

– من هذا الوليد الحليوة.. يا ريم؟

التفتت ريم نحوى وأشارت أن أقترب، وقالت:

– إنه شاعر. زميلى فى الكلية..

بليونة واضحة، تحاول أن تتصاغر، ناغمت الممثلة صوتها وقالت:

– شاعر.. رائع، وهل هناك شعراء بمثل هذه الحلاوة؟

غيرت “ريم” نبرتها وبجدية ممزوجة بالهزل والمزاح، وقالت:

– لا.. وحياة أمك.. ليس من إياهم.. قلت لك إنه شاعر..

استدارت الممثلة إلى سيارتها وأشارت إلى شخص بداخلها، لم نلتفت إلى وجوده حتى الآن، قالت بنفس الميوعة، وهى تناغم كلماتها بضحكات رنانة:

– وأنا أيضاً.. معى مطرب.. ولا كل المطربين.. تعالى يا “رامى”.

قالت “ريم” بمزاح متعمد، ملىء بكل السخرية: “رامى”.. أحمد رامى.. شاعر الشباب.

بكل أدب، نزل الشاب الصغير، الذى يماثلنى فى العمر، من السيارة، لكنه بدا عملاقا، عريض الكتفين، وقد أطلق لشعره العنان فبدا أشبه بالبنات، يضع سلسلة ذهبية عريضة حول رقبته فتدلت على قميصه المزركش بعشرات الألوان المتداخلة وقد فك أزرار قميصه العليا دون أن يزررها، أما بنطاله فكان واسعاً بشكل ملحوظ، أمسك نظاراته السوداء بين أصابعه، وهو يقترب منا، وراح يصافحنا نحن الاثنين، بدت يداه قويتين وهو يضغط على كتفى. بينما لم تتوقف الممثلة عن التأمل فيه بإعجاب، وهى تمط شفتيها: انه ملاكى الحارس.

قالت “ريم”: بالتأكيد، انه يغنى لك فى الحمام.

ردت الممثلة: فى الحمام.. يا عينى عليه.. ايضا على السرير وساعات فى المطبخ.

علقت ريم ساخرة: يا روحى عليه.. اذن، فمستقبله هائل..

– لا.. مطرب متميز أكيد..

صاحت الممثلة ببراءة: من يراك يقول إنك سمعتيه..

بسخرية ملحوظة، وهى تتأمل جسده العملاق، علقت “ريم”:

– وهل هناك أفضل من هذا المطرب؟

وقف الشاب وقد عقد يديه، كأنه ينتظرنا أن نحكم على موهبته، بينما بدت الممثلة كأنها أحسنت الاختيار. قالت “ريم”:

– وهل سيأكل فسيخ مثلنا..؟

ردت الممثلة بتأفف واضح: فسيخ.. لا.. إنه قادم من باريس لتوه.. لم يسمع عن هذه الأشياء.

قالت ريم وهى لا تزال تتفحص الجسد العملاق، المبهر، الذى لم تنجب السينما المصرية مثيلا له حتى الآن:

– يشبه فهد بلان..

بدت ريم كأنها فتحت موضوعا للحديث، فما ان سمعت الممثلة الاسم، حتى قالت:

– ريم.. ألم تسمعى آخر خبر؟ لقد طلق فهد بلان مريم فخر الدين.. إنه خبر جديد “نوفى” لم تنشره صحيفة أو مجلة بعد..

بدا الخبر كأنه لا يهم ريم بالمرة. فقامت بدورها بتغيير الموضوع، وسألتها:

– هل جئت بالمايوه الأحمر؟

وضعت الممثلة يديها حول المطرب وهى تقول بنفس الدلال والميوعة.

– أحمر.. أحمر يا عبيطة.. الموضة هذه السنة بلا مايوهات.

قلت وأنا أنظر إلى الناحية التى اختفيا فيها:

– أنثى جميلة..

بدوت كأننى مسست فيها شيئاً أغاظها، فقالت بتحد واضح:

– ماذا بك يا أبو عبط.. وحياة أمك.. كل المايوهات توارت أمام “ريم المخزنجى”.. لسنا شيئاً بسيطاً فى البلد.

حاولت أن أبعد عن مخيلتى صورتها وهى ترتدى مايوهاً بقطعتين، تبدو فيه أجمل بكثير من زينات زين العابدين، إحدى أجمل الممثلات فى السينما طوال خمسة عشر عاماً. سألتها:

– هل ستقيمون المسابقة هذا العام؟

ضحكت، وقد بدأت تفهم نوايا خبيئة تحاول أن تلعب فى داخلى فقالت كأنها تتغزل فى النوايا:

– ألم تسمعها تقول إن الموضة هذه السنة بلا مايوهات؟

توقفت قليلاً، ضربت كفا بكف، وهى تشير أمامى فى طريق معاكس قائلة:

يبدو أننى أخطأت بإحضارك إلى هنا. فأنت عظمة خضراء..

قبل أن أبرر كلماتى، أو أن أدافع عن نفسى، ضربت كفيها ببعضهما من جديد، أردكت أنها تكرر جملتها التى ترددها، بين الحين والآخر، كلما حاولت أن أكتشف من تكون بالضبط.. “غريبة.. كل هؤلاء يفكرون بأعضائهم الجنسية. حتى أنت؟”.. وددت أن أكررها قبل أن أقولها، لكنها ابتلعتها. وتمتمت:

– هذا عالم آخر.. المدينة أفسدته. تعال لتراه..

تؤهلنى للدخول إلى عالم غريب لا يمكن لأى شخص أن يتصور أنه جزء من مصر. خاصة فى هذه الأيام العجاف، التى تمتلىء فيها نشرات الأخبار بأنباء الطائرات الإسرائيلية تضرب أعماق المدن، وتقتل أبرياء فى مدرسة بحر البقر. وزيارات الفنانين للجبهة من وقت لآخر، ولاتزال نوافذ بيوتنا مدهونة بالأزرق الداكن حتى لا ينفذ الضوء خارجها أثناء الليل، أما العمارات فى الشوارع فقد سدت بسور سميك من الطوب الأحمر.

إنهم هناك، حول حمام سباحة صغير. جاءوا بملابسهم المبهرة المزركشة يتبادلون القبلات عند اللقاء، لم تستح “ريم” أمامى أن تقبل كل من يحييها على خديه، سواء من النساء أم الرجال، تناثرت زقزقاتهم وقد ملأتهم البهجة، فتشت فى وجوههم عن شخصيات شهيرة أخرى فلم أجد. كانوا جميعا فى انتظار وصول ريم باعتبار أن أمها صاحبة هذه الفيللا التى تطل على البحر، والمحاطة بسور ضخم، تملأها الخضرة وبداخلها الحمام الصغير الذى جلسنا حوله. خلعت بعض النساء والبنات ملابسهن وتمددن فوق مقعد طويل تحت الشمس، رغم برودة الجو التى يمكن لمسها، أما الرجال فقد راحوا يتباهون بشعورهم الطويلة، كأنهم يعلنون أنهم يسيرون على أحدث موضة، ولأن هذه الأيام هى الهيبية، فقد بدا هذا فى شعورهم، وملابسهم، والأغانى التى تنطلق من مسجل كبير وضعه أحدهم، لعل الآخرين يفكرون فى الرقص على أنغامه.

رحت أبحث عن صدر عار من النساء، مثلما توقعت من كلام الممثلة، أو أن أراهم يرقصون، لكن يبدو أن حالة من الخمول استبدت بهم، كأنهم جاءوا للاسترخاء. أو لكى يخلو كل منهم إلى رفيقه، وجدت نفسى وحيداً بعد أن اختفت “ريم” عن الأنظار. لم أسل نفسى ماذا تفعل، راحت عيناى تبصان على الآخرين ربما لأكثر مرة فى حياتى. انتابتنى خشية شديدة أن يلمس شخص كتفى. فالتفت لأجد الأستاذ “فيصل” يشدنى من ملابسى، ويخرجنى بعيدا عن الطابور، ويأمرنى أن ألم كل هذه الملابس التى خلعوها، وأضعها فى السلة، لا أعرف ماذا يمكننى أن أفعل بها بعد ذلك. هل أحرقها، أم ألقى بها فى البحر، أم نقيم المسابقة على ارتدائها وخلعها؟

قررت أن أخرج من الدائرة، وأن اسير إلى الشاطىء القريب كى أتمشى مثلما يحلو لى أن أفعل كلما وجدت نفسى قريبا من المياه. سمعت ريم تنادينى، رأيتها تضع على وسطها شيئاً أشبه بملابس الطباخين،أسرعت إليها، فاحت روائح بيض وفسيخ ورنجة. سألت:

– لماذا لم تتعرف إلى أحد.. الناس هنا جاءوا لقضاء وقت جميل؟

هززت رأسى:

– فى بعض الأحيان.. مراقبة الناس أجمل من الحديث معهم.

سارت أمامى، كأنها تدعونى أن أمشى وراءها، قالت:

– هل يمكن كتابة قصيدة عن هذا العالم.. يا فيلسوف؟

رددت: هل تعتقدين أن هذا وقت الشعر.. كل هؤلاء الجميلات..

قاطعتنى: يا واد لا تكن غبياً.. كل هذا جمال خارجى.. كل واحدة هنا يكمن بداخلها صندوق زبالة أخلاقية.

– إذن. لماذا تصادقينهم؟

– أسئلتك سخيفة. وليس عندى إجابات لها.. تعال لتساعدنى لإعداد الطعام..

فى المطبخ بدأت تغنى بصوتها الخلاب. وهى تقطع شرائح البصل، وقطع السردين والفسيخ والرنجة، بدت أغنيها غريبة لا يمكن أن تتناسب مع الأجواء التى تحوطنا. إنها قصيدة مصر، التى كانت أول أغنية سمعناها فى إذاعة القاهرة، عقب نشرة الأخبار، بعد أكثر من أربعين يوما من العزاء العام الذى عشناه بعد رحيل الرئيس عبدالناصر. لم تكف الإذاعة طوالها عن إذاعة آيات القرآن الكريم، وكانت تلك أول موسيقى نسمعها، جاء صوت أم كلثوم شامخاً مثلما تحاول “ريم” أن تطالها بصوتها الذى يجتهد للاقتراب من ست الكل.

أجل.. إن ذا يوم لمن يفتدى مصر

فمصر هى المحراب والجنة الكبرى

وجدت نفسى أغنى معها، بدأت أفعل على استحياء، لكنها لكزتنى كى أستمر، توقفت عن التطلع عبر نافذة المطبخ إلى الضويف الذين وقفوا قريبا، شبابا وبناتا يتبادلون القفز فوق بعضهم البعض، حيث يثنى أحدهم جذعه، كى يقفز زملاؤه عليه، ثم يقوم بدوره بالقفز على زميل آخر، كانوا قد تحرروا جميعاً من ملابسهم الخارجية ولمعت المايوهات البكينى تكشف فتنة النساء، وددت أن أتوقف، وأن أسأل “ريم” إن كانت ترتدى لباس بحر مثلهم، لكنها لكزتنى مجدداً أن أكمل الغناء.. توقفت فجأة، وهى تتنهد، كى تقول:

– صوتك نشاز..

تنبهت إلى عينى المتأرجحتين بين النظر إليها، ثم عبر النافذة، فتوقفت عن مواصلة الكلام.. تنهدت وقالت:

– يبدو أن أخلاقك ستفسد..

سألتها: هل تنفقين كل هذه النقود لإطعام هؤلاء الناس؟

– لا تقلق بشأن النقود.. المهم النجاح.

كانت قد انتهت من إعداد كل شىء. لم يعد أمامنا سوى أن نفترش الأطباق الكبيرة المليئة بكميات من الأسماك المملحة بأنواعها المختلفة، ومشهيات لا أعرف أسمائها، علينا أن نفترش مساحة كبيرة من الأرض الخضراء. لذا ذهبت أم حسين تعد المكان لافتراشه بالأطعمة. فجأة. جذبت منى الطبق، كأنها أحست أن هذه ليست مهمتى، ثم قالت فى ضيق:

– تأخرت المرأة كعادتها.. الساعة ثلاثة إلا ربع..

أطلت إلى الخارج برأسها، فانحسرت بلوزتها، ورأيت جزءاً من ظهرها الناصع البياض ونادت “أم حسين”. ارتبكت، وقلت مرتجفاً وأنا أبعد عن مخيلتى منظرها بلباس البحر:

– غطى نفسك.. ظهرك بان..

أكملت نداءها كأنها لم تسمعنى، كررت جملتى فقالت وهى لا تزال تنظر إلى الخارج:

– وهل هناك أحد هنا؟

فجأة دخلت المرأة العجوز، التفت إليها، انها تلهث.. وترتبك حروفها، قالت:

– لماذا تأخرت يا “ولية”؟

اهتزت يد المرأة، بدت كأن شيئاً بشعاً قد حدث. حاولت أن تستجمع قدرتها على الكلام، وقالت:

– يا ست “ريم”.. “الست زكية”..

وبكل ما تملك من شجاعة صرخت، وهى تقول: لا.. هذه المرة.. الأمر لم يعد يحتمل.

وتكهرب المكان تماماً.

 

 

 

 

 

اليوم الرابع

 

سألته وهو يخط بطباشيرة مدببة فوق قطعة القماش:

– حضرتك عم عبده؟

دون أن يرفع رأسه المستدير، ونظارته البيضاء. وطاقيته التى تغطى جزءاً من شعره الأبيض، راح يغنى رطيقة كأنه اعتاد أن يفعلها كثيراً:

لا والنبى يا عبده..

لا والنبى يا عبده..

توقف فجأة عن الغناء، كأنه أدى دوره فيه، ودون أن يرفع رأسه أيضاً تكلم كأنه فى حالة مواجهة معى:

– كله عم عبده.. عم عبده.. ولماذا “لا والنبى يا عبده”.. لماذا لا نقول “لا والنبى يا فتحى” والا.. مراد.. والا عزيز.. لا.. لا.. عزيز هذا له أغنية أخرى..

ثم راح يغنى من جديد:

“يا عزيز يا عزيز.. ضربة تاخد الانجليز”..

بدا كأنه استدرك نفسه، رفع رأسه نحوى، بدا ذقنه غير الحليق، كأنه لم يمسسه بموسى منذ عدة أيام وشاربه الأبيض الخفيف. فرآنى أبتسم لطريقته فى الكلام. لكنه لم يعبأ بابتسامى وقال:

– صحيح.. لو نظرت إلى الأغنيات، فستجد أن لكل شخص أغنيته المفضلة. أغنية على اسمه. وأغنيى على اسم حبيبته. مثل الملابس بالضبط.. لكل واحد “قصته المفضلة”. نعم يا سيدى.. أنا عم عبده..

ثم سأل: بنطلون أم دبلة؟

ضغطت على اللفافة التى أحملها بين يدى، كأنما أتأكد من سمك قطعة القماش التى بداخلها، والتى جئت بها إليه، وقلت:

– أنا من طرف الأستاذ فيصل.

استمر فى عمله، وراح يتكلم:

– مرحبا بالأستاذ “فيصل”. وكل من يرسله الأستاذ فيصل. كيف حاله؟..

هززت رأسى: طيب.. يقول إنك أحسن “خياط” فى الاسكندرية.

وبثقة مليئة بالسخرية والجدية ردد:

– ألم تعرف ذلك قبل أن يقوله لك؟

أجبت: طبعا.. كنت أقرأ عنك فى الصحف.. مرة أو مرتين..

وقبل أن أنتهى من جملتى رفع رأسه عاليا، ودفع بها إلى الخلف وهو يجلجل من الضحك. ويقهقه كما لم يفعل طوال يومه.. استمر يضحك وهو يردد: “الله يجازيك.. يبدو أنك ابن نكتة”.. ثم فجأة توقف وراحي سعل بشدة، خرجت الحروف من فمه ممزوجة بالسعال. فخلت إن روحه سوف تخرج مع كلماته. انتابنى الجزع، سألته:

– هل آتى لك بمياه..؟

حاول أن يتماسك. أدار لى ظهره، وقال وهو لا يزال يسعل:

– اضربنى هنا..

أولانى ظهره العريض، اكتشفت كم هو قصير، وبدين. حثنى أن أضربه. ففعلت ذلك فى تردد وبرفق، زعق قائلا: يا جامد.. اضرب يا جدع.. بعزم قوتك.

وبعزم قوتى ضربته. ليس على سبيل المزاح. بل لأننى تصورت أن مثل هذا الظهر لن تؤثر فيه مثل هذه القوة.. أطلق زفرة من فمه، والتفت إلىّ قائلاً: تعال إنت زبون آخر النهار.

دلف إلى داخل المحل. فأضاء النور، وتركنى أنظر إلى المكان لأتعرف عليه. حيث تكدست قطع القماش، والقصاصات فوق بعضها بما يوحى أن وراءه عملا يكفيه سنة بأكملها، وأنه من المحال أن يستطيع التعرف على قطعة قماش أى زبون بسهولة، ضغطت على اللفافة فى يدى، وتخيلتها قد تاهت وسط الركام. قال وهو يفسح لى مكانا على مقعد صغير:

– اجلس. يبدو أن الأستاذ فيصل لم يقرأ الجرائد التى تقول عنها. يرسل لى الزبائن. لكنه توقف عن التفصيل عندى منذ فترة طويلة..

قلت كأننى جهزت الإجابة: عريس..

جلس فوق مساحة صغيرة، وسط ركام قطع الأقمشة. وقال بصوته المميز:

– لا. ليس هذا هو بيت القصيد..

– لقد فسرت لى سر عدم أناقته..

– كيف تقول هذا.. فيصل.. لعلمك، هو أحسن واحد يجيد اختيار الألوان. وعلى الموضة.

صدمتنى كلمته، فهل الأستاذ فيصل فعلا يرتدى ملابسه على الموضة. هو الذى يرفع البنطال إلى نصف بطنه أيام ازدهاره “الجمسنة”، ويصر على ارتداء البنطلون أبو ثنية، ولم نره بعد بالشارلستون. بدا الرجل كأنه قرأ أفكارى وسط نور المحل الذى أضاءه، فقال:

– لا تتعجب. إنه هكذا فعلا. ساعده طوله فى ذلك.

انظر كم هو رشيق، وطويل، انظر إليه مثلا فى الزى الرياضى.

تذكرت شكله وهو يملأ ملعب مدرسة العباسية بخفته، بملابسه الرياضية اليبضاء التى كانت تلفت أنظارى بنصاعتها، والحزام الأسود الذى يلفه على الشورت. كم جعلنا ننتظر حصته لنراه يتحرك أمامنا كأنه راقص باليه ماهر، فلم نكن نؤدى التمرينات قدر الاستمتاع بمشاهدته وهو يطلب منا أن نرفع أيدينا، أو نحرك أقدامنا من أجل اكتساب لياقة أفضل. قطع عم عبده أفكارى، وقال:

  • فيصل لاي لبس إلا ما يناسبه. وما يقتنع به. انظر مثلا شباب هذه الأيام. الشارلستون الذى طلعوا فيه.. كله شارلستون.. هذا يطلب ثمانية عشر وذاك ثمانية وعشرين.. والكل يرتدى الشارلستون. لكن فيصل له فكر آخر.

نبهنى إلى أمر لم يكن ببالى. فالموضة الآن أن يكون الشارلستون أربعة وعشرين سنتيمتراً، كطول فتحة البنطلون من أسفل، سمعت أحدهم يعاير زميله أن بنطلونه ضيق فهو يرتدى مقاس اثنين وعشرين. إنهم يفضلون الشارلستون ويتفاضلون فيما بينهم حسب طول فتحة البنطلون. عندما قابلنى الأستاذ فيصل ظهر اليوم وهو عائد من المدرسة، سألنى عن وجهتى، أبلغته أننى قررت ارتداء الشارلستون، وأن معى قطعة قماش سأذهب بها إلى الخائط. وعلى الفور سألنى إن كنت أعرف شخصا بعينه، فأجبت بالنفى، عاود السؤال إن كنت أود خائطاً مناسبا. ثم وصف لى مكان محل عم عبده. هناك فى شارع متفرع من سوق الميدان. أحسست من إطرائه على الرجل أننى سوف أجد محلا مضاء بالنيون، وتملأه الواجهات الزجاجية وبه أكثر من شخص يسقتبلك. لكننى لم أصدق عينى وأنا أرى حانوتاً صغيراً، أبوابه من الخشب القديم وليست عليه أية اشارة تدل على مهنة المحل، أو اسم صاحبه. تأكدت أن هذا الرجل لا يمكنه أبداً أن يصل البنطلون على طريقة الشارلستون.

تنهد، وبدا كأنه يفكر فيما اعتمل برأسى. وقال:

– هذا المحل دخله باشوات اسكندرية، ورجالها البارزون. لا يغرنك أنه قديم وضيق. هل تعرف ماذا كان اسمه قبل أن تقوم جماعة الثورة بالحكم؟ كان اسمه “الباشوات” لا يغرنك أنه قديم. ألا تعرف أن الدهن فى العتاقى؟

ضحك ضحكة حزينة، هز رأسه وقال:

– لا تذكرنى.. من فضلك..

بدا كأنه هو الذى يذكر نفسه بما كان:

.. هل تسمع عن عبدالحميد باشا صبرى. كان زميلا لى فى المدرسة.. مدرسة العباسية الثانوية. مدرسة الأستاذ فيصل. عبدالحميد باشا هو الذى أشار علىّ أن نسمى هذا المحل بهذا الاسم. قال لى: اسمع يا عبدالحميد.. ما رأيك أن نقترح على أبيك أن يغير اسم المحل من خياط على الموضة إلى خياط الباشوات طبعا.. باعتبار أن الباشوات وأولاد الباشوات. وأخوات الباشوات وقرايب الباشوات كلهم يرتدون على الموضة. أنا عرضت الفكرة على أبى. قدس الله روحه. فاعتقد أننى أسخر منه، وتطلع حوله إلى المكان، وقال: وهل هذا يناسب أى باشا.. أو حتى أفندى.. ولما نقلت هذا الكلام إلى عبدالحميد باشا صبرى.. صديقى وزميلى.. قال لى: يا أخى.. الباشوات عندهم روح اشتراكية. يعنى عندما يعرف سكان الجمرك أن عبدالحميد باشا يطرز عند تادرس.. على فكرة.. أبى كان اسمه تادرس. يفهمون أن الباشا رجل متواضع وطيب، وبسيط مثلهم. وعندما يروننى آتيا من أجل تفصيل  بدلة تشريفة، أو بالطو جديد، يشعرون أن لهم قيمة.. فيحدث اتصال بين الناس وبين الباشوات. وعندما تكون هناك انتخابات يجد أبناء المنطقة يناصرون عبدالحمي باشا.. فهمت لماذا أصبح عضواً فى البرلمان؟

“المهم.. كلمة من هنا.. وكلمة من هناك. وافق أبى. وتمت بعض التجديدات فى المحل.. وأنشأت هذه الصندرة. وأشار إلى سقف خشبى متهالك. واستعان أبى قدس الله روحه بأخى الذى لم يتمكن من الحصول على البكالوريا. أما أنا فكنت مدرسا مرموقا فى العباسية.. طيلة عمرى بالعباسية.. مدرس.. لم أتغير.. إلى أن خرجت منذ عشر سنوات إلى المعاش.. أيامنا كان الموظف يشعر بالعيب لو عمل أى شىء بعد الظهر.. عليه فقط أن يجلس على المقهى.. ولكن عبدالحميد باشا كان له رأى آخر. قال لى إننى لو جلست فى المحل بعد الظهر. مجرد جلوس. فإن هذا سوف يغير من الأمور. سوف يأتى الناس إلى المحل. والأصدقاء.. وسيشيرون إليك ويقولون هذا صديق عبدالحميد باشا وربما يمكن أ، ننقل شكواهم ومتاعبهم من خلال زيارتهم للمحل.. يعنى.. المكان شكليا سيكون للحياكة. وفى الحقيقة كان ملتقى للباشوات والبكوات.. يأتى فى أى وقت.

تنبهت وهو يتكلم إلى الصور التى يعلقها على الحائط.. أغلبها صور قديمة لنجوم السينما فى قمة أناقتهم، أنور وجدى يضع طربوشاً على رأسه ويقف أمام الكاميرا، وقد قوس ساقه اليمنى بعد أن أسندها على مقعد واطىء. ووضع يده اليمنى فى جيب بنطلونه الطويل، أما يسراه فقد وضعها على خاصريه. بدت البدلة التى يرتديها تناسب أناقة عصره. خاصة أن الصورة ترجع إلى شبابه. أشد ما جذب انتباهى ليس أن أنور وجدى بلا شارب بل كان حذاؤه لامعا على غير العادة، بدا بنطلونه الذى به خطوط متباعدة مكويا بعناية وبرزت ثنيته كأنه يتباهى بها. أردت أن أسال هل كان يعرف أنور وجدى، لكنه لم يترك لى الفرصة للكلام:

“يوم الافتتاح، شهد له تاريخ حى الجمرك كله.. والمنطقة بسكانها. وربما الاسكندرية. بل مصر كلها.. ووادى النيل.. والدول العربية، لا تستغرب، هذا غير الصحافة. والاذاعة. والمصوراتية. هذا الشارع الذى تراه الآن على الحال البائسة افترش كله بالرمال والورود. كانت الباقات أكثر من الناس. وزراء. وأعيان، وباشوات، أو باكوات، وأعضاء فى البرلمان. وأولاد بلد، وبلطجية، وسعديون، ووفديون، كله كان على كله. لو رششت الملح ما وجدت له مكانا على الأرض. لدرجة أن صاحب الجلالة نفسه أرسل برقية تهنئة. نعم. صاحب الجلالة فاروق. نعم. أنا صعب على كتير لما مات فى الغربة فى ايطاليا.. هل رأيت صورته؟.. اصلع وبدين لكن بصراحة.. اسأل خياطا ولا تسأل طبيبا. كان رجلا انيقا.. مات وهو ملك.

تنبه أنى شردت، وأنا مازلت أنظر إلى صورة “أنور وجدى”. توقف عن الكلام، والتفت خلفه، ثم تنهد وهو يردد:

“آه.. أنور وجدى.. الله يرحمه.. رأيت كل أفلامه. مسكين لقد مات صغيراً.. بلا ولد أو بنت. هذا هو حال نجوم السينما، حياتهم الفنية تلهيهم عن حياتهم الخاصة. يموتون غرباء.. لا يرثهم أحد.. هل تعرف أن “أنور وجدى” جاء بنفسه ليهدينى هذه الصورة. كتب عليها مخصوص من أجل أبى.. هدية إلى الصغير عبده. لو دققت فى الصورة ستجد بقايا حروف الاهداء.. انظر.. انظر.. لتعرف كيف كان النجوم زمان..

ألح أن أفعل، مددت جذعى نحو الصورة، بحثت عينى فى أركان الصورة القديمة عن بقايا كتابة، او توقيع، دعكت عينى أكثر من مرة، ورغم ذلك، قال:

صدقت.. أنور وجدى كانت له حكايات كثيرة مع أبى، قدس الله روحه.. كلما جاء إلى الاسكندرية يأتى إلى خياط الباشوات فيجتمع حوله أولاد الحى.. والنبى يا أستاذ أنور وقع لنا على الصورة.. ما أخبار فيلمك الجديد؟.. كان أبى يتضايق ويحاول ابعادهم عن الأستاذ أنور. لكن الرجل كان يضحك، وبضحكته الجميلة كان يقول لأى: دعهم يا عم تادرس..سكت وهو يتنهد، وبدا كأنه يحاول أن يجذب ذكرياته الدفينة فى مكان بعيد، ثم استطرد:

هل تعتقد أن هذا كان يرضى أبى.. لا.. وحياتك.. كان عمك تادرس ترزى فى المقام الأول. وعندما زادت مظاهر الاحتفالات، والرواد أكثر من اللازم.. أحس أن المحل فى خطر.. وأنه يجب ألا يتوقف عن العمل. ولهذا. كان يستيقظ فى ساعة مبكرة.. الساعة السادسة أو قبل ذلك بنصف ساعة. ويحبس نفسه فى المحل هو والمقص والماكينة. طبعا..

أحسن السترات كانت تخرج من هذا الباب، لدرجة أن عبدالحميد باشا أصر أن يخرج مرتديا بدلته الجديدة من المحل. وترك البدلة القديمة التى جاء بها لأبى، يعطيها لأى شخص يستحقها، يومها كانت زفة. خرجت أمة محمد فى الحى كله تزفه، كأنه سيتزوج. النساء يطلقن الزغاريد فى النوافذ’ن هذه الطلعة كانت سببا فى نجاحه فى البرلمان. الله يرحمه كان رجلا ذكيا. عرف كيف يلعبها. هل هناك أحد الآن بمثل هذا الذكاء؟ المرشحون الآن فى مجلس الأمة يأتون أيام الانتخابات فقط ليشربوا الشاى على المقاهى. ولا تراهم إلا فى الانتخابات التالية. هل يفكر أحدهم أن يأتى إلى هنا ليفصل قميصاً، أو حتى منديلا؟.. لا.. هذا العصر ولى.. والحال كما ترى.

– يا بنى.

وقبل أن يستطرد فى كلامه، أشرت إلى صورة الممثلة الشابة الجميلة المعلقة فوق رأسى مباشرة. وسألت:

– و”زينات أبو اليزيد”..

دون أن يلتفت إليها، راح يفك اللفافة التى جئت بها، وبلهجة وقورة ردد:

– آه.. هى سيدة ولا كل الستات.. امرأة كاملة.. و…

بدا كأنه يود أن يقص حكايتها عندما جاءت هنا عارية، وخرجت من المحل مرتدية زى بحر أصفر اللون.. بقطعتين، ويومئذ جاء شباب الجمرك يحلمونها بين أيديهم، تغوص أناملهم فى مناطق جسدها، فتتأوه، وتصرخ من اللذة، وتطلب المزيد وتبحث عن أكثرهم قوة وشبابا كى يدخل بها بين الأشجار مثلما حدث فى العام الماضى فى فيلا سيدى عبدالرحمن التى تملكها ريم.. يا إلهى. كان يوما عجيبا.. انتابنى الرغبة أن أروى الحكاية للعجوز فقلت:

– وجميلة..

رد بنفس الثقة: طبعا جميلة، وهل أنجبت السينما المصرية مثل جمالها لا هند رستم ولا كاميليا ولا مريم فخر الدين ولا راقية إبراهيم.

قلت بتهكم: شىء غريب.. إنها ترتدى ملابس..

نظر إلى فى استغراب، وسأل: ماذا تقصد؟ طبعا ملابس. لكن، وربك الحق، هذه الأزياء ليست من تفصيلنا، فنحن هنا ترزية رجالى فقط. وكى أكون صريحا أكثر، فهى لم تأت إلى هنا أبدا. لكننى اشتريت هذه الصورة من سوق الجمعة..

بدا كأنه يقرأ أفكارى، أو كأنه يود أن يبتعد بى عن الموضوع الأصلى. لعله يعرف الحكاية المتناثرة، ويحول دون أن يغير من وجهة نظره عنها. قلت بنفس التهكم:

– بعض الناس يبدون أكثر جمالاً بدون ملابس.. أقصد بلباس البحر.

ضحك مفتعلاً، وتحولت ضحكته إلى قهقهة. وقال:

– يا أخى.. لا تخلط الجد بالهزل..

– أنا أتكلم جدياً.

– ما هى الجدية فى رأيك.. ماذا تقصد؟

– هذه الممثلة الجميلة، التى تضع على كتفها شالا من الفراء الأبيض، وعلى رأسها توكة كبيرة، ترتدى ملابسها على الموضة منذ عشرين عاما قد تبدو أكثر جمالا لو ارتدت لباس بحر أصفر.. أو..

قررت ألا أكمل، حتى لا أتعرض لتوبيخه، فهو بالتأكيد لا يعرف شيئا عم حدث فى شم النسيم. فبينما انشغل البعض بالرقص، وحام البعض الآخر حول حمام السباحة المجاور للبحر، وأخذت ريم تشرف على الرتوش الأخيرة لطعام الغذاء المناسب لهؤلاء القادمين بحثا عن متعة على شاطىء البحر، تسللت “زينات” مع الشاب الأسمر العملاق إلى سطح الفيلا وتحت أشعة الشمس الساخنة، ووسط نسيم هب خفيفا من ناحية البحر وراحا يشمان النسائم التى تفوح من جسديهما فقط، وبأغرب طريقة يمكن لذكر وأنثى أن يفعلاها معا. تأوهت الممثلة الشهيرة بطريقة معبقة بالفجور لدرجة أن أم حسين سمعتها وهى تقوم بتحميص الخبز، فى بداية الأمر تصورت أن ثعبانا تمكن من دخول عشة الحمام، وأخذ يفترسها على طريقته، فأسرعت إلى العشة وتأكدت أن الطيور على ما يرام، لكن صوت الممثلة وهى تشم نسيم المطرب المبتدىء راح يعلو. بدت كأنها فى ماخور ترقد فيه آلاف النساء بين أحضان الرجال.

فى بداية الأمر اصاب المرأة رعبا، ثم لم تلبث أن فهمت ما يمكن أن يحدث فوق السطح. تساءلت: ترى هل ساءت أخلاق ريم لدرجة أن تشجع أصدقائها للصعود إلى السطح لفعل الفحشاء؟ تسللت إلى المطبخ وحسب روايتها لذا فإنها تأكدت أن سيدتها فى حالها، وأنها فى صحبة ضيفها الذى هو أنا، يعدان المائدة. وبدت الطامة فى أن أحداً لم يسمع الأصوات العالية، أو لعلهم يسمعون، يبدو أن مثل هذه الأمور لا تعنيهم كثيرا ولأنها امرأة صالحة، ولا تترك فرضاً من فروض الله. قررت أن توقف المهزلة، وأن تترك الرجسين فوق السطح، فهذا بيت طاهر وشريف، ولم يكن سعيد بك والد “ريم” سوى رجل شريف، يعرف أن الله حق، ولا يمكن أن يرضى وهو فى مقبرته، بما يحدث فى الفيللا التى بناها طوبة فوق طوبة.

تسللت المسكينة إلى السلم الخشبى، ورغم مخاطر الصعود إليه فإنها فعلت، وراحت تبسمل، وتتمتم. بكل ما يحفظه قلبها من أدعية وآيات كريمة. حتى رأت ما لم تتوقع. لم يكن فوق السطح آلاف العشاق، ولا مئات ولا عشرات، لكن هناك شخصين فقط، يفعلان ما تفعله مدينة ماجنة من المدن التى حلت بها لعنات الله والمذكورة فى القرآن الكريم.

ما إن نزلت وهى تصرخ، حتى تجمع الضيوف أسفل السطح. نزلت الممثلة وعشيقها الصغير، وهى تردد فى قحة:

– الله يخرب بيتك.. ماذا حدث.. هل حرام أن نتسلى قليلا؟

بدا الشاب وقد تبلل من العرق كأنه خارج من البحر لتوه.. لا أحد يعرف هل هو عرق الحياء والإحساس بالخجل، أم بسبب المجهود المضنى الذى بذله فوق السطح.

وسرعان ما انطلقت التعليقات الساخرة. وحولت النجمة الشهيرة الموقف إلى صالحها، وببراعة أدائها، أشاعت فى المكان البهجة بنكاتها المثيرة، واستطاعت أن تجذب اعجاب الجميع من حولها، عدا ثلاثة أشخاص هم “ريم” صاحبة الدار التى أقسمت برأس أبيها أن تطردها شر طردة، وأم حسين التى لم تكف عن الارتجاف من بشاعة ما شاهدته فوق السطح، أما أنا فقد شعرت بالارتياح ونحن نتناول الطعام حين لاحظت عدم وجود الممثلة، بدت العجوز راضية عن موقف ريم، كان من الواضح أن زينات تسللت مع عشيقها الصغير إلى مكان آخر فى الصحراء وعليهما أن يفعلا ما يتراءى لهما.

لو أن عم عبده يعرف ما حدث، ولو شاهد بنفسه ما شاهدته العجوز، ما وضع هذه الصورة المحتمشة فوق الحائط، ولفكر فى أن يضع صورة أخرى لنفس الممثلة، تلك التى فى مخيلتى عن الوضع الغريب الذى شاهدتها عليه أم حسين فوق السطح فى “شم النسيم” إياه.

أشرت إلى صورة محمد عبدالوهاب القديمة التى يبدو فيها وقد أطلق سوالفه مثلما يفعل بعض الشباب هذه الأيام. سألته:

– هذه.. هل هى من سوق الجمعة؟

التفت إلى الصورة، ثم رد فى حزم: لا.. صدقنى. إنها هدية من مجلة “آخر ساعة”. انظر إلى أعلى الصورة.

بدت الصورة كأنها نشرت على غلاف قديم للمجلة. قرأ أفكارى وهو يردد:

– “عبدالوهاب” كان عنوان الأناقة فى زمنه.. شباب اليوم يقلدونه دون قصد؟

سألت: هل كان يرتدى الشارلستون؟

رد: ليس الشارلستون بالمعنى المقصود. وليس الحذاب كعب الكوب الذى يجعل أمثالكم من الشباب يطرقعون كأنهم يلبسون القباقيب.. الأناقة أيام عبدالوهاب كانت أناقة.. البنطال الواسع الذى كان يرتديه هو نوع من الشارلستون.. كان أى شىء يفعله عبدالوهاب يصبح موضة يقلدها الشباب.. أنا أقصد السوالف.. كانت موضة أبناء الطبقة الراقية.. وليس كل من هب ودب.. انظر إليهم فى الشوارع.. شىء يثير الضحك..

اشار إلى الطريق الذى بدأ بالليل يزحف عليه، وعلى ضوء المصابيح مر ثلاثة شباب، كانوا يتضاحكون فيما بينهم، قال بتهكم:

– انظر.. شعر أكرت.. ومن ليس معه ثمن الحلاقة يدعى أنه خنفس، ومن لا يمتلك سوى بنطاله القديم المرتق. يدعى أنه “هيبز”.

ضحكت للطريقة التى نطق بها الكلمة، تملكه حماس غريب بدا فى كلماته. أشار إلى قطع القماش المتناثرة فى أنحاء المحل:

– تعال انظر. أصحاب كل هذه البنطالات يرتدون الشارلستون وآه من الشارلستون.. أجمل شىء أن يأتى شخص لك بقطعة قماش جاءته هدية من حيث لا يدرى، ولأنه لا يعرف شيئا، يقولك لك: أريد “شابرستون” ومرة “شارلى ستوم”.. وخذ من هذا الكثير..

سكت قليلاً، قبل أن يرمى بقنابله التالية، وهو يفرد أمامه قطعة القماش البنفسجية التى عليه أن يصنع منها بنطالى قائلا:

– بذمتك.. هل تتصور أن شخصاً لا يعرف كيف ينطق اسم الشارلستون (نطقها بلكنة كأنه يجيد اللغة الفرنسية مثل “ريم”) يمكنه أن يلبس مثل هذا البنطال كما يرام..؟

ضحك فى سخرية، ضرب كفا بكف، بدا كأنه ردد مثل هذه العبارات لكل من جاءوا قبلى، خاصة الذين أرسلهم الاستاذ فيصل من تلاميذه السابقين، والحاليين، والذى سيحضرون حفل زفافه الذى سيقام فى كازينو سبورتنج بعد عشرة أيام. حاول أن يشرد، كأنه يتذكر سنوات بعيدة، لم يعد لها وجود إلا فى مخيلته. ولى وجهه نحو صورة على الحائط، كأنه يتحدث إليها، متجاهلا وجودى تماماً:

– أيام زمان. كان الشخص الذى يجىء ليطلب منك تفصيلة على الموضة. ينطق الكلمة كأنه يعزف موسيقى. وهذا الشخص بالتأكيد سيرتدى ملابسه بتناسق واضح. السترة على البالطو الواسع، والطربوش. ورابطة العنق، وأحيانا البابيون.. الآن الدنيا تغيرت إلى الأسوأ.. الطرابيش راحت.. والموظف الذى يذهب إلى شغله برابطة العنق يضحكون عليه، ويقولون “طالع فيها” ومن أقام فى شعره مستعمرة قمل وصبئان يتصور أنه “خنفس”.. وماذا.. فى الآخر يقولون “شارلستون” بذمتك.. هل تعرف ماذا يعنى الشارلستون؟

إنه يختبرنى. لعله يحاول أن يعرف إن كنت جديرا بأن يفصل لى بنطالا على الموضة أم لا.. ارتبكت، ومع ذلك أجبت بتلقائية:

– طبعاً.. “شارلستون هستون”..

طوى قطعة القماش بازدراء واضح بين يديه، أحسست مجدداً كأنه كرر السؤال باعتباره مدرسا قديم فى مدرسة العباسية، على كل من جاءوا إليه بقطعة قماش، أو أكثر، لتفصيلها. هنا فقط فهمت سبب وجود القطع المتناثرة، من الأقمشة بلا ترتيب، لعل كل أصحابها فشلوا فى الإجابة عن السؤال مثلى. قال فى لهجة توبيخ واضح. توبيخ المدرس لتلميذ لم يتمكن من الإجابة عن السؤال:

– أولاً.. ليس اسمه شارلستون هستون.. اسمه شارلستون.. وطبعا انت تعرف أنه قام بشخصية سيدنا موسى فى فيلم اسمه “الوصايا العشر” وكان له فيلم فى السينما منذ عامين اسمه “الوصايا العشر” وكان له فيلم فى السينما منذ عامين اسمه “كوكب القرود”.. لكن بذمتك لو كنت فكرت ما أجبت مثل هذه الإجابة.. هل شارلتون هستون كان يرتدى مثل هذه الموضة فى أفلامه؟

عندما لم أتمكن من الإجابة، رد نيابة عنى:

– لا، طبعا.. هل رأيت غلى أى حد شباب اليوم جاهل.. فكر يا طالب الآداب.. عيب وأنت خريج مدرسة العباسية. يا خسارة، يا أولاد..

إنه يناورنى، يعرف الإجابة، ولا يريد أن ينطق بها إلا بعد أن أقر وأعترف، داخليا أننى جاهل أصيل، ولا أستحق أن أكون طالبا بكلية الآداب، لعله يستكثر علىّ أن أكون من تلاميذ العباسية الثانوية. نظر إلى كأنه يستحثنى أن أنطق بما يعرف. لكنه قرأ على ملامحى البلادى، والحيرة فوكل أمره إلى الله، وقال:

– الا تعرف رقصة الشارلستون؟

وبينما يتكلم بمعرفة أكيدة، وغزيرة. عن الرقصة التى شاعت فى العالم فى عام 1925. تمنيت لو جاءت “ريم” معى كى تلقنه درساً، أو لتصحح له أية معلومات خاطئة قد يقولها عرضاً أثناء حصته التى قررها. ليس لأنها أبرع راقصة شاهدتها فى حياتى، والدليل على ذلك ما فعلته مساء شم النسيم فى العام الماضى، ولكن لأنها مهتمة بقراءة تاريخ الفنون بشكل جنونى، خاصة فى القرن العشرين.

بعد أن انتهى من درسه القصير، أحسست كأنه يدخلنى فى امتحان جديد. فقال:

– هه، يا بطل.. ما رأيك.. هل نجحت فى الامتحان أم؟..

أجبت باقتناع شديد:

– رسبت بالطبع.. أنت لست خاطئاً.. بل عالماً.. ومثقفاً. وخسارة.

قاطعنى حتى لا أكمل ما كنت سأقوله: لا.. لا تقل خسارة، إننى أعمل فى المحل.. لا.. الظاهر أنك لم تستوعب الدرس جيداً. فإذا كنت قد علمت أجيالاً كثيرة فى مدرسة العباسية، يعملون الآن مستشارين، وضباطا كباراً، وبعضهم أعضاء منتدبين لمؤسسات كبرى، فإننى من هذا المكان أيضاً خرجت أجيالاً،  تلبس أكثر الملابس أناقة، وعلى الموضة.

قاطعته بأدب:

– يعنى سيادتك كنت تربى العقول صباحاً.. وتجعل أصحاب العقول يرتدون على الموضة مساء..

ضحك مداعباً وهو يردد:

– أصحاب العقول فى راحة!! هاها…

عاد مرة أخرى ليتكلم بنفس شخصية الذى استقبلنى قبل ساعة بأكملها: الآن استوعبت الدرس وسوف أكافئك على هذا.. اسمع.. متى سيكون عرس الأستاذ فيصل؟

قلت: يوم تسعة يوليو.. أى بعد عشرة أيام.

مط شفتيه. وراح يحرك جسده الثقيل من فوق الأريكة التى جلس عليها، بدت حركته بطيئة، بما يوحى أنه لن يتمكن من تنفيذ وعده. وقال:

– حسناً.. يوم ثمانية. الساعة سبعة مساء يمكنك أن تأخذ البنطال..

وقفت فى مكانى، أستعد لمغادرة المكان، رميت نظرة أخرى على صورة “زينات أبو اليزيد”، ثم اكتشفت أن هناك صوراً لنجوم سينما، ومشاهير فى قمة أناقتهم. “أحمد سالم” بتسريحة شعره المتموج، و”جيمس دين” ببنطاله الكاوبوى. وحزامه العريض فوق موتوسيكل يستعد للانطلاق به، و”إسماعيل يس” بزيه العسكرى فى فيلمه الشهير الذى دخل فيه الجيش.. قبل أن أطلق عليه تحية المغادرة، سألنى:

– إيه.. إلى أين؟

قلت ببراءة واضحة: أتركك لعملك.. موعدنا يوم ثمانية. الأستاذ فيصل ابلغنى أن التفصيل بجنيه.. ادفعها كما اشاء..

رأيته ينظر نحوى فى دهشة كأنه لم ير شخصاً على شاكلتى من قبل، فقال وهو يتفحص ملامحى جيداً كأنه يحاول استكشاف نواياى جيداً، فهل أمزح، أم أتكلم جدياً. ردد:

– يبدو أن الصور أكلت عقلك.. خاصة الست “زينات”. قلت ما لون المايوه…؟

ابتسمت: أصفر..

مد يده إلى الدرج، خلته سوف يخرج مسطرة خشبية كى يعاقبنى على ما قلته. لكن ما إن أخرج “المقاس” الذى يقيس به حتى قد أدركت أى خطأ فادح ارتكبته، وأننى بذلك كشفت عن نفسى، بأن كل بنطالاتى التى أرتديها قبل ذلك كانت هدية من أبناء خالى “محمد”. وأن هذا أول بنطال يتم تفصيله خصيصاً من أجلى.

لم يكف عن الثرثرة، وهو يلف المقاس حول بطنى، يكتب بالطباشيرة فوق قطعة القماش، يلفها حول فخذى، ويكتب، ثم يقيس طولى من أسفل سرتى إلى قدمى. قال:

– ما رأيك أن يكون اتساع القدم أربعة وعشرين.. اسمع.. سوف أجعلك حديث الفرح.. لتكن خمسة وعشرين وادع لى.

ما إن خرجت من المحل، إلى شارع سوق الميدان، ومنه إلى ميدان المنشية، حتى تراءى الناس لى كأنهم تغيروا تماماً.. تكتل الشعر فوق رؤوسهم كثيفاً، واتسعت بنطالاتهم. وتباينت ألوان قمصانهم، وراحت كعوب أحذية الرجال تدق مثل النساء. عالية، كأنهم يفخرون بأنوثتهم. حاولت أن أكتم ضحكة. وأنا أرقب شعراً أكرت كثيفاً لصبى فى الثالثة عشرة. أطلق سوالفه الطويلة وتخيلته أقفام مزرعته الغنية بالقمل فوق هذا الرأس. راحت الضحكة تقاوم فىّ الانفجار. كلما اقتربت منه، فجأة جاء من الناحية المقابلة شاب أكبر سناً، حاول معاكسة فتاة ترتدى جونلة قصيرة بعبارة سمجة “أخذكم الله يا جمل”. التفتت إليه الفتاة، ورمته بنظرة اشمئزاز وقالت: “يا مقمل” بدا كأنه يفكر فى أن يسب أباها، وأسرتها كلها، مسح شعره الكثيف بيده. لم أتمالك نفسى، فضحكت بصوت سمعه ميدان المنشية بكل الموجودين فيه وأنا أقول:

– حاسب.. حاسب.. المزرعة تفقد سكانها..

 

 

 

 

 

 

 

 

اليوم الخامس

 

أخيراً سوف أصبح واحداً من هؤلاء “الحبيبة” الذين يجلسون فى كازينو الشجرة.

كم حسدناهم نحن رواد حديقة الشلالات، حين كنا نراهم جالسين على الجانب الآخر من البحيرة المتراشقة بالأوز الأبيض والبط، تعوم حول العشاق. فنحس كأن صياح الطيور ينطلق فقط من أجلهم.

ستنتظرنى ماجدة هناك بعد أن رفضت أن نلتقى عند “الدليل” بمحطة الرمل. باعتباره الملتقى الرسمى لأغلب المتواعدين فى كل الأوقات. قلت لها بعد أن احترنا فى اختيار المكان المناسب:

– كازينو “الشجرة”.

سكتت وقالت: يقال إنه مكان مشبوه.. لماذا هو بالذات؟

وصفت لها المكان عندما رأيته أول مرة منذ عشر سنوات، عندما جئت وأنا فى الحادية عشرة لأرى الشلال الذى تتدفق منه المياه ودار بى “حسن” أخى الأكبر، حول السور الحديدى وراح يشير إلى الطيور الكثيرة العدد السابحة فوق مياه البحيرة، وتلك التى تصدح فوق الأشجار. قلت لها إن “الحبيبة” الحقيقيين يأتون إلى هناك. وإننى كم تمنيت حين أصير كبيراً ألتقى فى هذا المكان مع أول حبيبة لى.. ابتسمت بعينيها الواسعتين وقالت بدلال:

– بذمتك.. هل أنا أول واحدة؟

بجدية قلت: وأيضاً الأخيرة.

ساعتها ردت بسرعة: إذن أنا موافقة، انتظرنى هناك، يوم الثلاثاء، الخامسة بعد الظهر.

حددت أن يكون الثلاثاء موعدنا، أما مسألة الساعة الخامسة فهى التى اختارتها حتى تستطيع العودة مبكرا إلى منزلها. حدث ذلك صباح الجمعة فى مكتبة البلدية ونحن فى غرفة المطالعة الداخلية. لم أشأ أن أخبرها أننى أخرت الموعد إلى الثلاثاء، لأننى سمعت أن النتيجة سوف تظهر صباح ذلك اليوم. وأننى أريد أن أحمل لها معى نبأ حصولى على ليسانس الآداب الذى سيكون مفتاحاً نحو العش الجميل الذى نحلم به.

فور أن حددنا الموعد تزاحمت كل الأشياء أمامى. فما إن عدت إلى المنزل حتى قالت أمى:

– سيعود أمين اليوم من ليبيا. انزل لانتظاره فى موقف السيارات.

أصبح علىّ ان أسرع إلى المنشية قريبا من سوق ليبيا لأنتظر العربات الكثيرة القادمة عبر الطريق البرى من السلوم حاملة فوقها الأطنان من المتابع التى جلبها أبناء الاسكندرية من رحيلهم للعمل هناك. رأيت التوأمتين “مها” و”سها” واقفتين تنتظران وصول أبيهما. أقبلت “مها” نحوى وقالت:

– كيف حالك يا خالى؟ لم تصل السيارة بعد.

وقفنا ننتظر “امين” الذى سافر إلى طبرق منذ عام أسوة بالكثير من أهل الحى الذين انفتحت أمامهم حدود ليبيا. ذهبوا إلى هناك تحملهم سيارات البيجو ثم تعود بهم بعد عدة أشهر، وقد سدت الأوراق المالية جيوبهم حاملية كل ما نتوق إليه من مراوح ومسجلات وبوتاجازات وملابس على أحدث موضة. هاهو زوج أختى قد انضم إلى قافلة المسافرين، وسوف يعود بعد قليل وفى جعبته مصباح علاء الدين الجديد، الجنيه الاسترلينى، الذى يتحدثون عنه فى كل مكان.

سألنا الرجل عن سبب تأخير السيارات، فأقسم أن البيجو لا تتأخر أبداً فى الوصول، وأن السيارات تقطع المسافة بين بنغازى والاسكندرية فى ست عشرة ساعة بالتمام والكمال. أخبرته أن زوج أختى قادم من طبرق فأشاح بيده إلى أعلى ليبعث الاطمئنان فى قلوبنا:

– طبرق. إنها إلى جوارنا..

بدا وهو يتحدث كأنه يؤكد أن المدينة الليبية اقرب لنا من حى الماكس. وأنه لا قلق بالمرة على أى مسافر، فرغم أن الطريق ضيق لكن البيجو وسائقونا هم فرسان الصحراء الغربية.

طال الانتظار ولكن عندما عدت إلى البيت فى الثامنة مساء لم أجد أمى هناك، أخبرتنى أختى أنها ذهبت لتحية زوج ابنتها الذى جاء منذ ثلاث ساعات. أوصلته السيارة مباشرة تحت عتبة البيت. قالت أختى:

– أكيد.. أتى معه بأحمال كثيرة.. فلا أحد توصله البيجو إلى المنزل إلا إذا كانت لديه حمولة زائدة.

سألتنى: ألن تذهب إليه؟

كنا قد عدنا نحن الثلاثة من المنشية، بعد أن أصابنا اليأس من وصول والد التوأمتين “مها” و”سها” وتركتهما قريبا من منزلهما كى أسرع إلى البيت لأتابع الحفل الذى تقيمه جمعية أسر الشهداء وسيذاع على الهواء الذى سوف تغنى فيه “ريم” أغنيتها الأولى أمام الميكرفون.

انتظرنا هذا اليوم سنوات وأشهراً طويلة خاصة عقب تخرجها. قررت تركيز نشاطها فى القاهرة، قالت إنها تعانى كثيراً من أجل العثور على كلمات مناسبة جديدة مجنونة. لم يشدو بها أحد من قبل. لم تعجبها قصائدى كالعادة. قالت:

– ينقصك الجنون.. لكنك شاعرة بالفطرة.

لم تنجح فى أن تعلمنى كيف يكون المرء مجنوناً. لكنها أبلغتنى أن الجنون هو أعلى درجات الشجاعة. فما يفعله من نتصورهم مجانين لا يمكن لامرىء يعتقد نفسه عاقلا أن يفعله، هل يمكنك أن تغنى فى الشارع مثل الاب الذى يركب دراجة ينطلق بها وسط السيارات فى شارعى صفية زغلول، وسعد زغلول، انه مهووس بالأغنيات الهندية خاصة فيلم “سنجام”. أصبح علامة من علامات المدينة يمرق إلى جوارك بدراجته ولا تملك سوى أن تنظر إليه بدهشة واعجاب. يتصوره البعض مجنونا. لكن كل منهم يتمنى لو يفعل مثله، فمن من هؤلاء الذين يستمعون إليه لا يحبون الأغنيات الهندية؟

فكرت أن أركب دراجة مثله، وأن أنطلق فى الشوارع ألقى قصائدى على الناس وأن أصبح أحد مشاهير المدينة، لكننى للأسف لم أستطع، ليس لأننى لا أحفظ أشعارى ولا لأننى خائف أن يمسكنى شرطى، فحتى الآن لم يقم أحد بالقبض على راج كابور المدينة، لكن ببساطة لأننى لا أجيد ركوب الدراجة، ولا أمتلك واحدة منها.

مدت لى بكلمات الأغنية التى اختارتها وقالت:

– ما رأيك؟

يومها نظرت إلى الوريقة بدهشة. فكلماتها غريبة وعنوانها لم نسمعه فى أغنية “بنادق بالشارلستون”. إنها حول جندى مؤهلات عليا.. تخرج فى الجامعة، أرسلوه إلى الجبهة، قصوا له شعره وسهر الليل ينتظر الأمر بإطلاق مدفعه. لكن المدفع صدئ الفوهة. لا يمكن أن ينطلق إلا إذا قام بإزالة الصدأ القديم.

سألتها: ما علاقة عنوان الأغنية بكلماتها؟

راحت تشرح أن شباب اليوم منشغلون بالموضات الجديدة، وأنهم سرعان ما جروا وراء التعليقات الشكلية التى جاءت من الغريب، ولذا اصطدموا عندما تم تجنيدهم، فحلقوا رؤوسهم وأزالوا السوالف وحملوا البنادق. إنها بنادق الشارلستون. لم أفهم شيئاً مما قالته، لكننى انظرت أن أسعها تغنى فى حفل أسر الشهداء.. إنها أغنيتها الأولى على الملأ، التى ضمت ثلاث مواهب جديدة بالإضافة إلى نجاح سلام ونجاة وعبدالعزيز محمود وعفاف راضى.. وفى الثانية عشر إلا ثلث نطق المذيع اسمها وراح يقدمها:

– إنه صوت البحر.. هادر كالأمواج متدفق كالنسيم يغنى أمام كل هذه الجموع. لجيل جديد يؤمن أن الحياة تستمر.. مطربتنا الليلة هى واحدة من أصوات المستقبل. ريم العدوى.

عزفت الموسيقى، وجدت نفسى فى غرفتى الصغيرة أسترجع وقائع أول مرة سمعتها تغنى فى حفل الكلية التى تخرجت فيها فى العام الماضى والتى من المتوقع أن أتخرج فيها خلال يومين. جاء صوتها مجدداً يجذيك إليه بجنونه وتدفقه، واثقة بنفسها، وحتى أراها بعينى ترتدى ثوباً بسيطاً عبر الراديو الصغير الذى أسمعها منه. تمنيت لو كنت معها كى أصفق لها. ثم قررت أن أفعل ذلك فى غرفتى فحتماً سوف تسمعنى.. ورحت أفعل.

تغنى من أجل الشباب والوطن. لكن هل يفهم المستمعون المعانى الخفية لكلمات الأغنية التى قامت بتركيبها وتأليفها؟ إنهم يريدون عبارات سهلة نسمعها اليوم فى أغنيات “عبدالحليم حافظ” عن الحب والخوف من الطريق والهوى، تريد أن تنقل الناس بأغنيتها إلى الجبهة حيث يتعرض الأبناء مثلما سيحدث لى حتماً، لاستطلاعات الطيران الإسرائيلى وللغارات المفاجئة ولاستنزاف الأجساد والنفوس. تود أن تكون أغنيتها واحدة من القنابل التى سقطت فوق مدرسة بحر البقر تنبه الناس أنهم فى غيبوبة، لكن ترى هل وصلت معانيها إلى الآخرين؟ سوف أسأل فى ذلك غداً.

يبدو أن أحداً لم يسمع أغنيتها ممن أعرفهم، عدا أمين زوج أختى سألت. رد أحدهم:

– نحن لا ننتظر إلا أم كلثوم.

ردد آخر إنه لم يعد يستمع إلى الإذاعة، وأن التليفزيون يشغل وقته فى الفترة الأخيرة، هز الكثيرون رؤوسهم مؤكدين أنهم لم يسمعوا الحفل من أساسه. أما “امين” فقد بادرنى قبل تحيته المألوفة:

– صاحبتك كانت رائعة..

لمعت عيناىع وانطلق السؤال: هل سمعتها..؟

رد فى حماس واضح: طبعا كلنا سمعناها. اسأل أختك و..

ثم راح يشير إلى عائلته الصغيرة، زوجته وابنتيه “مها” و”سها”.

قالت أختى بشىء من الحماس والمجاملة:

– صوتها يجنن..

رددت التوأمتان فى اللحظة نفسها: حلوة. يا خالى..

سألتنى سها: هل هى حلوة مثل صوتها؟

ردت أمى التى كانت جالسة فوق الأرض فى شقة ابنتها: وهل يعرف ابنى واحدة غير حلوة..

قبل أن نضحك. تنبهت أننى لم أفعل شيئاً مهماً، قلت موجهاً كلامى لأمين: أنسيتمونى أن أقول حمداً لله على السلامة لأبيكم.

أقبل الرجل علىّ وراح يعانقنى وهو يقول: ونحن نسينا أن نبارك لك على الليسانس.

أطلق تنهيدات رجل عائد من السفر، شد على جسمى بقوة عبرت عن مدى فرحته بنجاحى الذى ذاع اليوم بين أفراد الأسرة، جذبته نحوى بشدة لأعوض افتقادى له طيلة هذه الأشهر. رأيت أختى من ورائه، تمسح دمعتى الفرح هى بالتأكيد فرحة مركبة لعودة زوجها ونجاح أخيها، وذلك العناق حيث راح كل منا يقرع على ظهر الآخر. بينما حاولت أمى أن تزغرد لكن شيخوختها لم تساعدها.

قال “أمين”  وهو يشير إلى ابنتيه:

– أتمنى أن أراكما مثل خالكما.. ليسانس آداب.. تقدير جيد..

قلت محتجاً: لا.. امتياز.. لن تنال كل من “سها” و”مها” أقل من امتياز.

بشىء من الحسرة فى لكنته ردد:

– فليكن “مقبولاً” المهم أن تدخلا الجامعة.

يبدو أنه صدم فى المجموع الضعيف الذى توأمتا أيضا فيه ثلاث وخمسين فى المائة فى الثانوية، لذا قرر عدم العودة إلى طبرق إلا بعد أن تعيدا السنة وتحققان مجموعاً أفضل. أحسست بالأسى على وجهه تذكرت ماجدة التى نالت دبلوم التجارة فى العام الماضى. وتعمل فى مكتب بريد كرموز التى اختلفت معها منذ عدة أسابيع، انتهى ما بيننا بالتصالح والتردد المتكرر على مكتبها، وسوف ينتهى بعد قليل باللقاء الأول فى كازينو “الشجرة”. تشعر بالفخر لأنها تعرفت على طالب فى نهائى الليسانس وتريد أن تكمل دراستها. قلت لأمين:

– هل سيصلح المجموع؟

رد “أمين” وهو يسحبنى لأجلس إلى جواره فوق الأريكة التى تجلس أمى قريبة منها قائلاً:

طيلة عمرى أقول ليست البنات يطلعن مثل خالهن.  مجتهد.. يذاكر مرة واحدة.. ولا يعتمد على المذكرات.. البنات كانتا متفوقتين قبل أن أسافر إلى ليبيا. لكن غيابى أثر عليهما.. دروس خصوصية دفعت.. يا خسارة.. ليس أمامها سوى معهد متوسط

رددت أمى بسذاجتها المعهودة:

– الخيرة فيما اختاره الله.

تعرف ماذا يعنى تقدير جيد، لكنها عرفت مثلى بالمصادفة أننى نجحت وأن النتيجة أعلنت قبل موعدها وانطلقت إلى الكلية لأتأكد ما سمعت. لم أنتبه وأنا أغادر المبنى إلى الكافتيريا التى جمعتنا نحن معاً أبناء قسم اللغة الفرنسية بعد نهاية الامتحانات فى حفل وداع وأنستنى الفرحة أن أذهب إلى مسرح الكلية لعلى أتنسم بقايا ريم التى كانت تملأه قبل عام فى حفل وداع بصوتها الجميل لتعلن بذلك نهاية زمن لن يعود أبداً.

صاح “أمين” موجهاً كلامه إلى زوجته:

– أين العدة والذى منه؟

غابت المرأة قليلاً قبل أن تعود حاملة مسجلاً كبير الحجم بدا ثقيلاً على يديها، بينما جلس “أمين” فى جلبابه الوردى كأنه سلطان يعد من أجل عودته حفل مهيب. انحنت أختى كى تقوم بتوصيل السلك بمنبع الكهرباء، تحسس زوجها الجهاز بيده كأنه يربت على قط أليف، قال:

– أحدث تسجيل فى ليبيا.. ناشيونال.. ولا كل الأجهزة.. الناس هناك يشترونه كى يسجلوا عليه رسائلهم ويبعثون بها إلى أسرهم بدلا من الخطابات.. العلم مفيد والدنيا تتطور.

هنا تكلمت أختى لأول مرة:

– الحاج “أمين” يقول إنك لو وضعت الشريط هنا وضغطت بإصبعك هنا وهنا يمكنك أن تسجل صوتك.

تدخلت واحدة من التوأمتين التى كثيراً ما اختلف فى التمييز بينهما، وقالت:

– ما رأيك يا بابا أن نسجل شريطاً لجدتى ولخالى معنا؟

عرفت من صوتها أنها مها. أكملت أختها:

– فكرة.. خالى نجح وبابا رجع لنا بالسلامة. كلنا هنا.. ما رأيك يا ماما؟

استحسن “أمين” الفكرة، لكنه كان يعد لى مفاجأة أخرى قبل أن نبدأ التسجيل، بل مفاجأتين. أخرج لى شريط تسجيل وهو يقول:

– صوتها عذب.. لكن كلمات الأغنية غريبة.

يحب دائماً أن يحدثنى عن “ريم” حتى قبل سفره فهو يشعر بفخر خاص أن شقيق زوجته يعرف هذه الفتاة ويمنى نفسه دائماً أن يكون على صلة نسب بأسرتها لو تم النصيب بيننا، لم يحاول أن يفهم قط أن ما يربطنا يختلف عن العلاقات المألوفة التى نعرفها من حولنا، يفكر بنفس طريقة الأستاذ فيصل فى بداية علاقتنا. لكن هذا الأخير لم يلبث أن أفهم، فكابرها فى أعماقه. أما “أمين” فكل ما يحلم به أن يدخل علينا فى بيت الزوجية حاملاً أكياس الفاكهة ويبارك بمناسبة المولود الأول.

أمسكت الشريط، لم أود أن أتساءل كيف يمكننى أن أسمعه فلست العائد من ليبيا ولا أعرف الضبط متى سأمتلك مثل هذا المسجل. بادرنى بطريقته المألوفة فى الكلام ملوحاً بيده اليسرى فى الهواء أكثر من مرة علامة على تأكيد ما يقوله.

– أى وقت تريد أن تسمعه.. المسجل تحت أمرك..

وقبل أن أشكره أشار لامرأته أن تسلم لى كيسى الذى أحضره لى وراح يردد فى مودة واضحة:

– شىء مما قسمه الله. تستاهل أكثر من هذا..

تمتمت: لماذا كل هذا يا حاج؟

ردد بصوته الأجش:

– هدية بسيطة، لدينا الآن حامل الليسانس.

تحسست الكيس بين أصابعى كأننى أحاول معرفة ما داخله واكتشفت أن به أقمشة قال:

قمصان آخر موضة، “هيبس” مشجر وكاروه.. وبنطلون شارلستون ثلاثين. الموضة هذه السنة هى الكاروه..

أردت أن أشكره، أو أن أقول إنه داع لكل هذا معا، لكنه ردد:

– يجب أن يرتدى شاب مثلك لديه ليسانس على أحدث موضة.

عرفت فى اليوم التالى قبل أن أرتدى من هذه الملابس للذهاب لمقابلة “ماجدة” أن طأمين” ذهب عقب سماعه نبأ نجاحى إلى سوق ليبيا واشترى لى المزيد من الهدايا، أتى بقميص نايلون طويل الأكمام بخطوط بنية طولية.. أصر على شراء قميص آخر مربعاته كبيرة تغلب عليه الألوان البنية والحمراء وبنطالاً بنفسجى اللون على آخر تقليعة، كما يرتدى الشباب الآن فى كل أنحاء العالم.

ما إن وضع “أمين” الشريط داخل المسجل حتى بدأت وقائع الجلسة العائلية. جلس الرجل إلى جوار الجهاز وراح يردد:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. حبيب الله وصفيه وخليله اللهم أدم علينا نعمتك الذرية الصالحة والصحة الغالية واجمعنا دائماً على محبة ولا تفرق شملنا.

رددت أمى وأختى معاً:

– ربنا يسمع منك.

أكمل دون أن يتوقف:

  • الأحد السابع من سبتمبر عام اثنين وسبعين. نجلس فى حضرة عائلية تضم الست الفاضلة حماتى “أم حسن” أبقاها الله لنا وابنها الشاعر والفنان شقيق حرمنا المصون جعلها لنا ظلا ونوراً.. وابنتاى مها وسها. طبعا كان بودنا أن يكون معنا حسن لكنه مشغول كثيراً.. كما نتمنى أن يكون معنا كل أفراد الأسرة..

أشار إلى ابنته مها أن تتكلم:

  • هيا يا مها.. مارسى مواهبك.. ألست أنت مذيعة هذه الأمسية؟

كنا نتكلم أمام جهاز جديد حساس بلا ميكرفون بمجرد أن تتكلم أمامه يلتقط صوتك، أمالت برأسها نحو فتحة المسجل وتخيلت نفسها تمسك ميكرفونا وقالت:

– سيداتى، سادتى مساء الخير. يسعد إذاعة الحاج أمين الشرقاوى أن تستضيفكم لمدة ساعة.

بدت كأنها تقمصت الحالة، حاولت أن تقلد “سناء منصور” أضحكت أمها وقهقه أبوها وابتسمت جدتها وراقب خالها فى إعجاب.

أكملت:

  • تعالوا معنا إلى المرح و السعادة.. شعارنا هو “مافيناش من الزعل”.. إذا كنت متجهماً افرج أساريرك. وإذا لم يكن لديك مفك تفك به عقدك بالمفكاك هذه الأيام رخيصة.. الواحد بربع جنيه.. يا بلاش.

أكمل أبوها القهقهة وهو يردد ضارباً كفاً بكف:

– البنت صدقت الدور.. جزاك الله..

زاد اندماجها فى تقليد مذيعى إذاعة الشرق الأوسط “كمال جامع” وليلى معروف” و”حياة حسن” و”مشيرة نجيب”. كل فى برنامجه أو فى أسلوبه المميز فى تقديم برنامجه، التفتت إلى جدتها وقالت:

– طبعاً أحسن شىء فى سهرتنا الليلة هى الست الحلوة التى نحبها جميعاً وتنور أى مكان تذهب إليه جدتى “أم حسن”.

توقعنا أن تكون تلك هى البداية باعتبار أن هناك ارتباطاً شديداً بين التوأمتين وبين جدتهما. سألت:

– أخبرينا يا جدة.. بماذا تشعرين اليوم. وقد حصل ابنك على الليسانس وعاد زوج ابنتك إلى قواعده سالماً؟

لفت أمى طرحتها السوداء فوق رأسها وبدأت تتكلم كأنها تتوجه نحو القبلة وتصلى:

  • طبعاً أن قلبى داعى لهم جميعاً أن ربنا ينجيهم ويسعدهم ويفتح لهم الطريق، ولا يوجد أصدق من دعوة أم تحب أولادها وتتمنى أن يكونوا جميعاً فى أحسن حال.. فقط أريد أن أموت بعد أن أوصلهم جميعاً إلى بيوت أزواجهم وزوجاتهم مثلما حدث مع أمك. أشكر سى “أمين” ربنا يبارك لنا فيه وفى بنتيه ويرزقهما بأولاد الحلال.

قاطعتها “سها”: وماذا بعد يا جدة؟

بدت كأنها تتصنع أن تتدخل فى الحديث، أكملت الجدة: ويرزقكم جميعاً بأولاد الحلال. ويفتحها عليكم بالرزق والسعادة.

سرعان ما وجهت الحديث إلى “سها”:

–  رأيك يا خالى فى كلام ست الكل.. مثلا.. ما رأيك فى بنت الحلال؟

رد أبوها نيابة عنى كأنه يعرف الأمر جيداً: موجودة.. ربنا يتمم بخير..

وجدتها فرصة لأضع بعض النقاط فوق الحروف:

– ربما أن بنت الحلال موجودة. لكنها ليست “ريم”. هى ليست أكثر من صديقة. إن لم تزد على ذلك قليلاً لتعرفوا جميعاً أن هناك عروسا أخرى.. ربنا يسهل..

نظر لى الرجل بدهشة، لكنها لم تكن عميقة فلعله يتخيل أن تلك الأخرى لن تختلف كثيرا عن ريم. قلت مكملاً الحديث حتى يخرج الشريط متكاملا كسهرة عائلية:

– لا تسألينى عن المستقبل.. أود أن أصبح شاعراً مثل “حافظ إبراهيم” و”أحمد شوقى” و”إبراهيم ناجى”، أتمنى أن يطول العمر “بأم كلثوم” كى تغنى لى إحدى قصائدى.. لا أريد أكثر من هذا..

رددت أمى وهى تهز رأسها كشيخ يتلو آيات القرآن الكريم:

– قتادر.. ولا شىء يتعسر عليه.. إن الله “أم كلثوم” و”عبدالوهاب” و”عبدالحليم” و”نجاة”. وكل الناس يسمعوا كلامك.

وددت أن أغلق عينى من الامتنان وأنا أقوم لأقبلها، تأكدت أن ساعى البريد سيحمل لى بعد ساعات خطابا كتبه واحد من الذين رددت أسماءهم يطلب منى قصيدة ليغنيها.

الآن جاء دور زوج أختى الذى قال:

  • بصراحة الكلام عندى لا نهاية له، أود أن أتكلم عن الغربة.. الغربة موحشة.. الذين يروننا قادمين بالبيجو ومعنا الحقائب والهدايا لا يعرفون أننا دفعنا الكثير من الغربة.. الوحدة موحشة لرجل متزوج بسيدة فاضلة وله مثل هاتين القمرين، ثمن الغربة قاس، ونحن المصريون مهانون فى بلادنا وخارجها، هنا سعرنا رخيص لذا تصورن أننا لو أخذنا عشرات الأضعاف لرواتبنا فإن هذا حل للمشكلة.. لا.. أنا أعرف أشخاصا يودون العودة الليلة قبل صباح الغد لكنهم مجبرون. تجبرهم الأسعار المرتفعة والحياة القاسية. ويتحملون المتاعب من أجل أن تدخل سيارة بيجو لأول مرة حاراتهم الضيقة.

تنهد قليلاً كأنه لم يسكب سوى نقطة من برميل الكلمات:

– وإلا الحارات. وما يحدث فى الحارات. آه لو رأى أحد ماذا يحدث لعشرات العرائس اللائى سافرن هناك. تتحول الفتاة إلى خادمة فى منزل زوجها وأسرته. أغلبهم متزوجون. عندما  يصيبه الملل. يحضر الرجل إلى هنا كى يشترى لنفسه عروسا بمبلغ هو كبير بالنسبة لأهلنا هنا، لكنه لا يساوى مبيتا فى فندق فى أى مكان. ومن السهل على العروس الصغيرة التى لا خبرة لها بأى شىء أن تتحول إلى خادمة درجة عاشرة. خادمة باسم زوجة.. ياه.. ماذا أقول.. وماذا أحكى؟

بدا كأنه يود أن يتكلم كثيراً، لكن ابنته قاطعته:

– حمداً لله على سلامتك يا بابا.. والنبى ولأجل خاطرنا.. لا تسافر ثانية..

تنهد من جديد كأنه فى مأتم ونظر حوله، إلينا، كأنه لا حول ولا قوة قائلاً:

– طبعا.. لن أسافر.. لكن باليد حيلة.. أنا أود لكما أحسن تعليم وأحسن العرسان لا تتنسوا أن الخير هناك كثير.. سنة واحدة لا تكفى.. سأسافر سنة أخرى مرة واحدة لا أكثر.

تساءلت “سها”: أى أنك سوف تسافر؟

خبط كفه فوق الأرض وكاد أن يسقط المسجل قائلاً: لعلكم تعرفون المثل الذى يتحدث عن المر والأكثر منه مرارة.

تخيلت نفسى أركب، بعد فترة لا أعرف مداها بالضبط، واحدة من سيارات لابيجو تنطلق بى إلى مرسى مطروح وسيدى برانى وتعبر بى حدود السلوم وأنطلق إلى طبرق وبنغازى لأعود حاملاً حقيبة مليئة بالذهب أطبع بها على نفقتى أول ديوان لى.

عندما تكلمت أختى حاولت أن تتشبه بأمها فراحت تدعو لبيتها ولاخوتها ولأمها لكنها بدت كأنها لم تحترف صياغة الدعوات جيدا مثل “أم حسن”. لم تطل كثيرا فى الحديث. وأنهت حديثها وهى تردد: “يارب. أكثر من مرة لتعوض ما لم تقله لتزد من تأثيرها علينان ساعدتها أمها فى إطلاق بعض الأدعية.

انتهت وقائع الشريط فى الثانية عشرة ليلاً، قلبناه أكثر من مرة وأوقفته مها مرارا قبل أن تكمل الحديث، بدت متقنة لعملها لكنها لم تنجح فى التعبير عن نفسها أمام أبيها. اعتذرت عن مجموعها الصغير الذى حصلت عليه ووعدت أباها أن تعوضه فى السنة القادمة عندما تعيد الثانوية “منازل” مع أختها التى كررت نفس كلام “مها” وعللت سبب هذا المجموع الصغير بأنها فسرت منطوق بعض الأسئلة خطأ واتهمت المصححين بأنهم لم يعطوها ما تستحق من درجات.

فى الواحدة مساء أخرجت القميصين والبنطلون الشارلستون من الحقيبة الورقية ورحت أنظر إليهما وأنا جالس أمام المرآة القديمة، شعرت بنشوة، هذه الأشياء جاءت فى وقتها من أجل أن أبدو أنيقاً وهيبياً أمام ماجدة فى موعدنا المضروب عند كازينو الشجرة. إنها على أحدث موضة القميص من النايلون المزركش الألوان، وجذاب للعين. رحت أقيسه أمام المرآة وتخيلت نفسى واقفاً أمام “ماجدة” إلى فى إعجاب، فالشعر طويل. إنه أطول مما كان عليه يوم أن أخرجنى الأستاذ فيصل من الطابور. أطلق فيصل نفسه العنان لشعره متبعاً الموضة بعد أن تزوج، وطالت سوالفه ويرتدى الحذاء ذا الكعب الكوب. ترى هل لو دارت عجلة الزمن بنا ووقفت فى نفس الصف، فهل يمكنه إخراجى بتهمة أننى أمشط شعرى كما يفعل الخنافس؟ أغلب الظن أنه سيفعل ذلك، لكن الزمن تغير، فقد اختفى فريق الخنافس بعد أن زعم أحدهم أنهم الآن أكثر شهرة من السيد المسيح. أما “ألفيس بريسلى” فقد بدا منتفخاً غريب الهيئة والملالبس فى فيلمه الأخير الذى يحمل اسمه ويصور حياته الشخصية.

الآن. ليس هناك شخص مشهور يمكن أن نتقلد بما يفعل. بل هناك ظواهر عامة فالناس فى أنحاء العالم ترتدى ملابسها على السجية والكثيرون يحسون أنهم يتحررون من القيود التى سادت سنوات فى الملابس. رمى الناس بالطرابيش أرضاً منذ عشرين عاماً، واليوم يلقون بربطات الأعناق والفازلين ويفضلون الشارلستون والأقمصة المزركشة والأحذية العالية الكعوب. حتى رابطة العنق فقدت اتزانها ووقارها لدى أصحابها. فقد أصبحت ذات ألوان غريبة إما صفراء فاقعة أو بنفسجية، أما السترات السادة اللون فقد حل محلها نوع آخر ملىء بالمربعات والياقة العريضة وتشكلت الأقمصة والبنطالات فى مليون طراز وطراز.

هاهى لحظة اللقاء اقتربت وأصبح كازينو الشجرة على بعد أمتار قليلة لا أكثر، سوف أغدو أحد العشاق الذين يرتادونه، أتحدث إلى فتاتى وهى جالسة أمامى على مقعد من البامبو ويأتى الجرسون فيقدم لنا مشروبين دبرت ثمنها من “أم حسن” كهدية بمناسبة حصولى على الليسانس.

طيلة المسافة بين منزلى الذى خرجت منه وحديقة الشلالات، لم أكف عن النظر إلى مرايا المحلات والبيوت ذات الأبواب الزجاجة، رأيت ملابسى الجديدة عدة مرات وتأكدت أننى فى أحسن حالاتى كشاب أنيق، على أحدث موضة.

إنها هناك، واقفة عند محطة الأتوبيس التى تقع أمام الشلالات، عجلت الخطى نحوها:

– هل تأخرت عليك؟

قالت بكبرياء وهى تضع أناملها بين راحتى يدى:

– جئت مبكرة. هيا بنا..

سارت إلى جوارى. وأنا أتطلع إلى كازينو الشجرة الذى راح يقترب منها وأنا أتخيله إحدى القلاع البريطانية التى نراها فى أفلام الفروسية، تأهبنا لغزوها والدخول إليها والسطو عليها ولو لبضع ساعات، لم تنتبه إلى القميص الجديد المزركش والبنطلون الشارلستون الذى يبلغ اتساع فتحته السفلى ثلاثين سنتيمتراً، قلت لها:

– أنت اليوم جميلة.. أجمل من الموظفة التى تجلس وراء قمطر مكتب البريد..

رفعت إلىّ عينين بهما الكثير من المعانى:

– وأنت، ماذا وراء هذه الأناقة؟

ابتسمت وقلت: على الموضة..

عاجلتنى: لكنك فى حاجة إلى حذاء جديد.

تذكرت ما قالته “ريم” يوما إن النساء دائما يحكمن على أناقة أى رجل من حذائه، أدركت أن هذه الملابس لا معنى لها بلا حذاء عالى الكعب فقلت:

– كنت على عجلة.. فى المرة القادمة.

لم يهمنى النظر إلى حذائها وأنا أحاول أن أنتشى بمشاعرى وأنا أغزو قلعة الشجرة التى تناثر فيها العشاق على مقاعد فى أماكن متفرقة. رحت أتصرف كأننى أعرف المكان من زمن طويل، أشرت إلى مائدة تطل مباشرة على البركة الصناعية، قالت كأنها تعرف المكان جيداً:

– لا.. هنا.. قد يرانا أحد على الجانب الآخر..

أشارت إلى مكان على اليمين قائلة:

– هنا أفضل حتى لا يرانا أحد..

وددت أن أسألها سؤالا أثار حيرتى فجأة، لكننى ركزت عينى على الجونلة القصيرة التى ترتديها، فانكشف جزء لا بأس به من وركيها قبل أن تواريهما وهى تجلس، خيل إلىّ أننى قد أرى جزءاً من هضاب صدرها فأجفلت عينى قبل أن أقول:

– على فكرة.. كم أحسد نفسى لأننى معك.

فجأة تنبهت إلى حركة غير عادية عند الركن الآخر. سمعت فتاة تهتف فى خوف: “خالى.. خالى”، أحسست أن هناك شيئا غير مألوف.. أزحت رأسى لأرى واحدة من بنات أختى تغادر المائدة التى تقع أمامنا مباشرة وتهرول خارجة من الكازينو دون أن تلتفت وراءها. بينما وقف الشاب الذى يجلس معها فى حيرة، ينظر نحوى. ظللت بعض الوقت فى تيه ملحوظ، لا أعرف ماذا يدور بالضبط حتى تنبهت إلى نفسى. ورحت أستجمع خيوط ما حدث.

 

 

 

 

 

اليوم السادس

 

أشار إلى بداية المعسكر، وصاح بصوته الأجش:

– لا تقلق على كرامتك. إذا طلب منك أحد أن تتركها عند البوابة.

طالما سمعنا مثل هذه العبارة يرددها الجاويشية، والعرفاء، منذ أن قررت أن أقص شعرى فى صالون “مهدى” بشارع يوسف الحكيم. أيضا حسب تعليمات الأستاذ فيصل بأن أتخلص من كل الركام الذى يعلو رأسى قبل أن أسلم نفسى إلى القسم، حسبما جاء فى طلب الاستدعاء الذى سلمه شيخ الحارة لأمى فى الأسبوع الأول من أكتوبر.

قرأ الأستاذ فيصل الوريقة، وهو يجلس على مقعده المعتاد أمام محل صديقه “الحاج هاشم”، وقال:

– اجلس. لماذا تقف مكانك؟

حاولت أن أخفى قلقى وأنا أقول: صياغة غريبة، كأننى مجرم عليه أن يسلم نفسه للعدالة.

طوى الوريقة، وأعطاها بلا مبالاة لى قائلاً:

  • لا تنس أن عقلية الجيش تتغير، هذه عقلية قديمة، الآن المؤهلات العليا موجودة فى كل الأسلحة، والجيش يتطور. وسوف تختلف أساليب الاستدعاء بعد فترة.

بعد قليل، وبينما أشرب الشاى الذى طلبه لى، نظر إلى رأسى قائلاً:

– هل ستسلم نفسك.. وعلى رأسك هذه الخوذة؟

ضحك مرتين.. المرة الأولى وهو ينطق كلمة “ستسلم”، ثم عندما ترنم بـ “الخوذة”، وهو يشير إلى الكتلة السوداء التى تعلو رأسى. بالتأكيد فإن الجيش لا يعترف بالموضة، وهو لا يعجبه الحال المائل لشباب هذه الأيام الذين يطلقون شعورهم كالبنات، ويطيلون سوالفهم إلى أسفل ذقونهم، ويرتدون الأحذية ذات الكعوب العالية يطرقعون بها فوق الطرق، كالنساء. أجبت:

– أريد أن أحتفظ بشعرى لأطول وقت ممكن.

قال إنه من الافضل أن أقوم بقص شعرى وسوالفى طواعية، قبل أن “أسلم نفسى” إلى منطقة تجنيد الحضرة بدلاً من أن يقوم حلاق الوحدة بجز هذه الكنوز الثمينة بنفسه. وعلى الزيرو. اقترح علىّ أن أتوجه لتوى إلى عم مهدى. فهو يعرف كيف يتعامل مع أمثالى..

عندما رميت برأسى فوق مسند مقعد الحلاق، تعمدت ألا أنظر إلى المرآة، وتركت الرجل ينتزع عنى تاجى الذى أتباهى به أمام فتيات الحارة، وعلى طريق الكورنيش، وأيضاً أمام ماجدة التى رأيتها منذ أيام تتحدث أمام قمطرها فى مكتب البريد إلى شاب آخر فأغاظنى ما فعلت.

ارتفعت طرقعات المقص تدوى فى أذنى، انتابتنى الرغبة أن أقوم قبل أن ينجز الرجل عمله، وانطلق عائداً إلى منزلى، تخيلت حلاق الوحدة، وهو يجز شعرى بمقص كبير، ويدفعنى أن أحنى رأسى أمامه، بالأمر، كى يتخلص منى بسرعة، ليتفرغ لزميل آخر، باعتبار أن عليه أن يخلص على كل هذه الرؤوس الكثيرة فى طابور واحد.

رد “عم مهدى”: نعيماً.. ما رأيك؟

قبل أن أشكره، وأنا مغمض العينين، وقبل أن أمنحه القروش العشرة التى فى جيبى، قال، كما يفعل كل الزبائن:

– وجهك “منور”.

رغم كل مقاومتى للنظر إلى المرايا العديدة التى تملأ المحل، فإنى رأيت “طاستى”، وقد تخلى عنها تاجها الأسود الكثيف. أسرعت إلى الشارع، وتحاشيت أن أمر أمام المكان الذى يجلس عنده الأستاذ فيصل، وطرأ بذهنى سؤال لم أفكر فيه من قبل:

– لماذا لم يجند الأستاذ فيصل مثلنا؟

كانت أمى أول من رآنى بهيئتى الجديدة، وللغرابة أنها رددت نفس عبارة الحلاق.. جلست ليلتها فى غرفتى الصغيرة لا أبرح مكانى، أنظر إلى أفق بعيد، وأتخيل نفسى قد أصبحت جندياً أرتدى خوذة ثقيلة على الرأس، وأحمل سلاحاً أطلقه نحو إسرائيلى يربض عند ركن آخر من بلادى. ألقيت نظرة على أعداد مجلة “الحوادث” اللبنانية، وأحسست برغبة أن أنطلق لتوى إلى مركز التجنيد، قبل أن تأتى ساعات الصباح، امتلأت هذه المجلات بمقالات جعلتنى أحس بمدى ضآلتى كعربى أمام التفوق الإسرائيلى الذى يتعاظم يوما وراء يوم.

وقفت فى السادسة صباحا أمام المرآة، ورأيت وجهى لأول مرة بدون التاج الأسود، تحسست مكان سوالفى السميكة، رحت أبرر لنفسى أن آخرين يدفعون حيواتهم فداء لأوطانهم، فلماذا لا أضحى بشعر رأسى، وبسوالفى الطويلة، قررت أن أستحم بعد أن تحملت النوم لأول مرة برأى الحليق دون استحمام.

عند باب شقتنا الصغيرة، قبلتنى “أم حسن” إحدى قبلاتها النادرة، كأنها تودعنى، قلت كى أخفف من مشاعرها التى لم تستطع إخفاءها:

– سوف أعود فى الظهيرة.. مسألة اجراءات.

وقبل أن أختفى عن أنظارها، وبينما أرفل فى البنطلون الشارلستون البنفسجى، التفت إليها للمرة الرابعة، ورأيتها تشير لى، كأنها تمسح دمعة جديدة سقطت رغماً عنها، تعمدت أن أختفى عن الأنظار، وانطلقت نحو ترام الحضرة، وانحشرت فى عربته الأمامية. ولأول مرة لم أهتم بأن تتكسر كواء قميصى المشجر، أو أن يتسخ حذائى الأسود ذى الكعب الإيطالى العالى.

عند بوابة المعسكر، التقينا مجدداً، الكثير من خريجى طفعة 1972، من كلية الآداب جامعة الاسكندرية. سرعان ما خفت مشاعر الخوف من المجهول، ونحن نطلق التعليقات، ونحس أننا نقلنا أجواء الكلية إلى مدخل المعسكر، خطب طاهر نورى زميلته حسناء قبل التجنيد بأسبوع، وحصل “عابد الشريف” على الاعفاء من التجنيد فقط بالأمس، ولن يساق مثلنا إلى الحرب، رأيت مجاهد يقف أمام البوابة، كأنه يستقبلنا فى عالمنا الجديد، مثلما فعل فى كلية الآداب قبل أربع سنوات، عرفت أنه أجل تجنيده عامين تزوج خلالهما من ناهد. صاحبة أجمل عينين فى الكلية، وأنه أصابها بحالة من الهستيريا قبل أن يطلقها، قال:

– كل شىء بالنظام يا غجر..

علق واحد من الواقفين: احترم الاقدمية يا أستاذ. فنحن مجندون منذ الأمس.

بدأنا نتعرف على مصطلحات جديدة لم تخطر ببالنا من قبل، انفتحت البوابة فى السابعة، قابلتنا الأوامر، وأفردنا بطاقاتنا الشخصية، وقدمنا ما يدل على حصولنا على شهادات عالية، وتم قياس أطوالنا، وقيل لنا أن نتوجه فى اليوم التالى إلى معسكر مصطفى كامل لتوقيع الكشف الطبى.

قلت لأمى فى المساء إننا سنقف عراة غداً أمام الطبيب، وانه سوف ينظر إلى أعضائنا الجنسية، كى يتأكد من صلاحيتنا للتجنيد، نجحت فى أن أضحكها، كى أثبت لها أن أنجبت رجلا يصلح لدخول الجيش، فالحصول على الاعفاء وان كان صعبا هذه الايام إلا أنه يعنى لدى الكثيرين أن المعاف مصاب بعيوب عديدة. منها أنه قد لا يكون رجلا كامل الأهلية.

انتباتنى الرغبة فى أن أفعل أشياء كثيرة، أن أنزل إلى محطة لارمل لدخول أية سينما، فأنا مازلت على ذمة الحياة المدنية، أو أن أتسكع قليلا أسفل نافذة ماجدة، لنخرج إلى كازينو الشجرة، لكننى تراجعت. ماجدة تريد أماكن أخرى أكثر فخامة لا يتوفر لدى ثمن المشروبات فيها.. وجدتنى أفتح مصراع دولابى لاصغير، وأحشر رأسى بين ملابسى المدنية التى لن أستعملها لفترة طويلة، الفانلة اللامعة المصنوعة من ألياف بللورية صناعية التى اعتبرنى بها الكثيرون من الطلاب أنيقاً، لعدة أيام، تبدو داكنة، وذات رقبة عريضة أشبه بما ارتداها “مارلون براندو” فى فيلمه الأخير. وذلك القميص المزركش الذى أتى به زوج أختى من ليبيا.. هبت على ذاكرتى واحدة من التوأمتين، التى كانت تجلس أمام إحدى الموائد مع شاب تبينت ملامحه جيدا، أما هى فلم أعرف حتى الآن من كانت منهما، هل سها أم أختها. طوال عام وأنا أحاول أن أتفرس فى وجه كل منهما. لعل المقلتين تتحركان لتنم عن اعتراف.. لكن أبداً.

فكرت أن أهرول إلى بيت أختى، كالعادة. وأن أعرف من التى خرجت اليوم لمدة تسمح لها بلقاء شاب فى أى كازينو من الكازينوهات التى تملأ المدينة. لأول مرة بدأت أحس بأهمية الوقت. فليست أمامى سوى ساعات وأخلع ملابسى أمام الطبيب الذى سيكشف على أعضائنا.

راح كل منا يدلى بدلوه حول سبب إصرار الطبيب أن نرفع إحدى ساقينا إلى أعلى، قال أحدهم مازحا:

– حتى يكتشف الملوطين بسهولة.. فلا لواط فى الجيش.

ردد آخر تم اختياره فيما بعد فى الخدمة الطبية: بل يكشف عن الدوالى..

انتابتنى رغبة قاتلة فى الضحك وأنا أغمض عينى، واقفا فى صف العراة، أتخيل الضابط وهو ينظر إلى فتحاتنا الخلفية ليختبر درجة اتساعها، كتمت الضحكة بكل ما لدى من قوة، وأنا أتحامل رفع جسدى على مستوى ساق واحدة، سمعناه يردد:

– إلبس..

لم أبال كثيراً بسرعة تنفيذ أوامره، ولعل هذه كانت رغبتنا جميعاً. فقد تأكدنا أن أحداً منا لن يتم اعفاؤه بسبب أن شخصاً ما ضحك عليه وهو صيغر، التفت إلى “ماجد” ببدانته المعهودة، أردت أن أشير له أن يحاذر وإلا سقط شىء ما منه قبل أن يرتدى ملابسه.

سمعت أحدهم يعلق ساخراً، بعد أن خرج الطبيب:

– ترى كيف يكشفون على البنات فى الجيش الإسرائيلى؟

انطلقت الضحكات فى العنبر، جاءت الإجابات متناقضة.. لم تكن إجابات بالمعنى المفهوم، بل تعليقات مليئة بالسخرية والخيالات، راح البعض يتصور فتحات النساء وقد وقفن عاريات أمام الطبيب، وأن على كل فتحة إلقاء القذائف الموجهة ضد الجنود المصريين، علق آخر: أنا لى فتحة تطلق دانات أقوى هأ.. أنا عندى انتفاخ فى بطنى لا يباريه سوى أصوات الرعد فى شهر طوبة.

قال ثالث: وكنا قد أكملنا ارتداء ملابسنا ونحن نستعد للخرج إلى الحقنة 606:

– هل للنساء الإسرائيليات دوالى مثلنا؟

اندفعنا نتصور شكل هذه الدوالى. لم أتخيل كيف يكون وجه أية فتاة إسرائيلية سوف تحاربنى، أحسست برغبة أن نطلق جميعاً قذائفنا من بطوننا المنفوخة فى نفس اللحظة. صاح الجاويش يتعجلنا:

– هيا.. يا دفعة.. كله صف واحد..

راح المستجدون يصطفون خارج العنبر، وهم يتأهبون للحقنة التى سوف تقينا من حرارة الشمس، حسبما ردد الذين تم تجنيدهم من قبلنا، سمعت تعليقاً، ونحن نشمر عن سواعدنا:

– من يأخذ هذه الحقنة تتم ترقيته إلى درجة حمار..

رد عليه زميله: يقال إن تأثيرها ضعيف.. بدليل أنها لم تؤثر فيك..

سأله الأول: ايش المعنى..؟

علق زميله: لأنك لم تنهق حتى الآن..

راح كل منا يدفع زميله، كى يحظى بشرف الحقنة، ربما ليتخلص من عبء وخز الإبرة، أو للانتهاء من أمر وجوبى كالموت، ذاقه كل من وقف وقفتنا هذه من قبلنا،  ومن سيجىء بعدنا غداً.. نظرت إلى شمس أكتوبر وسألت بعد أن عرفت معنى الوخز:

– لم أنهق بعد..

جاء رد الجاويش: الآن سيتم الانصراف.. غدا فى معسكر مصطفى كامل.. من أجل المهمات..

وجدت نفسى أمام ساعات أخرى ارتدى فيها الملابس المدنية، وددت أن أدخل إلى عم مهدى، أسأله أن يعيد إلى شعرى مرة أخرى كى أهدأ به. رآنى من وراء حاجز المرايا، التفت نحوى. رغم انشغاله بهندمة شعر شاب كثيف الرأس، بدا كأنه يشير إلى، راح يلاعب طرفى المقص بأصابعه، خرج من المحل، وقال:

– هل رأيت صديقك؟

لم أفهم ماذا يقصد، بدا كلامه غريباً، تصورت أنه أخطأ الشخص الذى يتحدث إليه، فلم أدخل هذا الصالون سوى مرة واحدة.. وهو بالتأكيد لن يتذكرنى وسط عشرات الزبائين الذين يأتون إليه يومياً. لمعت عيناى من التساؤل. قال قبل أن أستفسر:

– نقوله إلى المستشفى الأميرى..

انتبانى الجزع. فلم أعرف أحداً تم نقله إلى المستشفى الأميرى، إلا وأخرجناه إلى مقابر “العمود” دون رجعة، وجدت لسانى ينطق فى جزع:

– من.. الأستاذ “فيصل”؟

لم أتركه يرد، ارتبكت قدماى، لا يعرف صاحبها إلى أين يذهب، فأنا لا أعرف مسكنه، وإن كنت أعرف الحارة العلوية التى يسكن فيها. تحسست القروش فى جيبى وأنا أنتظر الأتوبيس الذى طالما رأيته ينظر إلىّ كلما ركبت، تأخر الأتوبيس الملعون هذه المرة، بدا كأنه لن يجىء فى هذه الأمسية، آلاف التصورات تتماثل أمامى عما حدث له، لعل سيارة عسكرية صدمته مثلما حدث بل سنوات لابن خالى أحمد عبدالعظيم، أو لعله غرق فى شاطىء العجمى الذى يميل إلى السباحة فيه، حتى فى شهر أكتوبر.. ولعل.. بل ألف لعل.

فكرت أن أعود إلى “مهدى” لأسأله عن شىء يعرفه، لكننى خشيت أن يأتى الأتوبيس بين لحظة وأخرى فيضيع علىّ الانتظار، عندما هممت بالعودة رأيته يهل من ناحية “شركة الغزل”، فتأهبت للقفز بداخله، بعد دقائق رمانى أمام شارع يؤدى إلى باب المستشفى.

فى طريقى إلى هناك، تماثل لى شبح الموت فى أكثر من شكل، ورأيت عشرات النعوش تحمل أشخاصا فى طريقهم إلى المقابر، رغم ظلمة الليل، خلت أننى فى حلم، لكن تلك العربات التى يحوطها الأهالى جعلتنى أرى الموت ماثلاً أمامى، نسيت الأستاذ فيصل، ووجدت نفسى إلى جوار نائحة تحاول أن تكتم دموعها، رغماً عنها، حاولت أن أستفسر عما يحدث، وهل هناك تصريح بالدفن فى مثل هذه الساعة، فمقابر العمود أو المنارة تغلق أبوابها قبل أذان المغرب.

روعنى العدد الكبير من المشيعين المتكدسين أمام باب المستشفى. هالنى أن أحداً لا يبكى. كأن هناك أمراً للجميع بأن يكفوا عن النحيب، مثلما صدرت لنا الأوامر صباح اليوم أن نرفع السيقان طواعية أمام الطبيب.. وجدت نفسى أسأل:

– ماذا هناك..؟

لم تجىء الإجابة بسرعة، قال شخص بدا كأ،ه لم يفقد عزيزاً مثلى من هذه الأجساد الخارجة فى عربات صامتة:

– إنهم شهداء!!

ثم زاد تفسيراً: حتى لا يحس الناس بالإحباط..

قيل لى إننى عرفت الإجابة، فكل هذه الجثث، نفق أصحابها عند جبهة القتال، هؤلاء هم حصة الشهداء من أبناء الاسكندرية، جاءا ليدفنوا فى تراب المدينة، وسوف يتم نقلهم جميعا إلى المنارة القريبة، دون أن ينتبه أحد من الأهالى، لذا صدرت الأوامر بعدم النواح، كأن الأوامر أيضاً فى الموت.. سألت الشخص الذى أفادنى بالإجابة:

ألا يدفن الجنود فى أماكن استشهادهم؟

رد هامساً، كأن شخصا إلى جواره ينصت إلى فصاحته:

– هؤلاء ضباط..

أحسست بالجزع، فإذا كان هذا العدد من الشهداء لضباط فى الاستنزاف، فترى كم جندى مات؟، سرعان ما انتابتنى الوساوس، فغدا فقط سوف نعرف مصير كل واحد منا، هل سيتم اختياره ضباطا، أم جنديا، الكثيرون يتمنون أن يصيروا جنودا، فالآن فقط يمكن بحسبة صغيرة معرفة تاريخ التسريح من الجيش، لكن الضباط الاحتياط يتم تجنيدهم سبع سنوات على الأقل. بينما يتمنى البعض الآخر أن يحقق حلمه القديم بأن يصير ضابطاً، يتحكم فى خلق الله، ويعلق النجوم على كتفيه.

ولأول مرة تنتابنى الرغبة أن أصير ضابطاً، حتى إذا جاءوا بجثتى وضعونى فى مقابر أهلى إلى جوار أبى وجدى وأحمد عبدالعظيم، تنبهت أننى ذهبت بعيدا. وسرعان ما أدخلت نفسى فى دائرة تقمصتها كعادتى. حيث اندفعت دانة فوق رأسى فهشمته ملين قطعة متناثرة، ولم يبق من جسدى سوى شارة معدنية تسلمناها صباح اليوم مع البطاقة العسكرية يمكن منها التعرف على شخصية الشهيد إذا كانت إلى جواره.

رفعت سبابتى اليمنى لأعلى، بدأت أردد الشهادتين مرات عديدة بصوت مسموع، خيل إلى أننى سوف أجهش، حتى إن كان ذلك ضد الأوامر، أدركت أن كل المكتظين على الرصيف يرقبون المشهد، ليسوا من أهالى الشهداء، بل هم عابروا سبيل مثلى، وجدوا أنفسهم يبكون أبناءهم، أو أقاربهم الغائبين فى الجبهة، الذين سوف أنضم إليهم ابتداء من الغد، بشكل تمهيدى، وأننى بدأت أبكى نفسى بشكل مسبق، رأيت جثتى ملفوفة فى أحد تلك الأعلام الموضوعة فى العربات المغلقة، ويجب أن ارى نفسى ممدودة فى مكانها الآخر، قبل أن يضعونها فى المقبرة، تخيلت أن الجثة تم تشويهها تماما من جراء الدانة التى لا تعرف كيف تفرق بين ضحاياها.

رأيت أمى وسط النائحات الصامتات، تود أن تبكى على، لكن نواحها غير مسموح له أن يرتفع عن الحد الأدنى للصمت، وعندما عجزت عن التعبير عن عميق صدمتها فى فقد ابنها، جاءت بكل ملابسه ووضعتها معه فى التابوت، مثلما سمعنا أن اليونانيين الذين عاشوا فى المدينة طويلا يفعلون ذلك، قيل إن الأقباط يقلدونهم، ويضعون كل ما يتعلق بالمتوفى، فى تلك العربة الذهبية الزجاجية التى يبدو منها التابوت للعيان تجرها ستة جياد، ملثمة بملابس سوداء، يعلوها صليب يحوطه تمثالان لملائكة يبدو كأنهما سوف يصحبان الميت معهما.

ترمى فوق جثتى بنطالى الشارلستون الوردى، وقرينه البنفسجى، وقميصى ذا المربعات الواسعة الحمراء الذى أعتبره أكثر ملابسى أناقة، والحزام العريض الذى اشتريته قبل إعلان النتيجة بأيام، وحذائى ذا الكعب الإيطالى العالى الذى يرفع من قامتى، تعرف أمى أن قلقى من الذهاب إلى الجيش مصدره الأساسى أنى سوف أفتقد هذه الملابس، فاقترحت علىّ أن آخذها معى، لألبس منها ما أشاء فاستحسنت الفكرة.

رأيت فى الصف كل من أختى وأخى حسن وزوج أختى، والتوأمتين، وقفت ريم تنوح بالغناء علىّ، بدت كأنها اقتنعت أخيراً بقصيدتى عن الموت الكامن فى أعماقنا، وأننا فى لحظة نتقدم فيها فى العمر لا نعيش، بل نموت. فالحياة موت، والزمن حين يتقدم كل ثانية إنما يميت كل من حوله.

وضعونى فى مقبرة فردية.. ليس بها أحد غيرى، فى صدارتها قطعة من الرخام الأبيض المستطيل، منسوخ فوقها آية “ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا. بل أحياء عند ربهم يرزقون، استشهد فى…

تنبهت إلى التاريخ، تساءلت عن موعده، تنبهت أن الموكب الحزين الصامت مر أمامنا إلى الحارة المظلمة ناحية شارع السلطان حسين، وراحت رياح الخريف تدفع نسمائها إلى أنفى، فأدركت أننى ما زلت على قيد الحياة، وأن التاريخ لم يدون بعد فوق قطعة الرخام..

فجأة رأيته خارجا من الباب، أسرعت إليه، أمسكت يده، تسنده امرأته، بدا شاحبا على غير ما توقعت، وابتسم بشاربه الكثيف، وسأل:

– ماذا فعلت فى التجنيد اليوم؟

سألته: سلامتك.. عم مهدى..

قال بلا مبالاة: وهو يحاول أن يستند على زوجته:

– مهدى هذا يهول من الأشياء..

وبضعف باد أشار إلى زوجته: نادى على تاكسى.

حاولت أن أسنده، قاوم بكل كبرياء حتى لا يسقط، فجأة انحرفت سيارة أجرة فى الطريق، كأنها مرقت من موكب الشهداء بصعوبة، وبينما ينزل منها شخص تنسال منه الدماء غزيرة، وهو يسب الملل والبشر، أدخلت رأسى داخل السيارة، وقلت للسائق:

– لحظة واحدة يا اسطى.. معنا الأستاذ فيصل.

أدركت كم نطقت الاسم بإجلال شديد، سرعان ما خرج السائق من السيارة، راح يفتح الباب الذى دفعه الزبون المجروح، وساعد الأستاذ فيصل على الركوب فى المقعد الخلفى، بينما بدت زوجته منزعجة لما يحدث أمامها، كأنها غير قادرة على السيطرة على الموقف.

قبل أن تتحرك السيارة، تنبه السائق إلى شىء، صاح فى الزبون الذى اختفى فى ممر الاستقبال:

– أنت يا أخونا.. الأجرة..

لكن أخاه هذا ذاب فجأة داخل المستشفى، لم يلعن السائق حظه كما توقعت، بل بدا كأنه يهنىء نفسه على نجاته، وهو يقول:

مصائب تتقاذف علينا من الطريق.. جاءها البلاء تلك المهنة.. أتصدق يا حضرة.. كل زجاجات السينالكو فى المدينة تكسرت أمام عينى هذه الليلة. كنت أوصل زبونا.. دخلت به حارة ولا كل الحارات.. يبدو أنهم كانوا ينتظرون وصولى. شباب ضائع. خنافس.. لعن الله الخنافس من يوم ما صنعوها.. الواحد منهم شعره ولا المرأة الفاجرة.. مع عدم المؤاخذة يا هانم.. (يقصد زوجة الأستاذ فيصل بالطبع).. لم أر مثل هذا طيلة عمرى.. سلاسل على الصدر، أسورة جلد مرصعة بالأزرار اللامعة فى اليد، واللبان فى الفم، وأزرار القمصان مفتوحة، والسوالف طويلة.. حتى الأحذية.. الأحذية يا حضرة.. أصبح لها كعب عال مثل كعوب النساء يطرقعون بها.. انظر.. إنهم يملأون الميدان.

كانت السيارة قد نزلت بنا من الشارع المجاور للقنصلية البريطانية ودارت حول حديقة الخالدين، ثم وصلت إلى دليل محطة الرمل حيث تكتظ مجموعات الشباب، يلتهمون الفيشار والمثلجات، وتقتحم أعينهم صدور النساء وأوراك الفتيات ذوات الجونلات القصيرة:

إنه غضب الله يا حضرة.. تقولون نكسة، بل قل هزيمة.. من الذى سببها لنا سوى هؤلاء المخنثين. المهم.. كنت داخل الحارة، أوصل راكبا وزوجته.. ناس محترمين مثلكم تماماً.. لا يتخيرون عنكم فى شىء.. فجأة، وعينك ما تشوف إلا النور، سمعنا صوتا يدب فوق السيارة صرخت السيدة التى كانت معى، وقالت سلاما قولا من رب رحيم.. ودوى صوتها الحيانى، بصراحة.. أنا قلبى وجعنى.. قلت يمكن زلزال.. لكن ما الذى سيجىء بزلزال إلى هنا.. نحن فى بلاد آمنة من كل الزلازل.. اكتشفنا أن واحدا من الخنافيس قفز فوق السيارة، وبسرعة وصل إلى الناحية الثانية. لم يكن عندنا وقت للدهشة. ولا للسؤال. لم نر سوى الدم يتدفق، من أين؟ لا نعرف.. واحد يصرخ، والثانى يسب لأمه، وقبل أن تكمل السيدة التى كانت معنا صرختها، بدأت غارة زجاجات السينالكو.. قذائف موجهة يا حضرة من فوق، ومن تحت. ضربات مسددة بكفاءة نادرة، لو وجهناها لإسرائيل لغلبناها. وجعلنا ديان أبو عين واحدة يغمى عينه الثانية من الخوف.. بصراحة لم أعرف ماذا أفعل. شىء من الله هدانى أن أرجع للخلف، وأنفد بجلدى. لكن الحظ يا حضرة، الظاهر كان هناك فرح، والعريس كان فى الزفة، والمدعوون كثرة، وجدت نفسى أصطدم بسيارة جاءت ورائى، يبدو أن الغارة كانت مدبرة لإفساد الفرح. وكما فهمت من كلام الأخ الجريح الذى كان معى، أن واحداً من الخنافيس كان يحب جارته. وأقسم أن يفسد زفافها بمعركة السينالكو. مثل معركة شدوان كان الركاب الذين معى من المدعوين لحضور الفرح، ومن سوء حظى أننى وصلت قبل العريس بثوان قليلة، تصوروا أننى جئت معهم. وأول ما وصلنا قذفت زجاجات السينالكو من كل مكان.. رحت أسب لآبائهم يا أولاد الزوانى، أنتم لا تقدرون ثمن هذا التاكسى.. لكن وربك، أغلى شىء هو الإنسان.. يا روح ما بعدك روح.. الركاب الذين معى، فتحوا الأبواب.. وهات يا “فكيك”، وحل الصراخ بدلا من الزغاريد، رأيت فجأة واحدا من الخنافيس، وبزجاجة السينالكو فى يده يصرخ فى وجهى عبر الزجاج أن أغادر المكان، وهو يلعن أسلافى. لم يترك لى فرصة للتفكير، ضرب ب”السينالكو” على الزجاج وبقوة. لكن ربك ستر.. ولم أجد بدا من أن أفلت بجلدى وسيارتى بأى ثمن، لم أعرف إلى أين يتجه.. فمثل هذه الحوارى ضيقة، وأنا غريب عنها. خلنا أنفسنا فى يوم القيامة.. لا تعرف بالضبط من يضرب من، ولا من هم الخصوم، بكل خوف وسرعة، والجبن سيد الأخلاق فى هذه الظروف، أدرت السيارة، رحت أبحث لنفسى عن مكان، كنت محظوظا، فسرعان ما خلا المكان، واختفى الناس فى البيوت، وانطفأت المصابيح، وتمزقت الزينات، اندفعت وسط طلقات السينالكو نحو قمة الحارة، لكن فجأة، قبل أن أفلت من إحدى السياراتى التى اعترضتنى انفتح باب السيارة، وارتمى رجل فى المقعد الخلفى، سمعته يصرخ فى زميل له: نط يا فزدق.. هنا أدركت أن القضاء قد حل.. وأنهم سوف يتكومون فى سيارتى. لكن لا.. فعقلية الخنافيس ذكية، ارتمى المجروحون فى السيارات متناثرين، حتى إذا جاءت الشرطة، وأمسكت واحدا منهم، لا تتمكن من القبض على الآخرين، رأيت أحدهم يرمى بنفسه فوق شاحنة كانت تمر فى الشارع الرئيسى. ملابسه مليئة بالدم، لا أعرف أية قوة تملكته وهو يقفز فى الشاحنة، إنه الخوف.. بل هو الإجرام. أما أخونا الذى ركب معى، فقد نزل إلى جوار المقعد الخلفى، راح يتأوه، لم ينطق بكلمة واحدة، تصورت أنه سوف يلعن، ويشتم، تمنيت لو أعرف منه الحكاية، لكنه لم يتكلم إلا عبارة واحدة فقط، عندما تعطلت مسيرتنا أمام الجنازة العسكرية، رفع رأسه وأطل على المشهد وقال: يا بختهم.. ماتوا وارتاحوا.. ثم عرفت أنه شقيق العروس الذى أصر أن يزوج أخته لصايع آخر غير الذى تقدم لها..

بدا الأستاذ “فيصل” منتبهاً لطريقة السرد التى يروى بها السائق حكايته المثيرة، كان يختار ألفاظه كأنه يقص واحدة من القصص الشيقة التى سمعناها ونحن صغار بصوت زوزو نبيل فى الإذاعة، ورددت:

– احمد ربنا أنه لم يسمعك..

التفت إلىّ وفهم ما أقصده قال:

– لا.. الحق حق.. كان يجب أن آخذ أجرى.

ولأول مرة منذ أن بدا سرد الحكاية تكلم الأستاذ فيصل:

– هذا الولد أعرفه جيداً.. كان تلميذاً عندى فى مدرسة “رأس التين”..

التفت إليه السائق، كأنما ليتأكاد من ملامح وجه تلك الشخصية المهمة، لعله تعرف عليه وسط ضوء الشارع الذى سقط على وجه الأستاذ فيصل ردد:

– هذا..

قبل أن يكمل السائق جملته، قال الأستاذ فيصل:

– كنت فى شارع أم حنفى.. أليس كذلك؟

هز رأسه، وقال بصوت أجش: أجل كلامك صحيح..

ضرب الأستاذ فيصل يدا بيد، وقال سبحان الله.. كل المدرسين كانوا يعملون له ألف حساب.. وهو فى الاعدادية.. وكانوا يخيفونه بى.

أردت أن اذكره بنادر وهيب يوم أن جاء ليعيدنا جميعا من البلياردو إلى صفوف المدرسة، وكيف اضاف الحادث عشرات الحكايات إلى ما يقص عن طريقته فى التعامل مع التلميذ، بدا أنه التقط الخيط ليتكلم عن تلميذه القديم:

– هل تعرف لماذا جرى بسرعة داخل الاستقبال. لقد رآنى ويبدو أنه لم يتمن شيئا فى حياته قدر أن أراه على هذه الشاكلة، فكم تنبأت له بأنه سوف يكون ربيب سجون، وأقسمت له بروح أمه، أننى لو وددت أن أدخل وراءه السجن لأؤدبه فلن أتأخر.

ابتسمت، نسيت أننى أمام شخص خرج من المستشفى لتوه، وأنه يغالب آلامه، ويحاول إعادة النضارة إلى وجهه وهو يتكلم عن أمجاده القديمة، هنا سأله السائق:

– وسيادتك.. مدرس؟

رد: فى العباسية الثانوية.. مدرس تربية رياضية.

بدأ السائق يوصى على ابن أخته الذى دخل المدرسة مع المستجدين فى العام الدراسى الجديد، لكن السيارة اخترقت شارع يوسف الحكيم وأشار الأستاذ فيصل أن يدخل به إلى المنحدر، وهو يردد:

– لا تقلق على ابن أختك.. فكل التلاميذ أبناء لاخوتى.

تدخلت من جديد: اسألنى أنا..

التفت إليه، مررت براحتى على ركبته النحيلة، ورأيت وجه زوجته الصامت وسط الظلام، لم أستطع بتلك النظرة الخاطفة أن أقرأ ملامحها جيدا، رأيته ينظر إلى العداد من داخل العربة وسأل:

– كم يا أسطى؟

قال السائق وهو يحاول تغطية العداد، بعد أن انحنى علىّ، ومد يده خارج السيارة:

– علينا هذه المرة يا أستاذ.

أجاب: فيصل..

وقبل أن يخرج كان قد منحه الأجرة.. دفع الباب بيده، وهو يتنهد. استقبلته خارج السيارة، وحاولت أن أسنده، خلته يقرأ قصيدة، وهو يشكرنى منادياً باسمى. ربما لأول مرة منذ خمس سنوات. حاولت أن أدقق فى ملامح وجهه على ضوء المصباح الخافت، لكن دعوات السائق له شتتت انتباهى. أردت أن أسأله عما يحس به من تعب، وهل هو مريض حقاً، وهل ذهب إلى المستشفى بعد أزمة قلبية أم لحضور الجنازة العسكرية. بدا لى الآن فقط أننى توصلت إلى سبب عدم دخوله الجيش..

تحامل على نفسه بكل شموخ، وقال فى أنفة ملحوظة:

  • هل ستدخل معى إلى البيت.. هيا إلى دارك.. فغداً وراءك يوم طويل.. إنه الترحيل.. أليس كذلك..؟

هززت رأسى، وأنا لا أعرف هل تهتز نفياً أم إيجاباً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اليوم السابع

 

كم طال انتظارنا لهذه الوريقة. وهاهى الآن بين اصابعنا.

قال “مرتضى” وهو يفركها بسعادة بين أنامله: فى الجيش.. إذا جاءت الموت أولا فخذه.

كان على المجموعة السابعة من إجازات الميدان ألا تنام فى تلك الليلة، وأن يفعل أفرادها كل ما يعن لهم، وألا يرفضوا أى أمر، أو حتى يحسوا بالتذمر، حتى لا يفقدوا التصريح بالحصول على إجازة لمدة اثنتين وسبعين ساعة شاملة السفر والعودة.

منحوا كافة المتزوجين من الضباط وصف الضباط والمتطوعين إجازات أطول بيومين، وكانوا أول من نزل إلى ذويهم فى الدفعات الاولى بعد أن فتح باب الإجازات بأمر من رئيس أركان القوات المسلحة الجديد. كان علينا أن نعد الثوانى فوق حبات الرمل، حتى أمسكت أخيراً بالتصريح..

بدلة الإجازة جاهزة منذ أكثر من أسبوع، مكواة فى مكانها (تنتظر) أن يحن عليها صاحبها، ويلبسها، البيادة ثم تلميعها على أحسن ما يكون البريق، والجورب الذى تسلمناه من المهمات فى آخر “صرفية” تم حجزه لهذه اللحظة، والحقيبة مليئة بكتب وخطابات جاءتنا طوال فترة إيقاف الإجازات من الأشقاء والأصدقاء ورسالة حزينة عن الأزمة الحادة التى أصابت الأستاذ فيصل. حرصت أن اضع الراديو الصغير الذى لم يعد باستطاعة كل منا أن ينفصل عنه لمتابعة سير المعارك منذ الظهيرة التى سمعنا فيها أن قواتنا حطمت خط بارليف، آنذاك فهمنا سر المهمة الموكولة إلى فصيلتنا الأولى بالتحرك خارج منطقة الغردقة، ولم يعد منها سوى الضابط سعد الذى لم يغادر ملجأه إلا للقيام بإجازته فى الدفعة الأولى.

سمعت من الراديو إذاعات لم نألفها من قبل. مونت كارلو وإسرائيل، ولندن، وصوت أمريكا، فألهتنا بنشراتها الإخبارية عن صوت العرب والشرق الأوسط وهنا القاهرة. ورغم ذلك لم أكف عن إدارة المؤشر لأستمع إلى أنشودة “ريم” الجديدة، وأنا أشير إلى كل رفاقى فى طاقم اللاسلكى:

– إنها صديقتى.. كانت يجب أن تغنى لى قصيدة.

وما إن أقول ذلك حتى أتحول إلى مادة للتندر.. وتصبح كلمة “صديقتى”.. بمثابة الفيشار الذى يتناوله الجميع بتهكماتهم لدرجة خلت عنديها أن اسمى قد تم محوه من سجلات الجيش، وأننى العريف مؤهلات عليا: “صديقتى”، يرمون علىّ بالكلمة، فأضحك. لا أعرف لماذا أفعل.. ربما لان كل منا فى حاجة إلى صديقه. فى هذا العالم الرجولى المحروم من النساء، وربما بالإحساس بالتميز لأن لى “صديقة” تتمتع بمثل هذا الصوت الجميل، وتنشر الصحف صورها باعتبارها مطربة العشرين عاماً القادمة فى مصر، أو لعلى أضحك حتى لا يشعرون أن تهكمكم فى محله. وأننى اختلقت حكاية يوم شم النسيم على شاطىء البحر، كى أثبت أننى على اتصال بعلياء القوم.

راجت الحاية مثل مئات الحكايات التى يحملها كل نما معه وهو عائد من الإجازة، منذ أن حملتنا الشاحنة، نحن الثلاثة، وطاقم الهوائى، قادمين من القاهرة حاملين مخالينا إلى معسكرنا الدائم بتلك المنطقة الصحراوية، فشهدت علىّ الجدران الموجودة بالملاجىء الصلدة، وصور الممثلات الجميلات المتناثرة عليها، والتى نسرع بتمزيقها لو تنامى إلى مسامعنا أن هناك تفتيشاً.

علىّ أن أحمل معى الراديو الصغير، فسوف أسمعه فى الأتوبيس، سينقل إلىّ أخبار الدنيا الجديدة، قد أستمع إلى أنشودة “قلبى يحبك يا محارب” التى تضعها الإذاعات المصرية على خريطتها من وقت لآخر، وتتحدث عن عشق فتاة للجندى الذى عاد إليها بالنصر، وعليه أن ينشىء لها البيت السعيد.

انتظرنا ثلاثة أشهر، وأربعة أيام، وبضع ساعات، وعلى العقرب أن يتحرك بسرعة، حتى يكتمل اليوم الخامس، حيث سيأخذنا أتوبيس أزرق جديد يتم فيه حشرنا لعدة ساعات كى يحط بنا أولاً فى “رأس غارب”. نتناول طعاماً خفيفاً. ونضطر لشرب مياه مائعة، ثم نصعد إلى الأتوبيس مرة أخرى، نحث السائق أن ينطلق بسرعة ثلاثمائة وتسعين ألف كيلو متر فى الدقيقة كى نصل إلى ميدان أحمد حلمى. وعند نقطة الكريمات الفاصلة بين صحراء مصر الشرقية الشاسعة وواديها الأخضر الضيق، يجب أن نقوم بتسليم أسلحتنا إلى نقطة عسكرية، حتى نخلو إلى حياتنا المدنية. ثم ستهل علينا الخضرة بروائحها المميزة، وتدرجها وثمارها. وسنرى النساء يسرن فى الشوارع، فلاحات وبنات مدينة لا يهم.. فما أجمل أن يكون هناك نساء، تلتفت إليهن الرقاب، وتكاد أن تدور حول نفسها بزاوية قدرها 180 درجة.

تنتابنى الرغبة أن أذهب لتوى إلى “ريم” فى بيتها الواقع فى شارع رمسيس وأهنئها على أنشودتها التى تخلبنا فى المعسكر، وأرددها معها، حتى تتأكد أن كلماتها تسكن قلوبنا.. لم تسمعنى إياها فى آخر مرة زرتها فى الشقة الواسعة، كانت مشغولة بحفظ لحن جديد مع ملحن. ارتفع صوت نغماته طيلة الليل فى الصالة. قالت:

– اسمع.. ورائى بروفة.. ادخل ونم حتى لا تتأخر على سفرك.

قلت: سوف أنام فى الأتوبيس.. أفضل أن أسمعكما..

أشارت إلى لاملحن الذى تجلس إلى جواره، وقالت:

– الأستاذ لا يحب أن أحد بجانبه وهو يعمل.

أحسست كأنها سوف “تشخط” فىّ كى أدخل الغرفة، إنها المرة الثانية التى استضافتنى فيها، وأنا فى رحلتى إلى البحر الأحمر. تابعتها مصادفة عندما نزلت من أحد فنادق “كلوت بك” كى أتجول فى المدينة، صرخت وهى تنظر إلى ملابسى المدنية كأنها تتأفف من شكلى.. قالت: بذمتك.. منذ متى لم تستحم؟

بعد ساعة كنت فى منزلها، ألهب جسدى بسياط مياه الدش المندفعة فى قوة يمكنها أن تزيل عنى كل ما علق بجسدى ليس من تلك الصحراء، بل من الأماكن التى سرت بها طيلة حياتى، خاصة القاهرة. ورسبت داخل مسام جسدى كل الأوساخ التى تسربت تحت ناظرى فى حوض البانيو. قالت ليلتها قبل أن أنام:

– إذا خرجت فى السادسة صباحاً. أغلق باب الشقة وراءك.. ولازم تمر علىّ فى إجازتك القادمة.. أريد أن أسمعك شيئاً جميلاً.

انتظرت نهاية الإجازة التالية على أحر من الجمر، كى أتصل بها من المحطة.

– ألو.. ريم.

وقبل أن أنطق باسمها، سمعتها تقول بجنونها اللذيذ:

– تعالى “يا واد” بسرعة.. لا تتأخر.. أنت تتكلم من المحطة.. أليس كذلك.. مع السلامة..

جريت حتى بيتها مرتدياً ملابسى المدنية الجديدة..  البنطال البنفسجى اللون، الواسع عند القدمين ودب كعب حذائى فوق درجات منزلها، قبل أن أضغط على زر الجرس. سمعت صوتاً غريباً من الداخل، كانت فى حالة غ ناء، لذا تأخرت عن فتح الباب.. لم تستقبلنى بحرارة كما توقعت، أشارت بيدها أن أدخل، كانت فى حال من الطنطنة جعلتنى أرقبها وأنا أضع حقيبتى إلى جوار الباب، قبل أن أرى الرجل الذى يعزف نشازاً على عوده.

وقفت أرقبه. بدا غريباً فى كله، انه “هيبى” أباً عن جد. أشبه بـ “مانسون” الذى قتل “شارون تيت”، أشعث الشعر كثيف الشارب والذقن، يبدو كأنه لم يغتسل منذ سبعين عاماً، يحتاج إلى خمسة عشر دشاً من التى ألهبت مياهها جسدى فى المرة السابقة. لم أكن فى حاجة أن أتذكر اسمه، فصوره تنتشر فى الصحف فى هذه الأيام، لا شك أن وجوده فى منزل “ريم” يعد انتصاراً ساحقاً لطموحها. لم يرفع رأسه إلىّ. فقد كانت ملتصقة بالعود، وكان عليه أن يرتفع إلى أعلى لو اضطر لتحيتى.

جلست إلى جواره، أحسست أنه ليس لى مكان فى الصالة التى يجلسان بها، فكرت أن أدخل الحمام، لأكرر تجربة الإجازة السابقة. لكننى أحسست أن أشياء ما تغيرت هذه المرة.. سمعتها تقول وسط دندنتها:

– هل تناولت عشاءك؟

وقبل أن أجيب، أشارت إلى الثلاجة الموجودة فى نهاية الصالة الطويلة:

– الفتح وتناول ما تشاء..

لم أكن أشعر بجوع، لكننى فتحت باب الثلاجة الكبيرة بشهوة غريبة. ورحت أتأمل كافة الأطعمة المدنية، التى لا أكاد أسمع عنها. ففى هذا المكان أكلت مكرونة مختلفة الشكل والطعم، ولم أر يوماً أى أثر للفول أو للعدس. وأنواع الجبن المتراصة فى الأدراج بأسمائها الأجنبية تحتاج إلى زميل واحد شره كى يأتى عليها فى دقائق، أمسكت أحد الأرغفة بين أناملى وشعرت بلذة جسدية وأنا ألمسه. انتابتنى حالة نشوة لم أعرف حدودها، وأنا أستمع إلى صوت العود يشق أذنى.

عندما جاءتنى بعد ساعة، وجدتنى أجلس فوق المائدة الصغيرة المقابلة للثلاجة، سألت:

– هل أكلت؟

قلت: لست جوعاناً..

قالت: جهزت لك لفافة فى الثلاجة، فلا تنس أن تأخذها..

مبتسماً قلت: لقد أخذتها فعلاً..

قالت: الآن.. عليك أن تذهب لتنام.. حتى لا تتأخر على السفر.

علقت وأنا أستمع إلى دندنات الملحن: أظل هنا..

بعد دقيقة كنت أغلق باب الغرفة التى نمت فوق سريرها الحديدى فى المرة السابقة. حاولت أن أغالب النوم بأى ثمن كى أستمتع بتلك اللحظات المدنية الباقية، بدأت أستوعب النغمات التى تتحرك فى الصالة، فتحت عينى المغمضتين أكثر من مرة، وأرهفت أذنى لأستمع إلى صوتها الذى أعشقه، لا أعرف حتى الآن أى ضعف ركبنى وغلبنى وجعلنى أستيقظ فى السادسة صباحاً، لأتسلل بعد نصف ساعة من الصالة التى اختنقت بروائح دخان، وامتلأت زجاجات فارغة ومنفضات لم تسع كل هذه السجائر، وأطباق لم يأكل أصحابها منها كثيراً.

أصبحت “ريم” جزءاً من اجازاتى. مهما كانت صيرة، بل كانت هنا معى فى المعسكر طوال الأشهر الأخيرة، ليس بالطبع من خلال التهكم على طريقة “صديقتى”، لكننى كلما سمعت أنشودتها “قلبى يحبك يا محارب” أراها تغنى من أجلى وحدى. وأنها تكاد أن تنطق اسمى للناس فى أغنيتها، كأنها تعترف ان الكلمات صادقة.. كما أتخيلها وهى جالسة إلى جوار ملحنها الشهير، تحثه أن ينتهى من أغنيته كى تذيعها فى اليوم الثالث من العبور، وأحن إلى ذلك اليوم الذى آخذ فيه التصريح كى أقوم بإجازة، أراها تحقق النجاح الذى تنشده.. وأصنع حبلا من الذكريات منذ أن رأيتها فى طرقات كلية الآداب لأول مرة فى خريف 1967. تتضفر فتائله من زياراتى المتكررة إلى منزلها ورحلتنا إلى العجمى.. وحديثى مع الأستاذ فيصل عنها..

أمسكت التصريح بيدى.. أحس أنه سوف يفتح علىّ أبواب الألم والحزن. أردت أن أمزقه حتى أتفادى اللحظات الرهيبة التى تطأ فيها قدمى كرموز دون أن تتجول فيها أنفاس الأستاذ فيصل كعادتها.. وهل تصبح كرموز عالمنا الجديد، إذا خلت من صاحب هذه الأنفاس؟

جاءتنى برقية مختصرة..

“الاستاذ فيصل فى رحاب الله”.

بدا كأنه لم يختر اللحظة المناسبة التى مات فيها، وصلت البرقية فى اليوم السابع من اندلاع المعارك.. أدركت أن أرملته طلبت من أحد أقاربها أن يرسلها لى.. فتأخرت بعض الوقت.. قال الرقيب ماهر الحسينى وهو يرى الذهول على وجهى:

– هل تود أن تنزل إجازة..؟

ابتسمت وقلت فى سذاجة: فى هذه الظروف؟

قال: يمكن للمقدم كريم أن يرسلك فى مأمورية ليومين.

وأنا مازلت أحاول إخفاء الابتسامة قلت: الأمر صعب.

لم يفهم مقصدى جيداً، فلم يسبق لى نزول إجازة وحدى من الغردقة، كل إجازاتى كانت فى الإطار الرسمى مع زملائى، أحسست برهبة أن يلتهمنى الطريق المغلق، الذى تملأه الشرطة العسكرية وقد تقترب منه المعارك. أدركت أنه من المحال العثور على سائق أياً كانت هويته يقبل مثل هذه المغامرة لعبور المناطق الشائكة بالنيران..

كل ما استطعت أن أفعله، أن كررت أكثر من مرة:

– لماذا مات هذه الأيام بالذات..؟

كانت فى جملتى عشرات المعانى، منها أننى تمنيت لو ودعته قبل الرحيل. أو أن أكون بجانبه فى المستشفى مثلما كان دوماً معى. خاصة فى إجازتى الأخيرة. رآنى وهو جالس فى مقعده المعتاد أمام حانوت صديقه “الحاج هاشم” وأنا أندفع بكل سرعة، لدخول الحارة، كى أعلن لأمى عن قدومى، نادانى مازحاً:

– خنفوسى!!

وقبل أن أبادله العناق والقبلات علق قائلاً:

– حتى فى الجيش شارلستون.. وحذاء كعبها كالكوب.

نظرت إلى بنطال بدلتى العسكرية، وابتسمت وانتابتنى مشاعر فياضة بالرضاء والسعادة فقد تنبه شخص جديد أننى طرزى بنطالى العسكرى وأيضاً سترتى على أحدث موضة معرضا نفسى لأخطار لا أعرف عواقبها إذا اعترضنى أحد أفراد الشرطة العسكرية، ارتميت فى أحضانه وهو يقول:

– يا حلاوة.. الأولاد فسدوا.. خنفس فى الجيش.

قلت وأنا أقبل جبينه بوحشة شديدة: راح زمن الخنافس.. نحن الآن فى أيام الهيبز..والشارلستون.

وددت أن أسأله إن كان قد شاهد “الفيس بريسلى” فى آخر أفلامه وهو يرتدى بدلته البيضاء المرصعة بأحجار كريمة تناثرت فى سترته وبنطاله. بدأ “الفيس” طويل السوالف والشعر وبدينا بشكل غير مألوف رغم الصور التى ملأت غرفة تغيير ملابسه.

نظر إلى حقيبتى وقال:

– أراك قادماً من سفر طويل.. عليك أن تستريح.

قلت: أمى لم ترنى منذ شهر.. سوف أعود إليك..

علق: لك وقتك.. خذ حماماً.. والبس ملابسك المدنية.. مر على هنا غداً.. فأنا أريدك.

لم أتأخر عنه أكثر من ساعة. قبلت خلالها أمى على جبينها، وغسلت جسدى بماء المدينة الذى ينسال من الصنبور.. وأخرجت ملابسى التى انتظرتنى ثلاثين يوماً. رميت كل ما أتيت به من أفرولات فى الطست الذى تملأه أمى صباح يوم عودتى تأهبا لانتهاء الأجازة.

رأيته جالساً مع مجموعة الأصدقاء. يبدو وسطهم أشبه بنواة الذرة التى يرسمونها فى كتب العلوم. لم أشأ ان الفت نظره. لكننى عندما عدت بعد ثلاث ساعات مررت خلالها على بيوت الأصدقاء، وتجولت فى شوارع محطة الرمل، رأيته جالساً فى نفس المكان، لوح لى بيده كأنه يذكرنى بموعدنا بالغد.

فى السادسة، وحسب جامعة القاهرة كما أعلنت الإذاعة وجدت نفسى واقفاً هناك على أحسن ما تكون اللياقة اقرب إلى محمود ياسين فى فيلمه الأخير. عدا السوالف والشعر الطويل، لم أكف لحظة عن التفكير فى السبب الذى من أجله يريدنى، فهى المرة الأولى التى يطلبنى.. كم أعددت الدقائق حتى حان الموعد. لم أجده دالساً فى مكانه كما توقعت. وقفت قرابة محطة الأتوبيس أنتظر وصوله إلى مقعده، تذكرت عدد المرات التى لمحنى فيها من هناك، فنادانى…. وعدد القروش التى نفحنى إياها فى أول أعوامى الجامعية.

أحسست بمن يشير إلىّ.. كان واقفاً على الصف الآخر من الشارع، بدا كأنه قد انتهى لتوه من مكالمة هاتفية فى حانوت المحل المقابل للمقهى. أسرعت إليه، وهو يعبر الشارع أحسست بشىء ما غير طبيعى فى حركته وهو يتحسس قفصه الصدرى الأيسر، ثم أشار أن أنبهه إلى ما لاحظته وهو يسأل:

  • هل تقف منذ وقت طويل؟

قلت: تصورتك عند الحاج.

تنهد وهو يقول: جلست ما يكفينى فوق المقاعد.. الآن.ز أبحث عن مكان جديد..

بدا كرجل عجوز أصابه الملل من سرير المرض الذى أقعده، وهو يسأل:

– هل لديك وقت..؟

قلت بتلقائية: أنا معك دائماً..

تنهد ثانية وسار إلى جوارى وهو يضع يده على كتفى ويقول:

– لنخرج بعيداً عن كرموز..

أردت أن أسأله هل هناك شىء محدد يريدنى فيه، لكن السؤال طار وسط إحساسى أننى أحمله فوق كتفى بمجرد أن وضع يده على. لقد سبق أن فعل ذلك مرتين، ونحن فى المدرسة الثانوية لكنه لم يكررها منذ ست سنوات تقريباً. اكتسيت بسعادة غامرة وأنا أحس كم اقتربت منه، هو الأستاذ فيصل الذى يعرفه نصف طلبة المدينة، يهابونه ويحترمونه، تخرج على يديه أبطال اللعبات الرياضية الشهيرة فى دورى المدارس والمناطق التعليمية. أدركت أنه يفعل ذلك مع كل من أراهم فى طوابير الصباح. تمنيت لو رآنى “نادر وهيب” الذى تخرج فى العام الماضى فى معهد أبى قير للتربية الرياضية.

سألنى عندما بلغنا ناصية الشارع:

– هل أمورك طيبة فى الجيش؟

قلت بتلقائية: طبعاص..

أكملت بعد قليل: لكن..

بدا كأنه ينتظر “لكن”، همهم، كأنه يستحثنى أن أتكلم، قلت:

– حكم النفس على النفس صعب على شخص يعتنق الحرية على طريقة الوجوديين ويفخر دوماً بوطنيته.

سأل: ما علاقة ذلك بالوطنية..؟

أجبت: عندما ارتديت أول بدلة عسكرية وأمسكت ببندقية تجسدت أمامى بكل الأشباح الاسرائيلية، أردت أن أطيح برؤوسهم بهذه البندقية. لكننا رأينا الأمرين فى الطوابير.. و..

ابتسم وهو يضغط على كتفى وقال وهو ينقل يده كى يضعها داخل يده اليسرى:

– دائماً الشباب الهش يخاف الحياة الخشنة.. إنها غلطتى.

التفت إليه، وأنا لا أفهم ماذا يقصد. قال:

– كان يجب أن أعلمكم الخشونة فى المدرسة. لكن الوزارة سامحها الله، سحبت منى اختصاصاتى.

راح يشرح أن مدرسى التربية الرياضية أمثاله كانوا يقومون بتدريب الطلاب على الأعمال العسكرية قبل ذلك وما إن حدث العدوان حتى تصورت الوزارة أن قيام ضابط حقيقى بهذا العمل سوف يكسب الأمر هوية، لكن النتيجة اختلفت تماماً، حيث تولى هذا العمل ضباط احتياط محالون على الاستيداع أغلبهم نسى خشونة العسكرية.

هنا أحسست أن أوان السؤال الذى ألح على منذ سنوات قد جاء فطرحته:

– هل دخلت الجيش؟

رد: أنا من الذين لم يصيبهم الدور. وعندما اندلعت الحرب، طلبونا، كتبوا فى شهادتى “غير لائق طبيا”.. نكتة.. أليس كذلك؟

بدا كأنه يستخرج كافة الأسئلة التى لم تتوقف عن الطرح على..

قلت:

– بالمناسبة.. هل مازلت تتردد على المستشفى الأميرى؟!

قال بلا مبالاة: لى صديق طبيب هناك.. تخرج فى مدرسة العباسية.. رآنى يوم أن ذهبت للبحث عنى هناك.. وطلب منى أن أزوره مرة كل شهر.. أنا لا أحب الأطباء.. وتعليماتهم الدقيقة. لكننى أذهب إليه كصديق.

سألته: ما الذى دفعك للذهاب إلى المستشفى فى تلك الأمسية؟

رد: مجرد إرهاق قليل من الإحساس بالتعب..

ضحك باستخفاف ضحكة كدت لا أسمعها. وأكمل:

– الطبيب دائماً يحاول أن يثبت للناس أنهم فى حاجة إليه.. فعندما تذهب معى زوجتى، يصر أن يفحصها زملاؤه فى الطب النسائى.. لماذا..؟ لأنها تأخرت عامين فى الحمل.

ووقف فجأة أمام واجهة محل. راح يدقق فى البنطالات المتعددة الألوان، وهو يمصمص شفتيه:

– يا عينى عليك يا عم عبده.

كنت قد ذهبت إليه قبل عدة أشهر، طلبت منه أن “يحيك” لى البدلة العسكرية على أحدث موضة.. ثمانية وعشرون سنتيمتراً، يومها قال وهو يتحسر حسرة الأستاذ “فيصل” الأخيرة:

– الملابس الجاهزة بدأت تأكل الجو من الحائكين.

وصلنا إلى منتصف شارع النبى دانيا الذى يزدحم كعادته فى شهور الصيف بالناس. لعله تعمد الوقوف أمام المحل، لا لينظر إلى أحدث الموضات التى نزلت الأوكازيون، لكن ليتذكر عم عبده الذى لا يزال يروى لكل زبون جديد كيف أتى رؤساء الوزراء والباشوات إلى محله، وكيف تملقه كل من رشح نفسه فى دائرة الجمرك لدخول البرلمان.

– هذا القميص ذو الياقة العريضة غالى الثمن.

قال وهو يشدنى كى نكمل المسير:

– كثيراً ما تلح على زوجتى أن أشترى من هذه الملابس المزركشة.. كاروهات ومشجر، ومقلم، وتطلب منى أن أطلق سوالفى مثل هؤلاء الصعاليك، أشار إلى ثلاثة شباب يتضاربون على قارعة الطريق، لكن.. هل تعرف ماذا أود أن أشترى بالضبط..؟

وقف أمام فاترينة ما يود أن يشتريه لزوجته: وقال:

– نفسى أدخل عليها وأنا أحمل مثل هذه الملابس.. “كافولات” و.. “بارباطوز”.. و..

وقف يتأمل ونحن نقف إلى جوار ثلاث سيدات.. ملابس المواليد وعربة تحمل الصغار. ارتعشت وأنا أجذبه لنستكمل المسير، بدا كأنه يود أن يخرج رغبات لم يبح بها لأحد من قبل، أردت أن أسأله هل يحب امرأته إلى هذا الحد. قال، وهو يبتعد عن المحل قائلاً:

– هل تعرف أجمل شىء فى الدنيا؟

قلت مازحاً: النساء..

رد بنفس الشجن: فى سنك كنا نقول هذا.. الآن يجعلنا افتقاد الذرية نشعر أن الأطفال هم الأغلى.

لم أشأ أن أحدثه عن جمال النساء وكم نشتاق إلى رؤيتهن ونحن فى المعسكر وأننا فى ليالينا الطويلة هناك لا نتحدث إل عما يفعلنه للرجال، وكيف يمنحوننا الإحساس بأننا على قيد الحياة، لكنه لم يكف عن حب امرأته الجارف للأبناء، وهو يوجهنى أن نسير فى أول شارع السلطان حسين، امتلأت عبارته عن لهفة أن يرى زوجته حامل، وهو يعبر عن هذه اللهفة بأنها من صفات المرأة، وانه مؤمن تمام الايمان بحكم الله، لم أشأ أن أعلق إلى جوار مذياع كل ما يجب ان افعله هو ان استمع لا أكثر.

فجأة توقف، كأن تبعا انتابه ولف حول نفسه لفة كاملة، وراح ينظر إلى الناس، والمحلات والسيارات، ثم ابتسم وقال:

– لا.. أجمل شىء فى الدنيا.. هو الدنيا نفسها.

أخذ نفساً عميقاً، وقال متنهداً: هذا النفس هو أجمل ما فى الدنيا.. عندما أصابتنى الأزمة الأخيرة، أحسست كأننى لن أستنشق الهواء ثانية.. لذا فكم أنا سعيد أننا نخرج اليوم. لنرى الناس. وكيف تكون الحياة.

يتعمد أن يسير قليلاً، ثم يتوقف، ويكرر نفس الأمر، بدا كأنه يبحث عن شىء ما يأمل أن يعثر عليه أو كأنه واثق برؤية شخص ينتظر مقابلته، حتى أوازن إيقاعى على ما يفعله، كم يبدو سعيداً بما يفعله. إنه مصمم أن يتنفس من كل شبر من هذه المنطقة الأثيرة لدينا جميعاً نحن أبناء المدينة وبعضاً من الهواء الذى يميزها.

وجدنا أنفسنا على الرصيف المقابل لمقهى مصر الذى بداخله نادى البلياردو. أردت أن أستوقفه لأول مرة منذ أن ساقنى إلى هذه الناحية، كان مشغولا بمراقبة واجهات المحلات ووجوه الناس. قبل أن نتجاوز المكان قررت أن أسأله سؤالا قديما ألح على منذ سنوات، قلت وأنا أشير إلى باب المقهى:

– هه.. هل تذكر تلك الواقعة؟

بدا كأنه قد نسى دخوله علينا ليعيدنا إلى الفصول بعد أن قفزنا من السور مع “نادر وهيب” فى الثانوية العامة. إلا أنه سرعان ما استجمع ذاكرته قائلاً:

– ترى ماذا سيتذكر الانسان فى كل مرة يمر فيها من هنا؟

رددت: أنا شخصيا لن أنسى هذه الحادثة.

ابتسم وضغط على مرفقى وهو لا يزال يلف يده اليمنى حول ساعدى الأيسر..

سألته:

– هل تفعل ذلك دائماً..؟

بثقة متناهية، وبلا مبالاة أجاب:

– إنها وظيفتى التى تحتم علىّ هذا.. التلاميث يخرجون فى الصباح ومعهم المصروف وحقيبة الكتب ويعرف أهل كل منهم أنهم فى المدرسة ويعودون بعد الظهر فى نفس موعدهم.. نحن نضحك على أنفسنا. لو تركناهم يذهبون إلى مقهى “ماجستيك”، و”بيلياردو مصر”، وسينما “بارك”، و”الهمبرا”.. أليس كذلك؟

كررت السؤال مرة أخرى:

– إذن فعلت هذا كثيراً.

تنهدت كأن ما يقوله أمر طبيعى:

  • أوه.. كثيراً.. حتى لو وصل الأمر أن أهدد مدير السينما وأجعله يضىء أنوار قاعة العرض.. فعلتها مراراً فى سينما “الهمبرا” وسينما “ريتس”.. يفاجىء الجميع بالأنوار تضاء ويروننى أقف وسط الصالة، أشير إلى الذين أعرف أنهم من تلاميذى. لدرجة أن أية إضاءة حتى لو فى الاستراحة تحدث فى هذه الدور تعنى أننى هناك. كنت أراهم يختبئون تحت المقاعد، أو يهرولون نحو الأبواب. والغريب أنهم كانوا يعودون إلى المدرسة.. لأننى حتماً ساذهب إليهم فى أماكنهم..

سألت: هل كنت تعرف كل الأماكن؟

رد وكنا قد تجاوزنا المكان بكثير واقتربنا من باب سينما “الهمبرا”:

– هم الذين كانوا يخبروننى.. حتى أماكنهم الجديدة كانوا يعترفون لى بها.

ضحك مرة أخرى.. بدا وجهه بشاربه الكثيف صافياً وهو يضحك كأنه يطرد عنه إحساسه بالمرض:

  • لماذا لا أعرف هذه الأماكن، وأنا أحد روادها.. خاصة فى المساء..
  • قبل أن تتزوج..
  • وحتى الآن.. هل تريد أن تشرب شيشة؟
  • أنا لا أدخن..
  • وأنا لن أسمح لك بالتدخين.. وهل يجرؤ أحد أن يدخن هناك من تلاميذى السابقين؟

وجدت نفسى أربت على يده، لعل ذلك ينقل إليه شعورى بالمودة الشديدة نحوه، بينما راح يحكى لى عشرات الحكايات التى عرفتها الأماكن، وكان تلاميذه الطرف الثانى فيها. أما الطرف الأول الحاسم للأمر فاسمه الأستاذ “فيصل”.

***

تحسستنى أنامل الرقيب “ماهر” برقة كى أستيقظ.. قائلاً:

– هيا.. إنه موعد السيارة.

لم أكن فى حاجة للاستعداد، فكل شىء جاهز للرحيل، حقيبة السفر، وملابسى العسكرية التى غلبنى النعاس وأنا فى حالة انتظار، ودموع جافة لم تسقط لا أعرف دافعها رغم أن لها أسباباً. وضعت البيريه على رأسى وخرجت من الملجأ وأسرعت نحو البوابة حيث تنتظرنا السيارة الجيب لتنقلنا إلى منطقة “الهدارة”، كى نستقل الأتوبيس من هناك. قبل أن أصل إلى البوابة روعنى شىء غير منتظر، سمعت صوت المقدم “حسان” الأجش يردد كلاماً أصابنى بفزع، ما ان اقتربت حتى عرفت السبب: “مر أحد الافراد فوق ملجأ المقدم، كاد أن يوقعه عليه. ولم يعترف أحد”.

كان علىّ أن أعطيه التصريح أسوة بكل زملائى، شعرت وأنا أمده له بأننى أتخلص من كل وساوس الألم التى تنتظرنى حين أعود فأجد مقعد الأستاذ فيصل خاوياً أمام حانوت الحاج هاشم.. سأجد كرموز خاوية تماماً منه، والمدينة، وشارع صفية زغلول وصالات البلياردو، تنهدت بارتياح وأنا أهيىء نفسى أن أعود ثانية إلى ملجأى.

أغلقت عينى والارتياح يغمرنى، لم أسع لتوسل مثلما يفعل الجميع، فظروفهم جميعاً تختلف عما ينتظرنى. لكن فجأة سمعنا “مسعد” حلاق الوحدة يجهش قائلاً:

– أنا السبب يا سيادة المقدم.. وحياة جاموسة أمى لم أكن أقصد..

أدفأتنا الضحكات قبل أن يكمل كلامه.. ووسط الظلام سمعنا المقدم حسان يضحك بينما استمر سعد يتوسل بتلقائيته التى ألفناها وهو يقص لكل منا شعره عقب العودة من الأجازة:

– سايق عليك النبى ما تحرم زملائى من اجازاتهم.. الغ لى اجازتى.. لكن هم..

ألغت الضحكات ما بين المشاعر المضطربة التى سادت المكان.

علق “المقدم”:

– حسنا.. ستؤجل اجازتك دفعة واحدة.. ولينزل زملاؤك.

ضغطت بشدة على التصريح وأنا أستعيده ورحت أتخيل أية فرحة ستغمر “أمى” وهى ترانى بعد أشهر طويلة من الغياب.. قفزت فوق السيارة التى انطلقت بنا فوق المدق نحو المدينة، وتركت ذاكرتى تنساب مع طوفان من التخيلات.

 

 

عن محمود قاسم

شاهد أيضاً

جمر تحت الرماد او الوصية

جمر تحت الرماد أو الوصية “رواية قصيرة” فى مستشفى الرماد بمصر الجديدة ,حجرة العناية المركزة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *