الرئيسية / كتب وأصدارات / يحدث في بغداد ..رواية تنتصر للحياة

يحدث في بغداد ..رواية تنتصر للحياة

بغداد التي في الذاكرة العربية، موطن العلم والشعر والسرديات والأحلام الزاهية باعتبارها المركز الذي استقطب ثقافات العالم حينها، وأسس لانطلاقة معرفية وصفها محمد عابد الجابري بالحضارة الإنسانية الثانية، ستكون مركزاً لأحداث رواية «يحدث في بغداد»، للناقد العراقي والمفكّر المعروف رسول محمد رسول.وسنتعرّف إليها في الألفية الجديدة منهكة ومتعبة تستدعي الرثاء بسبب كلّ ما حاق بها من أحداث طالتها منذ الغزو المغولي وحتّى اليوم.

الاستهلال

تنطلق أحداث الرواية بإخبار أوّلي عن موت «مرهون الشاكر» الكاتب والقاص والروائي، «إثر مرض نهش رئتيه، وعذَّب روحه، حتى أودعه الغياب الأبدي». وهذا الإخبار من قبل السارد أشبه بتهيئة للقارئ لتتبع سيرة «مرهون» الذي مات مبكّراً وهو لمّا يتجاوز الثالثة والأربعين من عمر أمضاه مكافحاً ومهموماً بشؤون الحياة ومتاعبها.

البنية الروائية

تأتي البنية في الرواية مركّبة يرويها ساردان؛ الأوّل صديق مرهون، سعيد، الذي سيتجلّى دوره في تتبّع وتقصّي حياة «مرهون» لاطلاع قارئه بمعلومات ضرورية تمهيداً لأحداث لاحقة ارتبطت بمقاصد الروائيّ المخبّأة وفق استراتيجية الكشف بالتنقيط ٌوسعياً لإقامة الحبكة الرئيسة ووصولاً إلى المغزى الروائي.

الكشف وفق هذه التقنية له مستويان: أوّلهما اجتماعي يرتبط بحياة «مرهون» الأسرية وعلاقاته مع محيطه، والثاني سياسي يرتبط بالواقع الذي عصف بالعراق وبأهله، كالحرب العراقية الإيرانية والحرب الأميركية على العراق والمآسي التي نجمت عنهما.

ومن ذلك مثلاً وفاة زوجة «مرهون» التي يحبّ، فاطمة البصري، مع أهلها، إثر سقوط صاروخ أميركي على منزلهم عام 1991، ومن ثمّ معاناته من زواج ثانٍ لم يهنأ يوماً فيه، بل جلب له المصائب، وكأن «نهى» ـالزوجة الجديدةـ روح شريرة عصفت به وبالبيت بل ببغداد ذاتها.

وبذلك يمكننا القول إن «مرهون» و«نهى» رمزان متناقضان، توخّى الكاتب اعتمادهما في التأسيس لبنية روائية تنهض على التضاد بين الخير والشرّ كمفهومين مطلقين ومتصارعين أبداً، وما بينهما بالطبع حكايات متفرّعة كثيرة يعمل السارد على إيرادها في إطار المستويين السابقين.

ومن ذلك مثلاً حكاية أم مرهون، التي سيتم سردها خلال مجلس عزاء مرهون الذي حضره الكتّاب والمثقفون، وفوجئوا أن ليس ثمّة من يستقبلهم سوى أمّه العجوز المفجوعة بموت آخر أبنائها، وكانت قد فقدت ثلاثة قبله بسبب الحروب والإرهاب؛ فالعراق يخوض حروبه منذ زمن بعيد.

وليس ثمة من وقود لها سوى أجيال الشباب المتعاقبة التي تساق إليها مكرهة بما يشير إلى بؤس وشقاء الحياة الإنسانية التي يسوسها الطغاة، وإلى تلك النهايات الفجائعية التي أسفرت عنها سياساتهم وشعاراتهم، ومن ذلك إشارة الكاتب إلى أحوال بغداد وهو بصدد التعريف بزوجته: «مريم»، التي تنحدر من مدينة بابل: «..مريم ليس لها زوج وحبيب وأب وأخ سواي أنا في هذه العاصمة المخيفة».

والسارد الثاني هو مرهون نفسه، حيث يلجأ الروائي إلى تقنية يصطلح لها تسمية «السرد المفتون بذاته»، وهي بتعبيره رواية داخل رواية.

بعد العثور على الرواية، يكتشف سعيد أنه ينقصها فصلان، وهنا ستأخذ الرواية نمط الحبكة البوليسية، حيث تبدأ تحقيقات السارد لأجل العثور عليهما، إلى أن يسفر التحقيق عن الجانية، وهي الزوجة «نهى» التي تمّت موضعتها كشريرة منذ تعريف القارئ بها وحتّى تفجير نفسها في بغداد كخائنة وإرهابية.

والمشكلة التقنية الثانية، أن السارد سيمارس دور الناقد حلال الكشف عن مضمرات الخطاب الروائيّ لصديقه مرهون ربما لتبصرة قارئه، وذلك بدءاً من العنوان الذي اختاره لرواية مرهون وهو «ينحني الصابر للوجع»، فتعاوده لوثة البحث والتقصّي لمعرفة سرّ اختيار هذا العنوان، إلى أن تكشف له زوجته مريم أنه بيت شعري للشاعر النمساوي جورج تراكل (1887 – 1914)، من قصيدته «في ألبوم الضيوف».

والسرد بمقدار ما هو واقعي يرتبط بحدث معاش، هو تخييل في الوقت نفسه من حيث بنائية العمل وتركيب الشخصيات وارتباطها ببعضها أو في تنافرها وبخاصة شخصيتي: «مرهون» و«نهى» في النص المسرود الأول، واستعادتهما في نصّ «ينحني الصابر للوجع» باسمين مختلفين وكرمزين متضادين يشيران إلى مدى تناقض الحياة ذاتها في بغداد وفضائها المزحوم بالموت.

إنها سيرة المكان وأهله الخاضعين لجملة من الضرورات الطارئة التي لم تكن في الحسبان، لكنّ هذا الطارئ عبث بهما وكان على المثقف أن يدفع ضريبة الدم قبل غيره؛ موت واقعي تمّ في المستشفى، ورمزي تجلّى في سرقة الفصلين من الرواية، والفاعل واحد. لكن الأمل في مجابهة هذا الموت تجلّى في نضال السارد سعيد وزملائه الكتّاب لأجل إنقاذ المخطوط.

وقد عبّر هذا السعيّ عن تضامن أو وحدة مؤسساتية ومجتمعية تنتصر للحياة والثقافة، ولتموت «نهى» منتحرة، وبهذا الموت الرمزي تصل الرواية إلى نهايتها، ولكن نشر أعمال مرهون سترمز لانتصار المعرفة على الجهل والشر كضرورة لاستمرارية الحياة في شرطها الإبداعي والإنساني

عن البيان

شاهد أيضاً

” هجر و حنين ” للكاتبة رضا الباز

رضا ابراهيم الباز موهبة شابة صاعدة طُبعَت على حسابها الشَّخصي،كتاب (هجر و حنين ) يقعُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *