سراب

رن هاتفي النقال فاستيقظت . نومي الثقيل والغرفة المظلمة التي افضلها دائما ما يجعلاني اخلط بين وقت الاستيقاظ في الصباح الباكر وبين الاستيقاظ عصرا . كانت الساعة الثالثة بعد الظهر , وكان المتصل احد زملائي في الشركة يتساءل عن امر ما يخص طبيعة العمل . بقيت اتقلب في فراشي مستعرضا المنهاج الذي اروم المضي به في مخيلتي . كنت قد خططت في وقت سابق ان اذهب يوم السبت الى منطقة الحارثية لأمرين : الاول هو زيارة (مول بغداد) المركز التجاري الذي افتتح منذ فترة ليست بالبعيدة والذي لم يُسمح لأحد بدخوله يوم افتتاحه , والشيء الاخر والاهم هو البحث عن مريم !
تعرفت على تلك المرأة قبل عام تقريبا . لم اراها وجها لوجه ولم اسمع صوتها حتى ! كانت مجرد دردشات في موقع التواصل تويتر . لم ارى صورتها في بادئ الامر على الرغم من فتنتي بها . كانت ذكية , وكثير ما كانت تثيرني النساء الذكيات , ولهذا من السهولة بمكان ان اقع في حب احداهن بعد محادثة قصيرة . احب المرأة التي تدخل معي في حوار يبتعد عن التفاهات والكلام عديم المعنى . اخبرتني فيما بعد بأنها تعمل طبيبة اسنان وإنها من عائلة ثرية ماليا واكاديميا , اختها الكبرى تعمل طبيبة في امريكا , اخوها الاصغر يدرس الطب في بغداد , حدثتني عن احد اعمامها الذي يعمل مستشارا في وزارة النفط . لم تتحدث لي عن والدها الذي عرفت لاحقا بأنه مات اثناء فترة دراستها في كلية طب الاسنان في الجامعة المستنصرية , الامر الذي تسبب لها بصدمة نفسية اثرت عليها في حينها . عزز موقعها الاجتماعي والاكاديمي مكانتها لدي , واخذت انظر اليها بنظرة تنم عن الاجلال والاحترام الفائق والإعجاب الذي تحول الى حب ! . كنت على يقين بأنها من وسط مرموق قبل ان اكتشف حقيقتها تلك , فثقافتها المرتفعة وطريقتها في الحوار لا تدع مجالا للشك . لم استطع كبت مشاعر الحب التي صرت اكنها لها بعد فترة من تعارفنا , خصوصا بعد ان رأيت عددا من صورها . كانت طويلة القامة , ممشوقة القوام , ضيقة القد , تمتلك عينان واسعتان سوداء اللون , بياض بشرتها يميل الى الحنطي , شعرها كستنائي ينسدل الى خصرها , ملامحها طفولية , ساحرة , بريئة , لها ابتسامة جميلة تكشف عن اسنان ناصعة البياض . قررت اخبارها بالأمر متجاهلا احتمال ان اخسر صداقتها لو رفضت ذلك الحب , متشجعا بردها المازح على اهتمامي المبالغ فيه : “سنان گول تحبني وفضها” . ردت بعد فترة وجيزة من التجاهل والتهرب من رسائلي المكثفة واللحوحة “سنان لا تحبني ولا تكرهني” . كانت تريدني صديق فقط لا غير , لكن انى لقلبي الواله ان يعرف ذلك . هي لم تتقبل الحب لا لأنها تكره الحب , بل لوجود معوقات كثيرة امام هكذا حب . حب يشبه الى حد ما حب عصفور لسمكة ! لا السمكة تستطيع ان تترك الماء وتلتحق بالعصفور ولا العصفور يستطيع ان يترك الهواء ويلتحق بالسمكة . كانت هناك معوقات تمنع استمرار مثل هكذا علاقة , اولها كان فارق العمر , اذ كانت مريم تكبرني بسبعة اعوام , ناهيك عن التفاوت الطبقي .
كانت مريم من عائلة غنية , وتعيش في منطقة زيونة احدى مناطق بغداد الراقية ذات المنازل الواسعة , وقاطنين اغلبهم من الاكاديميين ورجال الاعمال . اما انا فقد كنت اسكن في منطقة الحرية ذات المنازل الضيقة والعشوائيات , اغلب قاطنيها هم اناس بسطاء الحال من الطبقة الفقيرة والمتوسطة , كما تزخر المنطقة بالجهلة والمتخلفين وبالذين لا زالوا متمسكين بعاداتهم القبلية التي اكل عليها الدهر وشرب . الكثير منهم لا يتوانى ان يصف كل امرأة متبرجة او سافرة بأوصاف اقلها : مصطلح عاهرة ! . اضف الى ذلك كله , كنت اعمل وقتها اجير يومي في احدى مشاريع الماء التابعة لامانة بغداد قبل ان انتقل فيما بعد الى ملاك وزارة المالية والتوظف في احدى شركات قطاع التأمين التابعة لها . كنت اسكن مع والداي واخوتي في منزل جدي المكتظ بالساكنين والحاجيات والورثة الشرعيين وكانت تحدث مشاجرات ومشاكل بين الفينة والأخرى على اتفه الاسباب , وذاك كفيل بأن ترفض اي امرأة كمريم عرضا بالزواج فيما اذا كتبت لعلاقتنا النجاح . على الرغم من التقارب الفكري الذي دفعها يوما لتقول “سنان انت اكبر من عمرك” . كان هناك الفارق الاكاديمي , كانت تحمل شهادة البكالوريوس في طب الاسنان فيما كنت انا احمل شهادة الدبلوم في المكائن والمعدات , على الرغم من طموحي بدخول الجامعة في المستقبل القريب .
هناك من يرى عيبا في التحدث بطبقية , لكني ارى عكس ذلك , فمن حق اي فرد ان يفكر بتأثير اي قرار على مدخولاته المادية ومكانته . لم تتطرق مريم الى الفارق الطبقي بيننا – ربما كانت ترى ان الموضوع قد يجرحني وهذا غير صحيح – بل ركزت على الفارق العمري . قالت لي يوما “سنان اني صرت بصف الثاني ابتدائي وأنت اجيت للدنيا , اخويه الزغير نفس مواليدك , لو كانت اعمارنا متقاربة كان الوضع صار افضل , انسى الموضوع او بالاحرى انساني ولا تحجي وياي بعد ” . لا ادري لماذا طلبت مني ان لا اكلمها مرة اخرى , ونسيانها ايضا ! . حاولت فيما بعد التحدث اليها عبر المراسلة , لكنها لم تجيب على اي من رسائلي .
بدا ذلك وكأنه المسمار الاخير في نعش استمرارنا كأصدقاء على الاقل . شكل ابتعادها صدمة ما لبثت ان اتخلص منها الا بعد اشهر عده , وضلت تستعر في قلبي جذوة الشوق الى ابعد من ذلك . حالة الاكتئاب التي مررت بها في الايام الاولى لرحيلها لم تكن تمتلك شيء من الرحمة وصارت تلسعني بسياطها كلما حاولت الإنفكاك منها , قلق , شعور بفقدان الذات , خواء , عدم الرغبة بالعمل , انطواء , انفعال لتوافه الامور , دموع لا امتلك السيطرة عليها . لذتي كانت هي العزلة تماما عن العالم في صومعتي التي الذي حالفني الحظ بظلامها حتى خلال ساعات النهار , او الخروج للتسكع وحيدا لمسافات طويلة مستذكرا خلال الحركات الايقاعية تلك الايام التي كنت امضها بالحديث معها , وكيف كنت ابتدأ صباحي بها ولا اتركها حتى منتصف الليل . نقص النوم الذي كنت اعانيه ايام تواجدها صار نسيا منسيا امام ساعات النوم الطويلة التي كنت امضيها , لعلي اراها في حلم ! . كنت استمتع جدا بالوقت الذي اقضيه معها . فهي كالزهرة تمدني بالرحيق متى ما احتجت اليه واخذت اعاني الجوع بغيابها . حاولت التقرب لكثير من النساء لكن لم تستطع اي منهن شغل مكانها بل صارت مريم مقياسي الذي اقيمهن فيه . مارست الكتابة في محاولة للهروب منها , نجحت بالكتابة وكتبت عددا من القصص القصيرة , الا اني لم انجح بالهروب منها . اتخذت منها ملاذا تخيليا التجئ اليه هربا من مرارة القدر , فشغلت فكري اكثر من اي شيء اخر .
لم اطق تحمل ستة اشهر من ابتعادها فقررت ارسال رسالة اليها :
” تتذمرين وتتساءلين ما الذي يريده هذا الغريب ؟ يا عزيزتي الجميلة . انا ذلك الحالم السارح في افقٍ لا ينتهي , فوكئ عالمه بك وأستَبَثْكِ ذات نفسه دون ان يعرفك , فقط لسكون نفسهِ اليك . قلتي سأعلنها حرباً نفسية , فتهكمتُ ! وفعلتي , فهنيئا لك الانتصار . امسيتُ بحثاً عن بقايا روحكِ علّي اخمد شيئاً من نارٍ نشبت وأبت ان لا تنطفئ . فزرتُ اماكن مقامكِ بلهفة عاشقٍ يزور أيكَ معشوقه . لقد أَوصدْتِ جميع رُتُجكِ لسببٍ انا فيه جاهل , فَعَثرتُ بين العتمةِ على نورٍ يشعُ من احدى نوافذكِ ولا اخالكِ ستغلقينها لتُبقي ذلك الغريب يسبحُ في الظلام . وجدتُ فيكِ عالمي ورأيتُ من خلالكِ نفسي وأمسيتُ تائهاً بين ليلةٍ وضحاها حين غربتي , وما برحتُ انتظر الشروق .
لا يهم ان تكرهين وتتعصبين وتقولين ما ترين . المهم ان تعلمي ان من بين من تواشجت كلماتك بما يكتبون , شخصا أَحَبكِ حباً افلاطونياً رغم الابتعاد المرير وأَحَبَ حتى عِنادك . واعلمي يا جميلتي ان بإمكان رفه لجنحِ فراشة ان تُحدِثَ اعصاراً في المدى البعيد , فلو اردتي مني النسيان فاجعلي الزمان يعود لأمحى كل ما تعلمت واحببت حين عرفتكِ , وأعيدي لي حزني وابتساماتي وأشواقي .
لم يكن ما مضى مجرد لحظات عابرة . فلا مناص ان تشرق شمسٌ دون ان ينبض فؤادي بكِ , بل دون حتى ان تثب اشراقة عينيكِ , فتطأطئ باقي العيون خجلاً . تحياتي واشواقي غاليتي مريم . صديقك المخلص سنان .. ”
قلت افلاطونيا كون نظرتي الاولى لها كانت كذلك , قبل ان يستعر قلبي وجدا , ويترقرق سيل من المشاعر نحوها . يوما ما وحينما توقفت عن تحيتها ذات صباح لعدم تقبلها فكرة حبي لها , بعد ان كنت مواظبا على ذلك . قالت لي : “سنان الّا احاربك نفسيا !” . كانت تعي نقطه ضعفي وهي ولعي بها لذلك اخذت تعزف على ذلك الوتر . لم ترد بشيء على تلك الرسالة بل اكتفت بتغيير صورتها في انستغرام الذي ارسلت رسالتي من خلاله , بأخرى تبدو فيها اصغر عمرا كانت قد ارسلتها لي سابقا وابديت اعجابي الشديد بها . لا ادري ما القصد من فعلتها تلك , حتى انها لم تقم بتغييرها لفترة طويلة , وقد فعلت نفس الشيء حين ارسلت لها رسالة اخرى على الفيسبوك . واصلت الكتابة اليها رغم علمي بعدم ردها على اي من كتاباتي . كانت الكتابة اليها تشعرني بارتياح قلما شعرت به اثناء فترة غيابها ، كانت ترياق يفرغ ما فيّ من شوق لها , كما يفرغ المغتلم شهوته , فيشعر بنشوة تنسيه ما قاساه قبل ذلك . ارسلت لها يوما , حينما احرقني الشوق بنار لم استطع ان اتحملها , ولم اكن ادري ان كانت تقرأ ما اكتب لها ام لا :
” اشتقت اليك جدا حبيبتي ، ما عدت استطيع مقاومة ذلك السحر الذي يشدني اليك تارة ويحرقني شوقا لأيامك تارة اخرى . مريم ، انت تقطعين الاوصال وأنت بعيدة ، ماذا لو كنت امامي الان ؟ تلك النار المستعرة لا تنطفئ إلا بالكتابة اليك ، وذلك الالم الفظيع الذي يعتريني ويريني عتمة القبر كلما تذكرتك , لا يكاد ينفك عني إلا بقول كلمة احبك . لم يعد سنان هو نفسه قبل ان يعرفك ، ولم تعد نفسها تلك الروح التي كانت تنجذب الى كل جميل حين تعلقت بجمالك ! . لماذا تجسد جمال النساء فيك , ولماذا عشقتك يا ترى الى هذه الدرجة ؟ ربما اراد الله ان يري الناس جمال خلقه من خلالك ، او ربما خلقك فخٍ لإيقاع كل ناسكٍ تصور ان لا امرأة يمكن لها ان تغريه بتعبده ! ربما انا عشقتك لأنك تلك الهالة التي تحيط بكل الاشياء الجميلة التي احبها ، او لأنك تملكين من السحر ما لا طاقة لي على بطلانه ! احبك مريم رغم كل مغريات النساء واحبك رغم كل ذلك الالم الذي توجهينه الى قلبي الصغير الذي يأبى رغم شقاءه ان يتعلق بامرأة غيرك ! بل ويأبى ان يتركك لينفك عنه العذاب ! فأي مازوخية تلك التي ابتلي بها قلبي وأي سادية تلك التي تحملينها . تحياتي لك حبيبتي مريم . احبك جدا . سنان” .
كالعادة لم ترد بشيء ! . واه له من قدر يحبب الانسان بشيء ولا يعطيه كاملا ! من اصعب الاشياء ان يتعلق المرء بشيء لم يكتبه القدر له , او ان يحب شخصا لا يريده , او يكتب لمن لا يقرأ كلماته ، انه لشعور بشع ، عنيف ، سوط لا يعرف الرحمة ولا يلبث الا ان يحط من قيمة المرء امام نفسه التي طالما حافظ على شموخها . كانت مريم تواظب على كتابة المدونات في تويتر . بعد ما ارسلت احدى رسائلي اليها تركت الموقع , وقد استمر غيابها للأسبوعين اثنين . اخذ القلق مني مأخذه , وسيطر علي الذعر , خفت جدا ان يكون قد اصابها مكروه . فعلى الرغم من جفاءها إلا اني احبها جدا , ويؤلمني ما يصيبها كما يؤلمني مصابي . ارسلت لها رسالة معبرا فيها عن حالة القلق التي تنتابني :
“عزيزتي مريم : لم اراك تغردين منذ اسبوعين في تويتر ، انه لحقاً مدعاة للقلق ، لا استطيع ان امنع نفسي من انشغالها بك وأنا اجهل حالك ، جل ما اتمناه هو ان تكوني بخير ولا اتمنى شيء غير ذلك ، فسعادتك هي سعادتي وسقمك هو سقمي , فأن كان ابتعادك لفرح , عسى ان تقضي كل حياتك فرحة , هانئة , مطمئنة , وان كان ابتعادك لسقم , ارجو حقا ان ينضو ذلك بأقرب وقت , وان يعود الامل ورونق الشباب الى محياك ، فلا يليق بك غير ابتسامة دائمة تزين ثغرك , وجمال منقطع النظير يلف اطلالتك , وحيوية بلغت من النشاط والديمومة اقصاها , وصحة يغبطك عليها الاصحاء . عزيزتي اني ما برحت والها بك لا تنوء نفسي المهيضة لترياق سواك ، كثير ما تدفعني نار الوجد اليك لأتقصى امرك , فأطمئن عليه , فتصيبني سعادة او حزن تبعا لحالتك , فأرجو ان تكوني بخير لأكون انا كذلك . تحياتي لك ايتها الرائعة . صديقك سنان” .
ردت هذه المرة ولكن بطريقة غير مباشرة ! . كتبت عدة مدونات في حسابها الشخصي وقد بدى عليها الفرح ! . في الصباح وأنا في حالة ما بين اليقظة والنوم , مر طيفها علي , شعرت بقربها , سمعت صوت انفاسها , تحسست نعومة جسدها ودفئه . حين استيقظت , دخلتُ على حسابها في تويتر وقد هالني عودتها . كتبت لها رسالة اخرى معبرا فيها عن حالة الفرح التي غمرتني برؤيتها سعيدة . لطالما تساءلت عن عدم ردها على رسائلي , في بعض الاحيان اقول انها ضعيفة امام مشاعرها ولا تستطيع ان تمنع نفسها من الاستمرار معي لو قررت الرد , ذلك لانها لا تريد ان ترتبط بعلاقة قد تفكر بأن لا مستقبل لها , بسبب حجم الاختلاف الذي تراه , وقد لمستُ ضعفها من خلال بعض المحادثات السابقة بيننا. في احيان اخرى اقول بأنها تحمل نفسا ساديا وتستمتع برؤية الاخرين يتعذبون لأجلها , فمن غير المعقول ان تترك امرأة رجل يواظب على ارسال رسائل الحب لها دون ان تحسم الامر معه بشكل نهائي .
ان للحنين اعراضا جانبية احداها النظر الى الوراء والافراط في تحويل الحاضر الى ماضي , اذ تذكرت وأنا في الطريق الى الحارثية موقفا قد مررت به في وقت سابق : لم احتمل غيابها ذلك اليوم , فقررتُ الذهاب الى مول النخيل القريب من منزلها كما اسلفت في وقت سابق – حين حصل انفجار بالقرب من ذلك المركز التجاري وأرادت التأكيد على قرب منزلها من موقع التفجير – كان وقت الغداء ، وقد حجزت طاولة بمقعدين معزولة نوعا ما عن ضجيج العامة , على الرغم من كون الجو كان غائما وجميلا , ويستحق ان يجلس المرء امام الواجهة المطلة على الشارع العام . طلبتُ وجبة تكفي لفردين اثنين ورحت اتناولها وانأ اتخيل شخصها يجلس قبالتي ويشاركني الطعام . وقتها استمتعت كثيرا مع شبحها الذي تجول معي في ارجاء المكان ! وقد كدت اكلمه لولا الخشية بأن أُنعت بالجنون .
اجتزت حاجز التفتيش عند مدخل المول ودلفت الى الداخل . تأملت التصميم المعماري الفريد للمكان . عند الدخول كان هناك قبة زجاجية علقت اسفلها مجموعة من المظلات الملونة , وعدد من البالونات هنا وهناك . اتجهت يمينا ودلفت الى رواق يعرض فيه انوع متعددة من العطور ومستحضرات التجميل تجولت فيه عدد من النسوة خيل لي ان مريم احداهن , عن نهاية الرواق هبطت بسلم الكهربائي يتجه الى الاسفل . في الجهة المقابلة للسلم كان هناك جناح عرضت فيه مجموعة من التحف والعطور والأشياء المنزلية والهدايا . وقفت متأملا وأنا تحت تخدير الموسيقى التي يصدح صوتها عبر مكبرات الصوت في ارجاء المكان , انظر الى تلك المعروضات . اخذ خيالي يسرح الى اجواء اخرى لا علاقة لها بالمكان , اجواء مفعمة بالحميمية ولقاء يجمعني بمريم . ترى اي من تلك الهدايا سأشتريها لها في ذلك اللقاء ؟ هناك اعتقاد شعبي بأن ارسال هدية لشخص مكونة من عطر تؤدي في النهاية الى الفراق مع ذلك الشخص , كنت ارى بأن ذلك الاعتقاد ما هو إلا سخافة من السخافات المنتشرة في الثقافة الشعبية , لهذا فكرت بأن تكون هديتي لها عبارة عن عطر . ترددت قليلا ! : انها تعشق الكتب , لماذا لا اخذ لها كتاب بدل العطر فأنا لا اعرف ذوقها بالعطور ؟ . ترددت مرة اخرى ! : كيف لي ان اعرف ما هو الكتاب الذي يعجبها ولم تقرأه بعد ؟ . تأملت مراتب وملاءات الاسرّة التي صفّت في زاوية اخرى من الجناح , تساءلت مع نفسي : ماذا لو كانت الظروف مؤاتية للزواج منها وإنجاب الاطفال ! . اتجهت الى الجهة المقابلة للجناح حيث سوق الفواكه والخضر والمواد الغذائية . في الطريق كان هناك كشك لبيع القهوة يحمل اسم البيروتي , يعرض انواع مختلفة من البن . اعادتني رائحة القهوة بضع سنوات الى الوراء , الى مركز تجاري اخر يقع في شارع المدينة المنورة في عمان , على بعد مسافة من الجامعة الاردنية , يدعى مرجان مول ! . لم يكن هنالك اشياء تتعب تفكيري وأنا اتجول في فيه مثلما يحصل الان اثناء تجوالي في مول بغداد . حينما عدت الى الاعلى تأملت عددا من المطاعم هناك . ترى في اي منها سندخل لو شاء القدر ان نلتقي وادعوها لتناول العشاء , على اي طاولة سنجلس , وما نوع الطعام الذي سنطلبه , وهل سيعجبها تناول العشاء في هذا المكان اصلا ؟ .
خرجت من المول بعد اكمال تجوالي فيه واتجهت باتجاه شارع الكندي الذي يزخر بعيادات الاطباء . كانت مريم قد اخبرتني في وقت سابق بأنها تعمل في مجمع طبي في الحارثية , وقد سألتني يوما ما اذا فكرت بزيارتها . اخبرتها وقتها بأني سأقوم بذلك لكن ليس الان . كنت انتظر اللحظة المناسبة للقيام بذلك , فلم اشأ ان ازورها دون ان تتوطد الاواصر بيننا , ليكون لقائي الاول بها مقتصرا على رؤيتها وجها لوجه وسماع صوتها , لكن ذلك الامر لم يتحقق بسبب رحيلها المبكر . في بداية شارع الكندي كانت ترتفع فوق احدى البنايات الى اليسار نشرة اعلان ضوئية كبيرة نسبيا لصالون وشم اطلق عليه اصحابه اسم سنان . تذكرت بأني شاهدت نفس ذلك الاعلان ذات مرة , وكان يعلو بناية اخرى في منطقة المنصور , تقابل مرطبات الرواد ؛ جلست يومها على احدى الطاولات التي رصفت بمحاذاة الشارع العام , لتناول الأيس كريم , وقد أخذت اتأمل حروف ذلك الاعلان : “لا بد لمريم ان تأتي الى هذا المكان , ترى ما الذي يرد في مخيلتها عند مرورها بأسمي , هل تتذكر رسائلي اليها ؟ “. تكرر ذات التساؤل هذه المرة وأنا ارى ذلك الاعلان من جديد . واصلت المشي على الجانب الايمن المحاذي لمول بغداد , شاهدت ان هناك تجريف للجزرة الوسطية في مقدمة الشارع , وفي نقطة ما انتصب كرفان يفصل بين الجانب المجرف من الجزرة وبين الجانب السليم , شكله يوحي بأنه سيكون نقطة تفتيش امنية . نظرت الى لافتات الاطباء التي تتوزع على جانبي الشارع . كان قلبي يخفق بشدة كلما ارى اسم مريم مكتوب على احدى اللافتات , ولكنه سرعان ما يعود الى نبضه الطبيعي حين اكتشف بأن اللافتة تعود لطبيبة اخرى تتشابه مع مريم بالاسم . ” انها تعمل في مجمع وليس لها عيادة خاصة , هكذا هي قالت ” . كانت هناك عدد من المجمعات الطبية الخاصة بأمراض الاسنان وتجميلها . في نقطة ما وحينما كدت اصل الى نهاية الطريق عبرت الى الجانب الاخر , وعدت بالاتجاه المعاكس . كنت متردد في دخول تلك المجمعات والسؤال عن مريم على الرغم من تصميمي على رؤيتها , وقفت امام مجمع الحارثية لأمراض الفك والأسنان الذي كان بارزا لكثرة الانوار وشكله المميز , فكرت بأن ادخل واسأل عنها هناك , لكني سرعان ما واصلت المسير . كنت افكر في ردة فعلها , لم التقي بها من قبل , لهذا انا اجهل الاسلوب التي تواجه فيه الناس , والأسلوب الذي ستواجهني فيه على وجه التحديد . ان اللقاء الاول يترك انطباع عن الشخص لا يلبث ان يزول إلا بعد فترة طويلة , قبل ان تتغير الصورة وتتشكل صورة اخرى . كنت اخشى من رد فعل غير متوقع من قبلها , يغير من نظرتي اليها , قد تتفوه بكلمة او تسلك سلوك قد يزعجني على المدى الطويل . همت في زحام الشارع لا ادري الى اين اتوجه , نظرت الى النساء اللواتي يتجولن في المكان لعلي ارى في احداهن ملامحها التي لم تغب عني . نظرة ولقاء يكفي لان اطلق على هكذا حب وان هو اجهض قبل ولادته بشكل كامل بأنه حبا حقيقيا كاملا وان كان من طرف واحد , فعلى الرغم من هيامي بها والحنين المتقد الذي ما برح ان يزول رغم مرور عام كامل على قرارها بالرحيل , الا ان ذلك لا يعدو كونه حبا ناقصا ونزوة عابرة في تقديري العقلي , وأشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء . برقت من مخيلتي مقولة لواسيني الاعرج : شاق هو الفراق الأبدي ومع ذلك علينا أن نتدرب على النسيان لنستطيع العيش . ثم قطعت احدى النسوة التي تبدو في الثلاثينيات من عمرها شرود ذهني بالسؤال عن عنوان ما , ولأني غير ملم بتفاصيل المنطقة اجبتها باقتضاب : “والله ما ادري عيني” . حينما وصلت الى نقطة البداية شعرت بالخيبة لعدم الوصول الي شيء قد يغيّر من خارطة الاحداث الرتيبة . على الاقل ان لن نستمر في علاقة مفتوحة ان كانت فكرة الزواج بعيدة المنال , فقد نتفق على نهاية ربما تخلصني من بعض الالم الذي يعتريني . اريد ان اطلق على ما مررت به من جنون وألم وأشتياق بأنها قصة حب حقيقية , فلا يعقل منطقيا ان يمر المرء بقصة حب دون ان يرى حبيبه وجها لوجه ودون ان يسمع صوته حتى . فكرت ان ابعد شعور الخيبة بفعل يجعل من الخسارة ربح ولو بشكل معنوي , فقررت كتابة هذه القصة .
(يا مريم , يا من احببتها دون ان اراها , ستمكث معك روحي حتى وان تباعد الجسدان , فأنتِ العالم والوطن الذي انتمي اليه . جسدك ذلك الشيء المادي , وروحك ذلك الشيء المعنوي , انهما ازهار تملئ جنينة حياتي ؛ كلاهما يمدانني بالرحيق , فأكون على قيد الحياة . احبك وان لن نلتقي يوما ما) .

عن منار عبدالهادي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *