الرئيسية / قصة قصيرة / اللوحة والمسمار

اللوحة والمسمار

أعطتني ألوانها اشرأبت في قميصي , إصباغ متناثرة .. ومابين صورة الجواد الجامح والأشجار المتناسقة خلفه .. خطوط تمتد بين تلاوين وظلال معتمة .. وفي الفسحة البيضاء استرخت ظنون الوهم في خاصرة الجدار …

 

صمتت ولم تعد تكلمني .. ولم تنفع الايماءات بيننا .. فقد تسرب من الحائط , همس السكوت .. وأغلق لغة الحوار بعنف …

 

تسكن اللوحة أمامي , تجاورني .. أنها رفيقة ساعاتي المضنية .. تحركت الأغصان في الصورة , فقد هبت نسمة من الشباك القابع خلفي , من عهد ( العباسيين) لايتملل من رسوخه أبدا , ولم تغلق مزاليجه .. ظل قرونا طويلة معبرا لضوء الشمس وللنسمات الهادية في مجرى الريح …

 

كانت لطخات الألوان تتأرجح في ضوء عيوني , أرادت ان تستعير بهجة الإشراق , لكنها بقيت خابية , رغم طيف الشمس المتحرك في الحزم المنارة وسط كوة الغرفة  المسجاة فوق إطار اللوحة …

 

لم يزل الحصان يعدو , بلا صهيل … ولهاث أحلامي المنتشاة , من فرط أصباغ ينابيع الاستلهام … تترك ندوبا , مثل الأصابع على مد البصر ….

 

زحفت فوق سمرة جسدي , صارت وشما يغطيني , حاولت مرارا ان اختبئ , من هيجان اللوحة , لكنها انتزعت بشرتي , وسمرتني بمسمار على الحائط …

نزلت اللوحة من الجدار على ارض الحجرة … وافترشت خطوط ألوانها … بقيت أحدق بها , علها ترحمني , وتشدني نحوها , لنضطجع على السرير , والأرض المخضرة , تمتد إلى الأفق … فيما الخيل ترمح في البرية .. بلا انقطاع وكأن المسافات غارت …

 

        –  من يشد من …؟؟!!

لوحة غناء  , أم رجل معلق على الجدار … ؟؟!! تعلقت بثوبي , جذبتني إليها , كدت اسقط .. لو لم يكن المسمار , قد تشبث برقبتي , لهويت قرب النافذة العتيدة … وعبر على جسدي جيش التتار , بلا رحمة فقد كانوا يزحفون

 

 

 

بأحذيتهم الثقيلة , نحو بغداد .. يجوسون خلال الدروب , ولايفهمون إيماءاتي …

أحست الصورة بحرجي .. فدمعت عيناها .. سال دمعها بلل السرير , واختلط مع الألوان البراقة فاستحال إلى رماد .. أخذت قبضة منه , ووضعتها على جرح رقبتي المجزوزة من المسمار …

 

فنطق الجرح متؤها من من الألم …    تذكرت أمي التي رحلت في العام الفائت , تركتني وحيدا , أكابد لا أجد صدرا أهفو إليه , واشكوه الأمي …    لقد مرضت قبل رحيلها وجف ضرعها …

وهتفت داخلي متعجبا :  

أو يجف ضرع الأم …؟؟!!

 

بعدها انتشر لون الرماد , على السرير والحيطان المبللة بالذكريات …وسقف المطبخ ينز جوعا … وفي الصالة عشش الحزن السرمدي   …

انتبهت لازالت اللوحة تحدق في عيوني .. تقدمت نحوي فكت أزرار قميصي , ونشرت إضلاعي على الجدران , وسحبت أصابعي , كورتها مثل ريشة .. وراحت ترسمني من جديد … 

     

خجلت من التعري تحت وطأة ألم المسمار المتشبث بفقرات عنقي … وتساءلت :         

ما فائدة الرسم وأنا المصلوب على لوحة الجدار , والشباك الموارب تزدحم فيه قوافل الهاربين إلى فردوس الغربة … من يستطيع غلق مزاليجه …؟؟!!                

ومن يوقف شراسة الاستباحة … ؟؟!! حين تصير اللوحة رساما والرسام لوحة ..    من يعيرني عقله , لأبحث عن حلا يرشدني .. وأغلق أزرار قميصي , وارجع اللوحة إلى جدارها , واسحب المسمار من عنقي بكت أمي طويلا لما جف حليب صدرها .. وقالت :

لم اعد نافعة لأي عمل ..

 

أشفقت علي وشدتني من راسي , والدمع يتلألأ من عينيها … وجاءني صوتها :

كيف ستعيش , بلا ضرع أمك ..ياوليدي … ؟؟!!

وأجبت إجابة الولد العاق :

 

 

سأرحل إلى مفازات المنافي .. وأطلب اللجوء الإنساني ..

 

تغيرت لهجتها واستحالت عيناها جمرتان متقدتان .. وظلت مسحة الحزن والغضب تطفو على صوتها … وصرخت بصوت هز كياني :

 

من سيعتني بأختك وأخوك  … ومن يوقف عهر أبيك , لازال والدك مراهقا مذ عرفته .. يعيش دوامة العشق والخبل ….    

 

 

عن صالح جبار

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *