الرئيسية / نصوص / رائحة الخبز

رائحة الخبز

 

رائحة الخبز


احمد مطير

للحزن ذاكرة لا تمحى فيها الصور مهما تقادمت ، اذكر انني حاولت كثير ا ان اتخيل لك الجسد
وذلك الشعر الطويل وتلك الرائحة التي يختلط فيها عبق حقول الحنطة مع رائحة التراب المبلل .. كنت صامتا لا اجد اي كلمة اقولها امام كلماته المتدفقة كانها اعتراف رجل يحتضر .. رغم انه حاول جاهدا ان يخفي اشياء كثيرة حاول ان يبقيها سرا يحمله معه الى قبره .. صمت للحظات .. تاركا للدخان يدخل فمه ليخرج معه سيل من الكلمات .. كانت سيجارته شارف على النهاية لكنه اشعل ببقاياها سيجارة اخرى ..
” اذكر انها دخلت الى مكتبي ذات صباح .. وجها متعب وعيون ذابلة تحفي خلفها حزن عميق .. كانت متشحة بالسواد .. لا زلت الى الان اذكر لون عبائتها التي اختلط السواد فيها باللون الرمادي .. لم ارى في حياتي جمالا مثل جمالها ، جمال اطره حزن موغل بالسنين ..”
كنت لا ازال صامتا اراقب ارتعاشة يده التي يضع بين اصابعها سيجارة يقربها بين كلمة واخرى من فمه ليسحب منها نفسا عميق .. كانت عيونه تتحدث قبل فمه .. وقبل ان اسئله عن ملامح وجها بدأ يرسمها امامي بكلماته وملا مح وجهه التي ارتسم عليها حزن عميق ..
” كانت سمراء بلون الحنطة .. انف دقيق .. وفم مرسوم ..و عيون سوداء واسعة .. عندما رايتها ذكرتني باهوار الجنوب ونخيل البصرة.. وبيوت الطين في العمارة .. كانت تختزل الجنوب كله .. جماله وانهاره .. وعبق حقول الحنطة واحزانه واشعاره الغارقة بالحزن والحنين لوطن .. كانت لوحة رسمها شاعر شعبي ورسام ومغني جنوبي يغني باطوار الحياوي والمحمداوي .. منذ اول لحظة رأيتها فيها خفق قلبي .. وشدني اليها كل شيء .. حتى صوتها الذي خرج منها على استحياء”
كانت سحب الدخان تحجب عني جزء من وجه ، لكني لازلت انصت لكلماته ..احول رسم صورتها في مخيلتي كنت اتمنى لو انني استطيع ان اغمض عيني لكي تكتمل ملامحها لكنني لم استطع فملامح وجه التي تتزاحم عليه قبائل من الاحزان جعلتني اتامل وجهه اقرأ من خلاله قصة امراة تختزل مدن عديده باحزانها وهمومها وحتى لحظات الفرح القليلة .
” يومها اهتميت بقضيتها لدرجة احست هي بذلك كانت وعندما همت بالمغادرة شكرتني لكنني طلبت منها اخذ رقم هاتفي لتتصل بي متى ما احتاجت لاي شيء والشيء الذي افرحني كثيرا انه لم تعترض بل انها اخذته وهي تحاول ان تخفي فرحتها به او انني هكذا تصورت .. لا ادري لماذا شعرت حينها انها احبتني او انها شعرت انني وقعت في غرامها.. بل انها عرفت بكل ما جال في داخلي.. وغادرت .. حزنت لرحيلها لكن ما خفف حزني امرين الاول هو انني كنت واثقا انها سوف تتصل بي و الاخر هو انني كنت اعرف عنوان بيتها الذي دونته في اوراق قضيتها .. مرت ايام ثلاث وانا انتظر ان اسمع صوتها عبر الهاتف .. كانت هذه الايام كأنها دهور، كنت كل صباح عندما اتوجه الى عملي لا شيء افعل سوى انتظار مكالمتها حتى عندما اضطر لترك مكتبي اوصي زميلي بانني انتظر اتصال مهم ان اتصل بي قل لهم موعد رجوعي الى المكتب .. في اليوم الثالث راودتني فكرة الذهاب الى منزلها سوف اتحجج باي حجة حتى لو انها لن تستقبلني المهم ان تعرف انني افكر بها وانني لن اتوقف عن محاولة الوصول لها ..و لكن حدث ما كنت انتظره .. رن جرس الهاتف .. كانت هي لم اصدق كدت اطير من الفرح حتى انني كنت اريد ان اعاتبها عن كل هذه الايام التي مرت .. لكن ما كبح جماح اشتياقي لها ما قالته كانت واثقة تماماً .. لدرجة انها كانت تتكلم وهي تشعر بانها قد انتصرت علي ..
– لقد كنت تنتظر هذا الاتصال بفارغ من الصبر وكنت اعرف ان انتظارك طال ..
حاولت ان ابين لها انها على خطأ وانني لم اكن انتظر اي شيء .. لكنها ضحكت ..
– لا تكابر اعترف بانك كنت تنتظر هذه المكالمة ..
لم استطع الاستمرار .. لم استطع المقاومة اكثر .. كنت اشعر امامها بضعف شديد لم استطع ان اخفي اي شيء اعترفت لها بانني كنت قد قررت ان أتي الى بيتها هذا اليوم اذا لم تتصل وانني كدت اجن .. ضحكت بدلال وقالت
– كنت اتوقعه منك هذا .. بل كنت اتمناه ..كنت اعرف انك تفكر بي منذ اول لحظة وقعت عيناك علي شعرت بان ذبت فيه ..
لا اعرف ماذا حدث لي لحظتها استسلمت امامها بسهولة لقد عشقتها لحد الهيام .. استمرت مكالماتنا لاشهر كانت ترفض اي لقاء عرفت عنها كل شيء وهي كذلك .. كانت تقول لي بما تفكر .. وبما تشعر.. لقد احببتها اكثر .. استطعت اقناعها باللقاء والتقينا .. كنت مثل مراهق يواعد لاول مرة اشتريت ملابس جديدة .. تعطرت بارقى عطر، استمر اللقاء لساعة واحدة قلت فيها احبك مئات المرات .. رغم انها كانت متحفظة لكنني ايقنت انها تحبني بعدها التقينا مرات عديدة حكت لي قصة حياتها بتفاصيلها وكيف انها تزوجت من ابن عمها الذي مات في الحرب منذ ما يقارب عقدين تاركا لها اربعة ابناء تزوج اثنين منهم.. عرضت عليها ان نتزوج بشكل سري بسب كما تعرف انني متزوج ولي اطفال.. رفضت في البداية بشدة حتى لوكان زواجا علني ولكنها وافقت بعدها بأشهر .. كنت اعرف انها سوف تستسلم لي في النهاية كنت اشعر بتلك الرغبة المكبوته منذ سنوات .. اتفقنا على السفر الى كربلاء لنتزوج على يد احد رجال الدين لم تكن هناك ورقة مكتوبة اوعقد مجرد شهود اثنين حتى انني لم اعرفهم لكنها كانت راضية بكل شيء..
بعدها قضيتا ليلة في احد الفنادق .. طلبت مني انا اغادر الغرفة لنصف ساعة لم اسألها لماذا غادرت .. وعندما عدت تفاجأت .. جسد فارع يغطيه شعر يصل الى اغمس قدمها .. كانه جسد فتاة في العشرين
قالت لي انها تفرد شعرها على كتف رجل منذ وفاة زوجها.. وانه منذ رحيله وهي صائمة عن الرجال قضيت مها ليلة لن انسها ابداً.. ولكن ما شدني اليها رائحة جسدها الذي يشبه في شذاه رائحة الخبز الحار .. كنت كلما التقيها اشم جسدها لازلت اتذكر تلك الرائحة سألتها لاكثر من مرة عن سر هذه الرائحة لكنها لم تعطيني اي جواب مقنع تصورت في الباديه انها تستخدم عطرا ما لكنني مع الايام اكتشفت ان رائحة جسدها مثل رائحة الخبز الحار ، استمر زواجنا لاكثر من سنة بعدها افترقنا بسبب ظروفي..خاصة بعد تركي للعمل..لم اراها بعدها لكني الى الان دائما عندما اشتاق لها ولرائحة جسدها اشم رغيف خبز حار .. احيانا اتوقف عند اي مخبز واطلب من الخباز رغيف خبز للتو اخرجه من الفرن اشمه واتذكرها ..
كنت لا ازال صامتا انظر الى عينيه المخنوق فيهما الدمع .. ولم استطع ان انطق اي كلمة ،وفي انفي اختلطت رائحة القمح والطين رائحة جسدها .. الذي لايزال يذكره كلما شم رغيف خبز حار..

 

 

 

اذار- 2007
بغداد

 

عن احمد مطير

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *