في أنّ كل رواية سيرة
في أن كل سيرة رواية
جمانة حداد
ماذا يعني أن تكوني امرأة في بلد عربي؟
ماذا يعني أن تكوني امرأة تكتب في بلد عربي؟
ماذا يعني أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي؟
ثلاث معضلات في ثلاثة أسئلة، في رسم ملايين الضمائر النائمة؛ ثلاث صفعات تسلخ الجلد عن ثلاث كوارث إنسانية وثقافية وأخلاقية ومجتمعية وحقوقية وفكرية مخزية، لمّا تزل تنخر عظام عالمنا العربي، المهترئة أصلا، في القرن الحادي والعشرين. فأين نخبّىء وجوهنا منك، نحن المتحجّرين في تخلّفنا، أيها الزمن الراكض الى الأمام؟
***
أمّا معنى أن تكون المرأة امرأة في بلد عربي، فله حديث خاص، حديث يطول ويتشعّب، حديث تقشعّر له الأبدان، وتغلي الدماء في الرأس عند سماع بعض وقائعه وتجلياته و”فضائحه” المتواصلة، في القريب والبعيد، ولا فسحة لتناوله الآن.
أما معنى أن تكون المرأة امرأة تكتب في بلد عربي، فحدّث ولا حرج: مسلسل متقطّع من الاجحافات والتعتيمات والاستخفافات، ومن عمليات التهميش والاقصاء الممنهجة أو “البريئة”، التي قد يكون سببها الرجل، أو المرأة نفسها، أو الاثنان معا. ولا فسحة لمناقشة هذه المسألة، هي الأخرى، الآن.
ولكن،
أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي، فذلك يعني أمورا كثيرة، أوّلها: أن تحتالي قليلا وتواربي كثيرا وتستعيري من هنا وتتقنّعي من هناك. والله أعلم. ولست أعمّم.
أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي يعني، غالبا، أن تسمّي الأشياء بغير اسمائها، فيصير العشيق، مثلا، “صديقا عزيزا”، والأب المغتصب والد ابنة الجيران المسكينة، وهلمّ جرّا.
أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي، يعني ان تمارسي على نفسك رقابة ذاتية، لهي أقسى واشرس وأشدّ اعتباطية وظلما من الف رقابة “رسمية” تفرض عليك فرضا من خارج.
أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي، يعني أن تخططي طويلا وتبحثي عميقا وتحسبي بدقّة وتجازفي بذكاء وتسايري فلانا وتداري فلانة، أو، في أحسن الأحوال، أن تنتظري وفاة العناصر الرقيبة “المهدّدة”، لكي تأخذي راحتك في الكتابة. وانتبهوا، قد يكون التهديد بالحبّ، لا بالخوف أو بالخجل فحسب. والحبّ، كما تعلمون، شرّ رقيب. يحضرني هنا، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب “حكايتي شرح يطول” لحنان الشيخ، الذي روت فيه الكاتبة سيرة أمّها، بشجاعة أدبية نادرة، كشفت فيها اكثر تفاصيلها العائلية والعاطفية والجنسية والإجتماعية حميمية، ولكن بعد وفاتها. رغم ذلك، تعرّضت الشيخ، باعترافها، للكثير من اللوم والشجب والاستنكار من جانب افراد عائلتها، بسبب “الجرصة” المزعومة التي تسبّبت بها.
الخلاصة في اختصار: أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي، يعني أن تكوني مستعدّة لـ”الجرصة”. يعني أن تكوني وقحة و”قدريّة” وشجاعة. لنفكّر معا: إذا ما استثنينا بضع كاتبات يكاد لا يتجاوز عددهنّ عدد أصابع اليد الواحدة، كم من النساء العربيات كتبن سيرهنّ الذاتية بوقاحة اناييس نين، وقدرية سيمون دو بوفوار، وشجاعة مارغريت يورسنار مثلا؟ لن أستخدم في هذا الإطار صفة “الجرأة”، لأن الفرع الـ”ماتشو” من النقد في إعلامنا، جعل هذه الصفة، “مشكورا”، حكرا على الكاتبات اللواتي يكسرن تابو الجنس (هاكم الوضع بين هلالين: أن يكتب رجل عن الجنس، فهذا أمر أكثر من طبيعي، ويمرّ غالبا مرور الكرام في المراجعات النقدية. أما أن تكتب امرأة عن الجنس، فهذه “جرأة” تتطلب نقاط تعجّب، وتعليقات مستحسنة بتعال، أو مستهجنة بتخلّف: تفهمون، تاليا، سبب امتعاضي المتزايد من الكلمة).
***
في العودة الى موضوعنا: ليس سهلا، إذا، أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي. ليس سهلا أن تخلعي ثيابك قطعة قطعة أمام مجهولين. ليس سهلا أن تودعي القرّاء ماضيك وحياتك واحلامك وهواجسك واستيهاماتك و”أغلاطك” واعترافاتك. ليس سهلا أن تواجهي وحش الإحراج الاوتوبيوغرافي، وأن تثبتي القدرة على الـ”ستريبتيز” الذهني والبوح الأقصى بالذات: ذاتك في قوتها كما في ضعفها، في خيباتها كما في آمالها، في جمالها كما في قبحها، في فضائلها كما في زلاتها، وأيضا وخصوصا، في توهّجها ونبلها كما في دناءاتها.
ليس سهلا أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي. الناس يعرفون ذلك جيدا. ولذلك باتت تحوم حول كلّ رواية بقلم امرأة، تقريبا، “تهمة” السيرة الذاتية بأسماء مستعارة، وهي تهمة ذكورية بامتياز. كم من مرّة، مثلا، تحوّلت مقاطع الجنس الساخنة في رواية ما بقلم امرأة، مبرّرا للتندّر والتهويم والاحالات على حياة تلك الكاتبة الجنسية ومغامراتها؟
لا، ليس سهلا أن تكوني امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي. لا بدّ أنكم تألفون جميعا هذه الجملة التي نقرأها غالبا على الصفحة التي تمهّد لرواية ما: “شخصيات هذا العمل وأحداثه خيالية تماما، وكل تشابه مع وقائع أو اشخاص حقيقيين هو محض مصادفة”؟ بالنسبة الى المرأة الكاتبة، ليس هذا التوضيح تفصيلا ثانويا. بل هو في الغالب إعلان جوهري وحيوي، أكاد اصفه بالمصيري، تقول الكاتبة من خلاله للنقاد والقرّاء: “ابعدوا عني كأس السيرة، وكفاكم استخفافا بموهبتي وخيالي!”.
***
هذا في المبدأ. أما في التطبيق، فكم من الروايات بأقلام كاتبات- أسمعكم تتساءلون- هي في الحقيقة سير ذاتية بأسماء شخصيات مستعارة؟
وأجيب: ما همّكم؟
وتسألون أيضا: كم من السير، هي في الواقع روايات تخييلية؟
ومجددا أجيب: ما همّكم؟
ألا تتحرّك كل “أنا”، اصلا، في منطقة الالتباس والشك والاحتمال؟ أوليست الصورة التي تعكسها لنا مرآة الرأس عن انفسنا صورة ذاتية حكما؟ أوليست كل “أنا” تخييلية ومخترعة الى حد كبير؟ ألم يكن دون كيشوت أنا ثرفانتس البديلة؟ ألم يعلن فلوبير: “مدام بوفاري هي أنا”؟ ألم يصرّح كونديرا مرارا بأنّ شخصياته هي “أنواته التجريبية”؟
تاليا، هل ثمة حقا رواية مضمونها مئة في المئة تخييلي، متحرر من كل احالة ذاتية، وإن تفصيلية؟ وهل ثمة سيرة ذاتية مضمونها مئة في المئة حقيقي، منزّه من كل إضافات مقصودة أو لاطوعية؟ وهل يستطيع الكاتب أو الكاتبة، حتى ولو تمتّعا بأقصى درجات حرية التعبير وشروطها الداخلية والخارجية، أن يتملّصا من أناهما الروائية التخييلية، فينقلا حقيقتها بلا تمويه ولا “تنقيحات”؟
***
ماذا يعني أن تكون المرأة امرأة تكتب سيرتها في بلد عربي؟
أكرّر: يعني، غالبا، أن تحتال قليلا وتوارب كثيرا وتستعير من هنا وتتقنّع من هناك. الى آخره…
ولكن، ألم تقل إلسا مورانتي: “أن نتذكّر يعني في الحقيقة أن نخترع”؟
من البديهي إذا أن تكون “أنا” السيرة “ملوّثة” بأكاذيب الخيال وتحريفاته وخدعه ومونتاجاته.
أو، حريّ بي ان اقول: من حسن حظنا، نحن الكاتبات العربيات، أن تكون الحال هي هذه.
فربّ ضارّة نافعة. حتى إشعار آخر.