الرئيسية / نصوص / جمانة حداد في ديوانها عودة ليليت

جمانة حداد في ديوانها عودة ليليت

جمانة حداد في ديوانها “عودة ليليت”

أسطورة الأنثى العصية على الوصول

عابد اسماعيل

 

 

 

تكتب الشاعرة اللبنانية جمانة حداد القصيدة الحسّية، المكتنزة بتوترات الرغبة، الذاهبة بثقة إلى المكبوت والمنسي في التاريخ والثقافة. وهي قصيدة لا تخشى البتة مواجهة تاريخ الجسد، معرفياً ومجازياً، عبر استنطاق خطابه، وفكّ رموزه وطلاسمه. في مجموعتها “عودة ليليت”، الصادرة عن دار النهار، ثمة محاولة جريئة، وجديدة، للحفر في الذاكرة الأنثوية والتأريخ للعلاقة الملتبسة، عاطفياً، بين الرجل والمرأة، عبر اللجوء إلى الأسطورة، وتتبع مسار ميثولوجي يبدأ بالملاحم القديمة، مروراً بالكتب المقدسة، وينتهي، مؤقتاً، بنظريات علم النفس الحديث. وهذا يفسّر كثرة الإحالات، وتشابك التقنيات الأسلوبية في بناء نصها الشعري. ويبدو أن التنوع في طبقات القصيدة، وتدرّجه من الوجداني إلى الفكري، قد استتبع تنوعاً مماثلاً في البنى التعبيرية والدلالية. فالديوان يتمحور برمته حول أسطورة المرأة ليليت في أبعادها الفكرية والرمزية والتاريخية. وليليت هذه تحضر، بنيوياً، في القصيدة وفق نسق ثلاثي ظاهر يبدأ بالقصيدة الأولى، المرتكزة إلى تفجر غنائي ووجداني، حيث تلعب الأنا دوراً محورياً، ثمّ تمرّ بالمشهد الدرامي الذي يعتمد الحوار بين أصوات عدّة، وتنتهي بالنص المفتوح، أو المؤجلّ، الذي ينداح في امتداد أفقي وعمودي، من دون ضوابط دلالية أو شكلية. وفي عودة ليليت، يرتدي الصوت الشعري أقنعةً أنثوية متعددةً، ففي القصيدة الغنائية نسمع نشيد سالومي، وفي المشهد الدرامي نسمع نشيد نفرتيتي، وفي النصّ السردي نسمع نشيد بلقيس. هذه الأناشيد الثلاثة تتآلف وتتعانق، لتصنع صورة ليليت المتحولة، المتبدّلة، التي تتجلى أيضاً في شخصيات أنثوية أخرى مثل المجدلية وإيزيس وجيلو وعشتار وكليوباترا، والجنيات السبع، وغيرهنّ. كأن الشاعرة تريد أن تجمع صوراً متباعدة ثقافياً، لكنها متواترة ميثولوجياً، وتصهرها في بوتقة واحدة، مشكّلةً صورة ليليت الأخيرة، الكثيرة والمتعدّدة: “حارسةُ البئر أنا وملتقى الأضداد” ص (28).

في هذا النص المركب، القائم على مستويات عدة من الخطاب، تتجاور نماذج تعبيرية غنية، حيث يتكاتف السرد مع الوصف، والمنولوغ مع الديالوغ، والابتهال مع الصلاة، والغناء مع الرثاء، والمديح مع الهجاء، لتتسع حدقة الرؤيا الشعرية وتتشعّب، في وصف الحدث المتخيل، وتفكيك عناصره المجازية، ورصد رحلة المرأة المتمرّدة، ليليت، أثناء عودتها من أرض الظلال، واستحضار قصص دفينة، غائرة في الزمن، تدور حول فعل التجاوز والتخطي، وإطلاق سراح الرغبة الكامنة. ومنذ البداية، تقيم جمانة حداد أكثر من ثنائية، وتتعمّد توسيع الهوة بين الأضداد، إذ يتجاور الحسّي مع الصوفي، والوثني مع الإيماني، مثلما يتجاور صوت الأنثى ليليت مع أصوات نقائضها، التي تأتلف وتختلف في آن. وإذا كانت نضارة اللغة الشعرية، التي تصل أحياناً حدّ الغلو البلاغي، غير خافية في تشكيل العبارة الشعرية، فإن الشاعرة تعرف كيف تتدبّر أمر التقطيع والتوليف والمونتاج، وتبتكر مناخات تتسم بالتجريب العالي، في مستوى رصف الكلمات فوق الصفحة البيضاء، وفقاً لهندسة دلالية مدروسة، واعتماد الفراغ بين السطور، كجزء لا يتجزأ من المعنى العام، وإخفاء علامات الترقيم، وتقديم وتأخير الفعل أو الاسم أو الظرف، كأنما في رغبة للبحث عن التلقائية والتفجّر والانطلاق، واستخدام الصور الموشورية، ذات المرايا الكثيرة، التي ما تفتأ تعود إلى نفسها في شكل عبارات متقابلة، أو جمل تكتب نفسها بطرق وأشكال مختلفة.

أما من هي ليليت، ولماذا تعود من منفاها، فالشاعرة تجيب بأن تستهل ديوانها بجملة معلّقة  في شكل إهداء تقول: “إلى النساء السبع اللواتي يُقمن فيّ” ص (7)، وهذا يجعل اسمَ ليليت أكثر إشكاليةً، بصفته حاضناً لدلالات كثيرة، حيث جاء ذكره في الميثولوجيات السومرية والبابلية والكنعانية والآشورية، كما في العهدين القديم والجديد. وجميع هذه المصادر تتفق على أن ليليت هي حواء الأولى، أو المرأة التي خلقها الرب من التراب على غرار آدم. ويكمن سرّها في تمرّدها على آدم نفسه، ورفضها، بالتالي، الخضوع للرجل: “روّضوني لأتروّض فلم أُروّض” ص (12). تسأم ليليت سكنها في الفردوس الأعلى، وتتمرّد وتهرب وترفض العودة. وبسبب تمرّدها، نفاها الربّ إلى “ظلال الأرض المقفرة”، واستبدَلَها بحواء الثانية، التي خُلِقت من ضلع آدم. وفي الوقت الذي تعترف فيه حواء الثانية بأنها أقل شأناً من الرجل وتقبل الخضوع له، تعتبر ليليت نفسها أعلى شأناً، وتنأى بنفسها عن سلطته. وما هروبها من الفردوس سوى فعل رفض للعنة السقوط، التي طالت لاحقاً كلاً من آدم وحواء. في قصيدتي (مبتدأ أول) و(مبتدأ ثاني)، اللتان تفتتحان الأقسام الثلاثة المحورية في الديوان، تبدأ الشاعرة بفكّ خيوط اللغز، عبر سرد شعري مكثف لأسطورة ليليت، والإشارة إلى أصلها ومولدها وسيرتها ومزاجها، رمزها ومعناها، ونقائضها الكثيرة: “أجمعُ ما لا يُجمَعُ في كأس وأشربه لأنني الكاهنةُ والهيكل” ص (24).

في القصيدة المعنونة (نشيد سالومي ابنة ليليت)، من القسم الأول، يهيمنُ ضمير المتكلم الشخصي على السّرد، وينطلق صوت ليليت متمرّداً، داعياً للتحرّر من المكبوت: “أنا ليليت العائدة من سجن النسيان الأبيض … أتجامعُ وأتكاثرُ بذاتي” ص (24). هنا يحضر النص كجسد من كلمات، يتقلّب ويتضوّر ويصرخ، يتبعهُ نص آخر، مكون من الكلمات نفسها تقريباً، لكن بمعاني وإحالات مختلفة: “عائدة من سجن النسيان الأبيض … لأطوق الحياة ويزداد العدد” ص (25). وإذا كانت الدفقة الوجدانية، ذات الترنيم العاطفي، هي المسيطرة على هذا القسم من الديوان، فإن الشاعرة تضع أنوثةَ ليليت تحت ضوء قاسٍ، وتكشف عن لا واعي أكثر جوانيةً وشفافيةً: “الأحلامُ كلّها مكشوفة لي/ أنا ضميرُ النوم الخفيف/ ألبسُ حلماً وأخلعُ ..” ص (35). وجدير بالذكر أنّ أغنية سالومي، هنا، تحيل إلى الكتاب المقدس، وتحديداً كتاب (ماثيو 6-14)، الذي يسرد قصّتها، رغم أنه لا يذكرها بالاسم، وهي أميرة يهودية من القرن الأول الميلادي، طالبت برأس يوحنا المعمدان مقابل تأديتها لرقصةٍ أمام الملك هيرود.

في قصيدة (نشيد نفرتيتي ابنة ليليت)، من القسم الثاني، وعلى نقيض القسم الأول، تعتمد الشاعرة حداد تقنية التوزيع المسرحي، وهذا يجعلها تقصي ضمير المتكلم نهائياً، وتستبدله بضمير الغائب: “لقد جاءت الجميلةُ/ ريقُ الشمسِ يبلّل ثغرها/ والنجومُ تجلو جبينها.” ص (69). ولعل إدخال بعض تقنيات مسرح العبث، وتوظيف الصمت أو السكون في حوار صوتين، وليس شخصيتين، قد جاء ليعزّز حركية المشهد الدرامي وتصاعده، كاستخدام حوار سريع لاهث، يرى صورة ليليت من زوايا مختلفة، من خلال أصوات عدة ليست سوى صوت واحد، وهؤلاء هم “العشيقُ الأبُ الابنُ الزوجُ المعلمُ الأخُ الصّديقُ” ص (70). وهذه الأصوات السبعة، تكمل بعضها بعضاً، وتتبارى فيما بينها لتكمل رسم صورة الأنثى ليليت، العصية على الاكتمال. فالحوار يأتي مخادعاً، بل هو شكل من أشكال المناجاة التي يخترقها أكثر من صوت، تذوّبها الشاعرة داخل صوتها الشعري، وتجمع شمل أصدائها في بوتقة واحدة، تجعلها تنشدُ لازمةً فلسفيةً وشعرية، تتكرّر في الصّدى المتكرّر للصوت الشعري: “الجوعُ خطيئة الشبعُ خطيئة والجمرُ أولى الوصايا …” ص (84)

في القسم الثالث والأخير، المعنون (نشيد بلقيس ابنةُ ليليت)، يعود ضمير المتكلم إلى الظهور ونشعر أنّ الشّاعرة حدّاد تضعه هذه المرة كقناع ثالث لصوت ثالث لا تريد الإفصاح عنه تماماً، لكنها تلج من خلاله إلى شبكة الرموز التي تحيط بصورة ليليت، المتوجة ملكةً من جديد: “أنا ملكةُ سبأ/ …أرسلَ الرائي هدهدَه ليخطفني/ فسبقتني إليه عطوري/ أسرَتهُ رمالي المتحرّكةَ” ص(89). لكن الصوت هنا أعلى من صوت ليليت نفسها، وهو صوت رفيع النبرة، أخلاقي التوجّه، صوت المخلص الذي ابتدع أسطورة الخلاص، لكنه الآن يندم على خلقه، ويفقد الأمل بالعدالة والحق، بالرغم من عودة ليليت المظفرة: “يئستُ من أن يدرك آدم حواء ومن أن تدرك حواء حواء ومن أن يدق الأحدبُ جرسَ الكنيسة ومن أن يفضي الطوفان الثاني إلى امتناع الفساد …” ص (92) ويتميز هذا القسم بقوة مجازية نوعية، تحشدُ فيه الشاعرة قواها الأسلوبية، متكئة على مخيلة مثقفة، قادرة على نسج شبكة من الإحالات، ووضعها في نص مكثف، يخلو من علامات الترقيم، ومن ركائز دلالية ظاهرة، ما يجعل التلقّي معضلةً حقيقيةً. وتختار الشاعرة أن تترك النهاية معلقة، مفتوحة على المجهول، حيث تختم هذا القسم، وبالتالي الديوان، بعنوان فرعي معكوس هو “تعودُ ليليت” ص (100)، الذي جاء معلّقاً في نهاية السّرد، ليؤكدّ على العنوان الرئيس “عودةُ ليليت”، كأنما في إشارة مقصودة للتحوّل من قوة الاسم إلى قوة الفعل. هنا تكتمل الدائرة بين المبتدأ والخبر، وبين المنفى الأول والثاني، أو البداية والنهاية، في رحلة ليليت من أرض الظلال إلى أرض الضوء.

ولعلّ هذه الرحلة التي تشهد عليها جمانة حداد شعرياً ليست سوى رحلة الأنا باتجاه خلاصها المتخيّل، منسوجةً بأصابع أنثى متمرّدة، عصية على القولبة، ونائية في أحلامها. ولا يخفى على القارئ مدى الجهد المبذول، شعرياً وفكرياً، خلف كتابة نصّ الرحلة، عبر إحالات كثيرة، مجازية وفكرية وأسطورية. وإذا كانت ليليت قد عادت من أرض الظلال لتمنح جسدَها لغةً جديدة، وتمنح لغتَها أفقاً جديداً، خارج سلطة الأنا المتسلّطة للتقاليد والأعراف، فإنها، لا ريب، عادت في إهاب قصيدة “أنثوية” جاذبة، تعاملت معها الشّاعرة حدّاد برهافة وأناة، وجمعت غبار معانيها من نصوص متشابكة، قديمة وحديثة، في تجسيد لافت لخصوبة المخيلة الشعرية، وطاقتها التي لا تنضب.

 

(“أخبار الأدب” – القاهرة – العدد 709 – 11 شباط 2007)

عن عابد اسماعيل

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *