الرئيسية / قصة قصيرة / الباب الكبير.

الباب الكبير.

جاء كل الأحباب إلى دارنا ، فهنأوني بالسلامة وفرحوا بقدومي وهم يسألون عن تلك البلاد البعيدة التي جئت منها هذا اليوم .

فحكيت لهم عن الثلج ، وعن الحدائق الجميلة التي تزين الساحات العامة ، وعن النوافير الملونة ، وعن قطار الأنفاق ….

وتمنيت أن يصل وأنا أحكي للشباب خفية عن البنات الجميلات الاتي طالما شاهدوهن من وراء زجاج الحافلات المكيفة أمام النزل السياحية .

ولكنه لم يأت …

وشربنا الشاي الأخضر بالنعناع . وجاء من تخلف عن الحضور عندما وصلت في أول النهار . ونصب الخوان فأكلنا الكسكسي باللحم وشربنا اللبن . وتحدث الأصدقاء عن غربتهم في بلدهم ، فلعنا الزمن الرديء الذي ما عاد يفرق بين غربة في بلاد الآخر وغربة في بلدك .

وجاء الأقارب من كل مكان ، هنأوا الوالدة بقدومي وشربوا قوارير ” الكوكاكولا ” ، وذهبوا .

ولكنه لم يأت …

وجاء المساء .

ولم يأت …

ولما يئست من قدومه ، طلبت من أمي أن تناديه . قلت لها ، سأصالحه . ربما هو غاضب لأنني نسيته وأنا هناك في تلك البلاد التي تجعل الأم تنسى وليدها ، فلم أف بوعدي ولم أبعث له بالرسائل التي وعدته بها .

لكنها أدارت وجهها وخرجت من الغرفة .

ولم يأت …

وانتهت السهرة ، وغادر آخر المهنئين المنزل فطلبت من أمي أن تترك الباب مفتوحا . قلت ، لعله يأتي عندما تهدأ الحركة فيعاتبني ونحن وحدنا بلا حسيب ولا رقيب .

ولكنه لم يأت …

وأغلقت أمي الباب بعدما أطفأت جهاز التلفزيون وجاءت تتمدد بجانبي فوق السرير ، فقلت لها :

– لماذا لم يات عبد الشافي لزيارتي يا أمي ، هل أنتم وإياه في خصام ؟

قالت ، بعد تردد :

– عبد الشافي مات يا ولدي …

قلت مهزوزا ، مهدودا ، مفجوعا :

– لا … أبدا …  هذا لا يمكن ، فلن يقدر على عبد الشافي حتى ملك الموت .

ردت أمي على احتجاجي الكافر وهي تربت على كتفي :

– لا يا ولدي لا تعد لمثل هذا الكلام ، فتلك حكمة الرب ولا احتجاج على إرادة الله …

ثم أخذت رأسي في حضنها وانخرطنا في بكاء مرير .

بعد مدة مسحت دموعها وهمهمت :

– مات عبد الشافي . قتله ابن عمه يا ولدي …

قلت في استغراب :

– ابن عمه ؟

قالت وابتسامة صفراء مرسومة فوق شفتيها :

– نعم … قتله عندما حكى له عن المستشفى .

كان كلما لقيه في الغابة أو في المنزل أو في الشارع إلا وحكى له عن ” الخبز ” المكدس هناك .

قال له إنه كان ينام فوق سرير دي شراشف بيضاء نظيفة ، وإنه كان يأكل كل صباح الخبز والزبدة والمعجون وبيضة ، وإن قطع اللحم في صحون الغداء والعشاء كانت أكبر من جمع اليد .

وحكى له عن أكداس صناديق البسكويت التي كان الزوار يحملونها له ، وعن ” السجاير ” التي ما عاد يعرف ماذا يفعل بها ، وعن الممرضات الجميلات اللاتي كن يبتسمن  وهن يبدلن له الضمائد أو يفرشن له الملاحف ، أو يخزنه بالحقن .

كان يقول :

– آخ يا عبد الشافي ، إن الإبر من أيديهن أحلى من طعم العسل .

فصار عبد الشافي يرد على من يكلمه أو يسلم عليه بحنق وغضب . و كان غضبه يزداد أكثر إذا تمنى له محدثه الصحة والعافية .

– كيف أنت يا عبد الشافي ظ

– لست مريضا .

– لا أراك الرب مرضا يا أخي . الصحة كنز الفقراء .

– أنا أحب المرض يا صاحبي . أنا ارغب في النوم في المستشفى .

– اسعد فألك يا رجل . مالك والمستشفى ؟

– أريد النوم فوق سرير وأكل الخبز و الزبدة كل يوم .

– وهل يوجد ما ذكرت في المستشفيات ؟

– يوجد مثله ، وأكثر . جرب وسترى .

– معاذ الله يا أخي .

– أما أنا ، فإنني أتمنى الساعة التي ألج فيها أبواب المستشفى .

هكذا كان يحدث أصحابه . إلى أن كان يوم من أيام الشتاء الفارط . كانت منهمكا في العمل عندما عنت له فكرة عجيبة . قال :

لماذا لا أشج رجلي بالمسحاة فأحدث بها جرحا . وهكذا أجد الباب الكبير ، باب المستشفى مفتوحا في وجهي .

وضرب رجله بالآلة الحديدية الحادة ، فشجها شجا عميقا

سال منه دم غزير استبشر له عبد الشافي وفرح به .

كان كلما رفع رجله سال دم غزير على الأرض ، فقص خرقة ربط بها الجرح وذهب إلى المستشفى .

عندما وصل إلى قاعة العلاج كان الطبيب المداوم على وشك المغادرة فاستوقفته ممرضة وترجت معاينة رجل عبد الشافي .

– ما بك يا رجل ؟

– رجلي سيدي الطبيب …

– ما بها رجلك ؟

– ضربتني المسحاة ، فصارت كما ترى …

كانت بقعة كبيرة من الدم قد تجمعت تحت رجله . وكان قلبه يرتجف وركبتاه تصطكان .

لا بأس عليك يا رجل . أنت أقوى من جمل .

قالها الطبيب ولم ينزع عن الجرح الخرقة ليرى ما تحتها ثم نادى :

يا محمود ، أغسل لهذا الرجل جرحه وضع عليه ضمادة وتحرك الطبيب نحو الباب .

لحظتها فقط أفاق عبد الشافي من بهتته ، فجرى وراء الطبيب ودمه يلطخ جليز الممشى .

– إذن ، لن أنام في المستشفى يا سيدي ؟

فزجره الطبيب :

– وهل ينام في المستشفى كل من به جرح يا رجل ؟

وذهب ، ولم يلتفت للكلام الكثير والسباب القبيح الذي أطلقه عبد الشافي وراءه .

وجاء الممرض ، فغسل له جرحه ووضع عليه ضمادة ودعاه إلى مغادرة المكان .

خرج عبد الشافي إلى الشارع يجر رجله جرا .

لماذا أيها الطبيب تحرمني من النوم في غرف المستشفى النظيفة ؟

أنا لا أريدك أن تغسل الجرح . ولا أن تداويه وتضع عليه الضمادات النظيفة ، فالخرقة وحدها تكفي .

الخرقة مع اللحم والزبدة والخبز السخن وأكداس صناديق البسكويت وعلب السجائر والسرير العالي وإبر الممرضات الجميلات ، تكفي لشفاء هذا الجرح .

لماذا شججت رجلي بالمسحاة أيها الطبيب ؟

لماذا تركت كل هذا الدم يسيل ؟

لماذا يفغر هذا الجرح فاه كفاه الكلب ؟

قل لي أيها الطبيب الكلب ، لماذا كدت أقسم رجلي إذا كنت ستمنعني من النوم على سرير المستشفى ؟

كان عبد الشافي يهذي في الشاعر وفي البيت ….

وكان الجرح يتعفن … ، إلى أن تخشب جسمه فما عاد في مقدوره الأكل والكلام …

وجاءت سيارة الإسعاف …

لكن الرجل مات أمام الباب الكبير .

باب المستشفى .

dargouthibahi@yahoo.fr

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *