الرئيسية / قصة قصيرة / تصبحون على خير

تصبحون على خير

قالت لقد افتقدتك كثيرا هذا الشتاء بعد أن هطل الثلج في القرية ، ولم تقدر نار المدفأة الصغيرة على تسخين الغرف المعتادة على رياح الجنوب الحارة . إيه …، كم افتقدتك ، لما وقفنا تحت الثلج الهاطل ندفا صغيرة … كان الأولاد يجرون فوق الأرض التي أصبحت بيضاء ، وقطع الثلج تطقطق تحت أقدامهم . و كانت الفرحة تنط من عيونهم وهم يجرون و يلعبون فوق هذا البساط الأبيض اللماع … ثم جاءني الصغير بكتلة من الثلج وطلب مني أن أخبأها لك في الثلاجة حتى تعود ، فأمسكت بأصابعه الباردة ، المرتجفة في يدي ، ومسحت دمعة تجمدت فوق الخد …

ضربت على أزرار المسجل فسكت . ثم قمت فأطفأت نور الغرفة ، وتمددت على السرير .

كانت الساعة قد جاورت الثانية بعد منتصف الليل . وكنت قد أعدت الاستماع إلى هذا الشريط الذي وصلني اليوم بالبريد ، من هناك ، من عندهم ، أكثر من عشر مرات …

أكثر من عشر مرات وأنا أدق على زر المعاودة كلما سكت المسجل عن الكلام المباح ، إلى أن امتلأت بحديثهم حد التخمة . فتمددت على السرير ودعوتهم ، ودعوت النوم الذي جفاني .

جاء ” أيمن ” و،نبيل ” وجاءت ” ليلى ” إلى حضني . تركت لهم مكانا إلى جانبي فوق السرير وأنا أقول :

– هو سرير صغير ، ولكنه سيكفينا جميعا .

ومسحت على رأس ليلى ، فهرت كالجروة الصغيرة ودخلت قلبي . ووضعت يدي أتحسسهم ، فلمست وجوههم ، وسمعت دقات قلوبهم . ورأيت جبال الثلج فقلت لهم :

قوموا يا أولاد نبني رجلا كبيرا من الثلج .

فوافقوا .

نادى أيمن أمه ، ونادى أولاد الجيران . وجاء أطفال من كل الأمكنة . لست أدري كيف وصل إلى بيتنا كل هؤلاء الأطفال الذين بدأوا في تجميع الثلج إلى أن صار كدسا كبيرا ، ودعوني أن أصنع لهم رجلا عملاقا . صنعت جذع الرجل ، ثم صعدت على سلم لأصور له يديه وأكور له رأسه . وكان الأطفال يتدافعون تحتي ويمدونني بكتل الثلج الصغيرة ضاجين كالعصافير … ثم صورت له العينين والأنف والأذنين ، والشعر والشفتين . وفتحت له الفم ، فقال لي :

انزل من على السلم يا رجل .

ولما بقيت واقفا ، حرك يديه ودفعني بهما ، فوقعت على ظهري .

خاف الأطفال ، وتقهقروا خطوات إلى الوراء . لكنه تحرك نحوهم . اختطف أول طفل صادفه ، وبدأ في التهامه . أصبح فمه أوسع من فم الحوت ، ففتحه عن آخره وشرع في ابتلاع الأطفال الذين لم يقووا على الهرب .

كنت أصرخ لأحرضهم على الإفلات منه ، والجري بعيدا عنه . لكن صوتي كان يضيع قبل الوصول إلى حلقي .

وعندما التفت نحوي ، ومد يده إلى عنقي ، أفقت . وجدت الظلام يحاصرني من كل مكان ، فشغلت المسجل . جاءني صوت فيروز هادئا ، عذبا كنهر من حزن وشجن .

” يا جبل اللبعييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييد خلفك حبايبنا ” …

بعد أن أنهت فيروز أغنيتها ، سمعت رفيقة تقول في وشوشة خفيفة :

– هل يمكن يا حبيبي أن نرغم الشهور على الجري ؟ آه لو كنت أقدر لجعلت الأرض تتم دورتها في ثانية واحدة .

ثم أضافت بعد سكوت قصير :

– كم ندمت لأنني تركتك تذهب وحدك إلى هناك . فالحياة صعبة على امرأة اعتادت على الأنفاس الحارة في البيت ، ثم تلتفت فلا تجد سوى السراب .

الآن فقط عرفت لماذا تتزوج النساء اللاتي عاهدن أزواجهن على الوفاء للحب القديم إذا سرقهم الموت ، وعدم التفكير في رجل آخر مدى الحياة .

آه لو تدري كم هي صعبة الحياة بدون رجل يا … حبيبي .

وعادت إلى السكوت من جديد حتى ظننت أنها قد انتهت من بوحها ، فهممت بإخراج الشريط من المسجل . لكن صوتها الهادئ جاء هذه المرة محملا باستفسار به كثير من الخبث :

– سعيد … هل شممت عطر امرأة مذ غادرتنا ؟

فقلت في نفسي :

– يا للمرأة . حتى في هذه البلاد التي يرجم فيها الرجل رميا بالحجارة في ساحة مسجد عبد الله بن عباس عند يحلم  بشبح ابتسامة على شفاه امرأة ، تتجرأ زوجتي وتسألني هذا السؤال .

مسكينة يا زوجتي العزيزة ، فهنا يجلد الرجل حتى يسيل دمه ويذهب لحمه نتفا يطيرها الهواء لو لامست يده قميص نوم امرأة . نامي يا عزيزتي ملء جفنيك ، فقد أصبحت خصيا مذ وطأت بي عجلات الطائرة أرض الجزيرة .

وكأنها كانت تتسمع إلى نجواي ، فقالت :

– لقد سمعت عن أميرات ونساء أكابر شغلهن الشاغل اختطاف الرجال .

هل نسيت حكاية لاعب كرة القدم التونسي الذي عاد من المونديال الكروي فباعه فريقه بالملايين ليلعب في الجزيرة ، لكنه عاد في صندوق بعد أن ادعى الجماعة هناك أن صاعقة ضربته في الملعب ، فأحرقته حرقا .

حاذر يا حبيبي أن تختطفك أميرة ، وتذهب بك إلى جزر “واق الواق ” .

فرددت عليها أمازحها :

– عندها اصنعي لك أجنحة ، وتعالي عندي ، فسوف أحملك من الياقوت والزمرد والألماس ما تعجز عنه حقائب السمسونايت والكراون .

وأهملت تحذير زوجتي ، حتى كان يوم ، وكنت في ساعة صفاء ، فحكيت لصديق من أهل البلد عما بدر من زوجتي ، فضحك حتى بال على أثوابه ، ثم قال في جد لم ألحضه فيه مذ عرفته :

– ولكن يا طويل العمر ، لا ترمي بكلام زوجتك كله في الزبالة ، وإنما احتفظ ببعضه ففيه شيء من الصحة .

وضاف ، وهو يتنهد :

– لكم ضاع رجال جروا وراء ذلك النوع من الحريم

قيل في شأنهم يا سيدي كلام كثير .

قيل مثلا إن الواحدة منهن تقتل عشيقها مباشرة بعد أن يفرغ من عملية الحب بالضرب بالقبقاب على أم رأسه .

وقيل أنهن يغرقن الصاحب في ” بانيو ” خمر .

أو يتسلين بشنقه في حديقة المنزل الخلفية بواسطة حبل يعلق على غصن شجرة ، ثم يمارسن الجنس مع العبد الذي قتله تحت تلك الشجرة .

فهنا يا سيدي أعطت رمال الصحراء للرجال مالا لا يقدر على عده قارون ، فتهتك الرجال وشبعوا مجونا وفجورا . وتركوا نساءهم لسائق السيارة البنغالي أو التارزي الهندي وبما أن الجميع يخاف الفضيحة فإنهم يخنقون أخبارها بيد من فولاذ .

ألم تسمع يا سيدي بالعناكب التي تأكل ذكورها بعد الإخصاب ؟

*****

قال : الأولاد يبلغونك سلامهم .

قلت : بلغيهم حبي يا عزيزتي .

 

الأولاد ، أذكرهم كلما رأيت أندادا لهم في الشوارع .

هذه البنت تشبه ليلى . ضفيرتها الجميلة أحلى من المسك ، وخديها الحلوين أطيب من ورد البساتين .

وهذا الولد ، يشبه أيمن . في عينيه شراسة الذئاب ، وفي جبينه شمس الأماسي الدافئة .

تعال يا أيمن ، وأنحني أقبله . ولا أفيق إلا على الطفل وهو يسألني بعينيه مستغربا صنيعي …

فأقول له : عفوك يا ولدي . لقد ظننتك أيمن ابني .

فيبتسم ابتسامة خائف ، ويهرب إلى منزله مفزوعا .

وأبقى مدة في مكاني ألاحقه بنظراتي ، وأمسح دمعة أحسها تلسع خدي كجمرة كاوية .

عفوكم يا أبنائي ، فلن أبوسكم كل  ليلة وأنتم تذهبون للنوم لن أرد على مشاغباتكم الحبيبه :

– تصبح على خير عمي الغول .

– تصبح على خير يا سيسبان .

– تصبح على خير عمي الثعبان .

– تصبحين على خير يا قطوسة .

– تصبح على خير عمي الصيد .

– تصبح على خير يا نسنوس .

وأرميهم بالقبلات ، بالحب ، بالحنان ، بالاطمئنان و بالأمل

قبل أن يناموا . وتقوم رفيقة ، فتضع فوق أجسامهم الطرية الفرش ، وتطفئ النور .وتقول لهم :

تصبحون على خير يا أولاد .

فيردون عليها :

تصبحين على خير يا عمتي الغولة

عوفكم يا أحبتي ، فها أنا بعيييييييييييييييييييييييييييييييييييييييد عنكم . أبيع عقلي بالقليل لأشتري لكم سعادة تسع الدنيا وما فيها .

سأشتري لك يا ليلى دميتك .

زرت اليوم متاجر كثيرة ، فوجدت دمى غريبة . دمى تغمز وتتكلم تقول  : أنا من كوريا ، لمن يلمسها . وغيرها تغني وتصفق وترقص رقصات هندية . وأخرى تشبهك يا ليلى .لها عينان سوداوان كالليل ، وشعر قصير وأنفك الأفطس . وضعتها فوق سريري ، وصرت كلما دخلت البيت سلمت عليها ، وحكيت لها عنك حتى صارت تعرفك وتعرف كل حكاياتك الصغيرة .

وعندما أغمض عيني لأنام ، أسمعها تقول :

– تصبح على خير يا عمي الغول .

فأرد على تحيتها :

– تصبحين على خير يا نسنوسة .

وأنت يا نبيل  ، سآتيك بالقطار maide in Japan  ،

فهنا يا ولدي اليابان حاضر في كل مكان من جليز المرحاض حتى غطاء الفراش ، ومن قطارك اللعبة حتى سيارة الكراون . انظر، مليا سترى داخل القاطرة رجلا صغيرا ، أصفر اللون بعينين صغيرتين حادتين لا تنامان أبدا . وفمه يشرب من آبار النفط مباشرة ، ولا يشبع .

– تصبح على خير يا سيسبان

– تصبح على خير يا عمي الغول .

– وأنت يا أيمن ماذا تريد ؟

– سلامتي .

– وماذا بعد السلامة ؟

– تريد مني أن أحرق آبار النفط ؟ لماذا يا ولدي

– حتى أعود إليكم .

سأعود يا ولدي . وسأحكي لك عن آبار البترول التي تتدفق سيارات ، طائرات ، لحوم خرفان مستورد من أستراليا والأرجنتين ، ذهبا بالأطنان يتحول قلائد للمومسات ، عمارات للنياكة مع غلمان الدنيا كلها ، حريرا هنديا ، ساعات سويسرية ، صفقات مشبوهة للرقيق الأبيض ، طيارات حربية خردة ، فيديوهات لا تصلح إلا لعرض أفلام السيكس ، بنادق تطلق للخلف ، كذبا ، وعودا بالنصر المؤزر الذي وعد به الله عباده ، كلاما عن القدس ، عن عروس المدائن ، عن البراق والإسراء والمعراج ، عن زناة الليل الذين صاروا يتفخذون نساءنا الثيبات فوق فرش الزوجية ويفتضون بكارات الصبايا ، والدم يسيل ، ولا من رأى ، ولا من سمع .

وتفففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففففوه …

على المليح قبل القبيح .

وتصبح على خير يا حبيبي .

وأنت يا رفيقة ، سأحمل لك قلادة من الذهب الخالص تزن قنطارا ونصف القنطار .

– أريدك أنت .

– وسيرة مرسديس بنز .

– أريدك أنت .

– ومنزلا فخما كمنازل سلاطين القسطنطينية .

– أريدك أنت .

وأصبحت أتقن كي القمصان ، وتحضير السلائط ، وطبخ الماكارونا بالطماطم ، وغسيل الثياب والملاعق والصحون

وصرت سيد الكذابين وزعيم المنافقين :

– صباح الخير يا أستاذ .

– صباح الخير يا طويل العمر .

– كيف ترى بلادنا أنت القادم من أوروبا ؟

– سيدي ، أنا لست أوروبيا وإن كنت كالإفرنج .

– ما قصدت ، فقد أردت أن أقول لك أنك كالفرنجة في زيهم على الأقل . ولكن اتركنا من هذا اللغط ولنعد إلى الحديث عن بلادنا . كيف تراها ؟

– هي أحلى من الجنة يا طويل العمر .

وأنسى العرق ، وشمس خط الاستواء ، ومرض الديزنطاريا ، وراتب ” طويل العمر ” الذي يفوق راتبي بأربع مرات ، وساعات عملي التي تفوق ساعات عمله بأربع مرات ، والازدراء الذي ينظر به الأهالي إلى لهجتي التونسية التي يقولون إنها كنباح الكلاب ، و ” كيف حالك طال عمرك ” التي أقولها كل صباح وأنا أوقع في دفتر الدوام ، وكؤوس الشاي الأحمر التي أشربها حتى أسكر ، وأكداس الأرز التي ترمى في طريقي ، وأطفال السودان الجوعى ينظرون إلينا من خلال بلور التلفزيون بعيون ملآى بالذباب الأخضر ، والجوع الأحمر ، والغضب الكافر ، وصاحبي يربت على بطنه ويصفق لهدف سجله مارادونا ، ويرقص للهدف الجميل ، ومذيع التلفزيون يحكي بصوت محايد عن تنفيذ حكم القص في يد سارق بنغالي ، وأطفال السودان يبكون ، الجوع الكافر ، خرج لنا الأطفال عبر شاشة التلفزيون وتحلقوا حولنا ، طردوا الذباب من على عيونهم فوقع فوق أرز ” الكبسة ” بخروفها المحشي جوزا ولوزا ومكسرات أخرى ، تجبر الذباب وتعملق حتى صار في حجم بني آدم ، تصوروا ذبابا برؤوس آدمية ، ذباب جالس على مؤخراته ويأكل من أرز ” الكبسة ” السلطانية .

– وكيف حالك يا طويل العمر ؟

– أكل الذباب الكبسة ، وسنجوع بقية العمر يا مغربي .

 

*****

عندما أدرت الشريط على وجهه الثاني ، غنت لي هيام يونس :

” طارت الطيارة * والحبايب طاروا

         بعدت الطيارة   * ومبعرف وين صاروا

وأنا أقول لك صرنا هنا ، يا أم العيون الكحيلة . على اليمين عرق رمل أكبر من جبل عرباط ، وعلى اليسار عرق رمل أعلى من نخلة والي الباي ، ومن الشرق رمل ، ومن الغرب رمل وحشرات سامة ، عقارب وأفاعي وهوام أخرى . وأنا وحدي في البت . وأساتذة المدرسة التي أعمل فيها عادوا إلى منازلهم ، إلى الحضن الدافىء ، والطعام الدافئ ، والسرير الذي يئز صبحا مساء .

وأنا وحدي .

يا وحدي .

ومديرنا له أربع نساء في البيت ، ويذهب في كل عطلة إلى كل أصقاع الدنيا . ينام مع المومسات ، ويسكر . يشرب الويسكي والعرق والفودكا وسيدي رايس و يدخن الحشيش والمارخوانا وينف ويلحس ما بين الفخذين ، ويبكي فوق النهود الطرية ، ووووووووووووووووووه ، يقول لي ، هل ذقت من نهود بنات عشر وثلاث يا مسكين ، ويصلي بنا في مسجد المدرسة الصلوات حاضرا ، ويذهب يوم الجمعة إلى المسجد الجامع ، ويدفع لقحاب أوروبا والفلبين وتايلندة وأثيوبيا شيكات بمئات الدولارات ، ويسرق من نصيبنا من ساعات التدارك التي يشارك فيها الأساتذة المتعاقدين فقط ، ويقرأ أخبار السلف الصالح ، ويعضنا بمناسبة وبدون مناسبة ، ويقول عنا نحن سكان شمل إفريقيا أننا بربر متفرنسون ، وأننا لا نحسن مخارج حروف العربية ، فأسبه في داخلي وأسب مخارجه ، فينظر في عيني وقد لسعه السب وهو يحرك حبات السبحة في يده ويسألني عن منتجعات مدينة ” الحمامات ” السياحية ، ويكثر من الأسئلة عن شواطئ العراة ، ويمني نفسه بزيارة هذه الشواطئ في العطلة القادمة ، ويمسد لحيته ويقول :

في تايلندة يمكنك شراء بنت بثمن دجاجة .

ويتلفن للخطوط الجوية لحجز مكان في الطائرة الذاهبة لأديس أبابا ، فقد اشتهرت نساء تلك البلدة في هذه الأيام وكثر الإقبال عليهن لجمالهن الفتان ولزهد ثمنهن .

ثم يقوم ، فيؤمنا في صلاة العصر ، ويقول عمن لا يصلي ( وهو ينظر باتجاهي ) بأنه كافر بإجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين .

*****

قالت رفيقة إنها تعد الأيام ، فقلت لها وأنا أعد الثواني .

فآه ، ثم آه يا بلدي . كم تصبح عزيزا عندما ينأى بنا السفر أراك في مثل وردة حمراء .

وردة أدسها في قلبي لترتوي من دمي .

وردة تكبر حتى تصبح في حجم الشمس .

فأقطف منها باقات على عد الأطفال القاصدين المدارس .

والعمال الذاهبين للمصانع .

أو الخارجين من الورشات .

أو الداخلين في جوف الأرض .

والنساء العاملات في حقول القمح .

والخادمات في منازل المرفهين .

أقطف من الشمس ورودا يفوح شذاها ، فيغطي على رائحة عرقهم وعرقهن الممزوج بالتراب والدخان والصديد والجوع والتعب ، وكلام الأسياد الجارح .

أعطي ورود الشمس للنساء في البيوت ، يستيقظن مع طلوع الشمس ، يحضرن الفطور للزوج ، ويغسلن الثياب ، ويرضعن الأطفال ، ويبكين الأموات ، ويزغردن في أفراح الأحباب ، ويمارسن الحب كارهات أو راغبات ، وينجبن البنين والبنات ، ويحلمن بالكسرة الهنية ، وبالبعل يعود سالما من العمل ، وبالولد ينجح في مدرسته ، وبأيام بيضاء

وبالسماء تمطرهن خيرا عميما .

*****

قالت : هذا كل ما عندي حكيته لك كما طلبت في الشريط السابق ( مع العلم أنني بعدما أطفئ أنوار البيت ، أضع الكاسات التي بعثت بها في الأسبوع الفارط في المسجل ، وأقضي الساعات الطوال في الاستماع إليك حتى يخيل إلي في بعض الأحيان أنك بجانبي ، فأطلب منك وأنا بين اليقظة والنوم أن تحمل لي كأس ماء أو تتفد الأولاد أو تطفئ النوء التي تركته مشتعلا في المطبخ .

قلت : مع السلامة . أنا في انتظار الشريط الذي سبعثين به من الآن . لا تنسي الأولاد ، اتركيهم يتكلمون على راحتهم ثم سلمي لي على أشجار الحديقة وعلى أزهارها وعلى كلبنا وعلى أحجار الشارع …

ثم صرخت :

– تصبحين على خير يا عمتي الغولة .

فجاءني من بعيد صدى أصوات صغيرة بدأت خافتة ، ثم صارت تشتد إلى أن أصبحت أقوى من دوي الرعد :

– تصبح على خير يا عمي الغول .

وضعت إصبعي في أذني وجاريتهم في الصراخ :

– تصبحون على خير يا أولاد .

ثم خرجت من البيت .

وقفت في وسط الشارع وكورت يدي أمام فمي وصحت :

– تصبحون على خير يا أولاد .

تصبحون على خييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييرررر.

وعدت أردد هذا الصراخ مرة كل دقيقة .

اشتعلت الأضواء في العمارات التي على يميني والتي على يساري .

واشتعل القمر في السماء .

ورأيت من بعيد سيارة سوداء … كانت أضواؤها الحمراء تشتعل وتنطفئ .

وكنت أصرخ وسط الشارع :

– تصبحون على خيييييييييييييييييييييير يا أولاددددددددددد …

 

dargouthibahi@yahoo.fr

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *