تسعى هذهِ القراءة إلى معاينة القصة القصيرة جداً (سنين من الأزمان) للقاصة شهد الرفاعي في قراءة مستفيضة ومعاينة دقيقة للقصة القصيرة جداً بوصفها تجربة مميزة في حق السرد القصصي الحديث, لاسيما وأن تجربة القاصة شهد مولود الرفاعي– على الرغم من قلتها– قد تميزت بجنوحها نحو هذا الفن القصصي كثيراً, فقد طغى عليه الطابع الحزين المفعم بالحنين إلى الماضي الجميل والطفولة البريئة الذي تميل إليه القاصة.
في النص السردي لا يمكن بأي حال من الأحوال التغافل عن أي عنصر من عناصر بنائهِ السردي المشكل للّحمة السردية في القصة, هذهِ العناصر التي تأتي متلاحمة فيما بينها ومتفاعلة لا غنى لعنصر عن آخر(1).
والزمن عنصر جوهري في البناية السردية لقصة (سنين من الأزمان) للقاصة شهد مولود الرفاعي, حيث كان الزمن في هذهِ القصة مأخوذاً من الحياة ومعبراً عنها إن صح التعبير, وبتعبير أدق أن هذهِ الصورة جسدت معانيها في زمن خاص بها, فالأحداث تعيش زمنها الخاص, والشخصيات مارست فعلها السردي في ذلك الزمن, ولابد من الإشارة إلى أن عنصر المكان من أهم العناصر التي ارتبطت بالزمن, على النحو الذي يتجلى الزمن في كل مرافق التشكيل السردي من أول فعالية يتحرك فيها أي عنصر من عناصر السرد وحتى آخر فعالية في هذا السبيل.
تقول الراوية:
((كنا نعيش أجمل اللحظات لسنوات طويلة… كنت أصغر منه سناً بست سنوات… كان شفوفاً جداً وغيوراً))(2). (ورد في النص خطأ لغوي وهو كلمة (شفوف وغيور) وتصبح (شفوفاً وغيوراً) لأنها تقع خبر كان ويكون منصوباً بالفتحة لأنه مفرد).
إن اعتماد الترتيب الزمني يشير إلى خاصية توافر نظام تلقائي في التجسيد الزمني, فالترتيب هو خط المسار السردي الظاهر داخل سياقات النص القصصي(3).
أمّا الزمن في هذهِ القصة فهو زمن استرجاعي, فقد مّثل نقطة عودة إلى أحداث تمت في الماضي.
تقول الراوية:
((أكاد والله أنسى أني بعيدة عنه هذا البعد كلهُ, بعداً تتزاحم به كلماتي, مسافات ومسافات يؤدي إليه شعوري, أجلس ساعات لوحدي فنقش ذكراه ينحت تفكيري))(1).
هي سابقة على زمن السرد لهذهِ القصة وبدأت تستذكرها وتستعيدها من خلال استحضار حبهُ الشفوف عليها وغِيْرَتَهُ عليها وحرصه الشديد, فاستمر سياق الاستحضار هنا (الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب), يعني أن يتوقف الراوي عن متابعة الأحداث الواقعة في حاضر السرد, ليعود إلى الوراء مسترجعاً ذكريات الأحداث والشخصيات الواقعة قبل الرواية(2).
إن أهم ما اتسمت به أحداث هذهِ القصة هو تناثرها بين تضاعيف السرد, أي بمعنى أنها لا تشكل مقاطع سردية مستقلة بنفسها, بل بدت جزءاً من تلك الحركة.
لقد استدرجت القاصة في هذهِ القصة العديد من الاستذكارات, فالبعض منها استذكارات بعيدة المدى قد تعود إلى أيام طفولتها, والبعض الآخر قريبة المدى وعلى التماس من حياتها السردية.
على الرغم من أن الراوية لم تشر صراحة إلى تواريخ الأحداث, إلا أنها حددت الأحداث الدالة عليها في سياقاتها الزمنية الاشارية, فالراوية عملت على اشتغال آلية الذاكرة واستعادة الماضي الذي سبق الحدث القصصي والذي أرادت التعبير عنه.
تقول الراوية:
((أيذكر سنين طويلة ونحن نغدو سعادة بأجمل طيات الساعات لم أنسَ ولن أنسَ حنانهُ الذي أهجسهُ كلما أغمضت عيني…))(3). (ورد في النص خطأ لغوي وهو كلمة (سنون) وتصبح (سنين) لأنها مفعول بهِ منصوب وتعرب نصباً بالياء لأنها من الأسماء الملحقة بجمع المذكر).
ليتم هذا الاستذكار عبر سرد موضوعي باستخدام ضمير الغائب, ويأتي من تضاعيف السرد, فالراوية من خلال سردها تحاول التعبير عن معاناتها وحنينها إلى أيام الطفولة وإلى تلك
الأيام الجميلة التي كانت قائمة تجمعهم المحبة والمودة والأخوة, فالفعل كان (حبهُ) عمل على استدراج الأحداث, ومثل هذا الفعل يعد ركيزة أساسية في ضخ آلية الذاكرة وحصرها في منطقة الاسترجاع الحساسة, التي تعود عادةً إلى مناطق ذاكرة ساخنة(1).
تقول الراوية:
((رسم الماضي من حبه صورته في نفسي رغم البعد… أسرب سطوري من خيوط الثلج وأراهُ, فهو أقرب إلي ممن هو أقرب إلي وأشعر بالوحدة وأذكر الزمن الذي يومه ساعة))(2).
اعتمدت القاصة شهد على محتويات الذاكرة في انفتاح المشهد القصصي على أفق النص, فالذاكرة بطبيعة تشكيلها وخصوصية مكونها هي كائن انتقالي, فالماضي في هذهِ القصة غائب إلى أن تم استحضاره من قبل القاصة, وهذا الاستحضار الذي قامت به هو بحد ذاته اختفاء نوعي مخصوص بهذا الماضي بسلبياته وإيجابياته(3).
فالقارئ لا يستحضر ولا يدرك هذا؛ لأن الحوار كان داخلي أو ما يسمى منلوج داخلي, وقد شكل هذا الحوار– كما قلنا– شيء من الماضي الذي عاشته الشخصية الرئيسة التي تربط الماضي بالحاضر, فالماضي بفرحه وايامه لا يُنسى مع أخيها, والحاضر حيث يشكل جزءاً من أزمة عابرة قد لا يجد لنفسه أي أثر في هذهِ الحياة.
تقول الراوية:
((هناك مهما أبتعد, دائرة أنس لنفسي هو ساكنها ولكني بها أيضاً في المكان الذي فيه روحه التي تحوم حولي, سكون ظاهر كانت كلها أحاديث طويلة, وهذا قد أوشك قرص الشمس على المغيب خلف الأفق البعيد))(4).
فالزمن الاسترجاعي في هذهِ القصة قد ركزّ على الذكريات والتداعيات, وكذلك (الفلاش باك), فقد قامت القاصة بتوظيف الزمن هنا بوظائف أخرى– وكما ذكرنا– تم استدعاؤها من الماضي لتغريد الحاضر وتطوير بنية السرد, فزادت على ذلك بعد وصول قصتها إلى الذروة (عندما
قامت تخاطب الجسد في القبر) الذي هو حاضر القصة مع الروح الخارجة عنه, وتوزع السرد ما بين الاسترجاع وهو في أغلب مفاصل هذهِ القصة, وإن كانت القاصة قد ذكرت كل هذهِ الأحداث فجاءت بنهي هذا المشهد بغياب قرص الشمس وحان وقت العودة وترك المكان.
إن قصة (سنين من الأزمان) للقاصة شهد مولود الرفاعي, قصة زمنية– إذا صح التعبير–, فإذا كانت هناك قصص يمكن تسميتها بـ (القصص المكانية), فهذهِ القصة يمكن وصفها بأنها قصة زمنية, ولا يتوقف الأمر على استرجاع الزمن أو استقدامه من قبل الراوي أو الراوية؛ لتتكشف لنا مساحات من الشخصية, بل إن الزمن يتحرك ذهاباً وإياباً في تشكيل الشخصيات, فالزمن يشكل عبر سيناريو تتداخل شخوصه وتتباعد ثم تتداخل مرة أخرى مرتكزاً على عنصر من أهم عناصر الفضاء القصصي ألا وهو الزمن السردي.
والحمد لله رب العالمين….
باسل مولود يوسف سفانة شعبان الصافي
Basil.Iraq00@gmail.com Safanaalsafy@gmail.com