قدمنا في دراستنا الناقدة لهذهِ القصة (الهروب إلى الجحيم) للقاص مهند يحيى, نحسب إن هذهِ الرؤيا التي نعدها محدودة تتناول جانبين مهمين من عناصر بناء القصة وهي الحوار واللغة وقد حاولنا أن نلقي الضوء الكافي عليها, ثم قدمنا قراءتنا لمنهج يقوم على إدراك حدود نظرية الحوار واللغة المعروفة ونسأل الله التوفيق في ذلك…
الحوار القصصي: ((حديث يدور بين شخصين أو أكثر في الموضوع والأسلوب))([1]), أو هو ((تعبير لغوي بطابع الصراع الذي يحكم علاقات الناس المادية وممارستهم الاجتماعية))([2]), لإقامة تواصل بين المتحاورين ((فيتبادل الأشخاص المتحاورين مواقعهم في الإرسال والتلقي))([3]), فتقع بينهم علاقات تعضيد أو تنافر([4]), ويتم ((باختيار واعٍ للمفردات والصور والأفكار التي ترد في الحديث اليومي العادي))([5]).
فهو وسيلة يتم فيها التعبير عن ((أفكار الشخصية ورؤاها المختلفة وهي الوسيلة الكاشفة عن وعي الشخصية للعالم))([6]).
وتشير تقانة الحوار إلى ((تراجع الراوي, وكمونه خلف شخصياته لإفساح المجال للقول القصصي))([7]), فالشخصيات هي التي تتقدم لأخذ أدوارها في الحديث, عبر استخدام ناضج وواعٍ, لضمير المخاطب (أنت) في التعبير عن الآخر.
وبما أن الحوار أحد وسائل السرد فإنه يعد محفزاً حقيقياً لتنامي وتواصل الحدث القصصي فهو ((الذي يفعل الحدث ويقوده إلى مرحلة تطور جديدة))([8]), ويؤثر في كسر رتابة السرد, وإضفائه الحيوية على الحادثة, فضلاً عن إيهام القارئ بواقعية الحدث وحركية الأشخاص([9]), وبمعنى آخر ((أنه يساهم في وضع الأحداث وتطورها بشكل أو بآخر))([10]).
ولهذهِ الوسيلة مزايا كثيرة في العمل السردي فضلاً عن استعماله ((أحياناً في تطوير الحوادث واستحضار الحلقات المفقودة منها, إلا أن عمله الحقيقي في القصة هو رفع الحجب عن عواطف الشخصية وأحاسيسها المختلفة, وشعورها الباطن, تجاه الحوادث أو الشخصيات الأخرى))([11]), وذلك عن طريق البوح أو الاعتراف([12]), كما يعد وسيلة للكشف عن الطبع البشري الذي يكشف ذاته لأول مرة ويكتشفه الآخرون([13]).
تقوم على عاتق الحوار أغراض مهمة وكثيرة تصب في خدمة العمل السردي, إذ يساهم في تطوير الفكرة الرئيسة للحدث والوصول بها إلى النهاية المنشودة, ويخفف من رتابة السرد, ويريح القارئ من عناء متابعة السرد, ويبعد عنه الشعور بالملل, وفضلاً عن ذلك فإنه يضفي تلك اللمسة الحية التي تجعل القصة تبدو أكثر واقعية بنظر القارئ([14]).
ومن أهداف الحوار إيصال معلومات أساسية في العمل إذ على ((تلك المعلومات أن تنطوي على شيء من عنصر المفاجأة, فعنصر المفاجأة هذا يجب أن يصل إلى القارئ عبر الحوار))([15]), فالحوار يبلغ قيمته الفنية عندما يذهلنا, أو يفاجؤنا بتلك المعلومات, أو الحلقات المفقودة من السرد.
ثمة وسائل فنية وجمالية يتخذها القاص مهند يحيى في إنجاز سرديته القصصية تعد في هذا السياق من اللبنات الأساسية والضرورية التي تشكل العمود الفقري لنظرية السرد.
يقول الراوي: |
((أصبح من الصعب أن يدرك شيئاً.. ولكنه.. وفي اللحظة التي تسبق الاختناق, استطاع أن يميز صوته من بين حشد أصوات الانفجارات المتناثرة.. هادئاً هدوء الموت, ثائراً.. عنيفاً.. وتمطى كل شيء بعد ذلك بوجل هارب ومفزع..
لم يعد يميـز من معالم وعيه المفرغ سوى بئـر عميق يسبح فيه بلا هوادة كحصاة منبوذة، فارقتها يد لصبي ريفي مذعور ما أنفك يراود أخواتها في لعبته الطائشة…
بئـر متناثر الأبعاد, يطويه الفراغ المظلم.. ينتظر قدومه بفارغ الصبر ليغرقه في دثاره الأثيري المبهم..
بئـر لا يتنفس إلا بتموجات جسده وهو تحمل ثقل الجسم.. وكومة أحزان محمولة في سلة سندان عقله المرهق..
هذا الصمت يرعبه ويحذر شغفه للتذكر.. يبلعه ككفن مفروش.. كجراد متناسل في حقل لا متناهي..))([16]).
يقول الراوي:
|
((لم يستطع أن يرفع رأسه مرة أخرى، وبخه شقيقه الأكبر وهو يتابع في التلفاز؛ إعلان مركبة ناسا للحالمين بمكان آمن، ووعودها في توفير مستعمرة فضائية إنموذجية؛ تحل محل بلدانهم المحترقة بنيران العداءات الإثنية والمذهبية؛ وتوفر لهم فرصا لحياة افتقدوها في بلدانهم الغارقة بالسراق والمعممين.
أكنت تظن وأنت تتفاجأ برؤية اسمك متصدرا قائمة أقرانك، أنك ستكون شخصاً مرموقاً في المستقبل، وأنك ستعوض لحظات الحزن بحلم أمن في كوكب غريب عن بيتك)).
الحوار في هذهِ القصة طويل جداً, يدور بين شخصيات القصة الرئيسة (عمر, يوحنا, علي, يشوع) ([17]), تتم فيه مناقشة الكثير من الأمور حول (الهروب إلى الجحيم) وإن كانت بداية الحوار تتم عن عدم المعرفة بهوية المكان, ويتم الحوار تعبيراً عن جدال فثمة مسائل أعمق وأكثر تأثيراً في الآخر وتركت آثارها منذ الاحتلال البغيض من قِبَل الجيش الأمريكي عام 2003 على أطراف الحوار وربما وجد الأشخاص أن الوقت مناسب للكشف عنها وإن لم يكن قد تم اتخاذ قرار كهذا مسبقاً, بل إن اللقاء الذي تم مصادفة سيستمر معه حديثاً لم يكن ليفتح أبداً.
نجد هنا أن الجانب الشخصي كان طاغياً على الحوار, وقد أصر الراوي على أن يبعد ذاته من تدخلاته ومواقفه المتذبذبة أحياناً.
فترك لشخصياته حرية التعبير والجدال والسجال والمناقشة من دون أن يقحم ذاته إلا في بعض المواطن التي تستوجب ذلك لأمر يتعلق بالتقنية أو الموضوعية, وهي عبارة عن قطع سردي متعمد للكشف عن مشاعر الشخصية تجاه الآخر وما يساورها من أفكار ونيات في تلك اللحظة([18]).
يقول الراوي: |
((أنا يوحنا، القابع في العنبر 13.. يا الهي لا أريد أن أموت..
احتفظ بأعصابك يا يوحنا، فجميعنا نواجه المصير نفسه
لا أريد أن أكون هنا، بل في (دزيتا دي انتينوس) الذي وعدونا به.
ما زلنا نمتلك فرصة في أن يعثر علينا أحد.
يجب أن يعثر عليّ أحد، يجب أن أعيش، فأنا ومنذ لحظة تركي للعمل كمترجم مع قوات التحالف الصديقة والحظ العاثر يلازمني.
يا لك من عميل مسكين يا يوحنا
أخرس..
لست أنا من قال ذلك
إنه أنا علي.. يا يوحنا ألم تميّز صوتي؟!))([19]).
يقول الراوي:
|
((اخرسا كلاكما وأنظرا إلى ذلك الخيال القادم على يساركما
ما هذا يا الهي انه قادم نحوي
انه يصرخ.. لقد بدأ صوته يمزق أذني
أمسكه..!
لا أستطيع ..
أمسكه من قدمه وتسلق جسمه وحاول أن توقفه وان لم تستطع فهشم خوذته وأتركه ليسبح في تابوته اللامرئي إلى حين يبعثون.
ما هذا يا علي.. يبدو أنك لم تنس بطولاتك في قتل الناس العزل وأنت تمارس أفعالك الميليشياوية الحقيرة.. أتركه لحاله وهو سيمضي باتجاه سيل النيازك الذي حطم مركبتنا؛ وهي ستتكفل باسكاته.
إنه يوشع الصابئي
نعم أعرف ذلك))([20]).
لقد حظى السرد الخارجي لهذهِ القصة بحضور بارز وحيوي في كل أشكال السرد الذي استخدمه القاص مهند, وقد كان أنموذج قاراً احتاجه السرد وساهم بوظيفة مميزة تلقاها القارئ بشفافية عالية, وهنا تبال الأشخاص الحديث (الحديث في إطار المشهد داخل النص, بطريقة مباشرة, إذ يوجه المتكلم كلامه مباشرة إلى متلق مباشر, ويتبادلان الكلام بينهما من دون تدخل الراوي), إذن بمجرد بدء الحوار الخارجي بين شخصيتين يتحول الراوي إلى مراقب يمكنه فيما بعد (أي بعد انتهاء فاصل الحوار) أن يعلق أو يشرح أو يناقش ما حصل بين المتحاورين([21]).
ففي هذهِ القصة يكشف الحوار عن وجهة نظر ورؤية خاصة بالانتماء والارتباط بهذا الوطن.
يقول الراوي:
|
((نعم أنا معك ولكنني أفكر في حساب وجهتي يا صاحبي
وأين تعتقد وجهتك يا صديقي؟
لا أعلم، ولكنني أعتقد بأنها ستكون باتجاه الكوكب الميثاني الأحمر
هل تقصد المريخ؟
نعم.. المريخ أو مارس.. سمه ما شئت
فلترافقك السلامة إذن يا صاحبي
وأنت أين تعتقد ستكون محطتك الأخيرة؟
يبدو أنني سأتجه إلى الكوكب الذي هربنا من جحيمه..؟
هههههه، هل تقصد الأرض؟
نعم..
ولماذا أنت حزين يا صاحبي، على الأقل أنت الأوفر حظا منا، فسيضم رفاتك الرحم الذي نشأت منه؟
أنا لست حزينا لهذا..؟))([22]).
تكشف هذهِ الحوارات عن التركيبة النفسية التي يعانيها (علي) وبعض الشخصيات الأخرى والنتائج المترتبة عليها, إذ يشتغل الفضاء السردي على مستوى اتصال الشخصية مع الواقع حيث النزاعات الطائفية وحرب الطائفية وحرب العصابات التي تحصد آلافاً من القتلى([23]).
فالذات المأزومة تنسحب إلى الداخل على أثر مشاهدة مشاهد القتل والحرق والتفجيرات هنا وهناك يستجيب العقل الباطن مع العين الرائية لمتطلبات اللحظة السردية الراهنة فتشرع الذات بالتمرد, يترجم ذلك على شكل مجموعات من الأسئلة والحوارات عن مختلف الظروف, إضافة إلى ذلك الصور الرائعة التي رسمها القاص وأجاد في وصفها, وفسرتها الحوارات الرائعة المتبادلة, وفسرت في شكلها النهائي وأعلنت فيها توحد الذات الصامتة غير الناطقة مع الأداة الناطقة (اللسان) ([24]), فظهرت لنا حوارات دقيقة ومتماسكة ونهض الحوار وأجاب على جميع الأسئلة وقدمَ الأجوبة المفقودة, وهذهِ الإمكانية الجيدة للقاص خلفت تواصل أثمر عن حوار فعلي ناجح من خلال تبادل الأدوار.
وفي معاينة لغوية دقيقة للنص القصصي تبين ما يلي:
التنوع في اختيار الأساليب البلاغية الطلبية منها وغير الطلبية, بما فيها من أمر ونهي واستفهام وتمني.
استخدم أسلوب الخبر ليسرد لنا قصصاً عن ذكرياته مع جدته, فضلاً عن المركبة الفضائية التي بُنيَ عليها الحبك الدرامي أو موضوع القصة.
براعته في استخدام موضوعات النحو العربي من أحوال وصفات ونكرات ومعارف وغيرها, في موقعها الصحيح كما في قوله: ((هادئا هدوء, الحوت: ثائراً.. عنيفاً.. بوجلٍ هارب ومفزع) حيث استطاع القاص أن يعبـر بهذهِ الكلمات البسيطة الموجزة بما يحتاج جسده ويختلج صدره من مشاعر مختلفة.. ومتنوعة.. ومضطربة, في آن واحد.
في بعض الأحيان يوجز لنا القاص عن فكرة طارئة قصيرة بعبارات موجزة وواضحة تدخل إلى القلب بدون استأذان كما يقال, كما في حديثه عن: (مخالفته لأمر أخته… شنيعة جداً), وكما يقال: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ, إذ أن القاص استخدم ألفاظاً بسيطة ومفهومة لكنها احتوت معاني واضحة تعكس لنا الصورة التي أراد أن يرسمها لنا.
استعمل أو استخدم ألفاظ الاستثناء المختلفة, إذ أنه لم يعتمد على لفظ معين, فقد ذكر (سوى) في موقع معين, مثل: (سوى بئر عميق) في حين استخدم (إلاّ) في موقع آخر, نحو: (إلاّ بتموجات جسده) و(إلاّ أن كابوساً) وهكذا أمثلة في قصته.
أجاد في استخدام الكثير من موضوعات اللغة منها التصغير في قوله: (قُبيل) والتأكيد أو التوكيد في قوله: (المصير نفسه) إذ استخدم لفظ التوكيد بعد المؤكد, فضلاً عن أفعل التفضيل كما في قوله: (أنت الأوفر).
تحليله للزمن تحليلاً صحيحاً, إذ أنه عندما أراد الحديث عن زمن المستقبل كان يضع دائماً (حرف السين) في بداية الفعل, وهذا الحرف يدل في العربية على الاستقبال, نحو قوله: (ستتكفل, سيلاقيهم, سأسمح, سأتقدم, سنلاقي, ستكون, سأتجه, فسيضم, ستعوض, سأمر, سيحصل, سيعلنون) لأن القاص ينظر إلى (غدٍ) مجهول.
أثار لنا قصة أخرى عن واقع يعيشه العراقيون, في كلمات قليلة هي قوله: (نعم, لقد كنا نتسامر ونحلم ببناء عش جميل حال تخرجنا, ولكن الظروف اقتضت أن تهاجر إلى قبرص لتعرف مع من غرقوا أثناء فترة نزوحهم الأخيرة) حيث كانت بداية القصة حالمة, جميلة, إلاّ أن القاص استدرك علينا هذا المشهد بمنظار آخر وعكس لنا صورة ذلك الحلم الذي حطمه القدر. أجاد في استخدام حرف الاستدراك (لكن) ليرينا المشهد الأخير عن ذلك الحلم.
أجاد في استعمال (قد) بمعانيها, إذ انها إن استعملت مع الماضي كان معناها التحقيق وإن استعملت مع المضارع كان معناها التقليل وقد ذكر تلك الحالتين في قوله:
(قد تكون الموجة المعدنية التي مرت بقربي) | (قد سحبته معها) |
تقليل | تحقيق |
إذ إن السحب قد تم لكن المشكوك فيه هو سبب السحب, فوضع لنا أحد هذهِ الأسباب وهي الموجة المعدنية. جميل جداً.
القصة واضحة ومفهومة, أراد أن يصنع من وضع العراق لوحة فنية تحتوي كافة الألوان, التي تعبر عن أطياف وقوميات الشعب العراقي, ومعاناته التي أبَتْ أن تفارقه.
تشبيه جميل في قوله: (سيضم رفاتك الرحم الذي نشأت منه) حيث ان القاص رسم لنا لوحة الأم التي تحتضن جنينها داخل رحمها الذي يشاطره أدق وأصعب وأولى ساعات تكوينه قبل الانطلاق إلى مسلسل الحياة العصيبة, وكان يقصد بالرحم الأرض التي نعيش عليها ونقاسي كل ما يواجهنا من أخطار وأهوال.
استعمل ألفاظاً متنوعة وبليغة منها: (ما انفكَ, التلفاز, لم يعد, على الرغم, يراود, كومة أحزان, متوارياً, أقضَّ مضجعي, ايقاعات أنفاسي, ويلات… وغيرها) حقيقة هي كثيرة لكنني ارتأيت أن أذكر بعض منها.
استخدامه لصيغ وأوزان صحيحة فضلاً عن الجموع, منها: (ويلات) جمع كثرة فلم يقل (ويلة) وإنما ذكر لنا جمعاً ليبالغ في شدة الموقف ويصف لنا الوصف الدقيق الصحيح, فضلاً عن استعمال صيغة (فعّال) أحد صيغ المبالغة في لفظة (السُّراق) لينقل لنا كمية السّراق الذين طغوا في البلاد, فلو قال: السرقة أو السارقين لما أجاد بهذهِ الصورة, فقد أحسن في ذلك.
استعمل ألفاظاً لها وقع في الأُذن أكثر من غيرها, وقد أجاد في ذلك, منها, قوله: (سديم) التي تعني الضباب, فاستعماله هنا لهذهِ اللفظة أضاف إلى النص جمالية لم تكن لو استعمل الضباب, واستخدامه لكلمة (برهة) التي تعني مرة من الزمن, فلو قال: (لحظة) أو أي مرادفة أخرى, لما أجاد كما أجاد هنا.
أجاد في استعمال أسلوب البناء للمعلوم والمجهول كل حسب ما يناسبه, فقد أجاد في استعمال البناء للمجهول في قوله: (حيكَ), فهذهِ المفردة مع البناء للمجهول أعطت لوناً آخر وجمالية في نهاية حديثه عن مشهد العراق الدامي.
نحن نعلم أن من عناصر التماسك النحو وقواعده: العطف, والإحالة التي تعني الضمائر, وكذا التقديم والتأخير, وفيها الربط بالتعريف, والربط بالموصول, والتكرار فضلاً عن الحذف, وهذا ما نص عليه عبد القاهر الجرجاني (ت471ه) مؤسس نظرية النظم التي تتناول الحديث عن اللفظ والمعنى, والجدل القائم آنذاك قبل وضع هذهِ النظرية التي حسمت الخلاف بين العلماء, وبالعودة إلى قصة (الهروب إلى الجحيم) لوجدنا أن القاص تناول كثيراً من هذهِ القواعد وأجاد فيها, منها استعماله الضمائر, والتكرار والحذف على التقدير, والتقديم والتأخير والربط بواسطة التعريف أو بالاسم الموصول, فكان ملمّاً بهذهِ القواعد.
استعارة جميلة في قوله: (وتمطى كل شيء) إذ جعل جميع الأشياء بما تحويها هذهِ المفردات من أشياء ملموسة ومحسوسة يتمطى ليظهر ما يختلجه, وكذا استعارة أخرى جميلة في قوله: (مدفون بلهاث قافية موؤدة) إذ جعل للقافية لهثة دُفِنت وءداً كما كان في الجاهلية من وَءدهم للبنات.
مهما يكن من عمل قد أجاد فيه المؤلف, إلاّ أن دائماً هنالك بعض الأشياء البسيطة التي يجب أن تذكر ليتسنى له أن يجتازها مستقبلاً, وهذهِ لا تنقص من جودة العمل ودقته, منها:
نبدءوها من العنوان (الهروب إلى الجحيم) كلمة الهروب تعني أن الإنسان يَفرُّ من خوف أو خطر محتوم, ودائماً الفرار والهرب يكون إلى مكان آمن, ثم ان حرف الجر (إلى) له معان كثيرة إلاّ أن الأصل فيه أن يكون لانتهاء الغاية, والمعنى في ذلك أن الإنسان يهرب إلى نهاية الجحيم كما يقول العنوان, فلم اسمع بأن هنالك من يفضل الهرب إلى الجحيم, هنا بداية المشكلة.
ينقل لنا وصف حالة التي يعبر بها عن مشاعره المختلفة فيقول: (هادئاً… ثائراً… عنيفاً) لا يستطع أي مِنّا أن يحمل هاتين الصفتين أقصد الهدوء والثورة, أو الهدوء والعنف, لو قال كلمات أخرى مرادفة للثورة والعنف, مثل: غاضباً,… إلخ لكان أفضل وأقنع عند الآخرين.
جمع بين الضرين أيضاً في قوله: (مبهوتاً… غاضباً) ونحن نعلم أن لكل صفة وضعاً معيناً, فعندما يكون الإنسان مبهوتاً, فإن ردة فعله وتعبير وسمات وجه تكون مخالفة عنها في حين كونه غاضباً, أي أن وضع البهتة يختلف عن وضع الغضب, فلم يجد في هذا الجمع؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يمارس صفتين مختلفتين في آن واحد, ومن يذكر عكس ذلك فليثبت لنفسه أولاً هذا الشيء ثم يتحدث ويرافع.
ذكر (بذلتين) والتي تعني مثنى (بدلة) فلم ندرِ هل هي بالذال أم بالدال؟
الحوار هو صوت البقرة, وهنا استعملها كناية عن الضعف والوهن, لأنه ذكر قبلها (لتهدم سد الخوار) من خار يخور, لكنني أرى لو قال ألفاظ أخرى تدل على ذلك الوهن المقيت لكان أفضل وأقوى.
نحن نعلم بأن كلمة (الحلم) تعني الشيء الجميل, فكيف ان كانت جمعاً؟ أقصد مجموعة أحلام؟ وَمَنْ مِنّا لا يملك حلماً يطمح أن يتحقق في يوم ما؟ لكن القاص ذكر لنا كلمة (كابوساً) وهو المزعج المكروه الذي يدل على الوجع واليأس بل حتى الشر نفسه, فيكف وازن بين هاتين المفردتين؟ أعني بها (كابوساً) وهو ما تحدث عنه, ثم يلعن الحلم؟ فمن غير الممكن أن نلعن شيءً نحن نسعى وراءه, فهنا لم يجدْ في استخدام هاتين الضدين, لأن الحلم ليس من مرادفات الكابوس ليوظفها في هذا المكان.
استخدامه المفرط لألفاظ علمية تشعر القارئ بأنه يقرأ كتاباً في عالم الفضاء والأبحاث العلمية في بداية القصة علماً أن ذلك كان من أجل هدف يسعى إليه المؤلف.
أيضاً استخدم ألفاظاً فلسفية كانت متداولة بين أهل الفرق الكلامية وعلماء المنطق منها قوله: (لامتناهي) وغيرها من الألفاظ التي تخاطب العقل لا الإحساس والمشاعر.
كلمة (يبدو أن) استخدمها في مواقع كثيرة أجاد في موقع وأخطأ في آخر, على الرغم من أن التكرار مبدأ من مبادئ قواعد التماسك إلاّ أنه قد يفقد جمالية الصورة في أحايين أخرى, فلو قال مثلاً: (ربما سأتجه إلى الكوكب الذي) بدلاً من (يبدو أنني سأتجه) لأن ربما تغير التقليل وهنا تكون قد أفادت المعنى المراد, لو قال (بيد أن) مكان (يبدو أن) لكان المعنى أدق وأوسع وأبلغ, وعنا تعني (غير ان), الاستعمال الثاني فقد أجاد في استعمالها.
استعمل لفظة (اسطول) والتي تعني كادر أو طاقم عمل مركبة البحر, أي السفينة, ولا أعلم ان كانت تعني نفس المعنى لطاقم سفينة الفضاء لكنني أجد أنه لم يجد في وضعها لهذا المعنى.
ذكر (ويتصورون بأننا) لِمَ ذكر حرف الباء التي تعني الاستعانة قبل (اننا)؟ الأصح: (ويتصورون اننا).
التكرار الذي أخلّ بالمعنى في قوله: (حصل ويحصل) الذي كرره دائماً ولنفس المفردة, فلو قال مثلاً: (فما كان قد كان) أو (فما وقع قد وقع) أو استخدم (صار) التي تعني التحويل من حالة إلى أخرى, وهذا المعنى الذي أراده القاص, فقال: (فما صار قد صار), وكذا في قوله: (ما يحصل بعيراً عن أجهزة) فلو قال: ؟(ما يقع بعيراً) علماً أن هذهِ اللفظة تكررت في الصفحة نفسها ثلاث مرات مما افتقد دلالة هذهِ المفردة وجماليتها.
ذكر (الجسد والجسم) وكلاهما مرادفا للآخر, لكننا نرى لو أنه استخدم اللفظ نفسه في المرتين لأجاد؛ إذ أنه استخدم الجسد في مكان وبعدها ذكر الجسم, علماً أنه عطف قوله: (وهو تحمل ثقل الجسم) لكننا لم ندرِ على أي شيء عطف؟ البئر أم الجسد؟ نعتقد أن العبارة ضعيفة فلو قال: (وهو الذي تحمل ثقله) أو (الذي تحمل ثقل جسده) لكان أقوى وأفضل.
يذكر لنا قولاً يضعه بين قوسين في الصفحة الأولى, ونحن نعلم منهجياً أن ذلك يوحي إلى أن هنالك مصدراً اعتمدنا عليه في البحث, فلا أعلم هل هو من خطأ المؤلف أم الطابعي؟
يذكر لنا ألفاظاً مختلفة مرادفة ذات معان واحدة, كما في قوله: (سلة سندان عقله) فلا ندري هل ان السندان داخل سلة أم ماذا؟ علماً أن السلة والسندان كلاهما تشعران بأنهما مكان لوضع الأشياء فيها وهي طبعاً الأشياء الثمينة الجميلة, لذا ذكر العقل هنا, لكنه أطنب في هذا التعبير دون الحاجة إليه, على الرغم من أن علماء اللغة قد أجادوا ذلك في الضرورة الشعرية كما في قول الشاعر (عدي بن زيد):
فقدمت الاديم لراهشيه | والفى قولها كذباً ومَيْنا([25]) |
إذ أن (الكذب والمين) تعطي نفس المعنى, وكذا قول الحطيئة:
ألاّ حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندٌ | وهندٌ أتى من دونها النأيُّ والبعدُ |
إذ أن الشاعر جمع بين (النأي والبعد) علماً أنهما نفس المعنى, لكن الضرورة الشعرية والقافية وغيرها تتطلب ذلك فأجاد الشعراء في استخدامها.
الهامش في ص11 يقول: (رغم السرية التي أحيط به الموضوع)([26]), الضمير في (به) عائد على السرية فكيف جعل ضمير المذكر عائد على مؤنث؟ الأصح أن يقال:
(على الرغم مِن السرية التي أُحيطتْ بالموضوع)([27]), أو يقول:
(على الرغم من السرية التي أُحيط بها الموضوع)([28]).
وأخيـراً وليس آخراً نتمنى أن نكون قد وُفقنا في عملنا هذا والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وسلم).
باسل مولود يوسف
|
سفانة شعبان الصافي
|
|
Basil.Iraq00@gmail.com | Safanaalsafy@gmail.com |
([1]) ينظر مولاي علي أبو أحمد: مصطلحات النقد الأدبي, اتحاد الكتاب العرب, دمشق, 2005, ص155.
([2]) ينظر يمني العبد: ط1, مؤسسة الأبحاث العربية, بيروت, 1986, ص22.
([3]) ينظر محمد مفتاح: ط2, المركز الثقافي العربي, بيروت, 1990, ص78.
([5]) ينظر هبة محمد هاشم: بناء الحدث في قصة الحرب العراقية القصيرة, دار تموز, دمشق, 2013,
ص199.
([7]) ينظر فرج ياسين: أنماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة, بغداد, 2010؛ وينظر فرج ياسين: توظيف الأسطورة في القصة العراقية الحديثة, ص113.
([8]) ينظر د. محمد صابر عبيد: سحر النص من أجنحة الشعر إلى أفق السرد, ص205, نقلاً عن هبة محمد
هاشم: المصدر السابق, ص200.
([9]) ينظر د. نجم عبدالله كاظم: مشكلة الحوار في الرواية العربية, ص100, نقلاً عن هبة محمد هاشم:
المصدر نفسه, ص200.
([10]) ينظر د. نجم عبدالله كاظم: المصدر نفسه, ص101.
([11]) ينظر محمد يوسف نجم: فن القصة القصيرة, ص118, نقلاً عن هبة محمد هاشم: المصدر نفسه,
ص200.
([12]) الاعتراف: ((هو تكوين متوتر جداً يستهدف الآخر الذي لا يستطيع البطل أن يستغني عنه ولكنه في الوقت
نفسه يكرهه (بكرهِ الآخر) ويرفض حكمه وبهذا فإن الاعتراف… يفتقر إلى القوة الانجازية ويسعى باتجاه
اللانهائية الرديئة)), ينظر م. ب بأختين: قضايا الفن الإبداعي عند دومستوفيسكي, ص355, نقلاً عن
هبة محمد هاشم: المصدر نفسه, ص201.
([13]) ينظر م. ب بأختين: المصدر نفسه, ص100, نقلاً عن هبة محمد هاشم: المصدر نفسه, ص201.
([14]) ينظر حسين قباني: فن كتابة القصة, ص94– 95, نقلاً عن هبة محمد هاشم: المصدر نفسه, ص201.
([15]) ينظر جون برين: كتابة الرواية, ص80, نقلاً عن هبة محمد هاشم: المصدر السابق, ص201.
([16]) مهند يحيى: قصة الهروب إلى الجحيم, ص1.
([17]) مهند يحيى: قصة الهروب إلى الجحيم, المصدر السابق, ص3.
([18]) ينظر سعد يقطين: تحليل الخطاب الروائي, ط1, المركز الثقافي العربي, بيروت, 1989, ص67.
([19]) مهند يحيى: قصة الهروب إلى الجحيم, المصدر السابق, ص4.
([21]) ينظر محمد صابر عبيد ود. سوسن البياتي: مزايا السرد وجماليات الخطاب القصصي, ط1, العين,
القاهرة, 2008, ص38.
([22]) مهند يحيى: قصة الهروب إلى الجحيم, المصدر السابق, ص6.
([23]) محمد صابر ود. سوسن البياتي: المصدر السابق, ص31.
([24]) محمد صابر ود. سوسن البياتي: المصدر السابق, ص33.
([25]) شهاب أحمد: مختارات لأجمل القصائد, دار تموز, دمشق, 2006, ص83.
([26]) شهاب أحمد: المصدر السابق, ص98.
([27]) مهند يحيى: قصة الهروب إلى الجحيم, المصدر السابق, ص11.