تسعى هذهِ القراءة إلى معاينة (اللغة) في قصة (تعويذة بابلية) للقاصة رشا فاضل وهي من القصص القصيرة بوصفها تجبيرية معتدلة في حقل السرد القصصي الحديث, لاسيما وأن تجربة القاصة رشا فاضل قد تميزت بجنوحها نحو هذا الفن القصصي كثيراً, وأن هذا النوع من القصص يتفق مع رغبة وإمكانية هذهِ القاصة.
اللغة |
التكثيف مظهر من مظاهر النظم والصياغة, يتحقق عندما ينجح المؤلف في التعامل مع اللغة وتطويع مفرداتها وعلاقاتها بمهارة تؤدي إلى انتاج عبارة لها مظهر الجملة الواحدة وسلاستها وانسيابها, لكنها في الحقيقة تحمل خلاصات جمل عديدة, ثم أصبحت بتأثير مهارة الصانع جسداً واحداً تختلف في متانته ومظهر أعماقه عن مشاعر انعكست في تلك الحركات, أو في وصف المكان أو الأشخاص ويمكن تحقيق ذلك بطريقتين: إما عن طريق ربط الافتراضات المعينة في جمل أطول, أو عن طريق طمر افتراضات أكثر في جملة معينة([1]).
ويمكن أن نقول عن الطريقة الأولى, قيام المؤلف بتلخيص الجُمَل الأولى والتي تعبر عن جزء من المعلومات, ويجري عليها عملية تلخيص واختصار ويعيد صياغتها في حوارات أو عبارات أطول, مستنداً على الروابط اللغوية مثل حروف العطف, أما الطريقة الثانية, فالأمر يتجاوز الصيغة اللغوية, ويصبح أشبه وأقرب بالتقنية السردية([2]).
إن اللغة تمتزج بالمشهد وتتكثف العبارة من خلال حركة الشخصية ووصف مظهرها ومحيطها, واستيطان ما في أعماقها من مشاعر انعكست في تلك الحركات, أو وصف أشخاص أو أشياء أخرى لها ارتباط بالشخصية([3]).
مالت القاصة رشا فاضل إلى الطريقة الأولى, فلم تلجأ إلى روابط لغوية لدمج عدد من الجمل في جملة واحدة رئيسة, إنما أجرت بعض التغيرات على خلاصات لجمل فرعية في مخيلتها, واقتصرت على الصياغة اللغوية فقط واستخدام بعض الكلمات والمصطلحات اللغوية, على الرغم من ملاحظتنا هذهِ فمرة تتداخل مع المشهد السردي وأخرى تتداخل مع طرائق تمثيل الوعي والأفكار.
تقول الراوية:
(ولك نبض الوجع… من مفرق الحبر… حتى… ناصية البياض بالأسئلة العقيمة اتهدج, وابتهل لبياض الشيب, أن يفتح نافذة للرؤيا, وأخرى لهواء… لم تقتف خرائطه رائحة الرماد أو يقطع ترنيمة ليلة, أزيز الطائرات ووشوشة الرصاص في قلب الأغنيات)([4]).
تقول الراوية:
(وذاكرة الرقص الذي نسي ملابسه… وموسيقاه ورشاقة خطواته في غرفة الحرب… لك جداول لأسئلة يسري في قاع نهرك ولي أن أتبع سريانك… حتى آخر قطرة عطش تنبض تحت جلد الحكاية… لك أن تعتصر جرحك مأخوذاً برعشة الملح… ولي أن أمتص ملحك بشفاء نزفي المشرعة صوب قبلتك)([5]).
ببلاغة متواضعة ومرارة صارخة تصف القاصة رشا سكان المدينة في الزمن المعقد والاحتلال عبر أصوات أزيز الرصاص وهزيم العجلات الحربية, هنا توظف القاصة حالات الخوف والتوتر والبؤس والعجز وهي مبعث ومولد القلق والألم, فأكثرت من الأحداث المأساوية واتسعت باتساع مخيلتها وقسوة الظروف التي واجهتها.
لم تغفل الكاتبة حقيقة التبدل الهائل الذي أصاب معمار وبناء أحياء المدينة وشوارعها وتحولها إلى خرائب ينعقد حولها الغبار([6]).
تقول الراوية:
(مازالت الرصاصة تلاحقني حتى إذا انتبذتُ من النوم حلماً قصياً, وجدتها تتغامز لرأسي وتستنهض فيه الأسئلة الحالكة المعلقة بفوانيس السماء… ترى كيف يكون طعم الموت حين يمتطي رأس الرصاص حتى… جمجمة الحلم)([7]).
وفي معاينة دقيقة للنص القصصي تبين لنا ما يلي:
استخدامها المتنوع للأساليب البلاغية منها: الاستعارة, والتشبيه, وأساليب الطلب, وصيغة الخبر, والجناس, والاقتباس, والتضمين, فمن الاستعارات الجميلة التي أجادت فيها قولها: (اجرحي الوقت) إذ عاملت الوقت معاملة الشيء الذي يجرح, معاملة الملموس بالمحسوس, وكذا في قولها: (بالأسئلة العقيمة أتهدج, واستهل لبياض الشيب أن يفتح أمامي نافذةً للرؤيا), فجميع الألفاظ لها دلالات جميلة, فضلاً عن اختيارها الصحيح ووضعها في المكان الصحيح وهذا ما فعلته أيضاً في استعارتها الجميلة في قولها: (تصرخ بأعلى جرحك) إذ جعلت للجرح صوتاً.
استخدامها للجناس في قولها (أنعتاقه) و(اعتناقه).
العنوان لا يتماشى مع المشهد, فقط في قولها: (اعيذيني) ففيه دلالة على طلب الدعاء والابتهال, أمّا قولها: (بابلية) فإننا لم نجد ما يدل على ذلك العنوان سواء بالألفاظ أو بالمعاني؛ لأنها تعاملت مع المشهد وحاكت الواقع الحالي دون الماضي الذي ينتمي إلى بابل وما تعنيه.
كلمة (مفرق) تعني الوسط أو بعد البداية ثم قالت (ناصية) وتعني العلو والسيادة والارتفاع ففيها كنايات عديدة فأين الموازنة بين ذلك؟ لِمَ لَمْ تقل منذُ البداية, أو أي لفظة تدل على الابتداء لتعزيز المشهد وتقويته, هنا أضعفت الصورة وأخطأت في الموازنة بين المفردتين وهذا ما فعلته في قولها: (الخريف المقبل) و(وجوهنا المدبرة) فكيف توازن بين الإقبال والادبار؟ علماً أن الأصح لغوياً هو: (الخريف القابل), لأن المقبل أو القادم تعني للشيء الملموس الذي يدب على الأرض, ثم تقول: (ووجوهنا المدبرة), فلو قالت: ووجوهنا المغبرة, أو المتعبة, أو الشاحبة, أو أي مفردة أخرى تدلُّ على اليأس والقنوط الذي أرادته الكاتبة والذي يتماشى مع لفظة (الخريف) الذي يدلُّ على ذلك.
الاستعارة في قولها: (حشرجة أصابعي) الحشرجة تأتي للروح أو النفس, وهذا ما هو معلوم للجميع, وتعني نزع الشيء بالقوة وربما بالإكراه وفيه معاناة وصعوبة فكيف استعارة هذهِ اللفظة للأصابع؟ هنا لم تجدْ الكاتبة في ذلك التصوير.
قالت: (في غرفة الحرب) إذ جعلت للحرب غرفة واحدة فقط, وهنا أضعفت المعنى, فلو قالت: غرف الحرب, لتعزز المشهد وقوي بكثرة هذهِ الغرف التي تعني الصور العديدة والمشاهد الكثيرة المختلقة.
(أبواب) جمع قلة على وزن (أفعال) ومن الممكن أن تستخدم جمع القلة مكان الكثرة فهل عنيت الكاتبة بذلك أم دون الالمام بهذهِ القاعدة؟
كلمة (للرؤيا) في قولها: (نافذة للرؤيا) معرفة, وعندما عطفت عليها, عطفت نكرة في قولها: (وأخرى لهواء) فهنا لم تجد وأضعفت من صياغة الجملة وقوتها.
الصورة القاتمة في قولها: (ودعي لي كل هذا البياض اعبئه بالرماد) لِمَ هذا التشاؤم الذي حولت فيه البياض إلى لون مخالط؟
الاستعارة المعقدة في (ودعي الاخضر يتقوض فوق فراغ المرايا).
اقتبست من القرآن قولها: (انتبذتُ حلماً قصيّاً, دثرني, الملأ الاعلى والاسفل) ولو قالت: الملأ الاعلى فقط لأجادت.
كلام بسيط سهل لا يتماشى مع جميع المشهد في قولها: (بعد أن غادرت سطح غرفتك احتجاجاً على ليل طال أكثر مما ينبغي وجاءت ترفرف بحنينها فوق سطحي) هذا المستوى يفهمه الجميع إلا أننا لم نجد موازنة بين الألفاظ في هذهِ الجملة مع جميع الألفاظ المتلونة الأخرى في بقية المشهد.
كلمة الرسم دائماً توحي بالأشياء الجميلة لدى الآخرين, فكيف وظفتها في قولها: (وارسمي حول شفاهي أسواراً من العوسج تهَّم بي كلما هممتُ بالنداء).
الصورة أو اللوحة هنا قائمة, فضلاً عن أنها مؤلمة جداً؛ لأن العوسج من النباتات الشائكة التي تدل على المعاناة والألم والصبر والتحمل فكيف تناسبت مع مفردة (الرسم)؟
كلمة (الصهيل) لها دلالات كثيرة منها الحقيقية وأخرى مجازية, ونكاد نتفق على أن الدلالة المجازية تعني الحرب والمعركة, فقالت: (اعيذيني من الصهيل) إن كانت تعني الرمز على معنى الحرب, فإنها كذلك إلاّ أنها لم توظفها التوظيف الصحيح مع ما قبلها, لأنها استخدمت ألفاظاً أخرى للحرب الحالية وهي: (أزيز الطائرات, وشوشة الرصاص) فهنا أخطأت, لأن الصهيل لا يتماشى مع صوت الطائرات, كلُّ له استعماله في عصره المتحدث عنه.
استخدامها المفرط لأفعال الأمر, أي صيغة الطلب كما في قولها: (دثرني, امنحني, انثر, شاركوني, دعي, تعالوا, جانبوا, ادخلوا) علماً أن أغلب الأمر جاء بصيغة الأمر للجماعة لأن الواو ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل (أي أن الفاعل مجموعة).
لفظ (دثرني) كررتها ووظفتها في مكان مزدحم بالألفاظ المستعارة والكنايات الغريبة والمعقدة فكانت غير موفقة في هذهِ اللفظة.
كلمة (الحبر) استخدمتها في موقعين أجادت في أحدهما ولم تُجد في غيره, فأجادت في قولها: (بيني وبينك بحارٍ من حبر وبياض) إجادة عالية, أما ما سواها كما في قولها: (مفرق الحبر) فلم تجد فيه.
قالت: (بشوارع محزومة بكسر من زجاج), إذ جعلت الشوارع كأنها حزم, لكنها لو قالت: بشوارع مزدحمة بكسر من زجاج.
نعتقد أنها لم تصب في قولها: (إنّي اعتليت قامة السماء وناديتُ في الملأ الأعلى والأسفل) هنا استعارت ألفاظاً أخطأت في استخدامها خطأ فاحشاً, كيف تعتلي قامة السماء وتنادي في الملأ الأعلى والأسفل؟ يمثل هذا منهجاً يتعارض مع العقائد وذلك لأن وصف الحال هذا من المجال وليس من اختصاص بني البشر, ومن يخاطب الملأ الأعلى أو الأسفل هو خالقها.
وفي الختام إن مفارقة النص في هذهِ القصة تتجلى في توحد الحب والحرب فلقد كانت مظاهر الحرب أزيز الطائرات وصوت الرصاص, وهي من المفارقات اللفظية القائمة على نمط كلامي أو طريقة تعبيرية يخالف فيها المعنى المقصود المعنى الظاهر عبر صيغة ذكية يقدم فيها النص طريقة تستثير المتلقي وتدعوه لرفض الدلالة الحرفية لمصلحة الدلالة الخلفية ولعل جمالية مفارقة السخرية تكمن في تنوع تأويلها عبر الكشف عن الحالة الحزينة إلى حالة مفرحة عبر تقديم الحالة للوجه بطريقة محببة وجميلة.
تمثلت هذهِ القصة بمضامين فنية على الصعيد الشكلي للقصة, وآخر ايدلوجية, بمضامين فكرية واجتماعية, وظفتها في النصوص بوصفها مرجعيات فكرية, كما بدت واضحة بنظام العمل لهذهِ القصة هو النسق المتداخل بين فقرتين التداخل الزمني والدلالي. مع تمنياتنا للقاصة بالتوفيق………………………………………………………………………………………………..
باسل مولود يوسف
|
سفانة شعبان الصافي
|
|
Basil.Iraq00@gmail.com | Safanaalsafy@gmail.com |
([1]) ينظر ماجد الغرباوي: مدارات الكون السردي, أوراق في تجربة فرج ياسين القصصية, الروسم, بغداد,
2015, ص115.
([2]) ينظر سوزان لوهافز: الاعتراف بالقصة القصيرة, ترجمة: محمد نجيب لفتة, مراجعة: د. عزيز حمزة, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, 1999, ص57.
([4]) ينظر رشا فاضل: تعويذة بابلية, المشهد القصصي, تموز, دمشق, 2010, ص26.