الثعالة الحمراء
قصة من الأدب الصيني الحديث
ل : زهاو كاي
ترجمها من الفرنسية : ابراهيم درغوثي / تونس
لقد فات الأوان ذلك اليوم ، قبل أن يكتشفا البندقية .
*****
ظل الثلج يهطل بغزارة مدة ثلاثين يوما متتالية ، فاكتست البحيرة بطبقة من الجليد وأظلمت السماء .
في اليوم الحادي والثلاثين ظهرت الثعالة التي بقيت مختبئة كل هذه المدة داخل الجحر العميق المحفور على جنبات البحيرة . إنها الثعالة الحمراء التي طمع فيها كل صيادي جهة بحيرة هنجزي . إنها كنزهم النادر بطلعتها الرشيقة وهيأتها الفاتنة وخطوتها الأنيقة . فهي تذكرهم بتلك العينة الفخمة من الثعالب التي تحدثت عنها “الحكايات العجيبة لسرادق النعيم “.
إن فرادة هذه الثعالة تتمثل في فروها الذي يستدعي إلى الذهن لون حجر اليشم الكريم حين تتبختر ، وتموجات الحرير البني حين تتمطى ، واحمرار الموج بعد زوابع الخريف . ذاك اللون الأحمر القاني المصنوع من خليط عجيب من سحب الفجر الوردية وأشعة الشمس الغاربة .
مع حلول الظلام ، واصلت الثعالة حذرها الشديد . انتصبت في باب الجحر ، وألقت سمعها إلى ضجيج الليل . كانت أذناها تدوران كرادارين يلتقطان اتجاه الريح … هسهسات الخيزران … خفقات أجنحة الطيور … وهمهمات الجرذان وهي تلتهم جذور أشجار الغابة الصغيرة .
أخيرا ، وبعد أن أحست بالإطمنان خرجت بخفة من الحفرة . تشممت الأماكن المجاورة لغارها وقفزت فوق الجدول المتجلد ، وحثت السير دون أن تبتعد عن ضفته القريبة .
كانت تجر على الأرض المتجلدة ذيلها وقد انتفش شعره حتى صار كالمكنسة ، فكان الذيل يمحو آثار الخطى التي قد تجلب لها أذى المتربصين .
في الليلة الأولى ، رجعت خائبة .
وكان نصيبها الخيبة في الليلة الثانية أيضا .
في الليلة الثالثة ، أمعنت في الابتعاد عن جحرها حتى وصلت تحت أقدام الجبل . كانت قد ابتعدت عن مأواها حوالي كيلومتر حين التقى الجبل بضفة البحيرة . هناك تشممت روائح بقايا أطعمة ، لكنها لم تجرؤ على الاقتراب منها . إنها تعرف أن الخطر يكبر أكثر كلما صار حقل نشاطها أوسع .لكنها مع ذلك ذهبت بثبات لهذه الروائح القادمة على بساط الريح . هذه الروائح التي صارت تدغدغ خياشيمها كلما اقتربت أكثر من أقدام الجبل ، إلى أن اكتشفت سر الرائحة . إنها رائحة سمك . هذا الاكتشاف جعلها تضحك في سرها : ” أهكذا تعد لي الفخاخ ؟ فخاخ بسمك تحت أقدام الجبل ؟ سمك بعيد عن البحيرة كل هذا البعد ؟ هذا طعم رديء لن يسيل له لعابي . ”
لكنها مع مرور الوقت بدأت تفقد رباطة جأشها شيئا فشيئا . فالجوع كافر وإغراء الوليمة فظيع خاصة وهي تعرف أن جروها يعوي من الجوع ورفيق دربها أصابته رصاصة بندقية صيد في مقتل . يومها كان الكمين محكم الحبك ، والصياد جاهز للضغط على الزناد . لكن ثعلبها رمى بنفسه أمام طلقة البندقية ، فأخطأتها وأصابته . كل ذلك مر بسرعة البرق حتى أنها حين التفتت لم تر سوى وميض عينين سوداوين وسط الظلام الدامس .
والآن لماذا أترك هذه الرائحة تغريني ؟
لقد عرفت إغراءات أكبر من هذه ، فعندما تغوي الأزهار الفراشات ، تضحي من أجلها بحبوب اللقاح .
*****
اكتشفت الثعالة نفقا مخفيا في أعماق الغابة . نفق يحيط به الهدوء والسكينة . بابه مكتظ بأغصان الصنوبر الثقيلة بعصيات الثلج . نفضتها الثعالة فجرحت هدوء الغابة هنيهة ، ثم عاد المكان لصمته المعتاد . ودفعت حجرا صغيرا ، فأحدث ضجة خفيفة وعادت السكينة تملأ المكان من جديد .
كيف استطاعت هذه السمكة السباحة والوصول لهذا النفق ؟
وعزمت الثعالة على اكتشاف معالم هذا المكان فلا ظل لرجل في الجوار . تقدمت رويدا رويدا بخطى وجلة وجسم متوتر كجسم مفجر الألغام . تقدمت حتى وجدت نفسها في منعرج واسع ودافئ مغطى بطبقة كثيفة من الأغصان والقصب . كانت سيقان القصب تطلق رائحة نفاذة جلبت الثعالة التي رأت سمكة معروضة للناظر . سمكة شبوط سوداء معروفة في بحيرة هنجزو . ما كانت السمكة ضخمة لكنها كانت طويلة بعض الشيء .وكان جسمها يلمع ببريق قاتم كأنه سيف صغير أخرج للتو من غمده .
غاصت الثعالة في تأملاتها : هل هذا طعم أم مجرد جيفة لسمكة منسية ؟ وعادت إلى مدخل النفق . أنصتت بانتباه إلى صخب الحياة . لا شيء سوى صفير الريح ، فدخلت من جديد إلى النفق . امتحنت كل حجر وكل قبضة قصب . لا شيء يدعو للريبة . أين هو إذن صاحب هذه السمكة ؟
وكان الوقت يمر بسرعة .
عند اقتراب الفجر ، مرت الثعالة الحمراء للعمل . مدت قائمتها الأمامية بحذر
شديد ، فمست السيف وجذبته بخفة . فمر كل شيء بسلام مما شجعها على الانقضاض على الغمد بنفس الحذر والخفة .
يا سلام … ها هي السمكة كاملة في حوزتها .
يا لهذا الانتصار المؤزر .
وعادت مرة أخرى إلى النفق ، فوجدت قطعة لحم .
في مرة ثالثة طالعتها سمكة شلبة .
هذه الخيرات التي تتالت أزعجتها حتى أن هاتفا حدتها في أذنيها :
– انتبهي … هذا طعم يا مغرورة …
فالتفتت إلى قائمتيها الأماميتين وهي تنظر باشمئزاز لعظم طمعها وشراهتها ، فأنشبت فيهما أنيابها الحادة إلى أن أحست بطعم الدم في فمها .
وفرت … تركت هذا المكان الموبوء بسرعة عجيبة . ركضت وبطنها تمسح ثلوج السهوب الممتدة بلا نهاية فخورة بانتصارها على هذا الإغواء .
لكن ، حين اقتربت من شاطئ البحيرة ، انقبض صدرها إذ داهمتها نظرات صغيرها الملأى بالعتاب . فوقفت مكانها لحظة ثم عادت إلى النفق . أحست بالشؤم يهز كيان الأم فيها ، لكنها انطلقت في عدو مجنون نحو مصيره … نحو جهنم .
كان رعب حقيقي يعصر بطنها .
حين انغرت قدماها في جسم الشلبة ، انطبق باب النفق وراءها . فالتفتت . اكتشفت العينين الأليفتين . عينان رأت بريقهما في ليلة سابقة …
*****
رماها الصياد في قفص حديدي وعاد بها إلى مزرعة لتربية الثعالب . وعندما عرض عليها الطعام والماء ، امتنعت عن الأكل والشرب بإباء . كانت الثعالة تفكر في آلام جروها الجوعان ، فصار اليوم عندها أطول من قرن .
سريعا أحضر الصياد العجوز لقفصها ثعلبا ذكرا ، فقاسته من قدميه إلى رأسه . كان ممشوق القد ، ذا فرو لماع ، تتلألأ في عينيه نار سهلة الاشتعال والانطفاء عرفت من خلالها أن هذا الثعلب رقيق الشعور وخجول . عنيف إذا واجهه الضعفاء ، رعديد عند مقابلة الأشداء .
تفرسا في بعضيهما مليا ، لكنه بعد هنيهة أخفض عينيه ونظر إلى الأرض . لقد انهزم بسرعة .
في اليوم الموالي ، عرض عليها الصياد ثعلبا يافعا ، أنيقا وأصيلا . ما أن ولج القفص ، حتى بدأ في الانتفاض وفي هز فرائه هزا عنيفا كأنما يطرد عن نفسه الإهانات التي وسمه بها الصياد العجوز منذ أن اصطاده إلى أن رمى به في هذا القفص .
حين انتهى من شغله ، رفع رأسه متمهلا ونظر باحتقار إلى الثعالة الحمرء .
لكن بعد النظرة الأولى ، ذاب جليد عزة نفسه تحت نيران هذه الشعلة الأرجوانية الملتهبة . أليس هو ابن الأكارم من بني الثعالب ؟ لكنه طأطأ رأسه بمقدار ، وشمشم برقة ولطف هذه ال ” فينوس ” المعروضة عليه . وترقب بوقار غراميات الجميلة . لكن قلبها كان في مكان آخر ، فلم تلتفت إليه . بل أدارت رأسها بازدراء ، وزادت فأغمضت عينيها .
المحاولة الثالثة جاءت بمغتصب قوي الشكيمة ، ثعلب خشن ومندفع . منذ اللحظة الأولى ، أسال لعابه جمال الثعالة . لكنها استعدت للمواجهة ، فنفشت فروها وأعلنت عليه حلابا بلا هوادة دفاعا عن شرفها وكرامتها حتى أنه عندما أوقعها أرضا وجثم فوقها بكل ثقله ، أنشبت قائمتا الأمامية في عينه بكل عنف ودقة .
أحس هذا الذكر بالإهانة – ربما لأول مرة في حياته – ، فرد حسب قانونه الخاص :
” إذا لم يعد في مقدورك الحصول على مبتغاك ، خرب كل ما يعترض طريقك ” .
أنشب الثعلب مخالبه في جسم العنود وجذب بعنف قبضة من اللحم والفراء ، لكن العينين الأليفتين خرجتا من وراء الظلام . أدخل الصياد العجوز عصا غليضة إلى القفص وخبط الثعلب وراء أذنيه ، فسقط الوغد على الأرض بدون حراك .
في اليوم الموالي ، داهم المرض الثعالة . عيناها – مرآة الروح المهمومة – كانتا معتمتين بضباب الوحدة والحزن العميم .
ليلتها ، أشعل الصياد العجوز نارا قرب الثعالة الحمراء وجلس هادئا بجانبها كأنه راهب متعبد . بينما كانت ترتاح قريبا من رجليه ” الحكايات العجيبة لسرادق النعيم ” .
خرجت من الكتاب نار تطقطق ، تبعتها شعلة ارتفعت في الجو كحزمة من شرارات اللهب بدأت تتظافر فيما بينها وتدور لتشكل ثعالة مكتوبة بأحرف من نار . ثعالة حمراء أنيقة في لون الدم تحوم فور النار وتطير في سماء الليل البهيم .
سطعت الأحرف مدة ثم تحولت إلى الأسود القاتم حين وصلت فوق رأس الصياد العجوز الذي قفز محاولا اختطاف الحكايات العجيبة لسرادق النعيم ، لكنه لم يجد لها أثرا .
في هذه اللحظة ، سمع نداء ضعيف . كان في الأول غامضا وملغزا ثم بدأ يتضح شيئا فشيئا حين صار يتردد بإلحاح عجيب فكأنه يحمل أمرا بالتنفيذ .
انتبهت الثعالة وحاستها السادسة تقرصها : إنه فلذة كبدها جاء يبحث عنها . فعادت إليها الحياة . صنعت من الضعف قوة ، فاستقامت ثم بدأت تروح وتجيء داخل القفص والحزن يأكل أحشاءها .
جعرت الثعالة عاليا ، ثم اندفعت نحو الباب الذي يمنعها من الهرب ، فارتطمت به بإصرار عجيب ثم أعادت الارتطام عدة مرات إلى أن انكسر القفل .
رفع الصياد العجوز عصاه ، لكن الجرح الغائر في جبهة الحيوان المكلوم جعله يحجم عن الضرب ، فاندفعت الثعالة كالمجنونة وارتمت وسط النيران ليحترق فروها وليمتلئ المكان برائحة الشياط الكريهة .
رأى الصياد الثعالة الجميلة تتحول إلى حيوان أسود اللون بوجه بشع ، فسقطت العصا من بين الأصابع العاجزة وسط النيران ثم احتضن الثعالة ، فاستكانت له . وصار يطمئنها ويمسح على ظهرها بهدوء ورقة . وزاد فغسل بقع الدم العالقة بجبهتها وحملها حتى باب المزرعة فوضعها على الأرض وفتح لها الباب الكبير .
انبهرت الثعالة الحمراء بأضواء الصباح الجديد ، فرفعت رأسها . كانت العينان السوداوان اللتان خرجتا لها من الظلام هناك ، أمامها .
دارت الثعالة حول الصياد العجوز ثلاث دورات ، ثم غادرت المكان وهي تعدو سريعا نحو النداء الغامض تاركة وراءها على ندف الثلج الطرية آ ثار أقدامها الواضحة .
ضل الصياد العجوز واقفا في مكانه وحيدا في السهل المغطى بالثلج حاملا بين يديه قبضة من الوبر الأحمر شبيهة بباقة من اللهب المضطرم .
إنك تراه من خلال أشعة النيران الملتهبة قد شاخ أكثر ، وابيض شعر رأسه تماما .
*****
عندما فكر في إطلاق النار ، كان الوقت قد تأخر كثيرا .