الرئيسية / دراسات / الثورة المعلوماتية والحياة

الثورة المعلوماتية والحياة

الثورة المعلوماتية والحياة ..

رحيم العراقي

 

مخائيل ليويس صحافي اميركي يكتب بشكل منتظم في مجلة النيويورك تايمز. وفي كتابه الجديد( المستقبل حدث الآن )الذي اصبح من افضل المبيعات في اميركا نلاحظ ان المؤلف يركز اهتمامه على تحليل ظاهرة الانترنت فهو يبين لنا عن طريق الامثلة المحسوسة كيف ان استخدام الانترنت غير حياتنا، وعملنا، وطريقة تفكيرنا. ويرى المؤلف ان الانترنت يمثل احدى اهم الثورات التقنية التي حصلت في تاريخ البشرية. وسوف تكون له انعكاسات لا يعرف الا الله مداها. لقد اصبح الانترنت سلاحا في يد الثوريين. فالعالم ما بعد الانترنت هو غير العالم ما قبل الانترنت. ولكن الناس في معظمهم لم يشعروا بعد فعليا بمثل هذه الثورة. وهذا امر طبيعي لان المسألة تأخذ وقتا لكي تتوضح كل ابعادها. فعندما ننظر الى الثورات في التاريخ وكيف حصلت نلاحظ ان الاعمال الخارجية التي تحصل ضد النظام القديم مسبوقة دائما بتفكك هذا النظام بالذات وانصراف الناس عنه او انعدام ثقتهم به بعد ان كانوا قد منحوه الولاء زمنا طويلا. والواقع ان هيبة الملوك تسقط من اعين الناس قبل ان تسقط عروشهم. وبالتالي فالعالم القديم، اي عالم ما قبل الانترنت لن يموت فورا او دفعة واحدة. ولكنه سائر في طريقه الى الموت كل يوم اكثر، فالناس الذين لايعرفون كيفية استخدام الانترنت اصبحوا يبدون رجعيين، قدامى، وكأنه عفى عليهم الزمن.. وبالتالي فهم سينقرضون اكثر فأكثر بمرور الزمن. ثم يقسم المؤلف كتابه الى خمسة اقسام يلحقها بمقدمة جديدة في نهايته. اما الاقسام الخمسة فهي التالية:

 1) مقدمة عامة تتخذ العنوان المهم التالي: الثورة اللامرئية بمعنى ان ظهور الانترنت شكل ثورة ولكنها غير مرئية بالنسبة لمعظم الناس.

 2) الانتفاضة المصرفية وفيها يتحدث عن المتغيرات التي احدثها دخول الانترنت الى مجال المال والاعمال، والمصارف، والبورصات.

 3) الاهرامات والكعك، وهو عنوان مجازي يروي تحته جملة قصص عن كيفية استخدام الاطفال للانترنت.

 4) انتفاضة الجماهير وفي هذا القسم يتحدث المؤلف عن الانعكاسات الاجتماعية للانترنت وكيف انه دفع بالناس الى التمرد على الهيبة التقليدية التي كانت سائدة قبل ظهور الانترنت. 5) ديمقراطية المعرفة عصر الانترنت وهنا يتحدث المؤلف عن اسهام الانترنت في نشر المعلومات والاخبار على أوسع نطاق، هذا في حين انها كانت سابقا محصورة في نخبة معينة. وبالتالي فالانترنت يمكن ان يستخدم كأداة فعالة في نشر الديمقراطية عبر العالم كله. ولكن المشكلة هي ان الذين يستطيعون شراءه واستخدامه لا يزالون اقلية حتى الآن. فهو منتشر في اميركا وأوروبا والبلدان الصناعية اكثر مما هو منتشر في بلدان العالم الثالث. وحتى داخل بلدان العالم الثالث نلاحظ انه محصور برجال الاعمال والنخبة المثقفة والسلطة السياسية بشكل عام. منذ بداية الكتاب يقول المؤلف ما يلي: صرح السيد الان غرينسبان بأن الانترنت سوف يغير الاقتصاد العالمي الى درجة انه هو شخصيا عاجز عن فهمها بشكل كامل. وأما جاك ويلش مدير احدى الشركات الاميركية الكبرى فصرح بأن الانترنت هو اعظم قوة تؤثر على الاقتصاد العالمي منذ حصول الثورة الصناعية. ان الانترنت هو تكنولوجيا جديدة. ولكن البعض يعتبره اقل اهمية من اختراع المحرك البخاري، او حلج القطن، او التلغراف، او المكيفات الهوائية.. انهم يعتبرونه مجرد اداة لنقل المعلومات بسرعة شديدة. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل.. ولكن هل هذا الرأي صحيح؟ كان عالم الاجتماع الاميركي مارشال ماكلوها يقول بأن المخترعات التكنولوجية الجديدة تصبح اقل مرئية كلما اصبحت مستخدمة اكثر او كلما اصبح استخدامها مألوفا جدا بالنسبة لنا. والانترنت يبرهن الآن على صحة اطروحته هذه. وهذا يشبه الحادثة التالية: خرج احد النبلاء من قلعته ونظر الى المدفع الذي يصوب فوهته نحو الوادي وقال: كل ما يفعله هو انه يرسل الرصاصات بسرعة!.. في الواقع ان المدفع يفعل اكثر من ذلك. فهو يرهب المهاجمين ويقضي عليهم حتى ولو كانوا بالآلاف اذا كانوا لا يحملون الا السيوف.. وحتى مفهوم الشجاعة تغير بعد ظهور المدفع والاسلحة النارية فلم تعد الفروسية هي كما كان عليه الحال في العصور القديمة. وبالتالي فإن ظهور اي مخترع تكنولوجي جديد يؤدي الى انعكاسات عديدة ومتشعبة. وهذا الأمر ينطبق ايضا على الانترنت. فالواقع ان ارسال المعلومات بسرعة من طرف العالم الى طرفه الآخر ليس هو الشيء الوحيد الذي يفعله الانترنت، فالانترنت اتاح لاناس كثيرين ان يتمردوا على الاعراف والتقاليد السائدة في كافة المجالات. ثم يقول المؤلف ميخائيل ليويس مردفا: لقد وجدت ان الاطفال في سن الثانية عشرة يستخدمون الانترنت ويتمردون على سلطة آبائهم! بل وبعض هؤلاء الاطفال اصبحوا خبراء ماليين او مصرفيين في اميركا. ووجدت ان بعض كبار رجال الاعمال الذين استخدموا الانترنت اصبحوا اعداء للسوق الاستهلاكية الجماهيرية. وهذا امر مدهش وما كان يمكن ان يحصل من قبل. ووجدت بعض التكنولوجيين المضادين للحياة الاجتماعية يتحولون الى مدافعين عن المجتمع والبيئة والحياة الاجتماعية. لقد غير الانترنت عقلياتهم. في الواقع ان الانترنت كأداة تكنولوجية جديدة كان اقل اهمية من الآثار الاجتماعية التي يحدثها على حياة الناس. وحتى مفهوم الرأسمالية تغير بعد ظهور الانترنت، وقل الأمر ذاته عن مفهوم الهوية، ودور الفرد في المجتمع، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات داخل مجال العمل … الخ. في عام 2000 اصبح مئات الملايين من البشر يستخدمون الانترنت في شتى انحاء العالم. وقد كتبوا مليارات الصفحات بواسطة هذا المخترع السحري الجديد. ويقال بأن خمسة ملايين ونصف المليون فنلندي ارسلوا لبعضهم البعض اكثر من مليار رسالة بواسطة الانترنت عام 2000 بالذات!.. وهذا يعني ان الانترنت اصبح أداة مهمة للتواصل بين البشر. ولم يكن ذلك فقط من اجل العمل، وانما اصبحت رسائل الحب واقامة العلاقات العاطفية بين الجنسين تتم عن طريق الانترنت! ولكن تحصل احيانا بعض الانحرافات في هذا المجال. فهناك اناس فاسدون يستخدمون الانترنت للتعبير عن انحرافاتهم الجنسية دون ان ينكشف امرهم. وكثيرا ما يرسلون الصور العارية، او الصور الجنسية والخلاعية عبر الانترنت. وبالتالي فليست كل الاستخدامات ايجابية. ولكن هذا ينطبق على جميع المخترعات التكنولوجية فبعود الثقاب نستطيع ان نحرق البيت او نستطيع ان نشعل البروتوغاز من اجل وتحضير الطعام.. كل شيء يعتمد على كيفية الاستخدام. ولكن هناك خطر ناتج عن استخدام الانترنت بكثرة. فإذا اعتمدناه كأداة اساسية او وحيدة للتواصل مع الآخرين فإننا سنغرق في الوحدة وننقطع عن الناس فعليا. ومعلوم ان التواصل الحي والمباشر مع البشر لا يمكن ان يغني عنه اي شيء وبالتالي فهناك خطر في ان نجلس ساعات وساعات وراء جهاز الانترنت وننسى الحياة الحقيقية. وحتى الثقافة لا يمكن ان نأخذها كليا من الانترنت. فالكتاب لا غنى عنه، وسوف يظل مهما حتى بعد ظهور الانترنت ولن ينقرض كما تنبأ بعضهم بتسرع. ثم يتحدث المؤلف عن حياته الشخصية ويقول لنا بما معناه: لقد ولدت في مدينة «أورليان الجديدة» بأميركا وبالمقاييس المرتزقة للعالم الحديث فإن هذه المدينة تبدو فاشلة ومن يولد فيها لا يكون بالضرورة مؤهلا للنجاح في عالم الاعمال والمال ففي وقت ما توقفت عن ان تكون مدينة تجارية، بل وحتى عاصمة المال والبيزنيس في الجنوب الاميركي. لقد تحولت الى متحف مثلها في ذلك مثل فينيسيا في ايطاليا. والآن اصبحت عاصمة الجنوب الاميركي كله هي مدينة اطلنطا. فهذه المدينة الناهضة لم ترد ان تكون حافظة للتراث والفولكلور وانما مدينة التقدم والتكنولوجيا والبيزنيس. لقد غيرت اطلنطا نفسها وتحولت الى حد كبير. ولم تعد مدينة وانما مطار كبير وهائل، مطار لا يتوقف عن الحركة والدوران. لقد اصبحت مدينة المال والرأسمال. كما انها اصبحت احد المراكز الاميركية الاساسية للانترنت. ولكن ليست هذه هي حالة «اورليان الجديدة» مدينة طفولتي وشبابي الاول فبعد عدة عقود من الفشل الاقتصادي تحولت الى مدينة هادئة بدون ضجيج. وهذا بحد ذاته يمكن اعتباره ميزة ايضا. فمن «أورليان الجديدة» تستطيع ان ترصد حركة التقدم في كل انحاء الجنوب الاميركي. وتستطيع ان تقيس حجم المسافة التي قطعتها المدن الاخرى وليس فقط اطلنطا. ولكن يمكن ان نقول الشيء ذاته عن مدن اخرى في اوروبا: مثل مانشستر في انجلترا، وباريس في فرنسا. فلكي نفهم معنى التقدم وحجم المسافة التي قطعها في السنوات الاخيرة ينبغي ان نعرف من هم الذين خلفهم وراءه: اي من هم ضحاياه.. ففي أورليان الجديدة مثلا يمكنك ان تجد تلك المستحاثات التي فاتها قطار التقدم. ومع ذلك فهي تعتقد انها سيدة العالم. ومن بين هذه المستحاثات يمكن ان نذكر طبقة المحامين وفي طليعتهم والدي بالذات!.. فهم لا يزالون يتصرفون وكأن العالم هو هو لم يتغير ولم يتبدل حتى بعد ظهور الانترنت وتكنولوجيا المعلوماتية الجديدة. ثم يردف المؤلف ميخائيل لويس قائلا: فوالدي واصدقاؤه من المحامين العتاة في مدينة أورليان الجديدة لا يزالون يرفضون استخدام الانترنت والايميل بحجة ان هذه بدع مستحدثة ولا ضرورة لها.. وهناك محام صديق لوالدي نزع جهاز الانترنت بعد ان ركبوه له في مكتبه.. وهو يرفض ان يرسل الرسائل عن طريق الايميل او الانترنت ويفضل استخدام التلفون العتيق الذي يعود في صنعه الى عام 1919!!.. وهو جهاز كان قد ورثه عن والده.. وهو يقول بأن الانترنت صرعة جديدة سوف تزول، ويفضل ان يبقى وفيا للماضي كالديناصورات قبل ان تنقرض. فماذا يمكن ان نقول عن هؤلاء الاشخاص الذين يرفضون التقدم والتطور؟ انهم يعتقدون بأنهم لا يزالون في مركز العالم، هذا في حين انهم قد اصبحوا على هامشه تماما. انهم يشبهون دون كيشوت الذي كان يصارع طواحين الهواء ويعتقد ان العصر الاقطاعي لا يزال موجودا.. وفي ختام كتابه يقول المؤلف بما معناه: لقد ابتدأت بتأليف هذا الكتاب بعد ان كان الانترنت قد اصبح سلعة تجارية. وحاولت ان ابرهن على ان الانترنت قادر على تغيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للبشر. ولكن النقطة الاساسية في كتابي لم تكن هنا، النقطة الاساسية تكمن فيما يلي: وهي ان الانترنت يمثل فرصة ذهبية لم تستغل بعد حتى الآن بالقدر الكافي. واحدى سماته المدهشة تكمن في سرعة دخوله الى الحياة الاميركية حتى اصبح جزءا لا يتجزأ منها. وهذا الشيء حصل لان الكثيرين من الاميركان قرروا انهم بحاجة له. وهذه الحاجة هي ما يهمني ان أدرسه. يقول احدهم: ان المستقبل هو دائما الحاضر، ولكنه حاضر لم يتحقق بعد.. ومستقبلنا مرتبط بالانترنت حتما. ثم يردف المؤلف قائلا: بعد ستة اسابيع من تأليف هذا الكتاب ونشره حصلت تفجيرات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. قد لا يكون المكان ملائما هنا للتحدث عن الاسباب العميقة التي دفعت الى ارتكاب مثل هذا العمل الارهابي. ولكني اعتقد ان الرأسمالية الاميركية ينبغي ان تحاسب نفسها. فالمتضررون في العالم من ازدهارها وتوسعها اصبحوا كثيرين جدا. صحيح ان الارهاب ليس حلا لمشكلة الفقر في العالم الثالث. ولكن الجائع قد يلجأ الى اي وسيلة لاشعار العالم بأنه جائع ومن بين هذه الوسائل الارهاب. ان الانترنت لعب دورا في هذه العملية لان الذين نفذوها ـ او بعضهم ـ على الاقل كانوا متخصصين في استخدام تكنولوجيا المعلوماتية الحديثة. انها ثورة المعلوماتية وخاصة الانترنت التي غيرت حياتنا وتمكط سلوكنا ووصلت آثارها الى اقاصي الأرض.. لكن الى اين يسير العالم؟

 

رحـــــيم العـــــراقي

عن رحيم العراقي

شاهد أيضاً

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي بقلم: شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر “رقص …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *