عبد الإله أحمد مضيت وظلت القصة بلا حبكة
أثير عادل شواي
أغمضت عينيك وغادرتنا بصمت لم تعودنا عليه. لم تكتمل الحبكة يوماً يا ناقد القصة. وبرحيلك الأبدي تنفرط خيوط الحكاية الواهية، ويموت جزء منا معك فيزداد شتاتنا ويتسع المنفى ويبتعد الوطن.
ها أنا ذا عند نهاية قصتك يا أستاذ القصة لا أرى ثمة عقدة تتصاعد الأحداث لتصل إليها ثم تنحل سريعاً، وإنما أتذكر الآن المثل المشهور عن حدثين بلا حبكة ولا عقدة: مات الملك ثم ماتت الملكة! أين حبكتك أيها البروفسور؟!
عشت وحيداً وحزيناً ومحفوفاً بحب لم ترد أن تكشف عنه أو أن يشف عنك. عشت مفتوناً بنفسك وحريصاً عليها ومهموماً بأعباء شيخوخة طويلة لم يمهلك قدرك لتعيشها. كم كنت عنيداً وغضوباً وجريئاً وصارماً ومذهولاً ونافراً. كم بددت بلادة أيامك بمشاجرات ومهاترات ومعارك ضخمها شعورك الدائم بالإضطهاد. وكم بددت معها صحتك ووقتك وبحوثاً لم تكتبها قط.
لعلي قادر على أن أضع ظلالاً من معنى على جانب من رحيلك المر وسط مأساة العراق المتواصلة بكتابتي لهذه السطور، فخلافنا الحاد والمؤسف لم يمنعني من أن أقول إن رحيلك أوجعني بل أبكاني! لماذا كان على الصدفة أن تشتغل بكل ما لديها من زخم حتى أراك لأول مرة وآخر مرة بعد عودتك العلاجية من عمان وأنت ذاو كبغداد وأنا أحزم حقابي لأغادرها إلى آخر أقصاع العالم. ثم ماذا؟ أنت تموت هنا، وأنا أرثيك هناك.
أعلم أنها حبكة ضعيفة هذه التي ذكرتها، وأدري أن الحبكة صنعة وقصتك واقعة، ولكن الجميع يبحث عن معنى. والعقدة والحكبة أليستا معنى بعد كل شيء ؟ ألم نكن نبحث كلانا عن معنى عندما كنت تشرف لسنوات على رسالتي ؟ ألم يقل فورستر إن الحبكة ستظهر عندما نعود إلى موت الملك والملكة فنقول : مات الملك ثم ماتت الملكة حزناً عليه .هكذا غدا لموتها معنى فأين معنى موتك أنت؟!
أعلم أن الموت هو أكثر الأشياء لا جدوى مع التسليم بلمغزى موت المضحين. ولكنني لا أسال عن معنى الموت إلا لأتخطاه إلى معنى الحياة : حياتك التي تسربت من يديك في مستشفى اليرموك ، حياتك التي لم تجلب لها شجاراتك المستمرة الدفء عندما هجرك الآخرون وكنت آخرهم؛ لأنك لم تمنحهم الفرصة كي يحبوك.
عندما متّ عرفت كم أحبك فموتك أوقفك عن منعي عن حبك. وكنت أنت مضطرا، ولم أكن منتظراً.
ليس في الموت من معنى . بل الموت يجرد الحياة من أي معنى! ولم تكن أنت بسبب من ذكائك ونبلك مقتنعاً إلا بذلك. غير أنك كنت مؤمناً بالتفاني بالعمل وبالجد والإخلاص والدقة والأصالة وإن كنت أحياناً- وربما دائماً- تشتط في ذلك. عندما أذكر كل هذا فأنا أريد أن أرسمك بطريقتك لكن بأسلوبي. لم تنجح في جعلي أكتب بأسلوبك طيلة سنوات، أو أن أفكر مثلك أو أن أرتدي جبتك، ولكني أفهمك بعمق، ولكنك للأسف لم تفهمني وإن حاولت أحياناً.
لا أؤبنك إلا على هذا النحو الخاص الذي ينأى عن كل مرثية وكل تأبين، لأن هذا هو طرازك الخاص المختلف عن سواه. ولو أني التزمت ب”أذكروا محاسن موتاكم ” لخنت ذكرك نفسه. علماً بأني هنا لا أهجوك ولا أذكر محاسنك. إنما أتذكرك في ساعة رحيلك تذكراً هو مزيج لم ينصهر أبداً مني ومنك.
لم أكتب يوما عنك إلا حين قدمت طلباً رسمياً أرجو فيه تغييرك بأستاذ آخر يتولى الإشراف على رسالتي التي صارت رحلة كتابتها الطويلة معك مرة كالعلقم ، ولم تذكرني قبل ذلك إلا بخير وبعده إلا بشر، وها أنت ذا تتوقف إلى الأبد عن ذكري وأنا ألزم نفسي بأن لا أذكرك إلا بحب . لكن لمن وأنا غريب ، كغربتك الآن وسط نسيان اللازورد.
عبثاً نحاول البحث عن معنى في الحياة وفي الممات. لقد خدعتني القصة والرواية يا سيدي بما تكتنزانه من معان ! لعلهما لم يخدعاك ! لست أدري. بيد أن المحاولة تستعصي على الإنجاز أكثر ونحن نبحث عن معنى ما في العراق. ما معنى حروبنا وكوارثنا وحصارنا وصبرنا وموتنا اليومي ومقتل عشرات الأبرياء منا يومياً؟ كل حرب تجرد السابقة من معناها ومغزاها وكل حال يعصف بما قبله.
ماذا نسمي الآن قتلانا في الحرب العراقية الإيرانية مثلاً ؟ وقتلى حرب الكويت؟ وما بعدها؟ ماذا تعني أعمار كل من قتلوا أو جرحوا أو ضاعت حياتهم هباء في جبهات القتال أو الأسر أو وقعوا تحت ظل مأساتها، ماذا يعني كل هذا بعد أن باتت هذه الحروب عدواناً على الآخرين ؟ هؤلاء الضحايا ماذا سنسميهم الآن وما قيمتهم الإعتبارية وغير الإعتبارية عند مجتمع ممزق ودولة مفككة؟ أين كل صبرنا الطويل ونحن نقف الآن على حافة مجهول لم نعهده قبلاً ؟ ماذا سنصنع وقد استحال حلمنا بسقوط الدكتاتورية كابوساً.
الحديث يطول . كم كانت أحاديثك طويلة وجميلة ومثقلة بروحك الوثابة في تلك الشقة شقتك التي فقد حيها معنى اسمه القديم السخيف ( 28 نيسان ) تماماً كحيي أنا (7 نيسان ) الذي استحال إلى (9 نيسان ) خلافاً لحيك الذي ظل على ما يبدو من دون أسم. غير أن المعنى الجديد غادر حيي بعد أن أصدرت الحكومة بيانا في 8 نيسان 2007 عدت فيه يوم 9 نيسان يوما عادياً. إذن ماذا يعني 9 نيسان؟ أسماء فقدت قيمة معناها. تماماً كاسمك أنت “عبد الإله” فما الذي تبقى من معناه بعد أن قتل مسماك ” الوصي عبد الإله ” وسحل في الشوارع وقطعت أوصاله في ذلك اليوم الحزين من تموز 1958.
أزمتنا أزمة معنى في لحظة التشظي غير المسبوقة التي يمر بها العراق الذي لم يجتمع بنوه على معنى ما يقفون على أرضيته بثبات. أليس كذلك يا أيها البرفسور؟ أم أنك ما زلت كمعظم العراقيين تحب المعارك الصغيرة وتدرج نفسك في إطارها هرباً من خطورة ما هو أكبر وخوفاً من سلطة لا تحبذ الإنصراف إلى ما يتعدى خطوطها الحمر.
دعني أيها الراحل أختم المشهد الحزين بجوابك إياي عندما سألتك قبل سنوات بعد جلسة دامت لساعات عن كيف تفكر وأنت في عقد الستينيات من عمرك. فأجبتني بسرعة جواباً نبع من روحك الوثابة الفياضة بالحياة: “إنني أشعر الآن أنني بعمرك أنت لا فرق لا فرق !”.
لقد كان يشعر بذلك فعلاً، وقد كنت في الخامسة والعشرين.
وداعاً أيها المتألق بحياة كانت تنبض بشباب ما لبثت أن متَّ بعد أن فارقك. سأذكرك دوماً إنساناً مميزاً وأستاذاً مميزاً.
وشكراً لأنك علمتني ما لم يكن إلا عبد الإله أحمد بمقدوره أن يعلمه. ربما هذا هو المعنى، ولكنه قطعاً ليس حبكة ، ستظل قصتك وقصة بلادك واحدة في النهاية بلا معنى.