الرئيسية / رواية / شبابيك منتصف الليل

شبابيك منتصف الليل

 

 

 

 

ابراهيم درغوثي

 

 

 

شبابيك منتصف الليل

رواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنبيه

 

منعت الطبعة الأولى من هذه الرواية من التداول في تونس .

كما لم تتحصل دار النشر التونسية التي أنجزت الطبعة الثانية من هذه الرواية – منذ سنة 2004 – على صك ترويجها للعموم .

وأنا ، وعلى شاكلة التنبيه الذي يدمغ الأفلام الإباحية أنصح كل من يأنس في نفسه ميلا إلى العادات الحميدة والأخلاق الفاضلة

 ألا يتصفح هذه الرواية ، لأنها حتما ستخدش حياءه  .

 لذا وجب التحذير .

 

( ناصح أمين لوجه رب العالمين ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

فاتحة

 

فتحت شباكا يطل على قلبي .

فماذا رأيت ؟

……. ليلا .

وماذا رأيت ؟

……. ليلا .

وماذا رأيت ؟

….. رأيت ليلا أيضا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنجب جدي ثلاثة أولاد.

سمى الأول خليفة ،

وكناه بأبي الشامات .

وسمى الثاني خليفة ،

وكناه بأبي البركات .

وسمى الثالث خليفة ،

وكناه بأبي اللعنات .

رباهم ، فأحسن تربيتهم .

حفظوا القرآن الكريم في بيوت الله العامرة .

وتفقهوا في علوم الدنيا والدين .

ولم يترك لهم عنان أنفسهم ، إلى أن شبوا ، وصاروا يفرقون بين الحق والباطل ، فأطلقهم في الأرض ، وقال لهم : هي الدنيا أمامكم ، فاختاروا من الطرق الأقرب إلى قلوبكم .

ولا تتحسروا على ما فات …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خليفة الأول .

خليفة الثاني .

خليفة الثالث .

ثلاثة وجوه في وجه واحد .

هو وجهي أنا .

وجهك أنت .

وجه رجل ما زلت لم أره بعد .ربما سأراه .

ربما لا .

ولكن الأكيد أن جزءا من وجه ذلك الغريب ،

سكنني .

متى كان ذلك ؟

لست أدري .

ربما البارحة .

أو ربما منذ الأزل …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكتاب الأول

 

خليفة الأول المكنى بأبي الشامات ينزع

عن نفسه ورق التوت . ويعرض سوأته

على قارعة الطريق أمام كل الناس .

ولا يخجل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

-1-

 

أحمر شفاه واثمد وقمصان حرير للكلبة

 

هل تعرفون كيف تساق الكلاب الشبقة إلى المشنقة وهي تستعد لممارسة الجنس ؟

هناك عدة طرق . ولكل طريقته الخاصة التي لا يتقنها غيره .أنا مثلا ، لي طريقتي الخاصة التي برعت في إتقانها حتى صارت مضرب الأمثال . كنت أبدأ بإحضار أدوات الشنق : حبل من مسد ، وسكين من صنع حداد القرية سميكة ومشحوذة من الحدين ، وعصابة صوف . أكدس هذه الأدوات في مكان آمن ، ثم أقوم بجولة لاختيار الشجرة التي سوف أشنق على غصن منها الكلب . بعدها أذهب لتحضير الحطب والقلة . ولا أنسى البهارات واثوم والبصل والفلفل الأسود .

وكلبتي التي تكون وقت السفاد زائغة النظرات ، لا يقر لها قرار . وأنا أداعبها وألبسها قمصانا من الحرير الوردي . وأضع لها أحمر الشفاه . وأكحل لها عينيها بالاثمد . ولا أبخل عليها بما طاب ولذ من المأكل والمشرب .

ثم ألبس بذلة الجزار ، وأذهب إلى الغابة مصحوبا بالكلبة المشدودة إلى يميني بحبل المسد المربوط في عنقها .

كانت إذا رأت الكلاب تترجاني بهريرها أن أطلق سراحها ولو لدقيقة واحدة . وكنت دائم الرفض ، إلى أن أرى الموت في عينيها ، فأطلقها . فتقفز إلى صدري ، وتلحس وجهي ، وتفر إلى الحرية . وأنا ، وقد ملأتني الغيرة حد الانفجار ، أخاف أن تهرب مني ، وتفوت عني فرصة الانتقام .

والكلبة لا تدري ماذا تفعل بزينتها ، ومن تختار ؟ فتعود إلى جواري تطلب النجدة ، فلا أبخل .

ناديتها ، فجاءت تبصبص بذيلها ، وتتمرغ تحت قدمي ، ولعابها يسيل . مسحت على مؤخرتها ، فتمططت ، وعوت  وكأن   أللذة تخنقها . وعادت إلى العويل ، فظهرت الكلاب ، وخرجت من وراء الأشجار . كلاب كان عهدي بها شرسة . كلاب سوداء مرقطة بالأبيض ، وحمراء في لون قرص الشمس الذابل . وبنية . وكلاب عربية من البادية القريبة من الواحات ، ذات شعر أبيض ناصع كالثلج  وكبيرة الحجم . وكلاب صغيرة  ذات قوائم معقوفة وتافهة  وكلاب هجينة من أم كلبة ركبها ابن آوى . وكلاب وجوهها مدورة وأوداجها أتخمها الشبع … وأنا أمسح على ظهر كلبتي . أهيجها . أدفع فيها الشهوة إلى أقصاها . فتنظر في وجهي راجية أن أطلق سراحها . والأنشوطة في يدي .والحبل المتين يحز عنقها ، ولا تتألم . والكلاب تراودها عن نفسها من بعيد ، من وراء النخل الباسق . وأنا أترقب وصول كلب رأيت في وجهه صورة أبا الهول . ّأترقب ذلك الكلب لأميته بعد أن يركب كلبتي . أشنقه على غصن شجرة التين التي باركها الرب .

والتين والزيتون .لأشفين منك الغليل أيها الكلب السمين .

حين وصل الكلب الأسود إلى الموقع الذي اخترته هذا الصباح لتنفيذ جريمتي . جريمة الشنق والذبح بمدية مسنونة الحدين . حاصرتني ذكرى الشيطان . فالكلب الأسود في معتقدات سكان الواحات شيطان ابن ألف شيطان . لا تفل في ذبحه سكاكين الأرض جميعها . وتذكرت الكلب الذي ذبحته منذ سنوات بعد أن أطعمته لحما ممزوجا ببنج شديد المفعول يستعمل عادة  للتخدير في العمليات الجراحية ، وكيف قام ذلك الكلب ، وجرى والدم يسيل من عنقه المقطوع إلى النصف . وكيف عاش بعنق أعوج أكثر من عام . وكيف هددني أكثر من مرة ، وجرى ورائي ، وبال على أثوابي وأنا أستحم في الترعة . وغازل كابتي ولم يقع في الفخ الذي نصبته له بين فخذيها وهي مازالت جروة لم تبلغ بعد. ولم يمت إلا بعد أن مرت على جمجمته عجلات القاطرة ، وهو ينبح ويجري أمامها فوق سكة الحديد .

التقت نظراتنا مدة دقيقة ، والكلبة تتلوى وتعوي ، وأنا أهدهدها تارة ، وأفتل حبل المسد تارة أخرى . ثم أفرجت عنها .

جرت في كل الاتجاهات كالهارب اليائس من النجاة ، المحاصر داخل دائرة بدون منافذ . ثم عاد إليها صوابها ، فوقفت مهتاجة – جميلة في عيون الكلاب – تفوح من جسدها الأملس السمين رائحة الحب الحادة . وجرت الكلاب نحوها مجنونة . وتقاتلت فيما بينها وهي تغرز أنيابها في اللحم الطري .وجرى دمها من الجراح الفاغرة أفواهها ، وهي لا تكترث لكل ذلك .

والكلب الأسود يراقب المشهد من بعيد بعين حمراء .

والكلاب المهتاجة تقفز في وقت واحد بين فخذي كلبتي . تركبها للحظة ، ثم تسقط عاوية ، نائحة ، مزمجرة . والكلبة ترفض الجماع ، وتغلق أبواب الرحمة في وجوه الجميع . وأنا ، كالكلب الأسود ، أراقب من ناحيتي المشهد المثير للضحك والشفقة والسخط ، وأترقب ساعة الصفر . وحبل المسد يتلوى بين أناملي . والأنشوطة تستوي كأحسن ما يكون .

ثم فجأة لعبت قي رأسي فكرة . مرت خاطفة مرور البرق في السماء وذكرتني بما كنت أفعل في زمن الصبا ، حين كنت وصبيان الحي نلتقي بكلب وكلبة وقد اشتبكا مؤخرة إلى مؤخرة . كنت أستل من جيبي سكينا ومبردا وأقف أمام الكلب الذي أسكرته اللذة . الكلب الذي يرفض ترك قرينته بعد الركل بالأرجل ، والخبط بالحجر ما بين العينين . وأشحذ السكين إلى أن يقدح الشرر ، ثم أمسحها على مؤخرة الكلب ، وبضربة خاطفة أقص ذكره من الجذر .

في العادة ، تكون المفاجأة حادة ، فلا يفيق الكلب من الخدر اللذيذ إلا حين تعوي الكلبة وتفر ، وأير المفجوع في رجولته مغموسا في فرجها . وأرى الكلب وهو يتلوى من الألم ، ويعض مكان الجرح وقد تفجر دما . ثم ينطلق في عدو مجنون إلى نهايته .

قلت : لا .لقد جربت هذه اللعبة ، ولن أكررها الآن مع كلبي الأسود .

إن حساب هذا الكلب أكبر من جرح بين فخذيه …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 2 –

الختان

 

كان عمري أقل من سنتين ، حين انحبس البول في مثانتي  صرت أتلوى من الألم ، وأصبح لون بدني في زرقة سماء الصيف . وانتفخت مثانتي حتى صارت في مثل كرة المضرب . وركبتني الحمى ، فامتنعت عن الأكل وعن الرضاعة .

وأعولت نساء الدار : الأخوات والعمات والخالات .

وافتقدت يومها حنان أمي .

طلب رجل من أبي أن  يصحبني إلى المستشفى ليقص الطبيب قلفتي ، فلا دواء لمرضي إلا الختان . زمجر أبي وهدد الجميع بالطرد من المنزل إن هم عادوا إلى مثل هذا الكلام .

قال : كيف أترك كافرا نصرنيا يطهر ولدي وان كان طبيبا وركب حصانه الذي سار به خببا ، وذهب يبحث عن عبد المؤمن الطهار .

حين عاد أبي إلى الدار كانت الشمس تودع الكون . وكنت في الرمق الأخير .

لم أدر كيف فتح الرجال فخذي لينجز الشيخ شبه الضرير مهمة قص القلفة وهو يقرأ الفاتحة ويستعيذ بالله من الشياطين .

ولم يكتف مقص الشيخ بالقلفة فقط ،  وإنما قص معها نصف الذكر أيضا . حينها فار الدم ، وانساب مع البول على وجه الشيخ ولحيته الطويلة .

كان الخليط سخنا ، مالحا ،   نتنا عكر جو الغرفة ، وملأها قرفا .

وأغمي علي ، والشيخ يضمد الجرح ، ويضع فوقه مزيجا من السواك والطمي والتراب المستورد من زاوية سيدي عبد القادر الجيلاني إلى أن صارت عانتي كدسا من التراب الممزوج بالدم والبول .

كانت الزغاريد التي انطلقت ساعة القص قد خمدت بعدما سمعت النسوة الخبر المؤلم . وكان الشيخ عبد المؤمن قد هرب من الدار راجلا دون أن يزدرد من الكسكسي ولحم الخروف .

وظل حصانه في ساحة المنزل يحمحم ويضرب الأرض بحوافره .

وجاءت أمي . وضعتني في حضنها ، وطارت بي إلى السماء السابعة .

حين أفقت ، عند منتصف الليل ، كان البول قد عاد إلى الانحباس ، فعدت إلى الصياح والأنين كلما زاد ألم الجرح في عذابي .

في الصباح ، ما عاد أبي يحتمل صياحي ، فوافق على اصطحابي إلى المستشفى .أركبوني عربة يجرها حمار . ورافقتني واحدة من زوجات أبي . تلك التي ما عاد يطأها لكبر سنها ولزهده فيها .

سار الحمار وئيدا ليقطع بنا مسافة عشرين كيلو متر خلال نصف يوم .

عندما وصلنا المستشفى ألبس أبي عجوزه نقابا ، وتركها تحت الحائط ، كومة من السواد . وساقني أمامه . دببت دبيب النمل ، منفرج الساقين . وهو يراقبني ، ويرفض حملي في حضنه أو مد يد المساعدة  ، إلى أن نهره الطبيب أمام باب العيادة :

هل قلبك من حديد أيها الرجل ؟

حين وضني الممرض على طاولة العمليات ، ورمى الخرق الملوثة بالدم الذي تخثر وأنتن ، صاح ، ثم أغمي عليه وهو يرى دودا صغيرا يدب فوق الجرح .

وجاء الطبيب ، فوجد الذكر مقصوصا إلى النصف ، فجن جنونه ، وصار يرطن بفرنسية امتزجت بكلام عربي مكسور .

سب الطبيب أبي . وسب الطهار والطهارة والمتطهرين .وجاءت سيارة الأمن …

بقيت في المستشفى نصف شهر إلى أن برأ الجرح . وخرج أبي من السجن فرفض النظر في عورتي وهو يردد كالمجنون : ما هذا الطفل بولدي .

ولم يكلمني إلى أن مات .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 3 –

 

يوم وضعت حبل المشنقة في عنق أبي الهول

 

… وتستمر المسرحية أمامي . أبطالها كلاب شبقة ، ورجل مجنون يشاركهم فصول اللعبة . والكلب الأسود يتحدى الجميع بسكونه وصبره إلى حين تلتقي نظراته بنظرات الحنان والرجاء في عيني الكلبة ، فيتقدم نحوها في هيبة سلطان يحتفل بتتويجه .

وتفر الكلاب من أمامه، ولا يبقى فوق الركح سواهما .فيتقدم نحوها ، يتشممها ، ثم يدور حولها ، ويرفع قائمته الخلفية ، ويبول في وجهي . ويعود إلى شم الكلبة . ويبدأ طقس الغرام . يعضها من عنقها عضا خفيفا وهي تهر وتعوي . وأنا أدري إن كان عواء اللذة أم الألم . ويبول الكلب في وجه العالم ، والكلبة تترجى الوصال ، وهو يمانع ، إلى أن تركبه ، فيعوي عواء حادا فيه تهديد ووعيد. وتخاف كلبتي فتعود إليه ذليلة . وأنا والكلاب الأخرى كونا دائرة قرب الركح . وتضيق الدائرة ، وتضيق إلى أن رأيته يستل سيفه ويغمده بين فخذي الكلبة بلطف وحذق وهو يرهز رهزا خفيفا مدة طالت في نظري دهرا ، ثم يهبط على الأرض ومؤخرته تضرب مؤخرتها ، وريقه يسيل … تركتهما هكذا وذهبت … كومت الحطب كدسا كبيرا ، وسكبت فوقه قليلا من البنزين ، وأشعلت النار . طقطقت أعواد الزيتون الجافة ، وارتفع اللهب أحمر وأزرق . وبدأت أدق الطام طام كما في أفلام الهنود الحمر ، وأرقص ، ثم تجردت من ثيابي . رميتها فوق اللهب ، ورقصت حولها وهي تشتعل إلى أن سال عرقي غزيرا . والكلبان المشدودان إلى بعضهما بالعروة الوثقى ، يرقبان المشهد . رأيت في العيون البراقة هزءا ممزوجا بالخوف ، فقلت : لن أفوت هذه الفرصة . أجذت الأنشوطة ، وتقدمت نحو الكلبين المتشابكين بدون فكاك . اقتربت منهما بخطى ثابتة ، والكلب الأسود ينظر في عيني . رأيت رجاء في عيني كلبتي ، فكدت أعود وأسكب ماء باردا على نار جهنم . إلا أنني تذكرت الكلب الأسود وهو رابض فوق صدري ، وقد تحول إلى قبر . رأيته يبول على شاهدة القبر ، ويعود ليربض من جديد فوق الصدر ، فوق القبر ، كما يربض أبو الهول . وسمعت هريره الخافت من جديد .

التفت إلى نار الله الموقدة وقلت : لأشوينك فيها يا ابن الفاعلة . رأيت عينيه المفزوعتين يداخلهما الرعب ، وأنا أقترب منه ، وأمسح على مؤخرته السمينة … وهبطت على قلبي السكينة حين وضعت الأنشوطة حول رقبته . ونظرت في وجهه ، فاختلطت علي الوجوه . وجه أبي يتكرر آلاف المرات ، ويختلط بوجوه الكلاب  التي تدور حولي وتعوي . وتتظخم هذه الوجوه ، وتكبر إلى أن صارت في حجم أبي الهول . قلت : ستموت ميتة الكلاب يا أبا الهول . أنت ، أيها الذي جعل العالم يضحك على ذقوننا دهرا كاملا . وجررت الحبل كما يجر الساقي حبل الدلو فوق بئر الماء . استطال عنق الكلب ، وارتفعت القائمتان الأماميتان ، ثم المؤخرة المربوطة بالعروة الوثقى إلى مؤخرة الكلبة ، فبطنها ، فقائمتاها الأماميتان . وخرج لسان الكلب ، وجحظت عيناه حتى انفلقتا .

وسال بوله تحت شجرة التين وهو يتخبط في الفضاء ما بين السماء والأرض ، ويحرك قوائمه وكأنه يسبح في بحر متلاطم الأمواج . ثم بدأت حركته تخف و تخفت إلى أن همد ، ومد لسانه طويلا ، أزرق .

تركت الحبل يسقط ، فسقطت الكلبة أولا ، ثم تلتها جثة الكلب الذي بدأ يتحول رويدا رويدا  إلى بني آدم … إلى أن استوى إنسانا كاملا .

أهويت بالسكين على عروق الرقبة النابضة بخفوت ، ففار الدم غزيرا ، وسال فوق الحشائش ، ثم تخثر فوق التراب .

جررت الجثة كما هي ، وأنا لا أدري إن كنت ذبحت كلبا في صورة إنسان أم أنني ذبحت إنسانا وقد تحول إلى كلب  ورميت بالجثة فوق النار الملتهبة ، وجريت إلى الوادي أتطهر من هذا الرجس .

ثم انخرطت في بكاء محموم ….

 

– 4 –

أبي يعشق روائح الند والبخور خاصة في بيت نومه .

 

في كل المنازل كان الرجال يعاشرون امرأة واحدة .

زوجة أحلها الشرع والقانون ، ولا يتعدون لثانية أبدا آلا بوفاة أو طلاق . فقد حرم رئيس الجمهورية السابق  المجاهد الأكبر فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة تعدد الزوجات في تونس بمرسوم رئاسي صدر بالرائد الرسمي للجمهورية ، وصادق عليه مجلس الأمة الموقر بإجماع أعضائه ، وباركته الدول المتقدمة ومجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة . وصفق له المغفور له – كمال أتاتورك – في قبره .

أما في منزلنا ، فقد كان أبي يعاشر من النساء الشيء الكثير . جرب الحضريات ، كما جرب بنات البادية . وبنى بالتونسيات كما بنى بالطرابلسيات ، اللاتي هربن مع أهاليهن من أهوال حرب الطليان . وجمع في المنزل ما لا يحصى ولا يعد من المغربيات اللاتي سكن مناجم الفوسفاط واقتنى من الجزائريات من بنات القبائل خاصة ، اللاتي جئن مصاحبات للرجال والأبناء في قطارات الشركة، طلبا للرزق والأمان . فسكن في الأحياء الفقيرة ، في مدن ولاية قفصة الحالية . وبما أن مردود العمل في المناجم كان ضئيلا فان الأهل كانوا يفرطون في بناتهم . ، ويعرضوهن على كل طالب قرب ، خاصة إذا كان الطالب ميسور الحال .

كان أبي يردد في كل المناسبات : الرب من فوق سماواته السبع مكنني من أربعة ، وما ملكت يميني ، أنكحهن أنى شئت ، فكيف يحرمني العبد من ذلك ؟

ودخل السجن في هذا الأمر أكثر من مرة .

كان يتحايل على القانون وعلى الشرع . كأن يطلق الواحدة ، ويبعث لها بورقة الطلاق الممهورة بختم المحكة الشرعية ، ثم يراجعها سرا على أيدي جماعة من المؤمنين ، كما في عهد الصحابة . ويولم لهؤلاء الجياع ، فيأكلون الكسكسي ولحم الخرفان السمينة ، ويعود أبي إلى فراش زوجته وكأن شيئا لم يكن .

في تلك السنين البعيدة ، وأنا صغير ، خطرت ببالي فكرة لا أدري من أين جاءتني . كنت أظن أن المرأة تلد زوجها . وحيرتني كثيرا حالة أبي . فعندما بدأت أعي الحياة ، كان بمنزلنا امرأة من قبائل الهمامة ، وواحدة من الفراشيش ، وطرابلسية ، وواحدة بربرية من تيزي وزو .

كانت الأمور تختلط كثيرا في رأسي . فمن من هؤلاء النسوة ولدت أبي ؟ وكنت في الغالب أرجح البربرية لأنها أصغرهن وأجملهن . وكان أبي يقربها كثيرا . وكنت أخجل حين أراه يقرص خدها ، فيحمر وجهها خجلا وتقول له :

– الصغير يراقبنا يا رجل . فتفلت من بين شفتيه سبة ، ويقذفني بما في يده ، فأهرب وألبد وراء الهمامية التي كبرت وترهل جسدها حتى صارت لا تقدر على المشي إلا بصعوبة ، فتحتضن في الابن الذي لم تنجب وتقول : ألم أنصحك بعدم الاقتراب من ذلك الوحش . إلا أنني كنت أخالفها دائما ، فأعود إلى المراقبة ، ويعود غلى السب والشتم .

كان ينام كل ليلة في بيت واحدة من زوجاته . فإذا كانت ليلة المرأة الهمامية ، كان يشخط ويثور في وجوهنا لأتفه الأسباب ، فنكرهه لذلك ، ونتمنى له الموت الذي لم يأت . وحتى يجيء الموت ، كنت وبقية إخوتي الذكور ننتقم منه بطريقتنا الخاصة ، فنزرع فراشه إبرا ومسامير نلتقطها من الشارع أو من أمام مستودعات شركة الفسفاط . ونذهب إلى النوم باكرا لتهاجمنا الأحلام المزعجة . فنراه وقد تحول إلى حيوان بري كبير له وجه إنسان وجذع أسد . وفي الوجه فم واسع له أنياب حادة كأنياب الكلب . وعلى كامل الجسم مسامير وابر.وتظل تلك الأحلام تلازمنا إلى أن نفيق في الصباح ، فيحكي كل واحد منا لإخوته ما أفزعه في الليل الفائت ، فنحس وكأننا حلمنا حلما واحدا .

أما ليلة البربرية ، ففيها يختلف الأمر كثيرا . يذهب أبي إلى الحمام في العشية . يأخذ معه الثياب النظيفة ويملأ قلبه بالفرح والانشراح . يقضي ثلث الليل الأول خارج البيت ولا يعود إلا عندما تكف الأرجل على ارتياد الحوش . يأتي محملا بالهدايا : الحلاوة الشامية واللوز المحمر وثمار الفصول : عنبا وبطيخا ، وموزا وبرتقالا وتفاحا . ويتزوج الطفلة وكأنها عروس زفت إليه في تلك الليلة . يكون البنت قد ذهبت إلى الحمام منذ القائلة ، وتزينت بألطف زينة ، ورشت سريرها بالعطور ، وأشعلت كانونا ورمت فوق الجمر بخورا ، وأحرقت أعواد الند . كان البيت يتحول في تلك الليلة إلى سوق للعطورات . وكان أبي يبدو في الصباح الموالي مذهولا ، وكأنه فقد عقله يقرأ الأشعر الغزلية ، ويتنهد .ثم حين يعود إلى الرشد يذكر المجنونة ويبكي …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 5 –

عاشق المجنونة

 

بدأ يحفر تحت الباب بيديه الاثنتين ، بأظافره ، وبالسكين . حفر مابين الصخر ، تحت الباب الكبير … ها هي الساعة العاشرة ليلا ، والبت في ركن قصي من الشارع . في ركن قليل الإضاءة . والمارة ، شدهم الحر ، فما بارحوا ساحات المنازل حيث الرمل المرشوش بالماء . حفر مدة حتى أحس برؤوس أصابعه تلتهب لكنه دفع بها من جديد تحت الصخر… توقف هنيهة ، ثم عاد إلى الحفر بالسكين وبالأصابع التي بدأ الدم يسيل من رؤوسها .

مر نصف ساعة ، ولم ييأس . يجب أن يحفر ممرا تحت هذا الباب الكبير . رفع رأسه يتأمله . رأى نفسه صغيرا تحت دفتيه الكبيرتين . هو باب مصنوع من خشب النخل المصقول . به مسامير كبيرة تزينه وتعطيه شكلا جميلا . مسامير مدقوقة داخل الخشب على شكل دوائر . تبدأ الدوائر كبيرة ثم تتداخل في بعضها وتتشابك … في وسط الباب ثقب كبير هو مكان المفتاح المصنوع عند حداد القرية . صناعة قديمة جدا توارثها الأحفاد عن الأجداد منذ ألف سنة أو يزيد . نظر إلى الثقب الأسود . على جوانبه قطع نحاس تبرق .وضع إصبعه في الحفرة وحاول فتح الباب وكأن إصبعه المفتاح . أدار الإصبع في كل الاتجاهات . تحول إصبعه إلى مفتاح. سمع تكتكة ولكن الباب لم ينفتح . سب الحداد الذي صنع القفل ، وسب جد جده ، وعاد من جديد يحفر تحت الباب ، والدم يسيل من رؤوس أصابعه ، والسكين ما عادت تنفع …

سمع الديكة تتصايح . وثار غبار الصحراء . وغاب القمر . قام على ركبتيه ، وبدأ في دفع الحجارة الكبيرة المدفونة تحت الباب ، على هيئة دكة صغيرة . دفع بجهد أربعة رجال . دفع والأمل يملأ قلته في أن يحدث ثغرة تحت الباب يمر منها إلى السقيفة ، ثم إلى صحن الدار ،  ثم إلى بيت صفية ، إلى بيت تلك المرأة المجنونة التي أحبها حب عبادة ، وبادلته حبا بحب ، ثم هربت منه إلى الجنون لما رفض إخوتها أن يزوجوه إياها بدعوى أنه زير نساء …

ولم ييأس . عاد ينظر إلى حجم الباب الكبير الواقف أمامه . رفع عينيه إلى فوق . رأى الحائط ذو علو شاهق لا يمكنه أ ن يتسلقه ولو بحبال . والديكة عادت إلى الصياح .وغبار الصحراء ما زال يملأ المكان . جثا على ركبتيه ودفع الصخرة التي أطاعته هذه المرة . ذهبت إلى الوراء شيئا فشيئا ، والعرق يسيل على جبينه ويدخل إلى عينيه المحمرتين من التعب والإرهاق . والصخرة تذهب بهدوء إلى داخل السقيفة ، وهو يتابعها بيديه وزنديه ، إلى أن ظهرت الثغرة واسعة كرحمة الرب ، فقام وتفل على ثقب الباب ، ثم نزع عنه ثيابه ووضعها كدسا أمام الباب وطلى جلده بالزيت .صب على صدره ويديه ورجليه وبطنه وظهره الزيت من قارورة جاء بها من البيت . قال سأصبح رطبا أملس ولن يقدر أحد على ألامساك بي لو وقعت في الفخ . ثم انزلق داخل السقيفة .

كانت السقيفة سوداء … طويلة كالزقاق … ، وعلى جانبيها أبواب أصغر قليلا من باب الحوش . إنها المصائف التي يستقبل فيها أصحاب البيت ضيوفهم في فصل الخريف ، بعد جني التمور .

بقي مدة واقفا إلى أن اعتاد نظره على الظلمة ، ثم مشى مع الجدار بخطى صغيرة متعثرة ، وقلبه يدق بعنف ، إلى أن وصل إلى نهاية الممر .

ظهرت باحة المنزل . رآها واسعة ، مربعة الشكل ، والبيوت تفتح عليها . هناك بابان موصدان ، وبقية البيوت مفتوحة … منذ متى لم يدخل هذا المنزل ؟ منذ عشر سنوات ؟ أكثر ؟ منذ عشرين سنة ؟ ربما ؟ سمع شخيرا . شخير رجل يأتي من وراء الباب الموصد . سمع طفلا يبكي من وراء الباب المفتوح .

سمع هدهدة أم .

ونبح جرو صغير أمام باب آخر . نبح وهر ثم عاد الى نومه .

أي الأبواب سأطرق ؟ هذا الذي على يميني ؟ قد يكون بيت أحد إخوتها .لها سبعة أخوة . لكل واحد زوجة وأولاد . وهي تنام مع أمها ومع الجنون .

بعد أن رفض إخوتها تزويجها منه حاولت الهروب من المنزل ، فما قدرت . وعندما أعلمتهم النساء بذلك ، كمموها ، وربطوها في سلسلة واحدة مع الكلب ، وعلقوا السلسلة عاليا ، فوق غصن شجرة زيتون ، في وسط الحوش .مر عليها الحر والقر وهي لا تتزحزح من مكانها . رفضت في بادئ الأمر الأكل ، ثم صارت تأكل والكلب في صحن واحد .

وعاد ينظر الى الأبواب .

– أي الأبواب سأفتح ؟

وعاد الطفل إلى البكاء .

قال : سألغي هذا الباب .

وعاد الشخير يقرع أذنيه بعنف .

– سألغي هذا الباب أيضا .

مازال أمامي ستة أبواب ، في أيها سأجد مجنونتي ؟

سأعد ، وسأدخل الباب الثالث ، على يميني . هكذا بالصدفة

سأترك الصدفة تقودني .

واحد …

اثنان …

ثلاثة … وهر الجرو أمام الباب .

لا . لن أدخل هناك .

أين ادن سأدخل ، يا قلبي اللعين ؟

أز باب .

خرج منه طفل . وقف يفرك عينيه ، ثم أخرج حمامته وبدأ في التبول .

– أين سأجد مجنونتي ؟

سأدفع هذا الباب الذي يلي مباشرة جنب السقيفة الأيمن .

مشى خطوات قليلة ، وارتبك ، فعاد إلى ظلام السقيفة . اندس هناك وترقب الفرج . في تلك اللحظات ، قال في نفسه : لو أغادر الآن المنزل لأعود إليه في مرة أخرى بعد أن أدس إليهم بعجوز تعرفني باب بيتها .

في الخارج ، عادت الديكة إلى الصياح ، والكلاب إلى النباح . وتجاوبت الأصداء في أرجاء الليل .

فجأة ، سمع قعقعة باب وراءه . انفتح الباب الكبير ، ووقف رجل في الفتحة حائرا ، مترددا ، هل يغلق الباب وراءه أم ينادي على السكان . رأى كدس التراب والصخرة التي تدحرجت داخل السقيفة . وتعرف ثياب الغازي . ورأى في نهاية الضوء طيف رجل . ظهر له الطيف لحظة ، ثم اختفى .

سد الباب بجسمه الضخم ، ونادى بأعلى صوته عن واحد من إخوته . تردد الصوت في أرجاء البيت المملوء نعاسا . ولم يجبه أحد ، فأعاد النداء من جديد :

همام … أين أنت يا همام ؟ أفق يا رجل …لقد طرق طارق بابنا …

نبح الجرو ، وطارت الدجاجات وهي تقوق . وخارت البقرة . وحدث هرج ومرج داخل الحوش . وخرج همام من وراء الباب الذي كان الصغير قد تبول أمامه . جاء يحمل فانوسا ويحك شعر رأسه .

قل .ما بك يا أخي ؟ ماذا دهاك ؟ هل سرقت صابة التمر ؟

رد عليه : لم تسرق الغابة يا أخي ، ولكن أنظر هنا . إلى ترى عجبا ؟

جثا الرجل على ركبتيه يتفحص آثار الغزو . رأى الحفرة والصخرة وكدس الثياب أمام الباب .

وجاء بقية الإخوة والأولاد والنساء . ولم تظهر المجنونة وأمها .بحثوا في أرجاء البيت الكبير : في قن الدجاج ، في إسطبل البهائم ، في الزريبة ، في بيت الخلاء ، وراء ألواح الخشب ، فلم يجدوا أثرا لزائر الفجر .

ذهب همام إلى ساحة الدار ، وقف أمام باب أمه ، وزأر :

– أخرجي العاهرة وصاحبها يا أمي .

لم يسمع جوابا ، فدفع الباب برجله وبظهره وبيديه ، ولم يفلح في تكسيره ، فكأن وراءه متراسا كبيرا .

وجاء صوت أحد الإخوة ، أجشا :

– لا تتعب نفسك يا أخي ، سنحرق الباب .

وطلب من زوجته أن تأتيه بقارورة نفط .

جاءت المرأة بالقارورة وهي ترتعش ، فسكب من النفط على ألواح الباب اليابس وأشعل النار . فاشتعل اللهب ، وطقطق الخشب . وصاحت الأم من وراء اللهب :

– لن أسامحك في قطرة واحدة من حليب الثدي الذي رضعت يا همام .

خاف الأطفال ، فبكوا ، ولبدوا وراء تنانير أمهاتهم ، فزجرهم الآباء وطلبوا من أزواجهن أن يدخلوا الأبناء إلى الدور وأن يغلقوا وراءهم الأبواب

وسكب الرجال نفط الفوانيس فوق النار التي عادت إلى الاشتعال بحرارة شديدة . وصوت المجنونة يأتي مخنوقا من داخل الجحر الذي ملأ الدخان أرجاءه .

وتساقط لوح الباب بعد أن صار قطعا من الخشب المحروق داس همام فوق الجمر برجليه الحافيتين ، ومر إلى داخل الغرفة . أخرج أمه وقد صارت كدسا من اللحم المشوي ، ثم عاد من جديد إلى الدار. وجد المجنونة جالسة فوق صندوق خشبي كبير . دفعها ، فهوت على الأرض ، ورفع غطاء الصندوق . وجده هناك يكاد يخنقه الدخان وصعوبة التنفس فدعا إخوته إلى الدار . جاءوا يحملون المعاول والفؤوس والنبابيت . رفع أحدهم عصاه وهوى بها على صدغ الرجل ، إلا أن هماما دفعه ، فأخطأت الضربة الرأس .

قال له : ما هكذا يشفى الغليل يا أخي .

وطلب ماء باردا دلق منه على الرجل ، ففتح عينيه بصعوبة ، ثم عاد إلى غيبوبته .

وعاد يصب الماء على بدن الرجل إلى أن أفاق تماما . حينها دعا همام زوجته ، فجاءت تتعثر في جلبابها الطويل .طلب منها أم تحضر له زيتا وفلفلا حارا مهروسا .

عادت المرأة وبيدها طلبات زوجها . وعاد الرجل يطلب صحنا كبيرا ، فجيء بالصحن .

دلق همام الزيت في الصحن ، ثم رمى فوقه الفلفل الحار المهروس ، وراح يحرك الخليط بعود على هيئة خازوق . والرجل الذي استعاد وعيه ينظر إلى الجميع مذهولا . تكاد روحة تخرج من بين جنبيه .

عندما استوى الخليط ، نادى همام سكان البيت الكبير ، ولم يستثني النساء والأطفال .طلب منهم أن يكونوا دائرة في الساحة .وطلب من الرجال أن يضعوا الغازي في وسط الساحة .

جيء به إلى هناك طائعا ذليلا .

طلب همام من إخوته أن يشدوا وثاقه . وأمرهم أن يربطوا كل يد من يديه مع واحدة من رجليه .

اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، واليد اليسرى مع الرجل اليمنى ، وأن يشدوا الوثاق شدا عنيفا .

ورفع الرجل  بالسواعد المغتاظة ، وغرس رأسه إلى الأسفل وجذعه إلى فوق ، فظهرت عجيزته كبيرة ، برق  من أثر الزيت والحر .

باعد همام ما بين الآليتين ، وسكب خليط الفلفل الحار والزيت في إست الرجل ، وراح يمعن في إدخاله إلى جوفه بواسطة المهماز الحديدي . ويعيد دلق الخليط فوق الإست ، والرجل لا يبدي مقاومة ، إلى أن شرب الخليط الفظيع  من دبره .ثم دعا بأتان وزنبيل . وضع الإخوة الرجل في عين من عيني الزنبيل وملأوا العين الأخرى بالروث ، ثم رموا بالخراء فوق الحمل . وضرب همام الحمارة بعصاه فانطلقت تعدو مسرعة حتى كاد الحمل يسقط على الأرض ، ثم تماسكت البهيمة وسارت الهوينى . وسار همام وراءها إلى أن وصل أمام مركز الشرطة ، فأوثقها إلى عامود كهرباء قريبا من الباب ، ورجع إلى الحوش .

لما وصل ، ذبح المجنونة وردمها في الحفرة التي تحت الباب ، ووضع الصخرة فوقها ، وساح في أرض الله الواسعة .

 

 

 

 

– 6 –

كل إناث الحيوان أطيب من النساء ( الجاحظ )

 

كانت لنا مكتبة عامرة بكتب التراث . قرأت أكثرها وأنا مازلت في الجامع أحفظ القرآن فوق حصير بائس يرتع في جنباته البق والقمل , إلى أن أودع أبي السجن ، فتركت حصير الجامع بدون رجعة ، واكتفيت بالقراءة في كتب الدار .

كنت أفرغ الصناديق الكبيرة من الكتب الثقيلة وأنفض عنها الغبار ، وأعيد ترتيبها حسب الحجم . فأنا ما كنت أفرق كثيرا ، في ذلك الحين بين كتب الحديث واللغة والنحو والصرف وأدب الرحلات وشعر المتصوفة الكبار وكتب البلاغة والتاريخ .فأقرأ العناوين وأسماء المؤلفين ، هكذا للهو وتمضية الوقت ؛ إلى أن صادف وقرأت مرة في كتاب ( الحيوان ) لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، نفعنا الله ببركاته ، هذه الحكاية :

( خبرني من لا أرد خبره أنه أشرف من سطح له ، قصير الحائط ، فإذا هو بسواد في ظل القمر ، في أصل الحائط . وإذا أنين كلبة . فرأى إنسانا يدخل في القمر ، ثم يرجع إلى موضعه في الظلمة .فتأمل في ذلك ، فإذا هو ينيك كلبة .قال : فرجمته ، وأعلمته أني قد رأيته . فصبحني من الغد يقرع الباب علي .

قلت له : ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ فلقد ظننت أنك ستركب البحر ، أو تمضي على وجهك إلى البراري .

قال : جعلت فداك . أسألك أن تستر علي ستر الله عليك . وأنا أتوب على يديك .

قال : قلت ويلك ، فما اشتهيت من كلبة ؟

قال : جعلت فداك . كل رجل حارس ليس له زوجة ولا نجل ، فهو ينيك إناث الكلاب إدا كن عظام الأجسام .

 قال : أما يخاف أن تعضه ؟

قال : لو رام منها دلك غير الحارس التي هي له وقد باتت معه ، فأدخلها في كسائه في ليالي البرد والمطر ، لما تركته . وعلى أنه إن أراد أن يوعبه كله ، لم تستقر له .

قال : ونسيت أن أسأله ، فهل تعقد على أيور الناس كما تعقد على أيور الكلاب ؟

فلقيته بعد ثلاثين سنة .

قال : لا أدري ، لعلها لا تعقد عليه لأنه لا يدخله فيها إلى أصله . ولعل ذلك أيضا إنما هو شيء يحدث بين الكلب والكلبة ، فإذا اختلفا لم يقع الالتحام .

قال : قلت ، فطيب هو ؟

قال : قد نكت عامة إناث الحيوان ، فوجدتهن كلهن أطيب من النساء .

قال : قلت وكيف ذلك ؟

قال : ما ذلك إلا لشدة الحرارة .

قال : فطال الحديث حتى أنس ، فقلت له ، فإذا دار الماء في صلبك وقت الفراغ ؟

قال : ربما التزمت الكلبة ، فهويت إلى تقبيلها .

جننتني هذه الحكاية ، وأوجدت لي المخرج الذي طالما بحثت عنه منذ عرفت معنى أن يكون عضوك مقصوصا إلى النصف .

قلت : سأجرب نكاح الحيوانات الأهلية التي تشاطرنا المسكن والمرعى .

خطبت من عبد المؤمن حارتهم ( لن أستعمل كلمة أتان فهي لا تؤدي المعنى المطلوب ) . وعبد المؤمن ، جارنا ، طفل كان في مثل سني . أبوه الأعرج لا يقدر على امتطاء الحمير الذكور ، خاصة زمن هيجانها ، فكان يحبذ امتلاك الأحمرة المعروفة بالوداعة والطيبة وتحمل المشاق والأتعاب ككل الإناث في هذا الوطن الكبير من الماء إلى الماء .

غمزني مرة وهو يشير إلى فرج الحمارة الذي كان ينفتح وينغلق في حركات بطيئة ، وقال : منذ أن منع عنها أبي حمار جارنا هذا الصباح وهي كما ترى .ماذا لو ركبتها

أنت ؟

شعرت بقرف واشمئزاز ، وصفعته على خده صفعة قوية .

أنا أنكح الحمير يا كلب .

وبصقت في وجهه .

قاد الحمارة ذليلا وذهب في حال سبيله . ونسيت الموضوع مرة واحدة . بعد أيام ، التقيته وهو خارج من الزريبة . كان يزرر سرواله بيدين مرتجفتين .

قلت له : ماذا كنت تفعل ؟

قال : كنت أنكح الحمارة ، هلا جربتها أنت أيضا عوض أن تقتل نفسك ، وأنت تمارس العادة السرية ؟

ما كنت أدري إن كان يعرف أن عضوي مقصوصا إلى النصف أم لا ؟ فقط فكرت مرة أخرى أنه يهزأ بي ، فعدت لصفعه على قفاه ، وبصقت وراء خطاه المتعثرة .

تلك الليلة ، وبعدما قرأت حكاية صديقي الجاحظ ، جاءتني فكرة نيك الحمارة

قلت : لماذا لا أجرب عضوي المقصوص ، فلن أخسر شيئا ؟

عاودني القرف والاشمئزاز، ولكنني تغلبت على نفسي . وتسللت من البيت في الهزيع الأخير من الليل وذهبت إلى الزريبة . رأيت ظلا يغادر المكان . حين اقتربت ، ذهب الظل سريعا واختفى في الظلام . فاقتربت من المكان بحذر . شممت رائحة الروث والنتانة ، فكدت أعود من حيث أتيت إلا أنني مرة أخرى تغلبت على قرفي ، ودخلت الزريبة . وجدت الحمارة واقفة تنظر نظرتها الوديعة تلك .اقتربت منها . مسحت على مؤخرتها بيدي ، فحركت ظهرها . وتحسست فرجها ، فوجدته رطبا .إذن كان الظل  الذي باغت يمارس نكاح البهيمة منذ حين  …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 7 –

غلام الأمير بختيار البويهي

أغلى من المملكة

 

…على أنه يحكى عن الأمير بختيار البويهي أنه أسر له في إحدى المواقع غلام تركي ، فجن عليه جنونا ، وحدث له من الحزن ما لم يسمع بمثله

وزعم أن فجيعته بهذا الغلام فوق فجيعته بالمملكة والانسلاخ منها ومن النعمة

 

مسكويه : الجزء السادس ص 469

وابن الأثير : الجزء الثامن ص 495

 

 

 

 

لن أقول أكثر من هذا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 8 –

هراوة جدي قتلت مرض التيفوس

 

مرت أيامنا في القرية رتيبة هادئة إلى أن زارنا وباء التيفوس .

جاء راكبا على حمار قصير القوائم . أجرب . أغبر . وقف أمام الباب الكبير . باب السور الذي يحتضن القرية . وقف في شمس منتصف النهار . واليوم قائظ . ومر الوقت وهو يمتطي ظهر الحمار . والحمار يئن من وطأة الحر ، وهو لا يتحرك ، إلى أن غربت الشمس ، فأغلق الحراس الأبواب وذهبوا للنوم .

عند منتصف الليل حرك المهماز ، فتحرك الحمار ، ومشى إلى أن قارب باب السور ، فقفز من فوق ظهر الحمار ، وذهب يخبط الباب بحجر . ما رد على ندائه أحد ، فعاد إلى الضرب مدة طالت حتى كادت لا تنتهي ، فجاء إلى خوخة الباب . قرأ أمامها من تعاويذه ، ثم حركها بخنصره فانقادت له . في تلك اللحظة ظهر في نهاية الدهليز نور ضعيف بدأ يقترب شيئا فشيئا حتى اقترب من صاحب الحمار . حين حاذاه ، أشار له أن قف ، فتوقف حامل الفانوس .

قال له صاحب الحمار :

هي نهايتك يا صاحبي . ضع المصباح هنا وعد إلى  دارك  بدون نقاش ، وضع الرجل المصباح فوق صخرة بجابب الباب ، ورجع القهقرى إلى أن غاب في نهاية الدهليز .

نادى صاحب الحمار حماره ، فجاء يسعى . امتطاه ودخل القرية دخول الغزاة . وجد الأزقة خالية ، وكلاب العسس قد سكتت فلم تعد قادرة على النباح في حضرة هذا القادم .

جال الرجل الغريب في الشوارع والساحات ، ومر من أمام أبواب البيوت وهو يرسم علامات بدون أسود . أشر على بعض الأبواب ، ومر بسلام من أمام بعضها . طاف في كل الأمكنة ، ثم عاد من حيث أتى . خرج من الباب الكبير فوق حماره ، وتسمر في مكان اليوم السابق ، أمام السور .

عادت الكلاب إلى نباحها . وعاد الرجل حامل الفانوس إلى فانوسه ليحرس الدهليز الذي يقود إلى القرية .

وجاء الصباح ، ففتح الباب .وجد صاحب الحمار في مكان الأمس . والحمار يئن . والرجل كالصنم ، لا يتحرك .

ودبت الحركة في شوارع القرية . خرج الأولاد إلى اللعب . والرجال قصدوا مزارعهم . والنساء خبزن الخبز وأشعلن النيران في المواقد .

ولم يلتفت أحد إلى الرجل الراكب على الحمار .

إلا صاحب الفانوس ، فقد ركبته الحيرة ، وتوجس خيفة من هذا الغريب .

أسر للجميع بخبر البارحة ، ولكن ما التفت أحد لنجواه ، فسكت ولسان حاله يردد : اللهم اجعل العاقبة خيرا .

في المساء ، امتلأت سماء القرية بطائرات حربية سوداء . جاءت من حيث لا يدري أحد ، ومرت في السماء مرور البرق ، صائتة ، راعدة ، مزمجرة . ألقت بأثقالها على الأرض ، واختفت في لمح البصر .

هي الحرب إذن ، قال صاحب الفانوس . حرب الرجال البيض وصلت إلى هنا ، فلا حول ولا قوة إلا بالله الذي لا يحمد على مكروه سواه .

وأطلت طلائعهم من وراء الجبل . اقتربوا من القرية بوجل في بادئ الأمر ، ولكنهم استعادوا شجاعتهم بسرعة حين اكتشفوا خلوها من جنود أعدائهم ، فخيموا قريبا من الواحة .عسكروا ، وحفروا خنادقهم كما شاءوا ، واستعدوا للقتال . في الليل ، عادت الطائرات تمرق فوق سماء ، القرية وترمي بشواظ من نار على الجميع . ما كانت هذه الطائرات تفرق بين الأبيض والأسمر . ولم تختر ضحاياها من القادمين الجدد وإنما دكت الكل بقنابلها ، وفرت باتجاه الغرب .

وكما جاء هؤلاء الغرباء فجأة ، رحلوا فجأة بعدما تركوا عندنا جثث قتلاهم تتحلل فوق الرمل الحارق .

قال صاحب الفانوس :

في الليلة الثانية ، بد غزة الطائرات السوداء ، لم أذهب إلى بيتي وإنما أشعلت فانوسي وبقيت أترقب .رأيت صاحب الحمار يلبس وجه ملك الموت ، ويعمل المهماز في ظهر حماره الذي طار في السماء ثم حط أمام شباكي . دق الشباك ، ففتحت له طاقة صغيرة وسألته :

– ماذا تريد يا رجل ؟

دفع لوح النافذة في وجهي ، ودعاني إلى فتح الباب على مصراعيه .

قلت له : أما تكفيك علامات البارحة ؟

فقال : أعرف أنك مطلع على أسرار الغيب ، وأنك عليم بمصائر هذا الخلق من سكان هذه القرية ولكنني أنصحك بأن تعود إلى بيتك ولا تخرج منه إلا بعدما تسمع عواء الكلاب .

هل فهمت قصدي يا صاحب فانوس الرب ؟

نظرت في عينيه ، فأصابتني رعدة ، واضطربت كما يضطرب من اختطفت روحه ، فأخذت فانوسي ، وعدت إلى داري وأنا لا أكاد أصدق أنني نجوت من جبروت هذا الرجل .

وعاد صاحب الحمار إلى عمل البارحة . مر من أمام أبواب القرية بابا فبابا ، أشر فوق الحيطان بحبر أسود علامات وأشكال ، وأسكت الكلاب على النباح ، ثم عاد إلى مكانه أمام باب السور .

وكرر الرجل الغريب هذا العمل مدة سبع ليال . وأنا ، من وراء حجاب أراقب عمله ، وأحدث عنه القوم ، فكانوا يهزأون بي ، ويسخرون مني . والطائرات تمرق فوق الرؤوس مروق العفاريت . ولعلعة المدافع ، كعزيف الجن ، تسمع من بعيد . والريح تمر سحابات صفراء تتجمع فوق سماء القرية ، ولا تبرح المكان . وصاحب الحمار يقف أمام الواحد من سكان القرية . يشير له بإصبعه ، ويقول :

حياتك انتهت .

ولا يزيد . فيد

خل الرجل بيته ، يسلم على أهله وأصحابه ، ثم يغتسل ويلبس كفنه ، ويذهب إلى المقبرة على رجليه . يدق بحجر صغير على قبر يختاره بنفسه . بعد مدة يفتح الراقد في القبر كوة يدخل منها الطارق . وينغلق القبر من جديد .إلى أن كادت القرية تخلو من سكانها . وظل صامدا حامل الفانوس . ظل في منفاه يراقب المشهد من وراء الحجب متنمرا .

في الليلة السابعة ، دخل صاحب الحمار القرية كعادته . ذهب يتفقد البيوت الخالية ويجوس في الأنهج المقفرة إلى أن اقترب من باب الدهليز، فهوت على رأسه هراوة . ترنح المسخ وسقط على الأرض تحت أرجل الحمار الذي داسه بحوافره وهو مستلق على ظهره ، وعيناه تتابعان حركة الهراوة النازلة على الرأس جيئة وذهابا تحت ضوء الفانوس المبهر . ظلت الهراوة في صعود وهبوط إلى أن كلت اليدان ، فتوقف الضرب .

وتحول الحمار وصاحبه إلى هباءات  لماعة طارت في سماء القرية .

هذه الهراوة كانت هراوة جدي الذي قتل التيفوس ، إلا أن موت هذا الوباء كان متأخرا جدا . فقد قضى الداء على جل سكان القرية ، ولم ينج منه إلا طويل العمر .

و قرر جدي أن يهجر هذه القرية الملعونة بعد أن جاءه هاتف في الليل يطلب منه الرحيل . فسافر إلى تونس مصحوبا بي وبعمي أبي البركات ، فالتحقت بجامع الزيتونة أطلب العلم في حلقة سيدي ومولاي الحاج محمد بك الفكيني نفعنا الله ببركته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 9 –

من وراء أي باب سيأتي ملك الموت ؟

 

صارت أيامي معدودات .

لم يبق لي إلا أن أترقب ملك الموت ،

وأن أراقب الأبواب ،

فلست أدري من وراء أي باب سوف يأتي .

لست أدري …

 

 

 

 

– 10 –

جسم أنثى سخن في القبر طيلة ثلاثين سنة .

 

هذا كلام أبي .

لا تصدقوه .

لا تصدقوا هذا الهراء .

 

توقف القطار أقل من دقيقة واحدة في المحطة .

نزلت وحدي في المحطة وذهب القطار وغاب في الظلام .تابعت الفانوس الأحمر المعلق وراء آخر عربة من عرباته إلى أن صار أصغر من نجمة في السماء ، ثم غاب عن بصري .

سرت في الظلام الدامس أخطو بحذر فوق سكة الحديد .

أعرف أن القرية تبعد أكثر من كيلو مترين عن المحطة ، وأعرف أن هذا المكان موحش ومخيف ، وان ابن آوى جائعا قد يهاجمني . فقلت في نفسي : الحجارة في متناول يدي ، ولن أخاف أحدا .

وترامت لي خيالات الجن والعفاريت ، فبدأت أغني رافعا صوتي إلى عنان السماء . ثم لمت نفسي ووبختها :

صرت تخاف العفاريت يا رجل بعد أن جاوزت السبعين ؟ والله عال العال .

وعدت أتعثر فوق سكة الحديد . والظلام يحاصرني من كل جانب . ظلام يتدافع في أمامي كتلا سوداء لزجة تلتصق بيدي وتهاجمني كالثور الهائج ، فأرفع صوتي بالغناء . أدفع بصوت الشيخ في وجهه عله يتراجع ويتركني وشأني أدفعه مرة ويدفعني مرات حتى بدت منازل القرية أبعد من رحمة الرب .

وعدت ألوم نفسي عن اختيار زمن العودة ليلا . فماذا لو سقطت في جرف واندقت عنقي ، ولم أر منزل الحبيبة . وضاع حنين ثلاثين سنة إلى الأبد .

وعدت أحث الخطى ، إلى أن ظهرت فوانيس الكهرباء المعلقة في عواميد الحديد . استبشرت خيرا إذ وصل الكهرباء إلى القرية وقلت :

حمدا لك يا رب اللأرباب . ها قد وصلت الحضارة إلى هذه القرية المنسية .

وعوى كلب ، فجاوبته كلاب ، فعدت إلى ما قاله رجل من بني غطفان :

أخاف كلاب الأبعدين ونبحها * إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب .

وازداد نباح الكلاب فصاحة إلى أن صار كصوت جوقة في يوم العيد .

ونهق حمار ، فجاوبته حمير . وظهرت المنازل سوداء كالحة ، لا ملاط بين حجارتها ، حفرها ، كعيون الغيلان .

مشيت ومشيت حتى وصلت الشارع الكبير ، فرأيت لافتة معلقة على جانب الحائط مكتوب عليها ( شارع الحبيب بورقيبة ) . ها الله يا قريتي ، وصلتك الحضارة حقا حتى صارت شوارعك تحمل أسماء الزعماء .

وحثثت السير ، والكلاب تعوي ورائي إلى أن دخلت الظلام من جديد .

هذه الشوارع الضيقة التي لا يكاد يمشي داخلها رجلان جنبا لجنب ، أعرفها كما أعرب جيبي . ولن يهمني نباح الكلاب ما دمت أرى بقلبي . مشيت أهتدي بقلبي وبالحائط الذي على يميني داخل دهليز مسقف بخشب النخل . وطال المشي حتى ظننت أن العمى أصاب عيني . فمشيت ومشيت إلى أن ظهر ضوء خافت في نهاية الدهليز فتوجهت نحوه وسرت أحث الخطى ، إلى أن وصلت زقاق البرج ، فحمدت ربي على حسن الخاتمة . إلا أن المفاجأة كانت كبيرة ، فالمنازل التي تركتها هنا منذ ثلاثين سنة ما عادت كما هي . حيطانها بركت على بعضها كما لو أن زلزالا عنيفا دكها دكا . وحجارتها المتآكلة تبعثرت هنا وهناك ، وخشب السقف تهرى وتناثر كأنه الجثث في أرض معركة شرسة .

وقفت مصعوقا أنظر إلى هذا المشهد الكارثي ، ثم تقدمت بعض الخطى .هنا كان منزل صفية . هنا كان واقفا كما قصور السلاطين بسوره العالي وأبراجه وبابه الكبير .

بقايا الباب تنام على الأرض هامدة . بقايا من خشب المشمش العنيد الذي لا يقدر عليه السوس ، تزينه مسامير غليظة في طول الشبر صنعها حداد القرية أيام زمان . والمسامير التي علاها الصدأ مازالت صامدة في وجه الريح والأمطار . والحلقة التي دقها الزوار آلاف المرات تتأرجح يمنة ويسرة . تحسست الباب ، ومسحت عليه بحنان ، ثم أخرجت من جرابي معولا صغيرا ، وبدأت أحفر . حفرت تحت الصخرة و عريت عنها التراب إلى أن ظهرت كلها ، فدفعتها جانبا وواصلت الحفر . حفرت إلى أن اصطدم الفأس بشيء كالحديد أحدث صوتا أصما .وضعت الفأس جانبا ، ومددت يدي . وجدت خلخال المجنونة ، وأحسست بلحم طري يلامس كفي . رفعت التراب عن الساق ، ثم عن الرجل ، فالفخذ ، فالصدر فالرأس . عريت المجنونة ، فوجدت جسمها سخنا ، فكأنني أخرجتها من الفراش . قبلت شعرها ومسحت على جيدها ، ثم تركتها جانبا ، ووسعت في القبر إلى أن صار قادرا على إسكان شخصين . أرقدت صفية على جانبها الأيمن ، ونمت على جانبي الأيسر . وأهلت التراب فوقنا .

قلت ، سأبقى يقضا أحرسها إلى أن ينفخ في الصور .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكتاب الثاني

 

خليفة الثاني المكنى بأبي اللعنات يدعي

أنه من نسل أبي عبيد الله بن محمد بن أبي بكر النفزاوي

صاحب كتاب ( الروض العاطر في نزهة الخاطر) ،

فطبقت شهرته الآفاق ، وطلبه السياح

من أصقاع الأرض الأربعة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 11 –

مهر البنت الفرشيشية مائة ناقة

 

لما خرج أبي من السجن ، وعاد إلى القرية ليموت ويدفن نفسه مع مجنونته صفية ، كان عمي أبو اللعنات قد باع كل ممتلكات العائلة : الزرع والضرع ، فصرف الثلث في الزنى والزنى الشرعي والثلث في الخمر والميسر والثلث الباقي دفعه ثمنا لللأفيون الذي كان ينام ويصحو على وقعه .

تزوج مرة بنتا عمرها تسع سنين من قبائل الفراشيش . سمع بجمال أمها من شيخ قافلة كانت تبادل التمور بالقمح مقايضة ، فمهر البنت مائة ناقة محملة بالرياش والمعاش ، وألبسها حلة مزركشة بخيوط الذهب الخالص .

كان ينكح ما طاب له من النساء . يطلق أربعا ليتزوج من أربع جدد .

ولم ينجب الولد فكاد يجن .

 

 

 

 

 

– 12 –

عندما هجر الجن أنفاق منجم الفسفاط

 

بعدما باع عمي آخر سعفة في آخر نخلة تملكها العائلة ، قرر أن يهاجر ويترك القرية . كان قد سمع في ليالي سمره عن منجم الفسفاط الذي فتحه الفرنسيون وراب جبال أولاد سلامة من رجل عرفه ، كان يعمل في ذاك المنجم .

قال له الرجل إنهم يحفرون كالجرذان داخل الجبل ، وإنهم يفتتون الصخر بقوة جبارة تحدث عند انفجارها دويا هائلا يدك الأرض دكا . ثم يرفعون التراب الذي يساقط من الجبل ، يضعونه قي عربات صغيرة تجرها البغال والحمير والرجال فوق سكة الحديد . فيقول للرجل كالمكذب :

– وهل تعملون في الظلام داخل الجبل ، أم على ضوء القمر ؟

فيحدثه السلامي عن فوانيس عجيبة تعمل بواسطة حجر أبيض يفور عندما يضاف إليه الماء قطرة قطرة ، ويعطي ضوءا باهرا يجعل ظلام النفق نهارا .

ويضحك غمي هازئا وهو يردد بين كأس وكأس :

ضوء كضوء القمر أيها السلامي ، أليس كذلك ؟

ولا يحفل الرجل الذي يعمل داخل منجم الفسفاط  بهزء عمي فيعود إلى حكاياته يحدث بها الرجال الذين تحلقوا حوله . يحكي لهم عن الجن الذين كانوا يسكنون داخل أنفاق الجبل ، والذين أقلق البشر راحتهم فحاولوا في المرات الأولى إخافتهم بحيل شتى أفزعت العرب ولم يحفل بها الفرنسيون ، كأن يشعلوا النار في رؤوسهم ويجرون وراءهم صائحين مولولين ، أو كأن يتحولوا إلى أنصاف رجال بنصف رأس ، وعين واحدة ، ويد واحدة ، ويتمددون فوق سكة الحديد أمام البغال التي تجر عربات الفسفاط . وقد أرعبت هذه الحيلة في المرات الأولى البغال ، لكنها اعتادت عليها بعد ذلك ، وصارت ترفس هذه الأجساد المشوهة والهلامية وتتخطاها وكأن شيئا لم يكن .

وبما أن هذه الحيل لم تفلح مع أصحاب العيون الزرق ، فقد قرر قبيل من الجن مغادرة موطنه في الجبل ، فحملوا أدباشهم فوق دواب لهم لا تختلف كثيرا عن دواب بني آدم  إلا أن لها أجنحة تطير بها . وغادروا يشيعهم بكاء من بقي في الجبل من الجن .

كان زعيمهم أعور ، طويلا طولا غير عادي بالنسبة لنا أولاد آدم وأحفاده . وكان يضع على رأسه تاجا من الزمرد والياقوت ويحيط عنقه بعقد من المرجان ، ويمسك بيد رمحا وباليد الأخرى لجام فرسه .

ما ترك عمي الرجل يواصل حكايته بل مد له قدحا من الخمر قائلا :

– لوعدت إلى مثل هذا الحديث مرة أخرى لضربت عنقك بسيفي اللحمي .

فيضحك الندامى وقد فهموا مغزى التهديد .

ويمد الرجل يده إلى القدح الكبير يكرع من ( اللاقمي ) ، خمر النخلة المعتق ، بعدما ينظفه من بقايا جثث النحل والزنابير والنمل والذباب .

تذكر عمي ذاك الرجل الذي طالما سخر منه ومن جنونه . ذاك الرجل الذي كان يعمل في المنجم صيفا ، وفي جني التمور في الخريف ، فقرر أن يزوره ليدله على الأنفاق المسكونة بالجن ، فخرج من القرية فجرا صحبة قافلة جمال محملة بغرائر التمر ، واتجه صوب الجبل . مشى مع القافلة نصف الطريق ثم قرر أم يواصل المشوار وحده لأن حداء الجمالين لم يعجبه ولأن صداعا قد غلبه ، فنام تحت شجرة طلح بجانب واد إلى أن وصل القطار الذاهب إلى المدينة – المنجم . كانوا قد خبروه أن القطار سيتوقف في المحطة ربع ساعة ليخلي له قطار آخر الطريق فلا يلتقيان داخل الأنفاق السبعة التي حفرتها شركة صفاقس/ قفصة الفرنسية في بداية القرن العشرين داخل جبال الثالجة لتربط بها بين مناجم الفسفاط وميناء صفاقس . وخوفوه من عبور هذه الأنفاق بدون رفيق لأن خلقا كثيرا مات أثاء الحفر ظلت أرواحهم تحوم حول المكان وتلبس صورا لمخلوقات بشعة ترعب الأحياء وتبطش بهم في بعض الأحيان .

عندما وصل القطار ، غافل حارس المحطة ، فتسلل كالذئب ، وقفز داخل عربة فارغة . فرش برنسه على الحديد البارد ، ونام . ولم يفق إلا والقطار يصفر وهو يدخل المحطة ، فنفض برنسه ، وقفز من العربة خفيفا كالغزال .

رأى أمامه المدينة الجديدة التي بناها الفرنسيون . الشوارع مستقيمة ، على جنباتها الأشجار . والبيوت ذات أسقفة قرميدية . والنساء الصبوحات كحور الجنة ، سافرات ، واقفات أمام الأبواب يتجاذبن أطراف الحديث . والأزهار تفوح في كل مكان ، فتملأ الجو غبطة وأمانا .

قال في نفسه :

– لقد حول الفرنسيون الجنة إلى هنا …

وتمشى في شوارع المدينة المستلقية في السهل والمحاطة بالجبال من جهات ثلاثة ، فأعجبه المنظر ، ونسي جوعه وفقره والبلاد التي تركها وراءه والنساء اللاتي طلقهن بالثلاث حين قرر مغادرة القرية قائلا لهن جميعا ، ثم لكل واحدة منهن على انفراد :

– أنت طالق يا أمة الله ، فاذهبي في حال سبيلك .

مشى عمي أبو اللعنات في الشوارع الطويلة إلى أن استوقفه حارس يحمل هراوة غليظة . رجل عربي ولكنه يرطن بلغة لم يفهمها ، عرف فيما بعد أنها لغة ( الموروك ) ، بربر المغرب الذين جلب منهم المستعمر الفرنسي عددا كبيرا للعمل في المنجم ولحراسة الحي الذي يقطنه الأوروبيون .

طلب منه الحارس أن يغادر المكان بسرعة .

قال عمي :

– إلى أين أذهب ؟ أليس هذا منجم الفسفاط ؟

رد الحارس ، وابتسامة ساخرة تزين شفتيه :

– هذا حي الروامة ، وعليك الذهاب إلى واحد من أحياء العرب .

وأضاف وهو يشير بيده إلى جهة الشرق :

– ذاك حي الطرابلسية ، والآخر حي المروك . وعليك الإختيار .

قال عمي :

– وأين يسكن أهل البلد ؟

رد المروكي :

– في  مغاور قريبة من مدخل المنجم .

يمم عمي شطر الجبل ، ولسان حاله يقول :

– إذن فهذه الجنة للفرنسيين فقط ، مسكين أنت يا عبد الشهوات .

 

 

– 13 –

رجل من بقايا عاد وثمود

 

لم يجد عمي الرجل السلامي . قيل له إنه هجر المنجم حين مات قربه ثلاث عمال مطحونين بالصخر ومدفونين تحت الفسفاط . رآهم أمام باب النفق قطعا صغيرة من اللحم المشوه ، ففر هاربا وهو يصيح :

انتقم منا الجن . لقد قتلهم زعيم الجان وفتت لحمهم قطعا ليسهل عليه ابتلاعها .

والرجال الذين ظنوا أن مسا من الجن أصابه ، انخرطوا في سب فرنسا التي جاءت من بعيد لتريهم نوعا من القتل لم يعتادوا عليه من قبل .

قالوا :

– لقد عاد صاحبك إلى البادية و إلى جماله وقطعان الغنم ، أصاب عمي غم كبير، فأشار عليه رجل بالالتحاق بإدارة الشركة إن كان يرغب في العمل بالمنجم ، فذهب إلى الإدارة وعبر عن رغبته في العمل .

قاده حارس إلى مكتب التسجيل فوجد إداريا فرنسيا ومترجما عربيا .انبهر الفرنسي بحجم عمي فصاح :

– من أين جئتم بهذا العملاق ؟

فقال المترجم :

– هو من بقايا عاد وثمود .

ولم يفهم الفرنسي مقصد المترجم ، إلا أنه وافق بسرعة على انتداب عمي للعمل في الداموس . وسر عمي كثيرا ببدلة العمل الزرقاء وبفانوس السيتيلان وبالفأس والمجرفة التي ظهرت له صغيرة .قال :

– كإنها ملعقة .

في أيامه الأولى داخل الأنفاق ، لم يعتد على الظلام الذي ماكان ضوء الفانوس قادرا على تبديده .

تدكر عمي ليالي السمر بالقرية ، وبحث عن القمر . لكنه اعتاد على الظلام وعلى صياح العمال ونهيق البغال ، وعلى صرير العربات الصغيرة الملأى فسفاطا والمدفوعة بسواعد العمال الهزيلة .

كما اعتاد على انهيارات الجبل المتكررة . ولم يفزعه أنين المحتضرين والرؤوس المهشمة والأيدي المقطوعة . فقط، حزن مرة حزنا كاد يفقده عقله حين قال لعامل من طرابلس الغرب وهو يغمض له جفنيه :

– قل يا أخي ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .

فردد الطرابلسي الشهادتين وهو مغمور بالتراب ، ومات .

وظل عمي ينال في كهف قرب باب الداموس ، إلى أن تعرف على عامل جزائري من القبائل اقترح عليه أن يشاطره المسكن مع عمال طرابلسية .

سر عمي بالفكرة لكن سروره لم يدم طويلا فقد كان المسكن يتكون من غرفة واحدة ينام فيها الرجال على الأرض فوق حصر بالية ، نتنة ، ملتصقين ببعضهم جلبا للدفء .

سمع عمي في ليلته الأولى في مسكنه الجديد واحد من العمال يئن ويتأوه . ظنه مريضا لكنه اكتشف أنه منهمك في جلد عميرة ، فأشفق عليه . ورآه في الليلة الثانية يلاوط خلا له ، فاحترز منه وصار ينام على جنب واحد لصق الحائط حتى لا يقع المكروه وهو الفحل المقيد بحاجته إلى السكن مع هؤلاء الرجال .

في الصباح حكى لصديقه القبائلي عما شاهد وسمع ، فلم يفاجأ الرجل بالأمر .و قال له إنه سيعتاد على ذلك مبررا له الفعل بالكبت الذي يعاني منه العمال الذين تركوا زوجاتهم في قراهم ومداشرهم وجاءوا إلى هذا المنجم فرادى حتى يوفروا أكثر ما يمكن من المال .

لم يقتنع عمي بهذا الجواب ، لكنه سكت . ولم يعد لذكر هذا الموضوع مرة أخرى . فقد اعتاد على الذهاب إلى الحانة يقتل فيها وقت فراغه يشرب الخمر الرديء ، رخيص الثمن ، ويتغزل من بعيد بردفي الإيطالية كلارا ، صاحبة الحانه ، يرميها بكلام بذيء فترد عليه بلغتها الإيطالية أو بعربية معوجة سبابا قبيحا ، فاحشا . فيضحك عمي ويضحك معه رواد الحانة من عرب وعجم .

ويقول لها عمي وهو يخاصرها :

-زيدي من السب يا قحبة فهو من فيك أحلى من الزبيب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 14 –

الرجل الذي يقحب في الماخور

 

سأل عن الماخور الرجال الذين كان يسكن معهم ، فدله القبائلي عليه . صاحبه إلى منزل في ركن قصي من حي المروك . منزل به عدة غرف . في كل غرفة تعمل قحبة . قحاب صغيرات جاءت بهن الشركة للترفيه عن عمالها حتى لا يهربوا من التعب والضجر .

المنزل يحيط به سور به أبراج صغيرة . وعلى الأبراج مدافع من النحاس المسبوك . كان في أول عهده ثكنة بناها الجيش الفرنسي لحراسة الحدود ، ثم تخلى عنها للقحاب . وبقيت المدافع التي ضربها السوس تحرس الرجال الباحثين عن اللذة .

أعجب عمي بهندسة المنزل وسأل البطرونة إن كان في إمكانها أن تكتري له بيتا مع قحابها . قال لها إنه يريد أن يعمل معها .

قالت البطرونة حائرة :

– ولكنك رجل ؟ مع من ستتعامل ، والقانون يعاقب على اللواط ؟ قال إنه سيتعامل مع النساء ( الروميات ) : الفرنسيات والإيطاليات ومع العربيات ، زوجات المتعاملين مع المهندسين الفرنسيين .

طلبت منه أن يمها وقتا للتفكير وأكدت له أنها سترد على طلبه مرة أخرى . وقدمت له بنات الماخور . وسألته أن يختار منهن واحدة عله يعدل عن رأيه .

قالت البطرونة إنها استلطفته ، فجهزت النارجيلة ، وطلبت من خادمتها إحضار كأس شاي أخضر بالنعناع لهذا الرجل الغريب الذي قالت إنها أحبته مند أن رأته .

هذه البطرونة امرأة سمينة جدا ، بيضاء ذاك البياض المخلوط بحمرة محببة إلى النفس . فخذاها قويان . ومؤخرتها ثقيلة . تشهى عمي أبو اللعنات هذه المؤخرة وقال في نفسه : كل هذا اللحم سيكون لك يا خليفة في المرة القادمة ، فصبرا جميلا يا عبد الشهوات .

ثم شرب شايه ، وعب أنفاسا من النارجيلة ، وقام يبحث عن البنت التي استدعتها البطرونة .

نادت عمي طفلة رومية لا تتقن كثيرا الكلام بالعربية . حفظت منذ مدة قصيرة بعض كلمات من الدارجة التونسية . الكلمات البذيئة فقط . وكانت تستعملها في الغالب في غير محلها كأن تقول : ( هيا اندز هولك ) عوضا عن ( هيا دز هولي ) أو ( شوف زبورك مااكبره ) مكان ( شوف زبوري ما اكبره ) . والبنت السكرانة تتمايل ذات اليمين وذات الشمال كأنها غصن البان . اختطفها عمي أبو اللعنات من خصرها وذهب بها إلى بيتها . كان السرير مرتبا ونظيفا . وكانت الفنانة التونسية اليهودية حبيبة مسيكة تغني واحدة من أغانيها الماجنة . والبنت الرومية لا تكاد تقدر على فتح عينيها . تركها عمي تنام على سريرها

ووعد البطرونة بزيارة في موعد قريب . والمرأة السمينة تعجب غاية العجب من هدا العربي الذي جاء يطلب بيتا يقحب فيه .

في الغد ، جاء باكرا إلى الماخور . وصار كلما أنهى عمله في المنجم يذهب لزيارة المرأة السمينة ، يسألها الرد عن مقترحه ، وهي تماطل إلى أن قرر ذات مساء أن يحسم الأمر . في الحانة عدة قوارير من الخمر المعتق حتى سكر ، وذهب يخبط على بال الماخور .كان الليل قد انتصف ، وكان الهدوء يسود العالم حين بدأ الخبط على الباب بحجر التقطه من الطريق .قام سكان الماخور مذعورين ، وهرعت البطرونة تفتح الباب ظنا منها أن الطارق مجموعة من رجال البوليس السكارى .

حين رأته ، رطنت بروميتها الغريبة على سمعه سبا وشتما ، وعادت تحاول إغلاق الباب ، فطلب منها أن تمهله دقيقة ليوريها هدية جاءها بها .

نهرته ، فدفعها إلى الداخل ، ودخل وراءها . جرها من شعرها وهي تصيح صياح الخنازير في المجزرة . وبنات البورديل اللاتي خرجن من بيوتهن تجمعن في الساحة ، وانقضضن على أبي اللعنات يوسعنه ضربا ، ويحاولن افتكاك سيدتهن من قبضته ، فلم يفلحن .

حين أدخلها بيتها ، دفعها على السرير ، وأغلق الباب وراءها ، ثم قال لها بهدوء الساحر العرف بفنه :

– جئتك بهدية ستفرحين بها لا محالة .

رأت الرومية القضيب الأعجوبة وقد انتصب انتصابا كاملا كعامود من الآبنوس ، فانبهرت .نظرت إلى ذلك الشيء مبهوتة ، ثم قامت تتحسسه بيدها ، وهي تردد بهستيرية :

– يا إلاه الرحمة … هذا مستحيل …إنه أضخم من زب حمار .

كانت البنات اللاتي اشتد فزعهن يقرعن الباب بعنف ، فخرجت إليهن ، وصاحت في وجوههن :

– لتدخل كل قحبة إلى غرفتها ، واتركنني وحدي مع هذا الوحش . أنا أريده أن يلتهمني .

وأغلقت الباب بهدوء وراءها .

كان عمي قد استلقى فوق السرير ، وكان شخيره يملأ الغرفة .

من يومها ما عادت الرومية تتركه يذهب للعمل داخل المنجم بل قالت له :

وفر طاقتك لي . سأتكفل بإطعامك وإيوائك . ولك أن تعمل عندي في الماخور . تحرسنا من العرب السكارى ، ومن عربدة الطليان والإسبنيول  والمالطيين .

ووافق أبو اللعنات شرط اللا تقيد حركته بجدول توقيت .قال لها :

– اتركي لي حرية الحركة ، ولك علي أن ألجك بزب لا يكل ولا يمل .

فقالت له :

– ولك علي الطاعة والرضا .

واحتفظت به لها وحدها أسبوعا كاملا .تنام معه كل ليلة ، وتولج قضيبه في كسها شيئا فشيئا إلى أن استوعبته كاملا في الليلة السابعة ، فكادت تخرج من عقلها . ثم حدثت عنه صديقاتها الروميات ، فصرن يجربنه الواحدة تلو الأخرى ، ويدفعن له أجرته . فكان يحصد في اليوم الواحد أضعاف ما كان يحصل عليه وهو يعمل في المنجم . وأبو اللعنات يكسب المال بزبه نهارا ليبذره في الحانة ليلا ،إلى أن كان اليوم الذي رجع فيه مدير شركة الفسفاط إلى بيته في غير موعده . سأل الخادم عن سيدتها ، فارتبكت ، واصفر وجهها ، فشدد في السؤال والتعنيف إلى أن أعلمته بأنها ذهبت إلى الماخور .

امتطى المدير سيارته وذهب إليها ، فهو يعرف المكان جيدا ، ويعرف البطرونة التي طالما عرضت عليه بناتها . وكان هذا الرومي يحبذ العربيات القادمات من أقاصي ريف المغرب والجزائريات بنات القائل ، ويتشهى التونسيات . يقول عنهن إنهن أرق مخلوقات على وجه البسيطة ، يتجاوبن معك بحنان الصاحبة القديمة ، ويعطين كل ما عندهن ، ويكتفين بالقليل .

قال في نفسه ، والسيارة تطوي به الأرض طيا : هل عرفت زوجتي بعلاقتي بسميرة الصفافسية . تلك البنت الحبوبة التي اصطفيتها من بين كل بنات الماخور ، وجعلت منها أميرة . نزعت عنها حشمتها ، وأنا أمارس معها الجنس ، فأعوي كالكلب ، وهي تضحك في خفر في الأيام الأولى . ثم صارت تجاريني ، فنتنابح كالكلاب الشيقة .

كان يلذ لي أن أنيكها وهي ترتدي اللباس التونسي التقليدي

جبة الحرير المقلمة ، والقميص المخطط ( أصابع فضيلة )

والعصابة المطرزة بالفضة على رأسها ، والسخاب العابق بروائح المسك والعنبر على صدرها فوق النهدين الطريين كنت عند امتلاكها أحس وكأنني توجت باشا على تونس .

صارت سميرة جاريتي ، وصرت سيدها . فقد أغريت ربة الماخور بالمال والهدايا ، فمنعتها عب بقية الخلق ، وجعلتني ربا على سريرها .

هكذا كان يردد إلى أن وصل إلى الماخور . فتح الباب بمفتاحه الخاص ، ودلف إلى الداخل . دهب إلى بيت سيدة الدار ، فوجد زوجته بين أحضان عمي أبي اللعنات . عرفها من صياحها الهستيري حين تطبق اللذة على أنفاسها جن جنون الفرنسي ، فانقض بكل قواه على الرجل البارك فوق زوجته يره خنقه وهو يصيح بصوت كالمواء :

– أيتها القحبة … ماذا وجدت عند هذا الرجل المتوحش . سأقتل كل من في الماخور …

فدفعه عمي بقبضته القوية ، وهوى على رأسه بجمع يده .

سقط الفرنسي على الأرض خائر القوى ، فقام عمي يرفسه برجليه ، والمرأة التي ألجمتها المفاجأة تحاول الصياح ، فلا تقدر . إلى أن جاءت البطرونة ، فوقفت بين عمي وغريمه الذي كان يهدد غاضبا :

سأستدعي الآن البوليس ليغلق خذا الماخور . سأغلق حالا هذه القذارة …

فردت عليه البطرونة بهدوء القحاب المتمرسات :

حاذر يا سيدي ، فأنا أخاف عليك من الفضيحة .

عندها فقط ، وضع الفرنسي رأسه بين يديه ، وانخرط في البكاء .

قامت زوجته ، فلبست ثيابها وخرجت من الدار التي تجمع أمام بابها رواد الماخور .

ورجا الفرنسي عمي ألا يغادر الدار قبل أن يخلي الماخور من الرجال ، فوافق .

واشترط على البطرونة أن تطرد هذا العربي من دارها ، فوعدته خيرا .

وقال عمي : سأعود للعمل في المنجم .

فحك الفرنسي رأسه ، وسكت …

 

– 15 –

عرس الجان

عاد أبو اللعنات من جديد إلى جحيم الدنيا . شارك من جديد القبائلي وأصدقاءه بيتهم ، وازدرد معهم أكلهم ما يطبخون من كسكسي وثريد . كانوا يأكلون ما يقع بين أيديهم سخنا ، ولا يشبعون أبدا . ولبس البذلة الزرقاء النتنة . وحمل الفأس والمجرفة التي ظل يقول عنها إنها مثل ملعقة الأطفال .

وبحث عن القمر داخل دواميس الجبل .

ذات ليلة ، بعد أن هده التعب ، ذهب بعيدا داخل مغارة انتهى العمال من سحب فسفاطها مند سنتين . ذهب يقضي حاجة بشرية ، فسمع دق طبول وصوت مزمار شجي .

أصاخ السمع من جديد ، فنزلت على رأسه زغاريد نسوة وغناء أطفال صغار . كان الضجيج يقترب منه شيئا فشيئا ، فاختبأ في ركن من أركان النفق إلى أن مر جمع من نساء الجان بقربه . كن في صحبة عروس على هودج مطرز بخيوط الذهب . كن صغيرات . طول الواحدة أقل بقليل من الشبر. وجملهم في مثل حجم الأرنب  . ظل عمي يراقب المشهد مشدوها . وعن له في أكثر من مرة أن يمد يده ليقلب هذه المخلوقات العجيبة . لكنه تهيب من ردة فعلها ، إلى أن سمع جنية تحدث صاحبتها عن العروس التي ستزف هذه الليلة إلى أمير الجان في هذا الجبل .

 

بعد أن مر الجمع من أمامه ، تخافت واحدة من الجنيات . طارت بأجنحة ملونة كأجنحة الفراشات ، وحطت فوق كتفه . عضته من أذنه اليسرى وهي تهمس له بلغة عربية فصيحة ، في لهجة شبيهة بلهجة البدو القاطنين على أطراف بلاد الجريد :

– لا تعد مرة أخرى إلى هذا المكان أيها الإنسي ، فلو كان معنا رجال لأطعموا لحمك لكلاب الجن . لكن احمد ربك بكرة وأصيلا . فقد شفع لك الحب …

وطارت لتلحق بصويحباتها اللاتي وقفن يترقبنها ويسألنها عن سبب تأخرها في هذا المكان الذي غزاه شر مخلوقات الله . قالت ذلك إحداهن واستعاذت برب الفلق من شر ما خلق .

فردت عليهن :

لا شيء … فقد بقيت أعيد ترتيب زينتي حتى تغار مني عروس أميرنا .

هيا  بنا يا بنات الجن نلحق بالعروس .

وعاد عمي إلى رفاق العمل ووجهه في صفرة الأموات .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 16 –

هل اختطفت جنية منجم الفسفاط عمي ؟

 

 

ما عاد عمي تلك الليلة لدار القبائلي .

وضاع خبره في قاع ذاكرة التاريخ إلى أن التقيته بالصدفة بعد ثلاثين سنة …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 17 –

عمي يدفع الزكاة عن أمواله

 

هو الآن يعمل في نزل . عمره جاوز السبعين ، ولكنه مع ذلك مازال يعمل . إنه ستريبتيزور الملهى . يعرض آلته العجيبة كل ليلة على السائحات : الإسبانيات والفرنسيات والإيطاليات وبنات الشمال الإسكندنافي البارد والإنجليزيات والروسيات والأوكرانيات والبولونيات حديثات العهد بالسياحة . يعرض على كلهن زبه العجيب . طول هذه الآلة شبران إلا قليلا . أنا لا أمزح . وقد قيل إنه ضمر في المدة الأخيرة ، ومع ذلك فمازال في طول الذراع .

بسطه أمام السائحات المنبهرات في ساحة النزل المسقوفة بالقرميد الأحمر . وفي القاعات ذات الطابع الأندلسي ، المزدانة بصور لنساء عاريات من كل بلدان العالم .

كان يبسط قضيبه نائما للفرجة فقط بدينار واحد للسائحة الواحدة . فإذا تحرك وصار بين اليقظة والنوم ، دفعت الواحدة خمسة دنانير. أما إذا انتصب كفرخ الثعبان ، وهاج وماج يمينا وشمالا . ولطم الأفخاذ حد الركبة ، فإنه يطلب على الفرجة خمسة دنانير . وكن يدفعن ، ولا يترددن في الدفع . يسيل لعاب الشبق من أفواههن . وفيهن من تصاب بنوبة عصاب ، فتندفع نحو الشيخ ، تفتح له رجليه ، وترمي كلسونها عاليا في الهواء ، وتمد يدا مرتجفة نحو عامود الآبنوس تقيسه . تضع خنصر اليد اليمنى فوق العانة ، وتمد الثانية فوق الإبهام ، فيبقى رأس الحنش بدون غطاء . عندها ترطن بالروسية أو بواحدة أخرى من لغة السلاف ، ويغمى عليها .

وعمي العجوز يجمع دنانيره في شاشيته الإسطمبولي ، ثم يقوم .يخرج من النزل ، ويقصد سوق المدينة . ينادي على الشحاذين والأطفال والنساء المطلقات ، والباعة المتجولين ، والشباب العاطل عن العمل ، ورواد المقهى من المتقاعدين ، وكل من هب ودب من الريفيين القاصدين المدينة في شأن من الشؤون . وكما كان يفعل سلاطين الدولة العباسية أيام عزها ، كان عمي ينثر دنانيره على رعيته . يصعد فوق دكة عالية ، وينادي : تعالوا هنا يا أولاد الكلب . تعالوا أعطيكم من مال الله . تعالوا خذوا زكاة عملي في النزل السياحية .

ويتجمع الخلق تحت قدميه : شبانا وشيبا ، باللباس الإفرنجي وبالبرنس والجبة ، نساء سافرات ، لابسات الميني جيب ، وأخريات ملتفات في السفساري . وعمي من فوق سمائه يرمي بالنقود على الرؤوس . وهم يتلاقفونها ، متصايحين ، مترافسين ، متلاكمين،  يسب بعضهم بعضا . والثياب تتساقط قطعا ممزقة على الأرض . والوجوه المخدوشة لا يحفل بها أحد . ونهود الصبايا الصغيرات تتعرض للقرص والمرس . والمؤخرات السمينة يلتصق بها الجائعون إلى الجنس . عمي عاليا ، فوق الجميع يرميهم بالنقود :

دولارات أمريكية .

فرنكات فرنسية .

جنيهات استرلينية .

يان ياباني .

دينارات كويتية .ريالات سعودية .

فلوران هولاندي .

و… دينارات تونسية .

والخلق ، في هرج ومرج ، إلى أن يحضر رجال الشرطة بعصيهم لحفظ الأمن ، ولتأديب المارقين على قانون اللعبة ، فيصمدون بعض الوقت ، ثم يدخلون اللعبة من بابها الكبير . يشاركون الخلق اختطاف الدراهم الطائرة في الجو قبل أن تحط على البسيطة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 18 –

أبو اللعنات يعمل في النزل

السياحية الفاخرة

 

عرفته عن طريق الصدفة وحدها ، فأنا لا تربطني بعمي رابطة منذ أن غادرت البلاد صحبة جدي وعمي أبو البركات ، والتحقت بجامع الزيتونة للدراسة .

كنت أسمع عنه وعن حكاياته العجيبة وكأنني أقرأ قصصا من كتاب ( ألف ليلة وليلة ) . ولم ألتق به ، إلى أن كنت  ذات مرة في زيارة للمدينة التي كان يعمل في واحد من نزلها السياحية . سمعت بالصدفة من سائحتين كانتا تحتسيان الجعة قرب طاولتي عن عرض ( ستربتيز ) هذه الليلة في النزل .

أخرجت السائحة البدينة والقصيرة كتيبا سياحيا به صور لغروب الشمس في الصحراء ، ولشلالات تمغزة ، ولسباق الجمال ، ولواحات الجريد ، ولشطوط الحمامات ، ولجوامع جربة ، ولقضيب رجل منتصبا انتصابا كاملا ومحمولا بيدين اثنتين .

ضحكت السائحة الطويلة العجفاء التي كانت ترتدي قطعة قماش حول وسطها ، تاركة باقي جسدها نهشا لضواري الإنس ، وقالت :

– الليلة ، سيعرض هذا الرجل ثعبانه على العموم .

ردت صاحبتها :

– لقد جئت من ألمانيا خصيصا لهذا العرض ، رغم وفرة العروض الجنسية في علب الليل البافارية .

جذبني حديثهما ، فالتفت . رأيت الكتاب مفتوحا على صورة رجل بدوي أسمر يرتدي جبة من الصوف مخططة ، وبها رسومات لجمال باركة وأخرى واقفة .

تمليت جيدا صورة الرجل . رأيت في وجهه وجه جدي .

العينان الجميلتان البراقتاناللتان تشبهان عينا صقر . والأنف الأفطس الشبيه بأنوف زنوج إفريقيا . والفم الواسع الشهواني . والفكان القويان المفترسان .

قلت :

– هذا ورب الكعبة عمي أبو اللعنات .

وقالت السائحة الطويلة :

– سنتعرف الليلة مباشرة على هذا الوحش .

وذهبتا …

وتذكرت ليلة عمي الأولى مع البنت الفرشيشية التي مهرها مائة ناقة . وسمعت دق الطبول أمام باب الدار ليكتم صراخها الوحشي وهي تتخبط تحت ثقل العملاق .

قالت لي عجوز من الأقرباء زارتنا مرة في تونس وحدثني كثيرا عن عمي وعن الخوارق التي ترك آثارها في القرية إن البنت الفرشيسية العروس ، التي كانت من بين الأسباب التي جعلته يعلن إفلاسه ، لم ير أجمل منها في كل الدنيا .

كانت رقيقة مثل البلور . وكان شعرها أسود كريش الغراب كانت قصيرة بعض الشيء لكنها كانت ممتلئة باللحم الشهي . كانت تضحك لأفه الأسباب لتداري ارتباكها وتغطي لوعتها .

حين جن الليل ، وغادرت البيت بقية قريباتها ، بقيت معها بعض الوقت . أوصيتها بالصبر والجلد ، ودعوت لها بالخير والهناء .

قالت :

– لا تخافي يا عمتي ،  فلن يقدر علي .

في الصباح ، بعدما غادر البيت ، وجدنا البنت ميتة .

وقال لي عمك إنه لم يوعب في فرج البنت سوى جزء يسير من آلته . لكنها نزفت طول الليل ، وفارقتها الروح مع الفجر .

بعد العرض ، اتصلت به .قلت له إنني ابن أخيه خليفة الأول فقال :

ابن أخي خليفة الأول . الله أكبر ، فسلالتنا لم تندثر بعد .

ثم أضاف :

هل حضرت العرض ؟

قلت ، وأنا أداري خجلي :

من بعيد .

قال :

ولكن ، لما الخجل ؟

وربت على كتفي .

كان يحدثني وكأمه يعرفني منذ عشرين أو ثلاثين عاما . وأنا أتعجب لذلك .

كنت أظن أنه سيرفض الحديث معي ، أو أنه سيطردني ، أو أنه سيتغابى ويقول إنه لا يعرف خليفة هذا .

لكن كل تخميناتي ذهبت سدى .فالرجل مسكني من يدي بعدما أطرد من حولنا جمعا من الفضوليين جاءوا يسترقون السمع لحديثنا . وقادني إلى ركن قصي في قاعة المرقص . طلب فنجان قهوة بدون سكر لنفسه ، وسألني ماذا أشرب ؟ طلبت بيرة ، فجاء النادل بالطلب . ضحك لعمي ، وغمزه بعينه . فقال له عمي :

– العمى . هذا ابن أخي .

تعثر النادل وكاد يسقط ، فقذفه عمي بالعمى مرة أخرى . وسألني :

– وأخي خليفة الأول ؟ هل مازال على قيد الحياة ؟

قلت له :

– لقد أعطاك عمره .

وحدثته بحكاية عودته إلى القرية المهجورة . وكيف أخرجت الكلاب جثته من تحت باب صفية المجنونة .

رد :

– مسكين .

ولم يزد شيئا .

ثم سألني عن بقية الأهل ، فذكرت له ما أعرف من أخبارهم . والرجل لا يشبع من الحديث . كلما سكت استزادني .

ثم دعا النادل ، فطلب لي بيرة أخرى وطلب لنفسه قارورة خمر . وواصل أسئلته واستفساراته عن البلد ، وكأنه لم يغادر الديار منذ أمد بعيد .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 19 –

أبو اللعنات يشنق نفسه

في نزل الأنترناسيونال

 

بعد ثلاثة أيام ، سمعت أن عمي شنق نفسه في الغرفة التي يقيم بها في نزل الأنترناسيونال .

لم أصدق الخبر ، وأحسست بالجنون يغزو كياني . يجتاحني جزءا جزءا . فالرجل عبر في مناسبتين حين التقيته عن ندمه عن السنوات التي مرت دون أن يرى فيها البلد وأهلها . ورفض الدولارات الكثيرة التي قدمها له مصور محترف جاء خصيصا من أمريكا لأخذ صور فاضحة له . ولم يمتثل لترغيب صاحب النزل الذي وعده بالجنة .

وبكى حين حكيت له عن الموت الفاجع الذي مازال إلى الآن يقتل أطفال القرية بأمراض تافهة كالحمى وجريان الجوف .فقل ، كالمحدث نفسه :

– وأنا أرمي بالدنانير على رؤوس القحاب .

يا لتعاستك يا خليفة . ملعون جنسك إلى يوم الدين .

وعندما حكيت له عن الزاوية التي بناها عمي أبو البركات على قبر الجد ، وعن المريدين الذين يبارك هذا العم قدومهم في العشي والأصباح ، ويجمع المال منهم ليجعل من الزاوية مزارا عظيما . سكت ، ولم يشاركني الكلام بقية تلك الليلة .

وواصل شرب الخمر حتى الفجر .

وحين فقد وعيه ، حملته مع ثلاثة من عمال النزل وأرقدناه على سريره الكبير .

وغادرت الفندق …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 20 –

يا أهل الله ردوا رجولة عمي

 

وقفت طويلا أمام المشرحة أنظر إلى الجثة المسجاة أمامي . كان فوقها غطاء مبقع بالأوساخ . وكانت الرجلان عاريتان ، وبعض شعر الرأس ظاهر للعيان .

وددت أكثر من مرة رفع الغطاء عن وجهه لأتملى ملامحه ،

ملامح جدي قبل أن يغيبه التراب . لكنني كنت أتراجع رهبة وخوفا ، إلى أن واتتني الشجاعة أخيرا وأنا أنوي مغادرة المكان . عدت إلى غرفة الأموات بخطى حثيثة ، واتجهت مباشرة إلى الغطاء . رفعته دفعة واحدة . لم أنظر إلى الوجه ، ولا إلى أي مكان آخر . نظرت فقط إلى عورته ، فصعقت .بقي الغطاء معلقا في يدي . وبقيت العينان معلقتان فيما كان بالأمس القريب فرجة للغرباء القادمين من بلاد الضباب والصقيع . لم أجد العورة في مكانها فقد كان العضو مقصوصا من منبته . والخصيتان ، وقد تيبستا واسودتا صارتا أصغر من بعرة بعير .

رميت الغطاء فوق الجثة ، وخرجت من الدار أصرخ من الرعب والفزع :

– يا أهل الله ردوا رجولة عمي .

تجمع حولي زوار المستشفى والموظفون . وجاء حارس بيت الأموات يجري . كانت عيناه مرعوبتان ، واصفرت شفتاه من الخوف . قال :

– لماذا يصرخ هذا الرجل ؟

ردت عليه أصوات من الجمع الغفير الذي صار حولي :

– هو يزعم أن عمه فقد رجولته .

قال مرتبكا :

– ومن هو عمه ؟

قالوا في صوت واحد :

– الرجل الراقد في بيت الأموات

تقدم نحوي وجلا ، فقد كنت لابسا كسوة جديدة وربطة عنق وتظهر على وجهي علامات الوجاهة . قال :

عيب ما تقول يا رجل … أفهل ينظر الأحياء إلى عورات الأموات ؟

وذهب يغلق باب بيت الأموات بالمفتاح . أدار المفتاح في ثقب الباب دورتين ودورة ، وانصرف .

اطتشف الناس بعد أيام أن حارس بيت الأموات باع عضو عمي إلى المصور الذي جاء خصيصا من أمريكا منذ أيام ، والذي كان ينوي تصويره في كاسات فيديو خاصة بأفلام الإيروطيقيا بعد أن قيل له أن الرجل من سلالة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي النفزاوي ، صاحب كتاب :     الروض العاطر في نزهة الخاطر . فهام الأمريكي بعمي وبإيره قبل أن يراه . حفظ لذلك أسماء أيور الرجال بالعربية ومترجمة إلى الأمريكية . وبحث عن معاني كل اسم وحده ، حتى أنه كان في النزل يردد كالمخبول :

الخراط ، الدقاق ، الفدلاك ، النعاس ، الحمامة ، الطنانه ، الدماع ، الأعور ، الفرطاس ، الحكاك ، الهزاز ، اللزاز ، الشلباق ، البقاق ….

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 21 –

عن الامريكي الذي يحفظ كتاب :

الروض العاطر ، عن ظهر

 

كان يردد هذه الأسماء بلكنة رومية محببة إلى السمع ، وكأنه يتغزل بإمرأة جميلة أو بشاب أمرد . يرددها صبحا ومساء ، وفي كل الأوقات . ولا يشبع ، إلى أن التقاني مساء فجيعتي في عمي .

قالوا له : ذاك الرجل ابن أخ لصاحبك ، فعليك به عله يساعدك في شيء ، فهو متعلم ويحسن الكلام بلغتكم .

كنت أحتسي قارورة خمر . وكنت وحيدا ، حين اقترب مني .

حياني مبتسما : هالو.

ثم جلس بجانبي ، وطلب منادمتي ، فصببت له كأسا رفعها وطلب مني أن أرفع كأسي . ونقرنا الكأسين .

قال : في صحة جدك ، أبي عبد الله محمد بن أبي بكر النفزاوي .

قلت : في صحة النفزاوي

ثم تداركت : من ؟ النفزاوي :

رد الأمريكي : لقد أعلموني أن عمك من سلالة صاحب كتاب الروض العاطر .

فهمت مقصده ، فقلت في نفسي أجاريه لأفهم أكثر مراده .

وصار يتكلم عن الكتاب ، وعن أجزائه جزءا جزءا .

يتحدث عن مكائد النسوان ، وعن المحمود من الرجال والنساء ، وعن المكروه منهما ،وعن الجماع ، وعن كيفياته ، وعن مضاره . وعن أسماء أيور الرجال ، وعن أسماء فروج النساء ، وعن أيور الحيوان .

وأنا أتعجب منه ومن أحاديثه وهو يميل رأسه يمنة ويسرة مرددا كالمخبول :

الغرمول /

والكابس /

والفلاق /

والهرماق /

والزلاط /

والمنفوخ /

وأبو دماغ /

وأبو برنيطة /

وأبو شملة /

والقنطرة /

ويصمت مدة ليعود كأحسن ما تكون العودة إلى الترنم بآلات ذوي الأضلاف كالبقر :

العصبة /

والسوط /

والطويل /

والقرباج /

وآه من عيصوب الغنم .

ثم يمر على الأسد وما شابهه مترنما بالقضيب ، والمتمغط والكيبوس .

وعندما يتعب يتحدث عن شهوات الجماع وما يقوي عليه . والرجل يتعصب للنفزاوي ، ويقول :

– ما رأيت في السابقين ولا في الاحقين من هو أعرف من جدك بهذه الأمور .

إلى أن أخذت الخمرة برأسه ، فقام يرقص رقص المجانين فتحلق الخلق حولنا عربا وأجانب ، وراحوا يصفقون وهو يتماوج يمينا وشمالا . ويعوي ، وبزار ، وينادي بصوت مبحوح :

– الله الله يانفزاوي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 22 –

في رحاب الشيخ النفزاوي

 

طلب الأمريكي في الغد أن نزور قبر الشيخ .

قلت في نفسي :

– ومن يعرف قبر الشيخ ؟

ثم تداركت بسرعة ، فوافقته .

اشترط أن تكون الزيارة ليلا ، على ضوء القمر .

قلت : نعم ، سنزور الليلة القبر .

صباحا ، ذهبت إلى المقبرة أستطلع مخابئها . رأيت في ركن قصي زاوية ، فذهبت أزورها لأتعرف عليها جيدا قبل مصاحبتي للأمريكي .

الزاوية صغيرة .أربعة أمتار في أربعة أمتار. تعلوها قبة بيضاء يتدلى من سقفها حبل يحمل قنديلا به فتيلة و زيت .

والضوء الخافت يدخل من كوى صغيرة قرب السقف ، ويسقط بهدوء فوق التابوت . والتابوت الذي يكاد يملأ الحجرة مغطى بقماش أخضر ثقيل مطرز بخيوط من الفضة . وعلى جنبات الحيطان أعلام حمراء وخضراء وصفراء وبيضاء وزرقاء . أعلام تختلط فيها الألوان والأحجام . أعلام هي نذر الزائرات لهذه الزاوية . الطالبة للخلفة ، والراغبة في رجل يملأ حياتها ، والداعية لعودة حبيب فر ولم يعد ، والراغبة في نجاح حبيب .

جست قليلا داخل الزاوية ، ثم غادرت المكان .

في تلك الليلة ، صحبت الأمريكي إلى الجبانة .

بعد العشاء ، وبعدما شربنا قارورة من الخمرة التونسية التي صنعها الآباء البيض ، تزودنا بزاد من الخمرة ، وقصدنا المقبرة .

كانت الساعة حوالي منتصف الليل . والمدينة التي تعج بالحياة طوال النهار ، تنام باكرا . الشوارع خالية من المارة . وظلال الجدران تهبط ثقيلة على الأرض ، وكأنها الأشباح الفارة من قبورها . شققنا طريقنا ببطء إلى أن ظهرت جدران الجبانة . سلمنا على الحارس ، ورشوناه بقارورة خمرة ، ففتح لنا الباب .

كان القمر يملأ المكان . وكانت القبور تنام في هدوء سرمدي . وظلال الشواهد تتراقص في خبث . والليل داهم العالم فعمت السكينة . وامتلأ المكان بالرهبة .

بدأ الأمريكي يصفر ، فقلت له :

– إن التصفير يجلب الشياطين .

رد بخبث :

– آآه . ليت الأمر كذلك . كم أنا في حاجة إلى جمع منهم يشاركونني فرحتي  .

ومشينا نتعثر بحجر القبور ، إلى أن وصلنا تحت نخلة سامقة ، باسقة ، شامخة برأسها إلى السماء .

وقف الأمريكي تحت النخلة وقال :

أريد أن أجلس هنا قليلا في حمى هذه النخلة .

قلت هازئا :

– لك ذلك يا رجل ، فمردة الجان تعشق النخيل وتجلس تحتها .

فرشنا بساطا صغيرا ، وجلسنا فوقه ، فأخرج الأمريكي من جرابه كأسين صغيرتين وقارورة بوخا .

– ها أنت مصحوبا بخمرة اليهود .

فردا مبتسما :

– هي خمرة يهود بلادكم . هل تنكر ذلك ؟

وسقاني وسقى نفسه دورا .

شربنا الكأسين في نفس واحد ، فعاد إلى القارورة يمص من فمها مصا وكأنه يرضع لسان حبيبة . ثم رماها فارغة . وعاد إلى الجراب فأخرج قارورتين أخريين وهو يقول :

– لكل منا صاحبته ، فليفعل بها ما يشاء

وصب البوخة في جوبه وكأنه ينتقم منه ، ثم قام خفيفا كالنسيم .

قال :

– أين قبر الشيخ جدك ؟

قلت :

– النفزاوي ؟

قال :

– نعم . تلك الأعجوبة التي أود الآن أن أقف عند رأسها حاجا متبتلا .

قلت :

– إلى هذا الحد بلغ بك الهيام بالرجل ؟

قال :

– بل أكثر . لكنكم لا تعلمون .

قدته إلى الزاوية ، فوقف أمام الباب كالمذهول . ثم امتدت يداه إلى ثيابه ينزعها عن جسمه .

قلت :

– ماذا تفعل ؟

قال :

– أتطهر أريد أن أخرج من الرجس الذي يغطيني

ثم طلب مني أن أعلمه كيف يتطهر المصلي عند المسلمين إذا غاب الماء . قلت :

– يتيمم صعيدا طاهرا .

قال ”

– كيف ذلك ؟

جئته بحجر من فوق قبر ، ثم طلبت منه أن يمرر بيديه إلى المرفقين .

هكذا كما اتفق .

قال :

– هذا لا يكفي أريد أن أطهر كامل البدن .

وصار يمسح بيديه على الحجر . ثم يمرر اليدين على الصدر ، فالبطن ، فالإليتين ، فالعضو .ثم يعود إلى عمله من جديد إلى أن بلغ سبع مرات . بعدها وضع الحجر أمام الباب ، ودخل إلى الزاوية وقد تعرى وكأنه الثعبان الذي نزع عنه ثوبه .

وضعت نعلي أمام الباب ، وتبعته .رأيته راكعا أمام المحراب ضاما يديه إلى صدره ، ومغمضا عينيه .اقتربت منه ، فسمعت همهمة لم أفهم منها شيئا في بادئ الأمر ، ثم تعرفت على صلاته .كان الأمريكي يقرأ أسماء أيور الرجال منغمة ، ثم يمر إلى ما والاها من الحسوانات ذات الأضلاف والأخفاف ، ثم يعود من جديد إلى البداية حتى كاد يغمى عليه .

تنحنحت ، فرفع رأسه نحوي ذاهلا ، ولهان النظرة ، يملأ قلبه خشوع غريب . مددت له يدي ، فجذبني برفق . وجلسنا على الحصير ، فعاد إلى الشراب وإلى مناجاة الشيخ النفزاوي .

ولم يتعب من التمتمة والابتهال .

حين أنهى صلواته وشربه ، وشوشني كلاما اقشعر له بدني . طلب مني أن أنكحه في هذا المقام .

قال وعلامات المذلة والخضوع تسري من لسانه المتيبس :

– حتى  يتم حجي كما وددت وأنا في أمريكا .

رغبت في ذلك . فهذا الأمريكي الأحمر ، الأبيض ، الأملس كطفلة ، فأل حسن . وأنا أتفاءل بالمردان .

مددت يدي أتحسسه . الإليتان بارزتان مكتنزتان . والجسم رخو سمين . والعينان مغمضتان في فتور .

هممت به ، فتمدد على الحصير ، ورفع إليتيه إلى فوق ، وهو يئن أنين اللذة . فثار الدم في عروقي ، وهتفت :

– الآن سأنيك أمريكا بنصف زب .

وضعت الآلة المستفزة في مكانها ، فعوى . وصرت أرهز وراءه ، وهو يئن ويبكي ويتوسل المزيد . إلى أن همدت وهمد تحتي كما تهمد البراكين .

تركته نائما وعدت وحدي إلى المنزل .

في طريق عودتي ، سمعت مؤذنا يرفع فوق صومعة الجامع آذان الفجر . كان المكروفون يردد دون كلل :

– الصلاة خير من النوم يا عباد الله …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكتاب الثالث

 

خليفة الثالث المكنى بأبي البركات

يشري لكل واحد من مريديه

قصرا من قصور الجنة

 

 

 

– 23 –

روائح الجنة تفوح من تحت

تابوت سيدي الصحبي

 

قال لولده خليفة الثالث قبل موته بأيام ، إن ملك الموت زاره في الليل وأخبره أن أجله صار قاب قوسين أو أدنى . وطلب من بكره أن لا يدفنه في تونس . قال له :

– لا تترك دود العاصمة يأكل من لحمي

أسرج حصاني يا ولدي ، وضع اللجام في يدي . سيسير بي الحصان على بركة الله إلى قبري .

رد ولد الشيخ :

– لكنك كبرت يا والدي ووهن منك العظم ، ولن تقدر على طول الطريق . فربما يطول السفر .

قال الشيخ :

– لا تعاند مشيئة الرب ياولد . ولا ترافقني في الطريق ، فحصاني يعرف مكان دفني . وقبري محفور منذ الأزل .

وحمحم الحصان ، فوثب الشيخ فوق البرذعة . وحرك اللجام .وغاب وراء الجبل .

سار الحصان في خط مستقيم سبعة أيام بلياليها يحاذي المدن والمداشر ، ولا يقف لأحد . والشيخ على ظهره يشطر تمرة كل مغيب شمس ، فيأكل نصفها ، ويطعم حصانه النصف الثاني إلى أن وصل إلى شط الجريد ( 1 ) .

رأى السبخة تمتد أمامه يلمع ملحها كالفضة المذابة على امتداد البصر ، فأوقف الحصان بهمزة صغيرة من حذائه .

قال :

– ها هنا سأستريح هذه الليلة فلم يبقى بيني وبين أجلي سوى هذا الحاجز الفضي ، وسأقطعه بإذن الله غدا صباحا .

وأشعل نارا من حطب جمعه من هنا وهناك ، ثم تيمم وصلى المغرب . وشق كعادته تمرة ، فأفطر وأفطر حصانه .

هو هكذا منذ أن قتل التيفوس بهراوته ، فصام الدهر . يومه درس في جامع الزيتونة المعمور وليله صلاة وتهدج ، وولده خليفة الثالث في عناية بي وبه إلى أن كبرت ، فهربت من حصير الجامع إلى مقاعد الدراسة في المعهد الصادقي لأتعلم الجبر والهندسة وعلم الحيل ولغة الكفار ولأترحم على المصلح خيرالدين باشا التونسي (2 ) الذي بناه في عهد المشير الصادق ( 3 ) باشا باي تونس وأحوازها .

وبقي هو هناك يعلم الفقه والتوحيد ويدرس علم الكلام وشطحات المتصوفة .

ما قال جدي شيئا يخصني بعدما غبت عن حلقات الدرس بالجامع المعمور سوى : لم يبق لي إلا أنت يا خليفة .مبارك أنت وذريتك إلى يوم الدين .

سر عمي بكلام الجد ، فزاد في حدبه عليه . وما عاد ينام من الليل إلا قليله . يحفظ القرآن ، ويرتله ، ويجوده ، ويوقظ جدي لصلاة الصبح .

إلى أن كانت الليلة التي نام فيها الجد باكرا ، فجاءه صاحبه وهو بين اليقظة والنوم ، وقال له :

لن أمهلك إلى الغد . سأقبض روحك هذا اليوم قبل طلوع الشمس .

قم الآن . اركب حصانك أو سر وراءه . سيقودك إلى مرقدك الأخير .

فقام من إغفاءته ، فتيمم وصلى الفجر ، ثم سار وراء الحصان ماسكا بذيله . والحصان لا يلتفت إلى الوراء إلى أن دخل مقام سيدي الصحبي ( 4 ) . وجد البناية صامتة ، فأصاخ السمع . بلغه صوت كدبيب النمل . وأحس وكأن ملائكة الرحمان تردد الذكر الحكيم ، فوقف مكانه لا يريم .

كم دامت وقفته هناك بحساب أهل السماوات . إنه لم يعد يدرك معنى للزمن ، إلى أن أفاق على رائحة زكية تأتي من تحت التابوت المغطى بقماش أخضر أهداه المشير أحمد باشا باي تونس إلى المقام المبارك في واحدة من غزواته التي أدب فيها الأعراب المارقين على قانونه ، والذين رفضوا دفع الضرائب إلى محلة الباي

مشى إلى هناك ، وكأن الرائحة صارت حبالا سرية تستدرجه نحو القبر . رأى كفنا على جانبه الأيمن فنزع برنسه وجبة الصوف وارتدى الكفن ثم نزل إلى داخل القبر .

 

إحالات :

 

( 1 ) في ذكر شط الجريد : ورد في الحلل السندسية في الأخبار التونسية للسراج :

… وبعد قرية بشري ، السبخة المعروفة بالتاكمرت . قال أبو الحجاج يوسف بن المنصور : وهي من غرائب الدنيا التي أغفلها المؤرخون وأهمل وصفها الإخباريون

. فإنها أميال في أميال سطحا واحدا كاللجين المسبوك أو المرمر المحكوك . يكاد ينفذه البصر لصفائه .وكأنما هو غدير جمد بمائه . قال : وآن وقت صلاة الصبح ، والناس يمشون فيها . فصلوا منها على بساط من الكافور أو سطح من البلور . بها معالم من جذوع النخل تمنع السالك من الخروج على طريقها المسلوك يمينا وشمالا لأن ما على يمينها وشمالها من الأرض لا يثبت عليها قدم . ولا يسلكها أحد جاهل بها إلا غاص فيها لما لا قعر له .

قال البكري في  المسالك والممالك : … وقد هلكت فيها الجماعات والعساكر ممن دخلها ولم يدر أمرها . وإذا غاص فيها أحد التأمت عليه الأرض في الحين وعادت كما كانت .وذكر محمد بن إبراهيم بن جامع المرداسي قال :

سلكتها قافلة لنا في ألف جمل ، ففر بعير منها على الطريق وتبعه باقي الإبل فلم يكن أسرع من أن ساخت الأرض ، وغاص فيها الألف جمل . ثم عادت الأرض كما كانت وكأن لم يكن لتلك الإبل أثر .

وقال التيجاني : وأما أنا ، فشاهدت الرجل يدفع سافلة الرمح على الأرض ويعتمد عليها إلى عاليته ، ولو زاد دفعا لازداد نزولا ، فإذا جذبه عادت الأرض إلى حالتها الأولى .

قال : ووجدنا كثيرا من المعالم قد سقطت وأبعدتها الريح عن أماكنها . وتحت كثير منها عظام . وإلى جانب عمود امرأة قد ضمت يديها على طفلة ، ففاتتا معا . ويذكرون عنها أنها غاضبت زوجها بنفزاوة ، وحلفت ألا تبيت يومها ذلا إلا بتوزر . وخرجت من حينها مع ابنتها فماتتا بطرقهما .

( 2 ) خيرالدين التونسي : وزير مصلح . صاحب كتاب

 ” أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك “. غادر تونس منفيا قبل انتصاب الحماية الفرنسية بسنين قليلة .

( 3 ) الصادق باشا باي : من بايات الدولة الحسينية التي حكمت تونس . صادق على معاهدة باردو التي صارت بمقتضاها الإيالة التونسية محمية فرنسية .

( 4 ) الصحبي : في لغة العامة في تونس تعني صاحب رسول الله أو ” الصحابي ” . وقد استشهد في تونس عدد من الصحابة في سني الغزوات الأولى التي وصلت بلاد إفريقية . ومن أشهرهم إثنان . أبوزمعة البلوي ومرقده بالقيروان وأبو لبابة الأنصاري وقبره موجود في مدينة قابس .

أما الصحابي المدفون في قرية المحاسن من بلد الجريد فلم يذكره صاحب ” وفيات الأعيان ” ولا صاحب ” فواة الوفيات ” ، وإنما تناقلت أخباره العامة أبا عن جد إلى أن وصلنا حديثه في العشرة الأخيرة من القرن العشرين . وقيل أنه واد من أصحاب الرسول مات مقتولا بسهم جاءه من وراء أسوار” تيقيوس ” الموجودة أطلالها الرومانية حتى الساعة والتي بنيت على أنقاضها قرية ” المحاسن ” الحالية . وقد ورد ذكرها في ” معجم البلدان ” لصاحبه ” ياقوت الحموي ” في باب التاء . والله أعلم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 24 –

الشمس التي طلعت من القبر

 

حين جاء المصلون لصلاة الصبح ، وجدوا حصانا واقفا أمام باب المقام . ورأوا قبرا داخله ميت .

نزعوا الغطاء عن وجه الميت ، فرأوا وكأن شمسا أشرقت داخل القبر .فأعادوا الغطاء إلى مكانه ، وواروا الشمس تحت التراب .

وحين حاولوا جر الحصان من أمام المقام ، عاند وحمحم ورفس بحوافره ، فتركوه في مكانه وعادوا إلى منازلهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 25 –

المبايعة

 

كانت رائحة الجنة تفوح من المكان ، حين وصل أبو البركات . فقال للناس الذين تجمهروا حوله :

إن والدي قد سبقني ، وقد أوصاني قبل موته بأيام أن أسير وراء خطى حصانه . وسأعرف طريقه حين أشم رائحة الجنة التي سوف يتركها فوق الصخور وتحت الأشجار وعلى قمم الجبال وفي الوديان السحيقة .

قال لي : ستشم رائحة الجنة التي ستوصلك إلى قبري . اسأل من يعترض طريقك : هل واريتم الشمس تحت التراب ، فإن طأطأوا رؤوسهم ، فاطلب منهم أن تقيم بينهم . فإن وافقوا علم أولادهم القرآن ، وسيطعمون بطنك فلا تأخذ منهم أجرا ثمنا كلام الرب .

وتركهم في حيرة من أمرهم ، وذهب يسلم على الحصان الواقف أمام مقام سيدي الصحبي . فتحرك أهل القرية واقتربوا من الحصان . ومدوا أيديهم يبايعون أبا البركات على السمع والطاعة .فوعد كل واحد منهم بقصر في الجنة . وحمحم الحصان فربت على ظهره ومشى .

مشى أبو البركات فمشى الحصان وراءه . ذهبا سوية إلى الخلاء حتى وصلا إلى جبل يطل على واد سحيق ، فتوقفا عن السير . ظلا ينظران في عيني بعضهما حتى نبت للحصان جناحان بديعان بهما ألف لون ولون . فصفق الحصان بجناحيه ، وطار في سماء الله الواسعة باتجاه الشمس المائلة نحو الغروب .

واستقبل أبو البركات القبلة وظل يصلي ، إلى أن جن الليل فمد عباءته وأغمض عينيه ونام .

حين انتصف الليل ، أفاق أهل القرية في وقت واحد على صوت نباح الكلاب .

كانت الكلاب تنبح وكأن آلاف الشياطين تجري وراءها .

هب الجال من رقدتهم وذهبوا يستجيرون بالزاوية .

فتحوا شبابيك الجهات الأربعة ، وأطلوا … على الليل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 26 –

أبو البركات يرفض أكل اللحم

ولبس الحرير .

 

قالوا له :

– لن تنام الليلة الثانية وحدك . سنزوجك واحدة من بناتنا ليباركك ويباركنا الرب .

وتباروا فيمن يزوجه ابنته حتى كادت الدماء تسيل أنهارا .

أخرجوا السيوف اليمانية والخناجر والنبابيت والبواريد التركية وأشهروها في وجوه بعضهم . وظلوا في تناوش مستمر إلى أن حل أبو البركات المشكلة بأن دخل بأربع بنات أبكارا في تلك الليلة .

قال لهم : لن أغضب واحدا منكم . سأتخذ زوجة من كل قبيلة من قبائلكم ، و سأكون سهركم أجمعين .

ورزم الطبل في كل مكان . وأقيمت الأفراح ابتهاجا بالحدث السعيد .

وعرضت البنات على عمي فاختار القصيرة السمينة والهيفاء بعيدة مرمى القرط والسمراء الحوراء والبضاء المكسال .

ونصب أهل القرية الخيام وذبحوا البقر والشياه والجمال . وأولموا ، فجاء الضيوف من كل مكان . بايات وباشاوات وشيوخ قبائل ، وجندرمة وصبائحية ، ومعمرون ودراويش .وأكل الفقراء بقايا الوليمة . أكلوا حتى شبعوا . وحمدوا الرب ، وباركوا الزواج السعيد .

في تلك الليلة زار عمي زوجاته واحدة وراء الأخرى . وفي الصباح ، هنأ كل واحد من رؤساء القبائل الأربعة قائلا لهم جميعا :

– مباركة بناتكم إلى يوم الدين .

فردوا علية أجمعين :

– بالبنين والبنات يا مولانا

فقال لهم :

– بل قولوا يا خادمنا

فتهافتوا على يديه يقبلونها ويضعونها فوق رؤوسهم .

وعادوا إلى ذبح الإبل والشياه . وعاد الضيوف إلى أكل اللحم السمين . ولم يغب الفقراء على الوليمة .

هكذا احتفلت القرية بأبي البركات . سبعة أيام بلياليها وعمي ضيف على رؤساء القبائل الأربعة الذين تنافسوا للفوز برضاه .

في صباح اليوم الثامن لوصوله إلى القرية ، استيقظ كعادته باكرا ، فصلى الصبح بالناس وقام فيهم خطيبا .

قال لهم :

– الآن جاء دوري ، فاستمعوا لحديثي . فأنا لن آكل بعد اليوم لحما ولن ألبس الحرير .

وطلب منهم أن يوقدوا نارا عظيمة .

رمى بثيابه وثياب نسائه في النار. ولبس جبة صوف ، وألبس نساءه الخشن من الثياب . ودعا الناس إلى العمل الصالح ، فقالوا له :

– السمع والطاعة يا مولانا .

وجاءوا بأولادهم إلى الزاوية ، فبسطوا الفرش على الأرض وأجلسوهم وقالوا له :

جئناك بأكبادنا ، فهي أمانة في عنقك .

فرد :

– لا تخافوا ، سأعلمهم ما لا يعلمون .

وسمع الناس بالرجل الذي رفض الحرير، ولبس الصوف ، فجاءوه من كل مكان .

من تمبكتو إلى  شنقيط ، ومن غانا إلى كوالالمبور ، ومن مراكش إلى مسقط ، ومن نيويورك إلى أبخازيا .

عرضوا عليه الأموال ، فأخذ ما يكفي لبناء مئذنة وهو يردد على مسامعهم :

حتى ترانا ملائكة السماوات ، ويسمع الجاهلون .

 

 

 

– 27 –

عيون الشيطان

 

بعد أن صلى المغرب بمريديه قال لهم ، بعد أن ذكر الله  كثيرا ، وصلى على نبيه وأثنى على الصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين :

سادتي الكرام ، لا تفتحوا من الآن فصاعدا جهاز التلفزيون . فهو جهاز كافر فاجر يدخل رجاله على نسائكم بدوم استئذان . من منكم يقبل أن يصل الغريب إلى بناته وزوجاته وأخواته وخالاته وعماته . من منكم يقبل فجور نساء هذه الآلة العجيبة التي خلقها الكفار لإفساد المسلمين الصالحين القانتين التائبين .

سادتي الكرام ، لا تسكنوا بعد هذه الساعة  مع عيون الشيطان . إنه لكم عدو مقيم .

تدارس الجماعة الأمر فيما بينهم بعد صلاة العشاء في سقيفة الأخضر التابعي شيخ قبيلة بني سبعون . اختلفوا في أول الأمر حتى رفعوا العصي في وجوه بعضهم ، وكادت تكون قتنة لولا أن أسكتهم شيخ القبيلة قائلا :

ليغادر مجلسي من مازال في قلبه مرض .

وطلب من رجاله التفتيش داخل البيوت ، وجلب الصناديق العجيبة . فانتشروا في لمح البصر يطبقون أوامره .

طافوا بالبيوت وهم يصيحون :

أخرجوا من دوركم عيون الشيطان يا عباد الله . أخرجوها حتى لا تحق عليكم لعنة الكافرين .

وكدسوا أجهزة التلفزيون في ساحة كبيرة أمام الزاوية . أجهزة مختلفة الأحجام والألوان والأنواع : صوني وصانيو وفيليبس وقرطاج وطومسون وحنبعل وجي في سي وصلامبو .

أجهزة تلفزيون بالألوان ، وأخرى بالأبيض والأسود فقط .

وتلاحق الرجال وهم يجمعوا غنائمهم من بيوت القرية المنهوبة ويلقوا به فوق الكدس حتى أصبح كومة كبيرة .

أطلت النساء من وراء الأبواب والشبابيك المسيجة بالحديد وهن يتحسرن على منوعات راغب علامة وإيهاب توفيق والمسلسلات المصرية والأفلام العربية

وبكى الأطفال برامج الصور المتحركة وأفلام الرعب .

وعلا نواح النساء وعويل الأطفال وارتفع حتى كادت قلوب الرجال تنفطر . ولكن لا راد لقضاء الله . فقد حكم الشيخ ومن يقدر على رد حكم الشيخ ؟

ووصل جرار متبوعا بمقطورة ملأى بحجارة في حجم الكف . حجارة من سجيل قال الأخضر التابعي وصح في الرجال :

– ارجموا عيون الشيطان يا عباد الله .

طهروا بيوتكم من الرجس واملأوا قلوبكم بذكر الله .ألا بذكر الله تطمئن القلوب . قولوا آمين ، ولا تأسفوا أبدا فتذهب ريحكم ويصيبكم ما أصاب قوم نوح وثمود .

فانهالت الحجارة على الكدس .

تكسرت الشاشات الفضية ، وتطايرت شضايا البلور كالفراشات الصغيرة .

وبكت نجاة . وتأوه فريد . وتأسف عبد الحليم . وماتت سيدة الطرب العربي حزنا ومقتا .

وصمت صوت مذيع الأخبار، والحجارة تنهال عليه كزخات المطر .

تواصل الرجم حتى صار الكدس هشيما .

قال التابعي الأخضر :

– كعصف مأكول .

وقال الشيخ أبو البركات :

– الآن فقط اطمأن قلبي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 28 –

سوق الشيطان

 

بعدما اطمأن قلب أبي البركات على البيوت وسيجها حتى لا تدخلها غواية الشيطان ، دعا أتباعه إلى اجتماع طارئ في المقام وحرضهم على سوق الشيطان .

قال لهم :

– ألا تعلمون أن أجسامكم ، الرجال كالنساء ، عورة . ألا فاتقوا الله واحذروا نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد يأتمرون بأمر الله ، ولا يخافون في الحق لومة لائم .

عباد الله ، لا تدخلوا بعد اليوم سوق الشيطان .

امنعوا نساءكم وأطفالكم من الذهاب إلى الحمام بعد كلامي هذا في يومي هذا ، ولا تعصوا أوامر الله . إن الله يحب من عباده الصابرين .

أربكت هذه الدعوة المقربين من الشيخ قبل غيرهم ، فما دروا بماذا يجيبون .

الحمام . آه ثم آه من الحمام …

الحمام ، بيت الطهارة ومكان الراحة من أتعاب الدنيا .

الحمام في أيام البرد والصقيع والبخار يتصاعد من البيت الساخن ، والضباب اللذيذ ، والأجسام تبدو كالأشباح ، واللهاث ، والدفء ، والعرق الذي يسيل على الأجساد بهدوء دابا دبيب النمل فوق الجلد الطري . ثم الماء الحار وهو ينزل من الرأس إلى أخمص القدمين ليغسل البدن والعقل . فيخرج التعب من مسام البدن كما تخرج الشعرة من العجين ليعود المرء إلى بيته وكأنه ولد من جديد .

الحمام ، آه ثم آه يا مولانا والنساء يعدن منه نظيفات ، حمراوات ، لذيذات ، شهيات ، حتى أنه يصبح في مقدورك أكل عشر منهن في قظمة واحدة .

الحمام ، وما العيب في الحمام ؟

هكذا خرج السؤال بريئا من فم أحد الرجال .

فرد الشيخ دون أن ينظر في وجوه الجماعة الواجمة :

– فيه يطلع الرجال على عورات بعضهم يا أولادي .

ألا تعلمون أن عورة الرجل من تحت الصرة إلى ما فوق الركبة بقليل . فسدوا هذا الباب ، واستريحوا .

ولم يرق هذا الكلام للكثيرين لكنهم سكتوا .إلا أن أحدهم  تجرأ على السؤال مرة أخرى :

وماذا عن النساء يا مولانا ؟

فقال الشيخ :

هناك ممن تحكي منهن عن النساء للرجال يا ولدي ، وتصفهن لهم عن قصد أو عن غير قصد ، فيتشهى الأغراب نساءكم ويمارسون معهن الجنس في المنام .

وسكت الشيخ ، فقال الأخضر التابعي :

– ليغادر جمعنا ممن مازال في قلبه مرض .

فسكت مولانا عن الكلام المباح …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 29 –

فرمان الحكومة

 

– سنذكر الرب في زاويتنا ، ولن يدخلها منذ الآن إلا من آمن وصدق برسالتنا .

هكذا تكلم أبو البركات ، فوافق البقية على كلامه بهز الرؤوس والمسح على اللحي القصيرة المنتوفة حديثا .

ثم تفرقوا في الجهات الأربعة يبشرون برسالة صاحبهم .

قال لهم وهو يوصيهم بالكتمان والصبر على الأذى إذا تعرضوا للتجربة :

– لكم أن تصلوا في مساجد المسلمين وبيع اليهود وكنائس النصارى ، ولكن لن يدخل علينا زاويتنا إلا الأخيار .

فأنتم أخيار هذه الأمة يا أحبابي . ولن تقوم الساعة إلا إذا عم النور قلوب العالمين ممن اختاروا صفنا ونأوا عن الكفر بآيات ربنا .

وأغلقت أبواب زاوية سيدي الصحبي في وجوه الناس . وما عاد بمقدور أحد دخولها سوى أتباع أبي البركات .

الذين كانوا يتكاثرون تكاثر الجراد . وينغلقون على بقية العالم انغلاق الدائرة . كلما زاد عددهم واحدا ازدادت الدائرة انغلاقا حتى صارت الزاوية دنياهم وآخرتهم .

وعمي يبارك الجموع التي كانت تتدفق عليه في كل حين وآن .

وعمي لا يقبل الهدايا لنفسه أبدا بل يمررها إلى ناظر الزاوية الذي يأمر به للفقراء من المريدين .

وعمي يفى بما وعد . فما عاد يذوق اللحم ، ولا يأكل أبدا من طيبات الدنيا ، إلى أن ضمر جسمه وتيبس الجلد على العظم .

صار خيالا أو كالخيال . يسهر الليل ولا يكاد ينام . فنسي الدنيا وتعلق بتلابيب الآخرة . وسهى عمن حوله .

صبرت نسوته الصغيرات على هذا النسك والتعبد في بادئ الأمر ، ثم بدأن في التململ والضجر .

قالت القصيرة السمينة : هذه حياة ليست كالحياة ، ثم ذابت من الوجود . فلم ير لها أثرا .

أين ذهبت ؟ لم يجد لذلك أحد جوابا . والغريب في الأمر أن غيابها لم يثر الحيرة والسؤال .

كل ما في الأمر أن همسا سرى في الزاوية بأن الشيخ بث عيونه في كل مكان للبحث عن الغائبة .

ثم ماتت الهيفاء بعيدة مرمى القرط . ماتت حزنا وألما على فراق السمينة التي كانت تشاطرها الفراش الذي غاب عنه الشيخ في ليالي البرد القارصة .

ماذا كانتا تفعلان فوق الفراش الذي هجره الشيخ ليسكن في الزاوية عابدا متهجدا ؟

همس آخر سرى عند القلة من المريدين الذين ظل في قلوبهم مرض بأنهما كانتا تتساحقان وتتبادلان حب الأنثى للأنثى ، فتشخران وتنخران كفرسين جامحين . وأنهما كانتا  تدعوان الشباب إلى فراش الشيخ لممارسة الحب الجماعي لكنهم ما جرأوا على ذلك الفعل خوفا من الرجم بالحجارة الذي هدد به الأخضر التابعي مرتكبي الزنا .

قال لهم  سأرجم الزاني والزانية كما رجم النبي ماعز والغامدية ، فخافوا الله ولا تلتفتوا إلى ما الحرمات .

وكبرت الفضيحة عندما هربت البيضاء المكسال ذات صباح مع شاب من المريدين الجدد .

كيف جرأ هذا الفتى على حريم الشيخ ؟

قيل والله أعلم بالأسرار أن الرجل غلب منه القلب العقل ، ففاز بالدنيا وخسر الآخرة .

جن بمكسال الضحى وجنت به . أولا بالسماع من نساء المريدين الذين حدثوا زوجة الشيخ عن جماله فعشقته ، وبيتت لأمر الهرب معه بليل . وكان أن أكرمه الشيخ فجعله حارسا على بيت الحريم …

وحدها السمراء الحوراء ظلت تساكن عمي . تصلي معه ، وتصوم الدهر .

كانت تهش الذباب عن وجهه حين يسخن الجو في قيلولة الصيف ، وتغطي رجليه بجلد خروف في ساعات الفجر الأولى من ليالي الشتاء الباردة .

وعمي يزداد نحولا يوما بعد يوم إلى أن صار غير قادر على الوقوف للصلاة . فكانت السمراء الحوراء تسنده حتى يتم صلاته ، ثم تساعده على الجلوس أمام المصحف ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .

ظلت الأمور تسير هكذا ردحا من الزمن . وظن الناس أن عهد الصحابة عاد من وراء القرون إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان .

اكترى رجل غريب محلا قريبا من الزاوية .

المحل كناية عن بناية مستطيلة الشكل ، كانت فيما مضى من الأيام مستودعا لجمع تمور المنطقة ، ترصف فيه الصناديق والأكياس والغرائر حتى تصل القوافل من شمال البلاد محملة بالقمح والشعير . فيبادل الأهالي تمرهم بخيرات القافلة .

ثم يغلق المحل حتى الموسم القادم .

اكترى الغريب المحل من وجيه من وجهاء القرية كان قد غادرها بعدما حرم عمي على الناس مشاهدة التلفزيون وارتياد الحمام . فهج الوجيه وعياله إلى تونس ، وصار كلما احتاج إلى المال يبيع بعضا من ممتلكاته .

جاء الرجل الغريب مدججا بالمال وبفرمان من الحكومة .

بالمال جدد البناية . رمم الجدران المهدمة ، وأصلح السقف المشقق ،وعوض تراب الأرضية بالجليز البراق ، ودهن الحيطان بالأبيض اللماع . ثم زاد فبنى دكة مقابل الباب الكبير الذي يفتح على الزاوية ، ووضع فوقها تلفزيونا كبير الحجم يبث برامجه بالألوان الزاهية .

حول الرجل الغريب مستودع التمور السابق إلى مقهى سماها مقهى ” الحرية ” . واستقدم من المدينة نادلات لمقهاه . نادلات فائقات الجمال ، كحور العين ، قال من بقي في قلبه مرض من الأهالي .

وقال الأخضر التابعي : ها الشيطان زارنا فلا تغتروا عباد الله بما يعرض عليكم من نعيم الدنيا وزخرفها .

هذا ما حدث به الشيخ فاسمعوا وعوا .

أصاب أهل القرية في أول الأمر ذهول كبير ، فلم يرتد المقهى أحد طيلة الشهور الأولى . وما أصاب الغريب الملل . كان يفتح مقهاه كل صباح عارضا جميلاته على الغادين والرائحين . يبتسم للجميع . ولا يقول أف لمن يبسق على الريح أو يلعن الكافرين .

وعندما يصيب الملل الجميلات ، وهذا ما يصرح به  الأخضر التابعي على الأقل ، يسرحهن ، ليغيرهن بجميلات أخريات .

هكذا مرت الأيام تترى ، إلى أن زار المقهى ذات صباح أول الرجال المحتجين على تهشيم أجهزة التلفزيون وإغلاق الحمامات .

جاء وحده في الأيام الأولى ، فجلس في ركن من أركان المقهى ، وطلب شايا أخضر بالنعناع . لبت طلبه جميلة من جميلات الغريب ، وجاءت تجالسه وتحادثه وتسليه . والرجل يعجب لجرأة هذه المرأة ونباهتها ويقسم بالله العظيم لمن سأله من الأهالي عن نساء المقهى بأنه ما رأى منهن ما يغضب الله ، فتبعه أصحابه المقربين .

جاءوا فرادى في بادئ الأمر ، فلم يحفل بخروجهم عن الإجماع ، التابعي وأهل الزاوية .

قال : لا تحزنوا لهذه النعاج الضالة التي سيأكلها الذئب . ولا تتحسروا على من اتبع الشيطان إنه لكم عدو مكين .

ولكنه كان في قرارة نفسه خائفا ، فالأخبار التي وصلته من عيونه لا تبشر بالخير .

فهل يعلم الشيخ بما يجري أمام عينيه وفي الخفاء أم يترقب بعض الوقت لعل الله يجعلها غمامة ؟

وطال ترقب التابعي . ولكن الذئب لم يأكل النعاج الضالة التي علا صياحها في مرعاها الجديد حيث الفتيات الجميلات يقدمن للزوار القهوة المضغوطة داخل آلة من الإينوكس اللماع ، والكاتو اللذيذ المرشوش بالفستق والشاي والمشروبات الغازية ، ويعرضن على الشباب أنواعا من اللعب بالورق لا عهد لهم بها . والرجل الغريب يحلف بالطلاق ثلاثا أن لا يقبل منهم فلسا واحدا مقابل كل هذه الملذات . ويقول ، والفرح يغمر عينيه :

أنتم ضيوفي يا رجال ، فهل أنا دنيء حتى آخذ من الضيف مقابل خدمة من خدماتي . والله لن يكون هذا أبدا .

وجاء رد ناظر الزاوية عنيفا لما بلغ السيل الزبى .جن جنونه ، فجند الأتباع ، وذهب إلى المقهى يسبقه جيش عرمرم . حاصر الجيش المقهى وهو يدق طبول الحرب وطلب الأخضر التابعي من العدو الاستسلام قبل الاجتياح لمعاقله .

وقال لأتباعه سنخيرهم بين الإسلام أو الجزية أو القتال كما أوصانا بذلك رسول الله . فإن امتنعوا ، فالحرب بيننا . إن ينصركم الله فلا غالب لكم .

وامتشق سيفه وصاح :

اترك ديارنا يا عدو الله عليك خزي الأولين والآخرين . لكن الرجل الغريب بقي مكانه هادئا كأنه قد من صخر .

وازداد هيجان الجموع التي تحاصر المقهى وبدأت الحجارة تنهال على زجاج النوافذ فتهشمها تهشيما . وتحركت طلائع جيش التابعي للإغارة على المعقل المحاصر . حينها أشار الغريب لبناته فخرجن لابسات زي ” التايكوندو ” ، فانهلن على رجال ناظر الزاوية رفسا بالأرجل وضربا بالزنود الفولاذية . فكسرت الرؤوس ، وسالت دماء الرجال الغلاظ الشداد على وجوههم ،أمام دهشة الجميع  .

ودوى في الساحة صوت جهوري :

الفرار الفرار …

 

 

 

– 30 –

أبو الهمة يشتري جهاز تلفزيون

 

بعد هذه الحادثة التي أطلق عليها أصحاب الزاوية غزوة مؤته الجديدة ، بدأ نجم الزاوية في الأفول ليسطع نجم المقهى كنجمة الصبح المشتعلة في ليالي الشتاء .

صار رجال القرية يؤمنون المقهى مباشرة من الحقول القريبة والبعيدة . يأتون محملين بطيبات الأرض ، يهدونها لجميلات المقهى وسيده  : تمر الدقلة الأصفر كالذهب ، وثمار التفاح والأجاص ، والكمثرى الشهية ، والخيار الطري ، و لحم طيور الغابة . ويجلسون في الباحة المفروشة بالرمل ، يتسامرون متفرجين على المسلسلات المصرية المسلية ، أو يستمعون إلى أخبار العالم من جهاز التلفزيون المنتصب عاليا قرب السقف ، أمام باب الزاوية الكبير.

كانت الدهشة تعشش في أبصارهم  وهم يرون العالم يتغير تحت سمعهم وأبصارهم وهم رابضين في أماكنهم لا يتزحزحون قيد أنملة .

سمعوا عن صناعات كورية و تايوانية وسنغفورية . وأهدتهم جميلات المقهى ثيابا بسيطة ولكنها جميلة مدموغة بطابع أندونيسيا . ووصلتهم أجهزة ترانزستور من اليابان تغني وتذيع الحكايات . ورجال الزاوية يمرون من أمام المقهى وقد ازدادت لحاهم طولا حتى لامست الصدر ، فينظرون إليهم شزرا ويتفلون على الأرض .

وتجرأ أبو الهمة ، فاشترى جهاز تلفزيون ملون بعدما هدأ غبار معركة مؤتة الجديدة بأيام .

عاد بالجهاز في وضح النهار ، فوق عربة يجرها حصان ، ودعا الجيران إلى منزله . فزغردت النسوة . ولعلعت أغنيات الصبايا فرحا بالزائر الجديد .

ويوما بعد يوم امتلأت المنازل من جديد بأجهزة التلفزيون .

ثم فتح الحمام أبوابه ، فعادت النسوة إلى جنتهن محفوفات بالرجال حتى الباب في أول الأمر ، ثم وحدهن بعد ذلك ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 31 –

السفساري لا يليق بنساء تونس .

 

أغلق الرجل الغريب المقهى ، وعاد إلى تونس بعد أن زوج نادلات المقهى شبانا من القرية أعفاهم من دفع المهور المشطة ، وشجعهم بأن جمل لهم منازل العرس بأثاث استورده من تونس .

فأقيمت الأفراح والليالي الملاح . وأحيت السهرات فنانات كان الجميع يسمع بهن ، فصرن أمام مرمى البصر .

والغريب في الأمر ، أن الشباب وجدوا فتيات المقهى أبكارا لم يطمهن إنسا ولا جان . فبأي آلاء ربكما تكدبان .

كن لطيفات في الفراش ، ودودات ، رقيقات كنسيم الربيع . فتعلق الشباب بهن ، ووافقوا على أن يخرجن إلى القرية سافرات .

فكانت تلك الحادثة  القشة التي قسمت ظهر البعير .

 

 

 

 

 

 

 

– 23 –

عن الأرض التي تبتلع الرجال أحياء

 

علم عمي بالأمر عن طريق زوجته الأخيرة ، السمراء الحوراء ، فلم يقل شيئا وظل صامتا ثلاثة أيام بلياليها .

لم يصل عمي طيلة تلك المدة (على الأقل أمام زوجته ) ، وربما كان يصلي سرا ، في قلبه .

ولم يأكل طعاما .

ولم يشرب سوى قطرات من ماء زمزم كان قد ادخره في قارورة أوصى عنها حاجا من الحجيج الذين زاروا مكة في الزمن الغابر.

ولم ينم ، إلى أن كانت صبيحة اليوم الرابع من ابتعاده عن الدنيا والناس . في تلك الصبيحة ، وجد المصلون الذين جاءوا إلى جامع سيدي الصحبي لصلاة الفجر ، حصانا  يحمحم ( الحصان الذي جاء مع جدي ) . وجدوه واقفا أمام الباب .

كانت على ظهر الحصان برذعة لطيفة تزدان بخيوط الذهب . وكان يمضغ لجاما من الفضة اللماعة .

صبيحتها أم عمي المصلين ولم يقرا كعادته مع الفاتحة من السور الطوال . قرأ فقط من قصار السور .

وبعدما أنهى سجوده وركوعه ، وتحى وزكى :

التحيات لله ،

الزكيات لله ،

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ،

السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ،

أشهد أن لا إله إلا الله ،

وحده لا شريك له ،

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

قام عمي واقفا .

قام أخف من شاب في العشرين ، وذهب إلى الباب . فوجد الحصان يحمحم ، ويخبط الأرض ، فيتطاير الشرر تحت حوافره .

سلم جدي على الرجال الذين وصلوا خفافا أمام باب الزاوية ، وساق الحصان بمهماز صغير .

مشى الحصان ، فمشى الرجال وراءه وعمي لا يلتفت إليهم إلى أن وصلوا إلى السبخة المعروفة بشط الجريد .

كانت الشمس التي وصلت لتوها من سفر البارحة حمراء وكبيرة . كانت تعبة من دورانها في فضاء الله الواسع ، فرمت رداءها على ملح السبخة اللماع ، وجلست لتستريح قليلا.

ووخز عمي الحصان بالمهماز ، فمشى خارج الطريق المسلوكة من طرف القوافل . الطريق التي تحف بها عيدان وجريد نخل يابس .

صاح الرجال :

عد يا أبو البركات إلى الطريق الآمنة . عد يا مولانا حتى لا تغرق في وحل السبخة .

ولكن الحصان تمادى في سيره .

وعاد الرجال يصيحون ويخبطون الوجوه .

وعمي لا يستجيب لنداءاتهم .

وبدأت حوافر الحصان في النزول داخل الأرض الرخوة . غاصت القوائم الأربعة حتى الركبة في الأرض التي ما عادت تحتمل ثقل الفرس وراكبه .

ثم غطى الملح بطن الحصان .

وظل الحصان يخوض في الوحل ، ولا يتوقف .

وعمي لا يلتفت لنداء مريديه ،إلى أن ابتلعت الأرض الحصان وراكبه وعادت كما كانت تلمع تحت أشعة الشمس التي بدأت في الارتفاع رويدا رويدا عن سطح السبخة .

كانت الشمس حمراء في لون الدم .

 

dargouthibahi@yahoo.fr

www.arab-ewriters.com/darghothi/

 

 

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

جمر تحت الرماد او الوصية

جمر تحت الرماد أو الوصية “رواية قصيرة” فى مستشفى الرماد بمصر الجديدة ,حجرة العناية المركزة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *