الرئيسية / رواية / أسرار صاحب الستر

أسرار صاحب الستر

 

أسرار صاحب الستر

 

 

رواية

 

 

 

 

ابراهيم درغوثي

 

إهداء  :

 

 

إليها دائما :

إلى دمشق العتيقة

حبا وكرامة

 

 

” هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان .

كان يلقب بالمكتفي بالله ، وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء .

وكان نقش خاتمه : يا وليد ، احذر الموت ”

 

مآثر الإنافة في معالم الخلافة

القلقشندي

 

 

 

 

أسأل الله سكرة قبل موتي * وصياح الصبيان يا سكران

 

ابن هرمة

 

 

 

 

 

في البحث عن كنز التاجر التمبكتي

 

 

 

 

 

– 1 –

 

 

بدأنا الحفر تحت أسوار المسجد الجامع في موفى شهر

ّ ماي ” .

كان العمل بطيئا جدا ومرهقا ، فقد كانت الحجارة التي قد منها السور قديمة ومتآكلة . هي حجارة ضخمة استعارها البناؤون القدامى من بقايا القرية الرومانية ّ تيقيوس “التي كانت تعد ذات يوم من حواضر الصحراء . ففيها ملتقى للطرق الذاهبة إلى تخوم إفريقيا السوداء للمتاجرة ومقايضة الملح بالتبر، والقمح وزيت الزيتون بعاج أنياب الفيلة ، والسيوف والتروس الرومية بالعبيد والزنجيات .

ما كان عالم الآثار القادم لتوه من مدينة تونس في عجلة من أمره ، فقد جعله جماعة من العمال الشباب أصيلي هذه الواحة ذات المليون نخلة يغرم منذ ليلته الأولى بشرب

” اللاقمي ” ويجن بهذه الخمرة المقطرة من عصير جمار النخل ، والتي تصرع شاربها متى جاور الكأس الثالثة .

عالم الآثار هذا ، ما رأيت في حياتي أغرب منه من بين من عرفت من الرجال . ففي الوقت الذي كان يجاهر فيه بزندقته ومجونه كان لا يترك صلاة الجمعة تمر دون أن يكون قد استحم ولبس أجمل ما يملك من الثياب التونسية التقليدية : القميص الحريري والسروال التركي القصير والجبة بديعة التطريز . وكان يميل الشاشية على جانب رأسه المحلوق حديثا . ويتعطر ويسبق الجميع إلى المسجد الجامع ليقف مباشرة وراء الإمام ، وليرفع صوته الشجي عاليا مع المؤذن مرددا البسملة والحمدلة

ثم يكف عن ارتياد المسجد حتى الجمعة القادمة .

هو حقيقة رجل غريب الأطوار في كل شيء . ففي اليوم الذي وصل فيم من تونس إلى القرية ، ذهب إلى مركز البريد وأبدل مجموعة كبيرة من أوراق النقد بقطع ذات دينار واحد واصطفاني من بين العمال المتجمهرين تحت سور المسجد وطلب مني أن أكون دليله داخل القرية .

ترددت أول الأمر ، لكنني حين نظرت في عينيه ، رأيت فيهما رجاء وإلحاحا . و خفت ألا يسجل اسمي ضمن العاملين في مشروعه فطلبت منه أن يتبعني . ثم صرت تابعا له بعد أن تجاوزني بخطوات ثابتة مقدامة ذكرتني بمشية الجنود .

وصار يدق الأبواب التي تعرضه ، ولا يخجل أبدا . ثم بدون استئذان من ربة البيت يدلف إلى الداخل ويذهب مباشرة يفتش داخل الحجرات مستغلا البهتة التي تلجم أصحاب البيوت عن الكلام والفعل . فإذا صادف أن وجد صورا قديمة معلقة على الحيطان الطينية أو طشتا عتيقا من الفخار ، أو صندوق خشب تفوح منه رائحة الصندل ، أو سلاحا تركيا من بقايا الدولة العلية العثمانية ، أو أي شيء يسره. كان لا يتوانى أبدا عن أخذه . يضع في يد المرأة التي تكون قد غطت رأسها بمحرمة من القماش الرخيص ، قطعة نقود ، فإذا احتجت زادها قطعا أخرى ، فإذا زادت في الاحتجاج ، أخرج من جيبه ورقة نقدية ذات خمسة دنانير ورماها بها . ثم يغادر وكأن شيئا لم يكن متأبطا صور بدء الخليقة والسيد آدم وحرمه يقصفان من ورق الجنة ويغطيان السوأة الملعونة ، والحسن والحسين في حضن علي بن أبي طالب ،  والبراق الشريف يطير بألف جناح ، ورأس الغول مشطورا بسيف أبي تراب ، والجازية الهلالية على ناقة حمراء يقودها عبد أسود وبجانها ذياب الهلالي معقوف الشاربين ، ومعارك صحابة رسول الله في أيام الفتح الأولى ، ومجالس الطرب في غرناطة وقرطبة ، ومشاهد صيد وفروسية وغيرها كثير مم جمع الأهالي طيلة قرون لتزيين حيطان البيوت . صناعة برع فيها يهود الأندلس الذين استقروا في هذه الواحة بعد أن هججهم الإسبان منذ أربعة قرون ، فجاء هذا الرجل ينبش تلك الذاكرة ليعرضها في قاعات الرسم بعاصمة تونس .

مرة دخل دار ” للا فاطمة ” ، وهي عجوز زنجية لا يعرف أحد كم عمرها ، والأرجح أنها جاوزت المائة سنة ، لكنها حين تسأل عن عمرها تقول إنها ابنة ألف عام .

جاءت الزنجية من بلاد السودان ، وابتاعها تاجر من نفطة حين كانت في ريعان الشباب ، وكان لها قوة أربعين رجلا قالت إنها عملت في خدمة سيدي ” أبي علي السني ” سلطان الجريد وإنه وهبها إلى خادمه ” مرزوق العجمي ” حين استقل بزاويته وإن مرزوقا أعطاها بركته وسماها ” شيخة ” على زنوج بلاد الجريد .

وتضرب كفا بكف وتقول : كان هذا منذ مئات السنين ، أما اليوم فقد طارت البركة .

وجد عالم الآثار” للا فاطمة ” تعجن الدقيق لتصنع خبز الطابونة الذي لا تأكل سواه ، تزدرده مخلوطا بزيت الزيتون الصافي منذ ثلاثين سنة . لفت نظره أساورها الفضية . أساور مزخرفة بنقوش بديعة التشكيل قيل إن رئيس القافلة التي جاءت بها من ” تمبكتو ” وهبها لها بعد أن خدمته طيلة الرحلة .

كانت الأساور تشقشق كلما حركت يديها ، فجلس قبالتها على الأرض وراح يتابع حركة اليدين كالمأخوذ ، فلم تعره العجوز اهتماما في بادئ الأمر هي التي ترفض الكلام منذ خمسين سنة بعد أن طلقها زوجها وشاع في القرية أنه

وجدها في أحضان اليهودي ” بنحاس ” البائع الجوال الذي كان يقايض قطع القماش المصنوعة من الحرير المزيف المهرب من فرنسا بالبرانس الجريدي وجبائب الصوف والعمائم .

كان اليهودي وسيما كيوسف ، وكانت فاطمة كالمهرة الجامحة ، فاستفتى الزوج المخدوع إمام جامع القرية فأفتاه بقتلهما وحرضه على تطبيع شرع الله . فتل اليهودي رجما بالحجارة . وشاركه الأطفال الرجم ، فشدخوا رأس اليهودي ثم نهبوا بضاعته ووزعوها فيما بينهم . وظلت جثته زمنا ملقاة في العراء تنهشها الكلاب والقطط السائبة .

واحتمت فاطمة بزاوية ” سيدي الصحبي ” وهي تدعي البراءة من هذه التهمة الكيدية التي لفقت لها حتى تنهب بضاعة اليهودي ، فتطهرت بالماء ووضعت يدها على نسخة قديمة من القرأن وحلفت بأن زوجها رماها بهذه التهمة باطلا ، وبأنها أشرف من أن مارس الرذيلة مع يهودي ، هي سليلة أمراء ” تمبكتو ” .

طلب منها صاحب الزاوية أن تنام ليلتها تلك وحدها في المحراب ، فإن ماتت تكون السماء قد انتقمت منها وإن أصبحت معافاة فإن جوار سيدي الصحبي سيكون من حقها

وعندما وصل المؤذن لصلاة الصبح ، وجدها جاثية على ركبتيها تقرأ القرآن ، فأجارها صاحب الزاوية . وعاشت هناك إلى أن جاءها خبر موت زوجها في سجن ” غار الملح ” .

وتكدست الحجارة واللعنات فوق بقايا جثة اليهودي ” بنحاس ” الذي كنا نتعمد المرور بجواره في غدونا ورواحنا إلى الجامع حتى نلعنه ونرميه بحجر .

وبمرور الزمن تراكمت اللعنات فوق القبر الذي تحول إلى هرم صغير تخيف به الأمهات الأطفال الذين لم تنجل غمتهم إلا في أواخر الستينات حين وصل الحاخام

” ميناحيم ” إلى القرية ورحل الرفاة إلى مقبرة اليهود في تونس .

التفتت ” للا فاطمة ” إلى الرجل ، فرأته يراود الأساور . وهالها بريق عينيه ، فقامت تضع الخبز على جدار

” الطابونة ” المحمى بنار خشب النخل ، فقام وراءها ووضع في يديها أوراقا نقدية وأشار إلى الأساور ، فأرجعت له نقوده وزجرته بهمهمة وطنين ، فلم يخف . وعاد يكرر الطلب ويزيد في عدد الأوراق النقدية . ثم هم بيديها يروم سلبها أساورها ، فالتقطت خشبة وخبطته خبطة أسالت الدم من جبهته . حينها فقط عرف عالم الآثار أنه لن يقدر عليها ، فجلس على الأرض يكفكف دمه .

تركته العجوز دون اهتمام إلى أن هدأ وكف الدم على السيلان ، ثم جاءته بضميدة : بصلة مهروسة داخل الفم ومخلوطة بالريق والفيجل والشيح من نبات الصحراء ،

فوضعت الضميدة على جبهته وربطت رأسه بقطعة قماش نظيفة ثم وضعت أمامه الخبز والزيت ودعته بإشارة من وجهها إلى الأكل .

أكلا معا الخبز السخن مغموسا في زيت الزيتون ثم وقفت العجوز وبهدوء الساحرة راحت تسحب الأساور من معصميها النحيلين وتضعها في كف الرجل . والرجل

يتابع حركاتها مدهوشا فاغرا فاه كالمخبول إلى أن

أشارت بسبابتها اليمنى إلى الباب ، فقام . وتناثرت دنانيره على الأرض محدثة ضجة وصخبا وهربت في كل الاتجاهات …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 2 –

 

وتواصل الحفر تحت سور المسجد الجامع …

كان ” عالم الآثار ” يتابع عملنا بهدوء العرف .، يوجه لنا نصائحه وينزل إلى الخنادق بخفة فيختطف الفأس من يد أحد العمال ويهوي بها برشاقة تحت الصخور الكبيرة أو بين شقوق الجدران إلى أن اكتشفنا صدفة ذات صباح رقعة صغيرة من الأرض مكسوة بالفسيفساء ، فكاد صاحبنا يرقص طربا . طلب منا أن نواصل الحفر في اتجاه الرسوم ولكن بحذر شديد . وصار يقدم نصائحه للعملة تارة بهدوء وطورا بصراخ يكاد يصم الآذان ، إلى أن ظهرت للعيان لوحة رائعة من الفسيفساء تمسح خمسة أمتار في خمسة وتمثل راهبا نصرانيا يرتل صلواته أمام جمع من الرجال الذين حلقوا رؤوسهم وتركزا في أمها سبلة طويلة

على شكل ضفيرة . قال ” عالم الآثار ” إنهم من البربر الذين ترومنوا ، وخرج بنتيجة مفادها أن الجامع قد بني فوق كنيسة رومانية في أواخر القرن السادس للميلاد .

وأصابه هوس البحث عن مخلفات هذه الكنيسة ، فطلب منا أن نواصل العمل تحت السور وداخل أرضية الجامع وقرب المحراب ، وأن لا نترك مكانا دون نبشه ، فحذره العمال من أن النبش قد يحول الجامع إلى خراب وأن المصلين لن يجدوا مكانا لإقامة صلواتهم ، فزجرهم وزمجر في وجوههم صائحا بأنه يحمل ترخيصا من مصلحة الآثار تخول له ذلك ، وأنه مستعد لتحمل كل مسؤولياته .

فلم نجد بدا من مواصلة العمل .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 3 –

 

بدأت شمس شهر جوان تلهب الأجساد . والشمس في بلاد الجريد في شهور الصيف قاسية جدا ، لهذا بنى الأجداد قراهم في جوار الواحة حتى تكاد جدران المنازل تلامس سواقي عيون الماء التي تشق مجاريها بين أرجل الأطفال وحوافر البهم .

حين انتصف النهار ، وزاغت أبصار العمال الذين كانوا يتابعون الحفر في الخنادق المحاذية للسور ، دعانا عالم الآثار إلى الدخول إلى المسجد الجامع .

قال بهدوء وتؤدة :

– اليوم سنحفر داخل قاعة الصلاة .

ارتبك الجماعة ، وتساقطت الفؤوس من الأيدي . وبرك الشيوخ على مؤخراتهم يمسحون العرق ويحركون الهواء بمراوح السعف .

اختار العالم جماعة من الشبان وطلب منهم الاهتمام برفع الحسر والزرابي المفروشة على الأرضية ، واقترب مني

 

ليوشوش في أذني :

– لا تخف ، نحن لم نأت منكرا .إننا نقوم بواجب تجاه تاريخ هذا الوطن .

توقف مدة يلتقط أنفاسه ويحرك الهواء بيديه ، ثم واصل :

– إذا لم نرمم الجامع ، فإن جدرانه ستنهار خلال أعوام .

ما رأيك في الترميم السابق ؟ أنظر التشويهات التي لحقت المحراب ، وكيف وضعت الحجارة المنقوشة في غير مكانها . أنا أجزم أن البناء الذي وضعها هكذا كان جاهلا . ولكن اللوم على إمام الجامع الذي لم يهتد إلى وضع النقوش في أماكنها السليمة لأنها تحتوي على سر نص رهيب .

وعاد إلى تحريك الهواء بيديه ليقول بعد ذلك :

هذا الجامع يا صديقي بني قبل الجامع الذي اختطه ” عقبة بن نافع ” بالقيروان .وهو من أول أماكن الصلاة التي بناها جيش الإسلام الأول الذي جاء غازيا – عفوا أردت أن أقول فاتحا بلاد إفريقية .

وحين رأى ارتباكي وعجزي عن تصديقه أو تكذيبه قال :

– هل  تعرف أن جيش  العبادلة السبعة مر من هنا  قبل أن يذهب إلى ” سفيطلة ” ويهزم ” أرشفيك ” الروم ” جريجوريوس “، ويأسر ابنته الجميلة ؟

ويضحك صديقي ” عالم الآثار ” حتى تدمع عيناه ، فيستلقي

 

على ظهره من شدة الضحك ، ويهمس لنفسه هذه المرة :

يا الله . كم كانت جميلة تلك البنت التي تقاتل من أجلها جيشان : جيش الكفر وجيش الإيمان .

ليتني كنت حاضرا يومها .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 4 –

 

مرة ، كنا عالم الآثار وأنا في الواحة . كان الوقت ليلا وكنا وحيدين لا ثالث بيننا . شربنا عدة أقداح من ” القيشم ” خمرة الجريد الرهيبة مخلوطة بقارورة ” ويسكي – جوني وولكر ” ، كان الرجل قد جلبها معه من تونس .

قال لي مازحا ، حين انتصبت الأقداح فوق المائدة :

– الليلة يا صاحبي ، سنخلط الأصالة بالمعاصرة .

وقهقه بصوت كالنباح .

تركته يواصل ضحكه ورحت أعب من الخليط إلى أن أصابني خدر لذيذ وأحسست بدبيب كدبيب النمل يجتاح كامل بدني ، فتمددت على الرمل .

كنت مهموما بأمور تافهة ، وكان بصدد تحريك الماء الجاري في الساقية برجليه . بقيت مدة أراقب جريان الماء بين شجيرات الطماطم والفلفل الحار والبطيخ رافضا احتساء كؤوس الخمرة التي كان يمدني بها . فيكرع الرجل كأسي وكأسه ويزيد . وطالت بنا السهرة ، فأغفيت قليلا أو كنت كالنائم حين أفقت على صراخ الرجل .

كان صراخه الذي يشبه العويل  يجرح صمت الواحة ، فيزيد في خوفي وارتباكي .

فسألته :

– لماذا كل الصراخ يا سيدي ؟ من تنادي برب السماء في هذا الليل البهيم ؟

فأجابني :

– أنا أصيح بملء صوتي حتى يسمعني مخلد بن كيداد

لم أستوعب رده بسرعة ، فقد ظننته يحكي عن رجل يعرفه إلى أن خرجت من حيرتي وارتباكي فقلت له :

– ملعون أنت وذلك الخارجي النكاري المارق عن ملة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم .

فقال ، وعلى وجهه ابتسامة هزء لم أحسن تفسيرها :

– لا تظلم الرجل يا صاحبي . إني أعلم ما لا تعلم .

فسكت ، وسكت مدة حسبتها طالت دهورا إلى أن عاد للحديث من جديد :

– أتعرف أنه كان يدرس القرآن والحديث والفقه في جامعكم هذا ؟ وأنه كان يؤم المسلمين في يوم الجمعة ؟ وأنه رفض وهو في عز ملكه الركوب على الخيل وواصل امتطاء ظهر حماره ؟

قلت :

– لا والله .

فقال ، والابتسامة تملأ وجهه :

– إن ما ذكرت دعاية مغرضة لزعماء الشيعة أطلقوها ضد الرجل ولقيت آذانا صاغية بعد ذلك من فقهاء المذهب المالكي الذين كانوا يعادون فكر الخوارج .

إن صاحب الحمار يا صاحبي حرض البربر على ظلم خلفاء الدولة الفاطمية من هنا ، من عندكم . وخرج بجيشه الصغير من أرضكم .

إنني أراه الآن أمام ناظري كما على شاشة سينما كبيرة يعرج برجله القصيرة ، ويقف أمام المحراب . وأسمع صوته الأجش يرفع النداء للصلاة ، فأقشعر و تصيبني رهبة المكان .

يا الله كم كانت جميلة تلكم الأيام .

وتصرعني الدهشة ، فأتغابى وأسأله :

– هل كنت معهم يا عزيزي ؟

فيرد باسما :

– أظن أنني صاحب الحمار بلحمه ودمه .

وأقول له :

– لكن لحم صاحب الحمار أكلته كلاب المهدية منذ ألف عام

فيضحك حتى يفحص الأرض برجله الاثنتين ويهطل الدمع من عينيه . فأجاريه في الضحك حتى لا يغضب .

ويصيبني العجب العجاب حين نقوم لنعود إلى القرية ، فأراه يسير أمامي ماشيا مشية صاحب الحمار برجل عرجاء أقصر بقليل من الرجل الثانية …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 5 –

 

وتمادينا في الحفر حتى موفى شهر ” جويلية ” ، فلم نعثر على أشياء مهمة سوى بقايا جرار من الفخار وعضام آدمية وجمجمة في صندوق من النحاس تكاد تكون محنطة لأن الشعر مازال مكدسا على الرأس . وكان الجفنان يرمشان فوق عينين بلون الفيروز . كما اهتدى بعض العمال إلى مخزن السلاح وجدوا فيه كدسا من السيوف والرماح والدبابيس المسننة ، ومن أعجب ما وجدوا ، مدفعا رشاشا .

وصاح ذات صباح عامل حين تحطمت تحت ضربات فأسه جرة ملأى نقودا نحاسية وفضية ، فرمى الفأس وراح يحثو التراب في كل الاتجاهات وهو يصيح :

– وجدت كنز الرومان يا أصحابي . وجدت الكنز . وجدت الكنز .

فتجع الخلق ، وافتكوا منه بقية الجرة . وجمعت النقود في برنس . وترقب الناس وصول عالم الآثار الذي فحص النقود بلهفة ، ثم قال :

– هذه بقايا كنز ” دقليانيوس “الذي جاء إلى هنا غازيا هذه الديار التي ثارت على سلطته . وبعد أن أخمد الثورة بنى كنيسة وردم في أساساتها هذه النقود حتى تعمر إلى أبد

 

الدهر .

ثم صاح وهو يلف البرنس :

واصلوا العمل يا رجال . بارك الله في سعيكم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 6 –

 

كنت أحفر قريبا من المحراب ، حين رأيت قطعة من الخشب . لم أعرها اهتماما في أول الأمر لأننا وجدنا كثيرا من بقايا الخشب مطمورا في أرضية الجامع . إلا أني وأنا أحفر جنبها صارت القطعة تكبر كلما تساقط التراب بعيدا عنها ، إلى أن ظهرت جوانب صندوق كبير .

ما أردت تكرار ما جرى حين اكتشاف نقود ” دقليانيوس ” لذلك أهلت التراب على الصندوق وواصلت العمل وكأن شيئا لم يكن . بل أنني زيادة في التضليل والتعمية صرت أحفر في الاتجاه المعاكس للصندوق . ولم أخرج يومها من الخندق حتى لا يعوضني عامل آخر فيفتضح الأمر وأخسر المفاجأة التي كنت أنوي تقديمها لصديقي عالم الآثار .

ثم فجأة ، وكمن لسعته عقرب ، نبتت في رأسي فكرة . قلت لم لا أحتفظ بما في الصندوق لنفسي . وتذكرت لصوص الآثار التي يتاجرون بها مع الأجانب فيكسبون من بيعها آلاف الدنانير. وراقت لي الفكرة فقررت عدم التفريط في الصندوق لأي كان … إلا أن الارتباك تملكني وسكن حركاتي ، فكاد أمري ينكشف حين اقترب مني عالم الآثار وسألني عن حالي . فقلت له إنني مريض وإنني لن أستطيع منادمته هذه الليلة ، فتركني وذهب يتفقد عمل الآخرين . لكنه حين هم بالخروج ، ناديته وهمست في أذنه بأنني أخبئ له مفاجأة ستسره لا محالة . فابتسم ، وذهب يحرك رأسه يمنة ويسرة .

مساء ، بعد أن غادر العملة ساحة المسجد ، ناديت عالم الآثار ، فجاء خفيفا . طلبت منه أن يتثبت من خلو المكان من الغرباء ثم عرضت عليه الصندوق . اندهش .ظل واجما في مكانه مدة ، ثم بدأ في الإلتفات يمنة ويسرة وهو يرد على مفاجأتي هامسا :

– يا ملعون . لماذا لم تعلن عن لقيتك حين اكتشافها ؟

ثم يستدرك :

لا .. لا.. أنا مغفل … لقد أحسنت الصنع ، يجب أن نكتشف أولا ما بداخل الصندوق …

ويقفز خارج الخندق ويتجه نحو باب الجامع متلصصا ، ثم يعود إلى تفحص الصندوق والشرر يتطاير من عينيه إلى أن تداركت الأمر، فطلبت منه أن يكشف على السر .

طلب مني أن أساعده على رفع غطاء الصندوق ، وقد كان مصيبا حين طلب العون لأن الغطاء كان ثقيلا جدا . فكأنه قد من صخر . وبعد لأي وعنت عظيمين فتحنا الصندوق . كنت أمني النفس باكتشاف كنز من الجواهر الثمينة لكن الصندوق كانت به أشياء أخرى : مخطوطات كثيرة داخل لفائف من الجلد تفوح منها روائح التاريخ . تفحصها عالم الآثار وعيناه تبرقان بريقا غريبا .

كانت اللفائف تحتوي على مصاحف قرآن مكتوبة بماء الذهب وكتب فقه وأحاديث نبوية ودواوين شعر وكتب تاريخ وجغرافيا ورحلات وسحر وتنجيم …

كدسنا الكتب فوق حصير ، ونفضنا الصندوق ، ثم عدنا إلى ترتيبها من جديد .كانت عناوين المخطوطات غريبة على مسمعي . وكنت أتابع حركات عالم الآثار وهو يضعها بحنان وسط الصندوق . كان الرجل يهذي ، يضع الكتب على رأسه ثم يدسها في قلبه ويعود فيقبلها وينفض عنها غبار الزمن .

كان يأتي حركات كحركات المجانين ، فأكتم ضحكي خوفا منه ولكن في آخر الأمر انفجرت مقهقها وجعلت أتلوى على الأرض والدموع تسيل على خدي . ولم أفق إلا وصفعة من كفه الغليظة تنزل على قفاي ، فعدت إلى الصواب . وجاءني صوته حادا كوخز الإبر :

– قف متأدبا في حضرة أدب الخوارج الإباضية يا … مخنث  فانتصبت واقفا وقفة المتأدبين ، وأديت له التحية العسكرية . لكنه لم يأبه لتمثيلي وواصل همهماته وتمتماته عن هذا الكنز الذي لا يوجد له مثيل في العالم .

وبعد أن أعاد مرة أخرى ترتيب المخطوطات في الصندوق ، طلب مني أن أحضر في الحال بغلا وأن لا أخبر أحدا بما رأيت . فقلت له :

– السمع والطاعة يا مولاي .

وذهبت أبحث عن بغل وعربة .

وجدت ضالتي عند العربجي الأخرس ” ميمون ” . قلت هو من يليق بهذه المهمة ، فلن يكثر من السؤال والقيل والقال خاصة إذا أغريناه بمال وفير .

عرضت على الأخرس مصاحبتي إلى الجامع ، فوافق . وساعدنا على وضع الصندوق على العربة .

كان عالم الآثار أثناء غيابي قد رتب كل شيء . وضع أدوات حفر فوق الصندوق حتى لا يجلب النتباه وحتى يظن العربجي أننا نحمل في هذا الصندوق الكبير فؤوسا ورفوشا ومساحي .

وذهبنا إلى دار عام الآثار .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 7 –

 

وعدنا إلى الحفر داخل المسجد . كنا نعمل طيلة أيام الصيف القائضة ولكنني لاحظت أن همة عالم الآثار قد فترت في مراقبتنا وحثنا على الاجتهاد في العمل .

كان كلما ازدادت حرارة الصيف ، عزف أكثر على المجيء إلى ميدان العمل واختار الركون إلى الراحة في الدهاليز الظليلة صحبة شيوخ يهشون الذباب عن وجوههم بفتور وهم يصنعون من سعف النخيل مراوح وسلال وزنابيل ، ويلعبون ” الخربقة ” لقتل الوقت والانتصار على قيظ القيلولة .فإذا جاء وقت صلاة العصر ينفض الجمع ويذهب عالم الآثار إلى داره التي كان شيد الحرص على رش أرضيتها بالماء وتهوئة غرفها بمروحة كبيرة مصنوعة من ريش النعام ، ثم ينهمك في تقليب المخطوطات والنظر فيها إلى أن تغيب الشمس فيذهب أمام بائع دكان المكسرات يترقب مجيئي .

كان يجلس على كرسي ويضع بجانب رجليه على الأرض قفة ملآى باللوز والحمص والغلال واللحم ، ويخرج بين الفينة والأخرى من جيب قميصه قطعة قماش معطرة يمسح بها العرق الهاطل من جبينه . ولا يتحرك قيد أنملة من أمام الدكان حتى حين وصولي . فيهش في وجهي ويبش ويسألني عن سير العمل . ويعو د ليؤكد لي للمرة الألف أنه لا يثق بأحد هناك سواي . وأنني عينه التي يرى بها . ثم يمتطي ظهر الحمار ويحاذر حتى لا تتزحزح البردعة ، فيسقط على الأرض كما كان يحصل له في المرات الأولى لما كان يجرب امتطاء الحمار .

ويحرك رجليه على الجانبين ، فتركض الدابة ، فيضحك مقرقرا قرقرة الأولاد الصغار . وأنا مغتبط لفرحه وانشراحه إلى أن نصل إلى بستان النخيل فيرمي بنفسه على الرمل بجانب الساقية ويغرف الماء بيديه ويرش به كامل جسمه المقهور بحرارة الطقس . ثم يطلب باطية

”  اللاقمي ” فيكرع ثلاثة أقداح متتالية ويرمي في فيه بحبات لوز . ويتمدد على ظهره فوق الرمل مغمضا عينيه ومتمتما بأشعار بلغة لا أعرفها بالرغم من شبهها الكبير باللغة العربية . قال لي مرة أنها ” الأرامية ” ، وإنها من أجمل اللغات التي تكلم بها البشر .

 

 

 

 

 

 

 

– 8 –

كان عالم الآثار إذا اشتد به السكر يرق حد الذوبان وتلين حركته حتى يصبح ألطف مخلوق على وجه البسيطة ، فيقرأ لي الأشعار ، ويحكي لي طرفا ونوادر غريبة وبذيئة في أغلب الأحيان . أو يروي لي حكايات من تاريخ الشعوب البائدة .

كان يعشق كثيرا تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء التي زار أغلب بلدانها كما زعم ، أكثر من عشر مرات. فكان يرطن بكلمات من لغات الزنوج ، ثم يقوم واقفا ويعري صدره وينهمك في رقص محموم خابطا الأرض برجليه ومحدثا بفمه شقشقة كشقشقة آلات الطرب الحديدية التي يحركها الزنوج بأيديهم ساعة التخميرة . ولا يهدأ إلا ساعة أحدثه عن ” للا فاطمة ” التي عشقها بعدما عرف قصتها ، فصار يزورها في منزلها في كل يوم تقريبا .يجلب لها السكر والشاي الذي لا تنتهي من طبخه حتى تعود إلى ذلك مرة أخرى . ويحدثها بلغة عربية مخلوطة بكلمات من لغة ” الهوسا ” و” الفولاني ” ، فترد عليه وصدرها منشرح وأسارير وجهه تطفح بالبشر .ثم يتركان العربية جانبا وينهمكان في حديث بلغة الزنوج الخالصة وأنا كالمخبول أتابع دمدمة أصواتهما التي تلين حينا وتعلو أحيانا إلى أن تملأ رائحة الشاي المحروق غرفة العجوز، ويفوح الشياط في كل مكان .

– 9 –

ذات ليلة ، أخرج من القفة صندوقا مبطنا بالحرير . رأيت داخل الصندوق كتابا . فتح عالم الآثار الكتاب وبدأ في القراءة على ضوء شمعة .

قال إته واحد من المخطوطات التي عثر عليها داخل الصندوق . وحين حاولت الاقتراب منه ، أطفأ الشمعة .

قال إن شرطه أن أبقى بعيدا وأن أستمع إليه بهدوء ، وإلا فإنه لن يقرأ من الكتاب ولن يعلمني اللغة الأرامية التي أحيا بها سيدنا ” المسيح ” الأموات .

امتثلت لأمره ومددت له قارورة جعة باردة أخرجتها في تلك اللحظة من ساقية الماء ، فكرع منها وتنهد وأشعل الشمعة .

قال : سأحكي لك ما دونه ” صاحب ستر الوليد بن يزيد الأموي ” ضمن ما وجدت داخل صندوق المخطوطات .

أتعرف أن الخلفاء كانوا يجلسون وراء ستارة بينها وبين الندماء عشرون ذراعا وأنهم كانوا يؤكلون بهذه الستارة حاجب ينهي إلى المغنين ما يريده الخليفة ؟

قلت : لا والله .

قال : اسمع إذن هذه الحكاية التي تناقلها الخوارج ووزعوها في كل الأمصار الإسلامية حتى يشهروا بخلفاء بني أمية .

وطلب مني مرة أخرى أن أصمت ، وأن لا أقاطعه أبدا . وسكت إلى أن سمع همهمة الليل الذي يلف المكان .

فبدأ يقرأ بصوت كزمزمة المجوس :

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جوانب من السيرة الذاتية

 

لصاحب ستر الخليفة :

 

الوليد بن يزيد الأموي

 

 

 

 

 

ليلة ولي ” الوليد بن يزيد ” الخلافة ، بعث في طلبي .

قال : احضروه ولو كان في السماء السابعة ، فإنني في شوق إليه . وإن له في عنقي دينا حان وقت إرجاعه .

فالرجل يعرف الآلام التي قاسيتها زمن خلافة عمة هشام والتضييق الذي نالني من الخليفة جراء دفاعي عنه جهرا وخلسة . فبقيت ساهرا في بيتي ليلتها كما لو كنت أترقب هذه الدعوة .لكن إقامتي في داري لم تخطر على بال الجند المكلفين بإحضاري ، فذهبوا يبحثون عني في حانات الأديرة وفي بساتين الغوطة وملاهي النزل الفخمة .

وحين أعياهم البحث عرجوا على داري فوجدوني هناك ثملا لا أكاد أفرق بين الحق والباطل .

قالوا : أجب أمير المؤمنين يا رجل .

فقلت : السمع والطاعة لخليفة رسول الله .

وذهبت معهم إلى دار السلطنة .

حين وصلت ، جاء الخليفة يستقبلني أمام الباب . فتح ذراعيه واحتضنني قائلا :

– لن يلحقك ضيم بعد الآن يا أخي . ستكون صاحب ستري كما كنت صاحب ستر والدي .

ومد لي يده فلثمتها ، ووضعتها فوق رأسي إلا أنه سحبها بلطف وخلع من بنصره خاتما مزدانا باتلياقوت والزمرد فوضعه في كفي وقال :

– ستكون الليلة في ضيافتي ، ومن الليلة القادمة ستقف أمام ستارتي .

في بهو القصر ، كان مهرجا يلاعب قردا . وكانت ثلاث مغنيات واقفات على يمين الأمير ، وعلى يساره مثلهن .كن يلعبن بالفوف والمزاهر ، فسكتن عن الغناء حين وصلت لكن الأمير أشار إليهن بأن يعدن إلى ما كن فيه . فارتفعت أصواتهن من جديد بالغناء :

  عشق القلب الرباب    *     بعدما شابت وشاب .

فطرب الأمير ونخر بخيشومه ، فعادت المغنيات إلى البيت يجودنه ويتفنن في تنغيمه وترديده ، وهن يتماجن ويتغامزن ويتهامزن والأمير يميل برأسه في كل الاتجاهات ويرفس الأرض برجليه ويخور كما تخور الثيران . وجواريه يضربن بالدفوف ويتطوحن أمامه وينثرن الدر والياقوت بين يديه ورجليه إلى أن سقط مغشيا عليه ، فاحتملنه في الأحضان وذهبن به إلى بيت نومه .

فعدت إلى بيتي والأرض لا تكاد تسع سعادتي . وترقبت طلوع النهار على أحر من الجمر ، إلى أن قام صوت الرب يدعو لصلاة الصبح فقمت واقفا .

تحممت وتعطرت ولبست أفخر ثيابي وقصدت قصر الخلافة . فذهبت مباشرة إلى” صاحب ديوان الوظيفة العمومية ” وقدمت له نفسي .

رحب بي الرجل وأوسع لي في مجلسه وطلب مني أن أترقبه مدة دقيقة حتى يجهز لي أوراق تسميتي في خدمة الأمير . وضرب على ناقوس صغير في متناول يده ، فدخلت جارية صبوح . طلب منها هذا الموظف السامي أن تجهز لي قهوتي لحين إحضار الأوراق . فجاءت القهوة بأسرع مما توقعت على صينية مذهبة ومعها قطع كاتوه بالشكلاطة والفستق والبندق

تلهيت بترشف قهوتي إلى أن وصل ” فرمان ” التعيين مدموغا بطابع أمير المؤمنين ، فأوكل بي ” صاحب ديوان الوظيفة العمومية ” جنديا يسير بين يدي إلى أن وصلت إلى ” صاحب الشرطة ” .

كان الرجل يعرفني مذ كنت في خدمة مولاه يزيد بن عبد الملك بن مروان ، فمد لي يده مسلما وبالغ في الترحيب بقدومي قبل أن أفتح فمي بالكلام ، ثم دعا قهرمانة القصور الملكية .

بعد دقائق ، وصلت امرأة في الأربعين من العمر . كانت وهي تمشي ، تضرب الأرض بقدميها فيسمع لها دفيف ، ويرتج لحمها وشحمها ، ويفوح عطر شذي من ثيابها ، عطر أخاد يستحوذ على جميع حواس البدن .

عرف صاحب الشرطة المرأة ، بي ، فأحنت لي رأسها ، وسارت أمامي تقودني في المنعطفات إلى أن وصلنا إلى قصر الحريم حيث يعقد الأمير مجالس لهوه ليلا ، ففتح لنا الباب خصيان أسودان يحمل كل واحد منهما في يده رمحا ويتمنطق بخنجر . سلم العبدان على المرأة وأحنيا رأسيهما لتحيتي ، ثم أغلفا الباب وعدا يقفان أمامه كأنهما تمثالان من البرونز .

وجدت نفسي وسط ساحة القصر تحيط بي الرياحين من كل

مكان ، ولفت انتباهي صوت الطواويس الزاعقة . ونبهتني أصواتها إلى أنني أصبحت الآن في حضرة أمير المؤمنين ” الوليد بن يزيد الأموي ” .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وسكت صديقي ، عالم الآثار على الكلام المباح . وبدأ شخيره يرتفع شيئا فشيئا إلى أن ملأ أرجاء البستان ، فقمت من مكاني محاذرا ، وسحبت الكتاب من بين يديه .

ما كان الكتاب كما توقعت ، فقد كانت داخل غلاف المخطوط أوراق مختلفة الألوان والأحجام . منها رقائق من الجلد وأخرى من الورق العادي المتداول في أيامنا هذه . وكانت على الأوراق كتابات بالخط المغربي القديم الذي كنا نكتب به القرآن على الألواح الخشبية الصقيلة ، أيام كنا نؤم المساجد للعلم ، وكتابات أخرى بقلم ” البيك” ، ورسوم ، وتخطيطات ، وتصويبات ، وتسطير على كلمات ، واضافات باللغة الفرنسية …

أعدت الكتاب إلى الصندوق وذهبت أحضر الحمار ، فوضعت فوقه البردعة وشددتها شدا قويا إلى ظهره . وتحاملت على نفسي محاولا طرح الرجل فوق الحمار . كان عالم الآثار كالميت من كثرة ما شرب من الخمر . وكان جسمه ثقيلا . لكنني حاولت أكثر من مرة ، إلى أن أفلحت في وضعه على ظهر الحمار جاعلا يديه ورجليه تتأرجحان من الجانبين . وقصدت داره مصحوبا في طريقي بنباح الكلاب وصرير حشرات الغابة وهمهمة ظلام الليل إلى أن وصلت قدام الباب .

بحثت داخل جيوب الرجل عن المفتاح ، ثم حملته على ظهري ، ودخلت الدار ، فبحثت له عن مكان مريح . وجدت زربية مفروشة على حصير وسط ساحة البيت جعلت الرجل يضطجع عليها ، فشخر مدة بسوط عال ثم هدأ وخمدت حركته .

أشعلت شمعة ، وأخرجت الصندوق من خرج الدابة .

كان إغراء قراءة الكتاب كبيرا …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حبابة

إني سمعت خليلي  *  على الرصافة رنه .

أقبلت أسحب ذيلي *   أقول ما حالهنه .

إذا بنات هشام     *   يندبن والدهن .

يدعون عولا وويلا  *   والويل حن بهن .

أنا المخنث حقا     *   إن لم أنيكنهن .

 

أمير المؤمنين : الوليد بن يزيد الأموي

 

 

 

الروح تدق على أبواب القبر

 

” نار أنت يا حبابة .

نار كنار المجوس الأبدية .

نار يشتعل أوارها في أعماقي ، تسكنني ، تدب داخل شراييني دبيب السم في الجسد .

صوتك المسكون بالسحر والفجيعة زرع في روحي الطفلة حب الشعر والغناء والخمرة والقول في ما يجب وما لا يجب .

علمني سحرك أن أغفر لأبي جنونه وأن لا أذكرك بشر أبدا  “.

هكذا كان الوليد يحدث نفسه ، ويحدثني كلما اختليت به .

كان يطلب مني أن أحكي له عن تلك المرأة التي سلبت عقل والده وجعلته يدفع فيها لآلاف الدنانير الذهبية .

كان يردد :

هو ذا جنونك يا سيدي أرث منه نصيبي .

تترك دار الخلافة ، وتذهب إلى قصر في بادية الشام محملا بالأطعمة والبخمور ، وبحبابة .

وتطلب من البنائين أن يسدوا عليكما كل منافذ القصر ، وأن يتركوك وحدك مع جنيتك .

ما أسعدك يا أبي ، وأنت على سرير ممهد تلاعبها وتلاعبك ، تغنيها فتغنيك وحدك أشعار الغزل بعد ما كان صوتها مباحا لكل العالم .

ما أشقاك يا أبي وهي تموت بين يديك . تأكل من رمانة ، فتشرق بحبة منها ، فتموت . وأنت وحدك في القصر . والأبواب تمنع صوتك من العبور . ولا حكيم يعينك على تخطي هذه النائبة .

وتبقى حبابة في حضنك ثلاثة أيام بلياليها ، وأنت تتشممها وتترشفها وتمسح على شعرها ، حتى أنتنت وفاحت رائحتها .

ولم يفدك طيب كل الدنيا .

ويفتح البناؤون الأبواب ، فيقفون مشدوهين أمام الفاجعة .

ويبلغ الخبركبار الدولة ، فيصلون تباعا عندك يسبقهم الشعراء وقصائد الرثاء ودموع الخنساء و … ترفض دفنها . تتشبث بها . تنفخ فيها من روحك يا أبي . تقول إن روحها ذهبت في نزهة إلى الجنة لتتفقد القصور التي ستحتفل بكما يوم يزف الرحيل ، وإنها ستعود بعد قليل . ومن العار أن تجدها تحت الأرض .

وتقول : أعينوني بالصبر أياما أخرى . أليس من حق الأرواح أن تضيع في دروب السماوات ؟ إنني متأكد من أنها أخطأت طريق العودة . قد تكون ذهبت إلى واحد من قصورنا في دمشق ، إذن احملوا حبابة إلى قصري بالرصافة ودعوها تنام ليلة أخرى في بيتها لعل روحها تعثر عليها هناك .

ويسفه أعمامي رأيك ، فتقول لهم إنك تعلم ما لا يعلمون .

ولكنك تذعن في الأخير لمشيئتهم ، فتأمر بدفنها .

وآه من يوم الدفن أيها العزيز . هل تقدر على المشي وراء جنازتها ؟ أبدا فلا القدمان تحملانك . ولا القبر يصبر . فترفع على سرير يحمل على أعناق الرجال ، كأنما أنت الميت .

يا الله …

أفي قلبك كل هذا الحب لجاريتك ولا يلحقنا منه مثقال ذرة ؟

تتلهى بها ، فتلهيك عن دنياك والآخرة .

 وتنسى أنك أمير المؤمنين .  وأن لأهلك عليك حق  ، ولشعبك عليك حقوق أكثر .

ولكن من يسألك عن هذه الحقوق يا … أبي ؟

تشتاق لحبابة بعد ثلاثة أيام من دفنها ، فتأمر بنبش القبر . ولا يفيد معك تضرع ولا تهديد .

تقول : افتحوا نوافذ تطل على حبيبة القلب يا أولاد الزنى  . إني أسمع دق الروح على أبواب القبر. فينبش القبر، ويكشف لك عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا .

وتسأل : هيه … كيف صارت ؟

فترد على الشامتين : ما رأيتها قط أحسن منها اليوم .

ما أحلاها … ما أبهاها … أخرجوها من القبر .

وتنقرف ، فتموت وتدفن بجانبها .

وتتركني لعمي هشام يسومني سوء العذاب . فأستجير بالخمرة أطمع في رحمتها ، فيلاحق أخوك جلساتي ويهتك ستري ، ويشيع في طول المملكة وعرضها أخباره عن كفري وفسقي ومجوني .

وتنفخ دعايته في أبواقها ، فلا يترك وسيلة من وسائل الحط بالكرامة إلا وألصقها بي . ثم يدعوني للتنحي عن ولاية العهد ، فأرفض ، فيزيد في تعذيبي . يحاصرني بالمجانين وبالدعايات . ويمنع عني الراتب . ويقبض على أصحابي فيسجنهم أو يقتلهم .

ويقول في مجالسه الخاصة والعامة : سأجعل الوليد يتخلى عن ولاية العهد طائعا ذليلا .

وكنت كلما ازداد في مكره ، أزداد فجورا وكفرا ، إلى أن جاءتني الخلافة فلم أبق ولم أذر . 

ويصيح :

 – اسقني يا ” سبرة ” أكؤسا … اسقني بزب فرعون . فيجيء الغلام بقدح معوج فيه طول وزخرفة ، ويسقي الأمير المرة تلو الأخرى إلى أن يكرع من يديه عشرين قدحا .

ويتنهد الأمير ، ويقول :

– هيه … أنت يا صاحب ستري ، هل داخلك الضيق من حديثي ؟ هل حركت أوجاعك ؟

وأرد :

– بلى يا مولاي .

ثم أضيف بعد مدة :

احمد ربك الذي جعلك خليفة وجعل رقاب هذه الأمة بين يديك .

فيتنهد مرة أخرى ، ويقول :

– لقد أفسد حياتي ذلك الكلب الأحول .

 

 

هل ينسى القلب شكل المدية التي ذبحته ؟

 

 

أتذكر الليلة يا صاحب ستري مؤدبي ” عبد الصمد بن عبد الأعلى ” . هل تذكره أنت أيضا ؟

 ولا يترقب جوابي ، فيواصل :

– كان ذلك الرجل قطعة من روحي ولست ّأدري إلى الآن كيف أطعت نفسي وسلمته إلى عمي ” الأحول ” كي يقتله بعد أن اتهمني وإياه باللواط والزندقة .

لقد قرأت القرآن على يدي الرجل ، وأنا ابن خمس سنين . وكبرت في حضنه توده أمي بالهدايا ، فيودني بعلمه .

علمني الفلسة وعلم الكلام ، حين كبرت ، وخضت وإياه في علوم الدنيا والدين . كان الرجل أكبر من فقهاء هشام ، فكرهوه وأوغروا قلب الأمير عليه . وكان يحبني ، فزاد في كرهه ورماه بالإلحاد .

ما أسهل أن تتهم إنسانا بالإلحاد يا أخي مع العلم أن الرب جلت قدرته جعلها من الكبائر لأنه وحده علام الغيوب .

سلمت يا صاحب ستري ” عبد الصمد ” إلى” هشام ” لأنجو بنفسي من التهم ، فما أحقرني يا صاحبي وما أبشع هذه الفعلة التي اقترفتها أنا ابن الملوك وسليل الأمراء ، أسلم خليلي إلى عدوه ليبعث به إلى ” يوسف بن عمر الثقفي ” عامله على العراق ليقتله صبرا .

أخذ كلاب ” هشام ” الطريدة إلى الجزار ، وبقيت في الشام أتنسم الأخبار .

كنت أرجو أن يموت الخليفة قبل أن يصل عبد الصمد إلى العراق ، فقد وعد ” يوسف الثقفي ” هشاما بشي مؤدب الزنديق حيا .

ياااااااااااااااه ، ما أقسى قلبك يا وليد .

التقت نظراتنا وهو يغادر مجلسي آخر مرة . رأى في عيني دموع القهر ، فجاء يربت على كتفي ويمسح الدموع بكفه كما كان يفعل وأنا طفل .

قبلت الكف وأجهشت بالبكاء ، فضمني إلى حضنه ضما خفيفا مرة أولى ثم أبعدني وعاد يضمني من جديد .

وبقينا هكذا أكثر من سبع مرات إلى أن تدخل الحراس ، فوضعوا القيد في يديه وجروه من أمامي جرا .

هل يمكن أن أنسى يا صاحب ستري ؟

قل لي هل ينسى القلب شكل المدية التي ذبحته  ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الوالي يذبح أضحيته في المسجد

 

حدثني ” عبد الصمد ” ذات ليلة عن بطش ولاتنا بالمسجونين حتى كدت أبكي إشفاقا عليه بعدما سلمته للقتل .حكى لي عن ” الجعد بن درهم ” الذي كانت تربطه به علاقة صداقة حميمة أيام كان يقيم في ” دمشق ” ثم فرقت بينهما السبل .

قال لي إن الجعد ترك الكتاتيب وتعليم الصبيان الكتابة والقراءة والقرآن وصار يجادل الفقهاء في أمور الدنيا ، فاختلف معهم ، فاشتكوه إلى أمير المؤمنين متهمين إياه بتحريض الغوغاء عليهم ففر الرجل من ” دمشق ” إلى ” الكوفة ” وظل متخفيا هناك إلى أن ألقى عليه حرس الوالي القبض قبل أيام من عيد الأضحى .

خطرت للوالي فكرة لا تخطر على بال إبليس ، فقال سأنفذها وسيحفظ لي التاريخ حق الاكتشاف .

طلب من جنده الاحتفاظ بالأسير في زنزانة انفرادية بالسجن المركزي وأكد على التشديد في الحراسة لأنه قرر أن يفاجئ جمهور المصلين في مسجد الكوفة يوم عيد الأضحى بأمر جلل .

وظل الجعد في الحبس والوالي يشحذ سكينه كل يوم ألف مرة إلى أن هل العيد واجتمع المسلمون للصلاة والسلام على بعضهم .

طلب الوالي أن يحضر إلى المسجد الجامع كل رجال الكوفة وأن لا يتخلف أحد ، فجاءوا من كل مكان . وجيء بالجعد بن درهم مكبلا بالأغلال .

تركوا الرجل جانبا إلى أن صلى الأمير بالرعية ، ثم عاد فاعتلى المنبر وخطب فيهم قائلا :

 انصرفوا الآن وضحوا يقبل الله منكم . اذبحوا عجولكم وكباشكم وخرفانكم وجمالكم ومتعوا أطفالكم باللحم ، وتصدقوا على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، أما أنا فأريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم ، فإنه يقول :

” ما كلم الله موسى ولا اتخذ ابراهيم خليلا “

ونزل من فوق المنبر واستل سكينا من بين طيات ثيابه ، فذبح الجعد من الوريد إلى الوريد .

ترك الرجل يتخبط فوق حصر المسجد إلى أن بردت جثته ، ثم أمر به فصلب على جذع نخلة في ساحة السوق .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غيلان الدمشقي يبيع متاع بني أمية في السوق.

 

 

أحببت في شبابي الأول ” غيلان الدمشقي ” . رأيت فيه وجها من وجوهي ولكنني كنت عاجزا ، وكان قادرا . كنت جبانا ، وكان شجاعا . كنت موسرا  رغم تقتير عمي ” هشام “، وكان فقيرا .

حدثني عنه مؤدبي ” عبد الصمد ” أيام دعا ابن عمي ” عمر ابن عبد العزيز ” إلى اعتناق مذهبه ، مذهب ” القدرية ” الذي يقول بحرية الإرادة ومسؤولية الإنسان عن أفعاله .وأكد له أن الذي يجيء من الله هو إيضاح طريق الهداية ، ثم يبقى على الإنسان أن يختار . وقرأ على مسامعه من سورة ” الكهف ” : ” وقل الق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ” .

فرد عليه عمر بن عبد العزيز :

– إن الإنسان لا يقدر على شيء يا صاحبي ، وإنما هو مجبر في أفعاله ، لا قدرة له ولا إرادة ولا خيار . وإن كل ما في أمره أن الله يخلق الأفعال فيه .

وقرأ من سورة ” الأنعام ” : ذلكم ربكم لا إله إلا هو ، هو خالق كل شيء فاعبدوه .

ودامت المناظرة بين الرجلين أسابيع ، لكن ” عمرا ” لم يقتنع بمذهب ” غيلان ” . ومع ذلك طلب منه أن يعينه على إصلاح حال هذه الأمة .

قال له :

– لك مذهبك يا صاحبي في الاختيار ، ولي مذهبي في الجبر ، وعند الله علام الغيوب الخبر اليقين .

فاستجاب له ” غيلان ” مشترطا عليه أن يرد حقوق الناس إلى أهلها وأن يبيع خزائن الأمويين ، فوافق الخليفة .

ونادى المنادي أن تعالوا يوم الجمعة أمام المسجد الكبير.

وتكدست في الساحة نفائس القصور : موائد من فضة وملاعق من ذهب مرصعة بالدر والياقوت ، وطنافس ، وفرش من الحرير الخالص ، وستائر مزركشة بالذهب ، وعقود ، وخواتم ، وخلاخل ، وأساور من المعادن الثمينة …

كان ” غيلان ” يمشي فوق هذه الأمتعة ، ويرفسها برجليه صائحا :

– من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى ، وهذا متاعهم ، والناس يموتون من الجوع .

ثم يرفع صوته بالنداء :

– تعالوا يا محتاجين إلى متاع الظلمة

تعالوا ، فخذوا ما يروقكم واذهبوا غانمين .

في تلك الأثناء مر ” هشام بن عبد الملك ” من أمام الجمع المتحلق حول ” غيلان ” فوقف هنيهة يراقب المشهد ، ثم قال : أرى هذا الرجل يعيبني ويعيب آبائي . والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه .

 

 

 

 

النبوءة

 

 

وتحققت نبوءة الأحول بعد موت أبي .

كان غيلان قد فر إلى ” أرمينية ” حين اعتلى هشام عرش الأجداد .

وازداد حبي لغيلان ، فقد ظل الرجل على حاله ينشر أخبار ظلم هشام للرعية ، ويحدث عن عيوبه الكثيرة  ، ويتمنى على الناس الثورة عليه .

وكنت مبوءا للخلافة ، فطلب مني ” عبد الصمد ” أن أعتنق مذهب القدرية ، وأن أتصل بقادتهم في ” المزة ” وفي ” دمشق ” .

وراقت لي الفكرة ، فامتنعت أياما عن شرب الخمر والسهر مع أصدقاء السوء .

وتجاذبني حبلان : السلطة والثورة على هشام والوقوف تحت راية غيلان ، أو المجون والاستماع إلى الدفافات والصناجات وضاربات الطنبور .

وتقاطعت سبلي ، إلى أن بلغني نبأ أسر غيلان ووقوعه بين يدي هشام ، فبت في سكر وعربدة حتى الصبح .

 

 

 

 

 

 

 

 

السياف يقطع لسان غيلان

 

 

لما وصل ” غيلان ” إلى ” ساحة العذاب ” ، كانت الشمس تنزل على الوجوه سياطا من نار . وكان المتفرجون الذين زج بهم أعوان ” هشام ” في الساحة يزدادون بمرور الوقت ، فقد تجمع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بعد أن أرغمهم الجند على التحلق حول سياج ضرب وسط الساحة الكبيرة .

كان الهرج قد اشتد . وبدأ رجال في التصفير والتصفيق معلنين ضجرهم من هذا الترقب حين وصل جنديان مدججان بالسلاح الساحة .

قادا الجنديان ” غيلانا ” إلى أن وصل دكة عالية ، فأشهروه حتى يراه الناس .

كان الرجل لابسا جبة صوف على اللحم ، وكانت لحيته تتدلى على صدره ، وكان رأسه محلوقا .

بقي واقفا في شمس منتصف النهار أكثر من ساعة إلى أن عاد الحضور إلى الضجيج والهرج الشديد . ساعتها ، دخل السياف من وراء سور الساحة . شق طريقه وسط الجموع يسبقه سيفه اللامع تحت أشعة الشمس إلى أن وصل إلى سلم منصوب على الدكة ، فارتقى الدرجات بهدوء ملتفتا ذات اليمين وذات الشمال إلى أن وصل إلى السطح فوجد نفسه وجها إلى وجه مع ” غيلان ” .

رأيت خطواته ترتبك وهو يقترب منه ، لكنه تماسك وشد على قبضة السيف بعنف ثم وخز به الرجل في خصره . فلم يتحرك ” غيلان ” وظل جامدا كالصخرة .

كان ” غيلان ” واقفا أعلى من كل الحاضرين .

وكان السياف المزهو بسيفه يزداد ذبولا كلما اقترب منه .

في تلك الأثناء ، والسكون يعم الساحة ، علا صراخ طفل قرب الدكة ، فهمهمت أم تود إسكات الصوت . لكن صراخ أطفال آخرين تجاوب معه ، فعم صراخ جوقة الأطفال كل مكان .

التفت السياف نحو كوكبة من الجند جاءت للحراسة ، فتحركت الخيول تشتت الضجيج وتملأ المكان رعبا .

وعاد الهدوء يلف الساحة ، فكأن على رؤوس الحاضرين الطير . حينها فقط ثبت السياف قدميه على أرضية الدكة ، فقدم رجلا وأخر أخرى وأمسك السيف بكلتا يديه فرفعه عاليا حتى ظهرت سرته وضرب به كتف ” غيلان ” اليمنى ضربة ثناها بأخرى جعلت اليد تطير في الهواء ، ثم تسقط على الأرض مرتجفة كجناح طير قص من جذعه .

وانطلقت من الجمهور الحاضر صيحة فزع رهيبة ، فعاد السياف إلى اليد اليسرى يفعل بها فعله باليد اليمنى .

وعاد الحضور إلى الصراخ والهمهمة .

وأغمي على عدد كبير من الخلق .

وفار الدم من جراح الرجل الذي ترنح وسقط على الدكة ، فارتقى عبدان السلم الموصل إليه ، فأقاماه وأسنداه إلى سارية ثم ربطا بحبل جذعه بالسارية ونزلا من الدكة ملطخين بالدم .

واقترب السياف مرة أخرى من الرجل . وبضربة من السيف البتار قطع الرجل اليمنى ، ثم قطع الرجل اليسرى بعدة ضربات من السيف ، فهوى الجذع على الدكة .

حين رفع السياف رأسه ، كانت الساحة فارغة أو تكاد . فلم يبق هناك سوى كوكبة من حرس الأمير وجماعة قليلة من الرجال وجدت نفسها وسط الجند ، فلم تقو على الفرار . فظلت صامتة تتابع المشهد بذهول وقرف .

وأفاق ” غيلان ” من دهشته : فقال :

قاتلهم الله ، كم من حق أماتوه ، وكم من باطل أحيوه .

وظل يردد هذه الجملة . رددها بهدوء في الأول ، ثم بدأ صوته في الارتفاع شيئا فشيئا حتى بلغ قصر أمير المؤمنين ” هشاما ” ، فسمعه .

سمع ” هشام ” الصوت ، فأصم أذنيه . وأصم الوزراء وأرباب الدولة آذانهم . ومثلهم فعل كبار الأمراء وصغارهم ، ونساء القصور السلطانية ، وكبار التجار ، وباعة العبيد ، وأمناء أسواق النخاسة .

وخاف ” هشام ” أن يتحول هذا ” الصوت ” إلى ” صورة ” ، فطلب من سيافه أن يقطع لسلن ” غيلان ” .

برك السياف على صدر الرجل ، وأدخل يديه عنوة في الفم غير مبال بعض الأسنان . ثم بواسطة رأس السيف قطع اللسان من الجذر . لوح به هنيهة أمام الأنظار ، ثم طوح به في فضاء الساحة التي أصبحت الآن خالية من الناس ، فحتى كوكبة الجند السلطاني كانت قد أخلت المكان قبل أن يبدأ السياف في النزول من الدكة التي تحولت إلى بركة دم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ديوان المجذومين والعميان

والبرصان والعرجان والحولان

 

 

 

 

 

 

 

طلائع الحزب تصل إلى قصر الرصافة .

 

طاف المنادون بأسواق ” دمشق ” وأزقتها وحواريها وضواحيها ، وفي بادية الشام ، ينادون المجذومين والعميان والبرصان والطرش وكل ذي عاهة . فتداعى هؤلاء المنبوذون من كل مكان ويمموا وجوههم شطر عاصمة الخلافة .

جاءوا من ” أرمينية ” و ” أذريبجان ” ومن ” إفريقية ” و ” الأندلس ” ، فقد عمم أمير المؤمنين ” الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ” منشورا سلطانيا على كل أمصار الدولة الإسلامية وطلب منهم أن يحرضوا أصحاب العاهات على الذهاب إلى ” دمشق ” بعد أن ينفحوا كل واحد منهم ما ينفق أثناء الطريق .

قرأ الولاة منشور الأمير وطلبوا من وزرائهم تطبيق تعليمات الخليفة ، وهمسوا في آذانهم بأن خزائنهم خالية ، وبأن الأموال ذهبت في أيدي قواد الجيش الذين صرفوها في الجهاد في سبيل الله وفي قتال الكفار من بربر وترك وعلوج وأعاجم وروم .

 

قال الوزراء للأمراء سنتصرف ولن نعدم الحيلة .

ورد الأمراء : كيف يا حكماء الزمان ؟

فقال الوزراء : سنزيد في الضرائب .

ووافق الأمراء على هذه الفكرة الطريفة ، فتكدست الأموال وفاضت على الخزائن وعم الرخاء القصور وضواحيها . ووجد الأمراء من أين يدفعون لمعاقي بلدانهم تفقات السفر إلى عاصمة الخلافة الأموية .

وتجمهر أصحاب العاهات في ساحة الاجتماعات القريبة من السوق وهم يتساءلون عن سبب لم شملهم ، فكثرت التخمينات والاجتهادات . فمن قائل بأن الأمير ينوي بهم شرا لأن جلهم لا يصلح للحرب والنزال واقتحام المصاعب والأهوال ونشر دين الله ورفع راية الإسلام خفاقة على مدى الدهور من جبال ” الهملايا ” إلى جبال ” البرانس ” .

إلى قائل بأن هذا الكلام هراء ، وإن الله وحده يعلم ما يخفي الأمير ويبطن ، ولكن الدلائل تقول إن الأمير رقيق وطيب ولا يقدر على إيذاء عصفور .

وتواصل هذا الهرج أياما إلى أن جاء ” رئيس الحرس السلطاني ” واجتمع بهم وخطب فيهم وحرضهم قائلا بلهجته العسكرية القاطعة :

لبوا دعوة أمير المؤمنين فقد قرر أن تكونوا طليعة حزبه .

احزموا أمركم ، وهيا بنا إلى قصره بالرصافة .

 

 

 

 

 

 

أمير المؤمنين يشارك في لعبة اليانصيب .

 

عمت الأفراح الساحة ، وانطلقت صيحات الفرح من كل مكان ، فرقص الرجال على رجل واحدة ثم اتكأ العميان على المجذومين والعرجان على البرصان وتحرك الحولان يقودون طليعة الموكب .

ساروا هاتفين بحياة ” أمير المؤمنين ” الوليد بن يزيد ، إلى أن وصلوا تحت أسوار القصر .

تجمعوا تحت الأشجار ، وترقبوا خروج الخليفة .

ولم يطل ترقبهم ، فقد أطل عليهم من شرفة بالقصر عليه ثوبان : إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا ، فسلم على جمهوره أكثر من مرة . والجمهور يصفق ويصفر تصفير الاستحسان والفرح ، إلى أن طلب منهم بحركة من يده الهدوء والاستماع لخطبته . فخفتت الحركة وساد الساحة سكون .

بدأ الأمير خطابه بالصلاة والسلام على رسول الله وعلى ، وترحم على أرواح المسلمين الذين استشهدوا في ساحات الوغى – ( والغريب في الأمر أنه لم يعرج على ذكر علي بن أبي طالب ، ولم يلعنه ولم يسب ذريته ) – ثم شكر لهؤلاء الناس تلبيتهم دعوته ، وأعلن أمامهم وعلى رؤوس الأشهاد أنه سيخرج من بيت مال المسلمين كل أنواع الطيب والتحف التي جمعها الخلفاء قبله ليوزعها على عيالات المسلمين . وأطنب في وصف قوارير العطور وأشكالها وأنواعها وطيب رائحتها ، وكيف أنه قرر أن لا يحرم منها نساء أعوانه القريبين إلى قلبه . ومر بعد ذلك إلى الحديث عن التحف التي ملأت خزائن بيت المال . تحف جاءت من  كل مكان : من قصور الفراعنة في مصر إلى إيوانان الأكاسرة ودهاقنة الأتراك . تحف عجيبة تحار العين في حسنها ، صحون من البلور المكسو بالذهب ، وكؤوس من الفضة المرصعة بالجوهر والياقوت ، وأقفاص لحيوانات وطيور ، وموائد من الذهب الخالص ، وصور مرسومة على زرابي بخيوط الحرير الملون ، وأشياء كثيرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت .

ثم أضاف : كنت أظن أن عدد طليعة حزبي أقل من هذا العدد . وبما أن ظني كان في غير فحله ، فسأطلب من

 ” صاحب الخاتم الصغير ” أن يكتب أسماء الحاضرين على أوراق ثم نقوم بعملية سحب ومبروك للفائزين .

بعد ذلك أكد الخليفة أنه سيزيد في أعطيات الناس وفي رواتب الموظفين المسجلين في ديوان العطاء ، وأنه سيرفع في رواتب أهل الأمصار جميعا عشرة دراهم . وأنه يدعو أصحابه هؤلاء إلى الإقامة هنا في دمشق لأنه سيمنح أهل الشام عشرة دراهم أخرى زيادة على بقية الأمصار لقربهم منه .

وأمر بإعطاء خادم لكل مجذوم وأعمى .

ومتع كل واحد من البرصان والحولان والعرجان بجارية يختارها على هواه من أسواق النخاسة .

كما أعلن أنه سيخرج في موكب لمواساة البؤساء والضعفاء والعجزة والقاعدين ، وأنه سيوزع الهدايا على أطفالهم ، وأنه سيضاعف الأعطيات والهبات لأقربائه الذين قدموا عليه وأعلنوا مساندتهم له ، وبايعوه على الطاعة مدى الحياة .

 وقال إنه سيتألف أهل مكة والمدينة ، سيسترضيهم بأن يعيد لهم أرزاقهم وحقوقهم التي سلبها عمه هشام ، وعطلها حولا كاملا عقابا لهم لأنهم أعربوا عن تأييدهم ل ” زيد بن علي بن الحسين ” لما خرج عليه بالكوفة .

وراح يردد ” مكة ” موطن أجدادي و ” المدينة ” مدينة الرسول . وعمي هشام ظالم غشوم حين عاقب المدينتين بجريرة مجموعة صغيرة من الناس . أما أنا فلن أكون مثله سوطا على أبناء عمومتي .

وقرر أن يكون حديثه في نهاية الخطبة عن أحوال الشام . والشام صرة الدنيا كما قال . لهذا سعى إلى تحسين أحوال المواطنين ، فأمر منشآت مائية على النهار للنهوض بالزراعة وتوسيع رقعة الأراضي الفلاحية .

كما قرر أن تكون الأرض ملكا للعاملين بها .

وأعلن أنه سيستغني عن كل موظفي هشام : أصحاب الشرطة والرسائل والخراج والجند والخاتم والخزائن وبيوت الأموال والحرس والخاتم الصغير والحجابة وصاحب الستر ، وكل البصاصين . وأنه سيسمي عوضا عنهم جماعة من طليعة حزبه .

ما كاد أمير المؤمنين ينهي خطبته ، حتى انهالت الأكف على الأكف في تصفيق محموم دام نصف ساعة ، وكلما فتر لحظة عاد إلى الارتفاع من جديد . وتخللته هتافات بحياة ” خليفة رسول الله ” و ” أمير المؤمنين ” وقاهر الكفار والمرتدين ونصير المستضعفين .

ثم ارتفع صوت من الحاضرين يدعو إلى اعتبار هذا اليوم عيدا وطنيا . وطالب آخر بتسمية هذه الساحة باسم أمير المؤمنين الوليد بن يزيد . وكثرت الاقتراحات ، فتمنى عليهم الأمير الاقتصار على الأهم وترك البقية إلى مؤتمر الحزب القادم ، فتجاوب معه الحضور بالتصفيق والتهليل والتكبير .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مسيرة تأييد .

 

اتكأ العميان على المجذومين والعرجان على البرصان ، وتحرك الحولان في طليعة الموكب .

كانت مسيرة عظيمة لم ير لها أهالي دمشق مثيلا منذ أيام الفتح الذي قاده المنصور بالله خالد بن الوليد المخزومي .

كانت مسيرة صاخبة رفع فيها المتظاهرون شعارات التنديد بالخليفة السابق والتأييد للخليفة الجديد ” الوليد بن يزيد ” ودعوا له بالسلامة وطول العمر .

ولم تنته إلا بحلول الظلام .

 

 

 

 

 

 

 

 

اجتماع المعارضة

 

في تلك الليلة اجتمع أنصار ” الحزب القادري ” في منزل بالمزة كان على ملك ” صالح بن سويد ” تلميذ ” غيلان بن مسلم الدمشقي ” اشتراه واحد من الموالي الموسرين بعد مقتل صالح وحوله إلى ناد يلتقي فيه المتذمرون والساعون إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي .

كان الاجتماع حاشدا على غير العادة ، فلم يدقق الحارس في هويات الداخلين إلى المنزل مما سهل اند ساس ثلاثة بصاصين بعث بهم أمير ” أمير الحزب الجبري ” فحضروا الاجتماع على أنهم من أنصار ” إفريقية ” وأنهم وصلوا ” دمشق ” منذ يومين فقط .

تدارس الحاضرون الوضع العام للبلاد ، وانتخبوا وفدا منهم للاتصال بالأمير الجديد لتذكيره بعلاقته بمؤدبه وخليله ” عبد الصمد بن عبد الأعلى ” الذي كان واحدا منهم ، ولحثه على الإفراج على معتقلي الحزب والإسراع في تنفيذ خططه الإصلاحية والسياسية والاجتماعية .

وتحدثوا بإطناب عن الاجتماع الذي ترأسه الوليد في ساحة قصره واستبشروا خيرا بتسامحه مع أهل مكة والمدينة . وطال الاجتماع إلى أن نادى الآذان لصلاة الصبح ، فتفرق الجماعة . وذهب البصاصون يكتبون تقاريرهم إلى ” صاحب الشرطة ” الذي عينه الوليد منذ ساعات .

 

 

 

تقرير عن اجتماع ” الحزب القادري ” بضاحية المزة

يوم الخميس 7 ربيع الآخر 125ه

على الساعة العهاشرة والنصف ليلا .

 

 

 

حضر الاجتماع عناصر مختلفة من العرب والموالي من أنصار  القدرية ” مجوس هذه الأمة ” الذين قال واحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيقدر الله على الشر ، ثم يعذبني ؟ فرد عليه : نعم ، وأنت أظلم .

هذه الجماعة تصدى لها أجداد أمير المؤمنين وأعمامه ، فطلبوا من العلماء والفقهاء من أهل السنة مجادلتهم لدحض آرائهم ونقض مقولاتهم التي تدعو إلى الزندقة وتحث على الكفر .

وقد كافح ّ الخلفاء هذه الجماعة بالاعتقال والنفي والإعدام ، ولكن أنصارهم ما زالوا في تكاثر يبثون سمومهم في الأمصار القريبة والبعيدة ويتآمرون على أمن الدولة . وقد طالبوا الليلة الماضية بأن تصبح ” الخلافة ” حقا لجميع المسلمين

قرأ ” صاحب الشرطة ” تقارير بصاصيه وركنها جانبا غي صندوق قائلا :

– لن أفسد على مولاي فرحته بهذا الهراء ، وسأتكفل بملاحقتهم . أما الآن فسأترك سيدي خليفة المسلمين يرتاح قليلا بعد تعب هذا اليوم العصيب .

ولم يذهب للنوم إلا بعد أن سمع مولاه يقول : الآن ، وقد اطمأن قلبي على مصير الشعب الكريم وقد كلفت به وزراء وحجابا جددا ، سأهتم بنفسي ، فلنفسك أيضا عليك حق . أليس كذلك يا وليد ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أسرار الأرواح المجنحة .

 

 

 

 

ّ وددت أن كل كأس تشرب من خمر بدينار ،

وأن كل حر في جمجمة أسد . فلا يشرب إلا سخي

ولا ينكح إلا شجاع ”

 

الخليفة ” الوليد بن يزيد “

 

 

 

 

 

 

سر الدوران عكس اتجاه الشمس

 

الدار وسيعة رائعة الجمال ، مفروشة بالرخام . والنوافذ تطل على حديقة غناء . ومجلس الأمير مزين بالرخام بين كل رخامتين قضيب من الذهب . والحيطان منقوشة بالفضة

وفي وسط المجلس أربعة فرش من خز أحمر ومثلها مرافقها . والستائر نادرة في أشكالها وألوانها قد ابتدعت خصيصا للأمير . وفراش الأمير قد نظم بالدر الأبيض والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر .

كان المغنون والعازفون والطبالون والزمارون في حالة تأهب حين وصول الأمير الذي جاء وعليه جبة وشي تلمع بالذهب التماعا ، ورداء وشي وخف وشي ، وفي يده عقد جوهر ، وفي إصبعه الوسطى خاتم ياقوت أحمر قد كاد البيت يلتمع من شعاعه ، فتصدر المجلس وأعطى إشارة انطلاق الحفل .

جس ” معبد ” عوده جسات خفيفة ، وحنا عليه حنو الوالدة على وليدها  ثم بدأ في الغناء .

كنت أتابع تشنجات وجه الوليد . أطرب لطربه ويصيبني الخوف حين تعلو وجهه سحابة حزن ، فتخبو نظراته وتغيب البسمة من على شفتيه . هكذا جيئة وذهابا ، كان الحزن والفرح يتناوبان عليه إلى أن غلب الانبساط على أساريره ، فصاح :

– أحسنت والله يا أميري .

وفاحت في القاعة رائحة مسك وعنبر .

وانبسط الحاضرون ، فراحوا يعلقون على غناء ” معبد ” في همس خفيف .

وأجاد ” معبد ” في الغناء والترنم بالألحان الملاح وقول الشعر ، فعاد الأمير يصيح :

أعد فداك أبي وأمي .

إلى أن استخفه الطرب ، فأشار لي بإصبعه أن إنه الجلسة مؤقتا .

أومأت إلى الحاضرين بالانصراف ، فانصرفوا ولم يبق إلا ” أشعب ” الذي أمسكه الوليد من رجله حين هم بالانصراف ثم سحب سراويله فبانت عورته صغيرة كإصبع الغلام ، والتمعت إليتيه المدهونتان بالزيت فضج الحضور بالضحك والأمير يصيح ويرفس الأرض برجليه ولا يكاد ينتهي من الضحك حتى يعود إليه .

ونصب الخوان ، فأكل الحاضرون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يخطر على البال .

أكلوا وشربوا حتى البشم ، ثم رفع الخوان فعاد ” معبد ” إلى الغناء و ” أشعب ” الذي استرد سراويله المصنوعة من جلد قرد له ذنب طويل ، شدت في رجليه أجراس وفي عنقه جلاجل يرقص كالقرود ويغني وراء ” معبد ” بصوت أجش ليفسد عليه ترنيماته وتلاحينه . فيرفسه معبد برجله ويسقطه أرضا ولكنه يعود إلى القيام والسقوط بعدما فعل فيه السكر فعله .

وكان الوليد يصيح :

– أعد فداك أبي وأمي .

ثم وثب من سريره مهمهما :

– ليلة كليلة أبي يزيد .

ونادى جواريه ، فجأن كالدر المكنون . فطلب منهن أن يفعلن فعله . وجعل يدور في الدار وهن يدرن معه . ويغني ، فيغنين :

               يا دار دوريني  *  يا قرقر امسكيني

              آليت منذ  حين  *  حقا   لتصرميني

              ولا  تواصليني  *  بالله ، فارحميني

                    لم تذكري يميني .

ولم يزل يدور كما يدور الصبيان ويدرن معه حتى خر مغشيا عليه ، فوقعن فوقه لا يعقلن ولا يعقل .

فطلبت من الخدم أن يقيموه ، فأقاموه وأقاموا من كان على ظهره من جواريه وحملوه ، وقد جادت نفسه أو كادت .

فأغلقت الستارة ، وذهبت لأنام .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر عسل الجنة .

 

قال لي “الوليد ” اشتقت إلى ” حماد الراوية ” يا صاحب ستري ، وسكت ففهمت أنه يطلب مني إحضاره إلى مجلسه وأنه ينوي السكر والعربدة هذه الليلة لأن ” حماد ” كان من أصدقائه الخلص أيام التشرد في بادية الشام وفي قصور

 ” البخراء ” ، فبعثت في طلب حماد على أن يحمل على أحصنة البريد فوصل عند السحر والقمر طالع وعند الوليد جماعة من ندمانه .

فقال له قبل أن يجلس :

– أنشدني في النسيب .

فأنشده ، وعليه غبار الطريق أشعارا كثيرة فلم يهش إليها حتى قال :

         أصبح القوم قهوة  *  في الأباريق تحتذى

         من كميت مدامة   *  حبذا   تلك    حبذا .

فوقف الأمير واهتز طربا واقتبل ” حماد ” في حضنه ، وجعل يدور وإياه دوران الدوامة ، وهما يرددان الأهزوجة مرددين :

 ” حبذا تلك حبذا ” .

ثم التفت الأمير ناحيتي ، وأشار لي ، فأومأت إلى خادم كأنه الشمس كان قائما عند رأسه فكشف سترا خلف ظهر الأمير فطلع منه أربعون وصيفا كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق والمناديل .

فقال الأمير :

– اسقوهم من عسل الجنة .

فما بقي أحد إلا أسقي . و” حماد ” ينشد الشعر ويغني والجواري يتمايلن أمامنا أقمارا تمشي على الأرض وهن لا يمتنعن على أحد .

فمازال الأمير يشرب ويسقي إلى طلوع الفجر .

وارتمى الندمان صرعى كالأموات . ولم يجار الأمير في الشرب سوى ” حماد الراوية ” الذي لم يمتنع عن الشرب إلا حين رآني أغمزه بعيني ، فتماوت مع الموتى .

وانسل الأمير لينام ، فطلبت من الفراشين حمل أصحابه على البسط فحملوهم وألقوا بهم في دار الضيافة .

وبقيت واقفا أحرس الستارة حتى طلعت الشمس .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر الدير

 

عندما نقص عدد الخصيان في القصر وكثرت الحاجة إليهم ، حزن الأمير حزنا شديدا فهو يحبذ خدماتهم ووقوفهم أمام مقصورته ودخولهم عليه مقصورته وهو نائم أو نصف يقظ يغازل جواريه . فهم عنده من جملة زينة القصور كتحف الذهب وملابس الحرير .

رأيت الحزن في عينيه ، فاقترحت عليه أن نذهب إلى دير النصارى في غوطة ” دمشق ” لنختار للقصر مجموعة أخرى من الخصيان .

ابتهج الأمير كطفل يوعد بلعبة وطلب أن أترقبه مدة حتى يجهز نفسه للمأمورية ، ثم تنكر في لباس تاجر مغربي وألبسني مثله وقصدنا الدير .

وصلنا عند منتصف النهار ، فطلبنا مقابلة القيم على الدير الذي ترقباه زمنا حسبناه طويلا خاصة والأمير لم يعتد الترقب إلى أن وصل شيخ وقور بادرنا بالتحية فرددنا على تحيته بأحسن منها وعرفناه بأنفسنا . فقال إنه عرفنا من ملابسنا – ورأيت على شفتيه طيف ابتسامة – وزاد في الترحيب بنا . وسألنا عن الغرض من زيارة الدير ، فأعلمناه أننا نرغب في شراء عدد من الخصيان . وشدد الأمير على أن يكونوا من الصبية الصغار ، فأدخلنا القيم حجرة واسعة وعرض علينا عددا منهم .

كان هناك أطفال من كل الأجناس : صقالبة وزنوج وبربر وإفرنجة ومن الصين والروم . أطفال تطل من عيونهم نظرات وديعة ، باهتة كضوء القمر من وراء الغيوم . كانوا يتحركون بهدوء ويتهامسون فيما بينهم بخفر البنات .

حين رأوا نظراتنا تتفحصهم ، تكوموا في ركن من أركان الحجرة ، وغطوا وجوههم بأيديهم الصغيرة .

قال القيم إنهم استأنسوا ببعضهم بعضا ، وإنهم يحزنون كثيرا حين يفتقدون أحدهم فيغطي كل واحد منهم وجهه حتى لا يقع عليه الاختيار .

وكان أكثرهم لا يعرف العربية .

زدنا منهم اقترابا فتفرقوا في أرجاء الغرفة كما قطيع غنم هاجمه ذئب . وأعجبت اللعبة الأمير ، فصار يخاتلهم ويجري وراءهم ويضحكهم بحركات كحركات المهرجين التي تعلمها في مجالس لهوه إلى أن أطمأنوا إليه فاقتربوا منه وصاروا يرتمون في حضنه فيلاعبهم ويلاعبونه .ووصل الأمر بأحدهم أن حاول نتف لحية الأمير ، فكدنا تفتضح .

وعرى الأمير سوأة أصغر الأطفال ، فوجدها ممسوحة والجرح ملتئم فكأن لم يكن هناك في وقت من الأوقات عضو يحمل لصاحبه الخير والشر ، مما أشعل رغبة الأمير في التعرف على كيفية خصاء الأطفال فعبر لي عن هذه الرغبة ووضع في يدي خاتم ذهب استله من خنصره . فقدمت للقيم الخاتم وسألته أن يحكي لنا كيف تتم عملية الخصاء . رأيت الحرج في عينيه ، واعتذر بأنه غير مسؤول عن هذا العمل الذي لا يرضي الله – وعدت ، فرأيت على شفتيه طيف الابتسامة السابقة – ، وطلب منا أن نترقبه لحظة .

ولكن لحظة الشيخ دامت أكثر من ساعة مما أغضب الأمير ، فدعوته بلطف أن يهدأ فعاد للعب مع الأطفال .

وأخيرا ، جاء قيم الدير مصحوبا برجل صار يحدثنا عن الخصاء وكأنه يحدث عن مشهد في سوق المدينة .

قال إنه يؤتى بهؤلاء الصغار ، فيختار في الكنيسة أجملهم وأكثرهم صحة وعافية . ثم يعرضون على طبيب فيمسح القضيب والمزودان في مرة واحدة وذلك بأن يشق المزودان فتخرج البيضتين ثم يجعل تحت القضيب خشبة بعد أن يقط من أصله . ويلحم الشق بعد أن يجعل مرود رصاص في منفذ البول إلى أن يبرأ المخصي .

التفت إلى الأمير ، فرأيته يتحسس مكان سوأته ويرتجف فأصابني رعب شديد ونظرت إلى الرجل فرأيته في شكل مسخ مقزز .

 

 

وتكلم فقال :

– كثير من هؤلاء الصغار يموتون بعد أن يقط الطبيب أعضاءهم فنبيع من يبقى منهم على قيد الحياة بأثمان عالية لا يقدر عليها إلا أهل اليسار والنعمة .

وقال قيم الدير، وشبح الابتسامة يعاود الظهور على شفتيه:

– لكنني سأبيعكم ما تحتاجون إليه بالثمن الذي يرضيكم .

التفت والأمير في نفس الوقت ناحية الأطفال ، فرأيناهم يلعبون بهدوء وهم يمرحون في ساحة البيت الوسيعة وكأن هموم الدنيا لا تعنيهم .

وقام الأمير، فاختار خمسة أطفال وأوصى قيم الدير قائلا :

– جهز هؤلاء الطفال ، فستصل عربتنا بعد قليل .

ودفع للقيم ثمنهم وزاده فوق الثمن هدية . وانصرفنا ، وشبح الابتسامة يرتسم مرة أخرى على شفتي العجوز .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر إغلاق أبواب القصر

دون المتقاضين لدى أمير المؤمنين

 

 

اليوم كادت تحصل الفضيحة في قصر أمير المؤمنين . فمن عادته أن لا يسكر في النهار  إلى أن دعا ، وهو في غمرة فرحه بصولجان الملك ، بالمغني ” عمر الوادي ” فوصل والخليفة يتغدى مع أصحابه . فأجلسه بجانبه في صدر المجلس ودعا بالشراب وقال له :

– اشرب في صحة أمير المؤمنين .

ووكل غلاما كطلعة البدر يسقيه ويسره إلى أن طرب ، فغنى بصوت أعذب من خرير الماء . فإذا جارية أخرجت كفا لطيفة من تحت الستر فيها قدح والله ما أدري أيهما أحسن الكف أم القدح . وراحت تسقي الخليفة وهو يطلب المزيد إلى أن غلب عليه السكر ، فأخذ دفافة يدفف بها . وقام يتمايل . فأخذ كل من الحاضرين دفافة فدفف بها أسوة بالأمير .

وتقدم الأمير ، فمشى الصحاب وراءه حتى بلغوا الباب ، وأنا أجري محاولا استبقاءهم في البيت رافعا صوتي بالصياح حتى يبتعد الزوار عن باب القصر  :

– ابتعدوا عن الأبواب يا مؤمنين ، فنساء الأمير ذاهبات إلى الحمام .

وأغلقت أبواب القصر دون القوم السكارى ، فعاد الجماعة إلى المجلس وعادت أجمل كف في الدنيا تسقي الأمير من بنت العنب .

وذهبت ، فكلفت جماعة من حرس القصر بطرد المتقاضين لأن الأمير مريض . ثم رجعت إلى المجلس ، فقلت له :

جعلني الله فداء أميري ، اليوم يحضر الناس للتقاضي والتشرف بمقابلتكم ، وقد كانوا قريبا من الأبواب ينتظرون الإذن بالمثول بين أيديكم . ولولا ألطاف الله لرأوكم على هذه الحالة فتكون الفضيحة ويعم البلاء .

فصاح الأمير ، وقد زاد اغتباطه :

– اجلس ، فاشرب معنا .

فقلت متمنعا :

– إنما أنا حاجبك ، فلا تحملني على الشراب فما شربته في النهار قط .

فقال :

قلت اشرب . وهذا أمري . وأنت عبدي وأنا سيدك .

فجعلت أمتنع وهو يلح .

وأجمل كف في الدنيا تلح .

والكأس تلح .

والندمان يلحون .

فلما أعيتهم الحيلة ، دعا الأمير بغلامين فأمسكا بي وفتحا فمي ، فجعل الأمير يصب الخمر في حلقي بالقمع وأنا

أتخبط .

ويزيد ” عمر الوادي ” في تطريبه بالغناء والشعر ، فيزيد الأمير في صب الخمر في حلقي .

فما قمت إلا وأنا سكران .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر حرارة غناء ” ابن عائشة “

 

هذا ” ابن عائشة ” المغني قد وصل . الليلة سنرى العجب ، فلست أدري من أية مادة قدت حنجرته ؟ وكنت قد سمعت قبله غناء معبد والهذلي وعمر الوادي وأبي كامل وسلامة وحبابة ، ولكن عذوبة صوت ابن عائشة لا شبيه لها . إنها ورب البيت تسكر بغير مدام وتجعل السامع يطير في السماوات وهو جالس في مكانه .

بدأ يسكر مباشرة بعد الوصول من السفر ، فقد أوصاني الأمير أن أوكل به جاريتين ، واحدة تطعمه والأخرى تسقيه ليفعل به الخمر فعله قبل ابتداء السهرة .

وكان ابن عائشة قد طاف بالمكان ، فاختار شجرة ياسمين وطلب طنفسة فجلس عليها . ودعا بالشراب فجاءته الجارية بباطية من خمر” الحيرة ” المعتق .

فقال لها متشبها بأمير المؤمنين :

يا يرحمك الله ، اسقني بزب فرعون .

فردت البنت وهي تتغنج وتتدلل :

– لا والله ، تلك كأس الخليفة وقد منعت عن الخلق

 أجمعين .

فنظرت إلى الكوب المصنوع على هيئة غريبة وتعجبت من إتقان صناعته ومن حجمه الكبير . فقد كان هذا الكوب من الذهب الخالص ، وكان يشع منه نور كنور الشمس .

وازددت إعجابا بأميري الذي لا يشرب إلا من هذه الكأس الفخمة المجلوبة من بلاد الفراعنة .

وظل ابن عائشة يسكر ويعربد ويغني إلى ما بعد منتصف الليل بقليل . حينها وصل الأمير ، فوجد أصحابه في أحسن حال .فقاموا للسلام عليه فرد على سلامهم ودعاهم إلى أن يعودوا إلى ما كانوا عليه . وطلب زب فرعون ، فكرع به ثلاثا . ودارت الكؤوس على الندمان . وحن ابن عائشة على عوده فجس أوتاره وقربه من صدره ، فغمزته أن

 غنه :

  وخرجت أبغي الأجر محتبسا * فرجعت موفورا من الوزر.

فاقترب من الأمير وهمس بها همسا بعد أن حرك أوتار العود .

فطرب الأمير حتى كفر . وصوت :

– يا غلام ، اسقنا بالسماء السابعة .

وعاد ابن عائشة إلى عوده ، فارتفعت النغمات في صخب كهدير البحر ، ثم عادت هادئة وقورة كرف الحمام . والوليد يحاول الطيران محركا يديه في خفق كخفق الطيور صائحا :

– أحسنت والله يا أميري ، أعد بحق عبد شمس .

ويعود ابن عائشة إلى ” الأجر ” و ” الوزر ” و ” الصدر ” و” النحر ” والبدر ” و ” الصبر ” .

 والأمير في صياح :

 – أعد يا أميري بحق أمية

وترتفع آهات الشاربين تزيد في إمتاعه وتحريك أوجاعه .

فيغمض عينيه ويتنهد وهو يذكر ” سعدة ” و ” سلمى ” . حبيبتان سكنتا شغاف القلب ، ثم خرجتا من حيث لم

 يحتسب …

وتنهمك الجواري في رقص صاخب هو أقرب إلى رقص المجانين ، فيخور الأمير :

أعد يا أميري بحق عبد الملك بن مروان .

وتزيد ترنيمات العود في هياج الحاضرين . وترتفع الدندنة ، فيهمس الأمير :

– أعد بحياتي .

أعد يا أميري بحياة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ابن الحكم بن أمية بن عبد شمس … بن آدم عليه رحمة الله وسلامه .

فيقف بن عائشة ، يحتضن العود ، ويغني :

إني رأيت  صبيحة   النفر  حورا نفين عزيمة  الصبر

مثل الكواكب في مطالعها     بعد  العشاء  أطفن   بالبدر

فخرجت أبغي الأجر محتبسا   فرجعت موفورا من الوزر

 

فقام إليه الوليد ، فأكب عليه وراح يقبله ، فلم يبق عضوا من أعضائه إلا وقبله . وأهوى إلى هنه ، فجعل ابن عائشة يظم فخذيه عليه .

 

فقال الوليد :

– والله لن أتركك حتى أقبله .

فأبداه له ، فقبل رأسه ، ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها .

ووهب له ألف دينار . وحمله على بغلته ، وقال :

– انصرف فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة

 غنائك .

فوضع على البغلة بساطا من حرير ، وركبها وانصرف . فلحقت به قبل أن يغادر القصر فطلبت منه أن لا يهمس بكلمة ، وأن لا يحكي شيئا مما شاهد وإلا فإن رأسه ستطير من بين كتفيه .

وأعلمته أن للخليفة عيونا في كل مكان ، وأنهم أقرب إليه من أنفاسه .

فقال لي :

– وهل يقال لمثلي هذا الكلام يا صاحب ستر الوليد ؟

وانصرف إلى دابته ، فركبها والنهار يطرق علينا

الأبواب .

فذهبت لأنام قليلا وأستريح من وجع هذه الليلة الرهيبة .

 

 

 

 

 

 

 

 

سر الجارية التي صلت بالمؤمنين صلاة الصبح

بالمسجد الجامع .

 

 

أعرف جيدا أنه يتعشق جارية من بربر ” إفريقية ” بيضاء مشوبة بحمرة ، قال له النخاس إنها هدية من الوالي ، وإنها ابنة أمير بربري ارتد عن الإسلام وثار على جيش العرب معتصما بالجبال وصار يحرض على جيش المسلمين ويقول إنهم غزاة كبقية الجيوش الأخرى التي دخلت بلاد البربر .

وبعد أن أجهد الوالي تمكن منه ، فقتله . وزيادة في التشفي منه ومن أتباعه ، باع أولاد الثائر وبناته في سوق النخاسة إلا هذه البنت التي اصطفاها لأمير المؤمنين .

وراقت الجارية للخليفة ، فقربها منه ووكل بها من يعلمها الغناء والرقص والعزف على العود .

وكانت البنت فهيمة ، فأتقنت هذه الفنون وبرعت فيها بسرعة عجيبة .فملكت لب الأمير حتى صار لا يستغني عنها أبدا .

البارحة ، بعد أن انفض المجلس دعا بها فحضرت بين يديه فعاد إلى السكر وعادت إلى الغناء والعزف على العود .

وتناجيا وتلاعبا وهما يتضاحكان ويتمازحان بألفاظ من بذيء الكلام  حتى هاج الأمير وماج ، فواقعها وأنا أنظر من وراء الستر . فلما تنحى عنها أذن المؤذن لصلاة الصبح ، فحلف الأمير أن لا يصلي بالناس غيرها .

ارتبكت البنت وصاحت :

– كيف أدخل المسجد يا سيدي وأنا على جنابة ؟ هذا لا يجوز يا أميري ، فاعدل يرحمك الله عن يمينك واتركني أعود إلى بيتي .

فتمسك بها ، وعاد يحلف بأغلظ الأيمان أن لا يصلي بالمسلمين غيرها .

رأيت في عينيها ضراعة وتوسلا ، فأدرت وجهي جهة

 الحائط .

وقام الأمير ، فسار أمامها حتى دخلا المسجد .

كانت الشموع تتكاسل ، فتنير المكان بخفوت . وكان عدد المصلين بالمسجد قليلا . والجارية التي ارتدت ملابس الخليفة تركع وتسجد . والحاضرون الذين أذهلهم الصوت القادم من المحراب بين مصدق ومكذب :

– ” ما هذا بصوت أمير المؤمنين ، واللعنة على من

 افترى . “

تسللت الجارية من أحد أبواب المسجد وذابت في عتمة آخر الليل . وبقيت في المسجد أستمع إلى التعليقات ، ثم مسحت وجهي بكفي وعدت أقف بجانب الستارة إلى أن أشرقت أنوار الصباح فذهبت لأنام .

 

 

 

 

سر البركة المملوءة خمرا .

 

اسقني  يا يزيد بالقرقارة *  قد طربنا وحنت الزمارة

اسقني ، اسقني ، فإن ذنوبي *   قد أحاطت فما لها كفارة

” الوليد بن يزيد ”

 

ترقبنا وصول المغني ” عطرد ” ليلا ، لكن القافلة التي جاء في صحبتها لم تصل إلا مساء اليوم التالي مما أحزن أمير المؤمنين وجعله يسب كل جمالي العالم ويتشاءم من ندمان تلك الليلة ، فلم يكلمهم وإنما شرب أقداحا وذهب لينام باكرا على غير عادته .

ومر اليوم علينا كدرا . خفتت الحركة في القصر . وقل الذهاب والإياب بين الأروقة ، ولم يعد يسمع إلا زعيق الطواويس وصراخها … إلى أن جاء البشير في المساء يعلن عن وصول القافلة ، فاستبشرت وبعثت أستقدم

 ” عطرد ” إلى القصر وأنا أبالغ في تكريمه إلى أن أفاق الوليد من نومه فبعثت برسول يهنئه بوصول المغني

 سالما ، ثم أشخصته إليه بعد أن أصلحت من حاله .

كان الأمير جالسا إلى جانب بركة مبنية بالجليز الفاخر المستورد من القسطنطينية ، تزدان حوافها بالذهب والجواهر الثمينة . والبركة ليست بالكبيرة ، ولكنها يدور الرجل فيها سباحة .

كانت هذه من تحف الأمير التي تملأ كل ليلة خمرا كعين الديك صفاء . وكانت تتوسط دارا ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب يقيم فيها الأمير سهرات اللهو المجنون .

ليلتها رأيت بجانب الأمي جارية ما شاهدت أجمل منها على وجه البسيطة ، عليها مثل ثيابه ، وفي حجرها عود كانت تدندن عليه وتترنم بألطف القصائد من شعر لعمر بن أبي ربيعة إلى أن وصل ” عطرد ” ، فاقترب من الأمير ليسلم

 عليه .

كان الأمير في إغفاءة ، فأفاق ومد للمغني يدا أصابعها مرصعة بالخواتم اللماعة .

قبل المغني اليد وبقي واقفا مدهوشا حد الفزع من فخامة المكان ، فأشار له الأمير بالجلوس حذو الجارية .

نظر ” عطرد ” إلى الجارية ، فالتهبت في صدره نيران الدنيا كلها . وتقدم خطوتين إلى الأمام ، فرأى صورته ترتسم على الجدران وفي السقف وعلى أرضية القاعة فقد كانت القاعة تزدان بعشرات من قطع البلور المصقول .

ورأى الجارية تمد له العود، فلم يعرف لمن يمد يده . كانت الصور المرسومة في كل مكان تتراقص أمام ناظريه ، فيتحول الحاضرون في الجلسة إلى صور باذخة الجمال .

رأى ” عطرد ” عشرات الجواري تمد كل واحدة منهن له بعود ، فكاد يغمى عليه . وقامت الجارية لإنقاذه ، فقادته إلى مجلسها ومدت له العود .

جلس المغني يسترد أنفاسه ، ثم انطلق يغني فجاء والله بالسحر الحلال .

والوليد يقوم ويقعد ، ويضحك ويبكي ، ويصيح ويصمت ، إلى أن غناه هذا الصوت :

إني بحبلك  واصل  حبلي      و  بريش نبلك رائش نبلي

و شمائلي ما قد علمت وما      نبحت كلابك طارقا مثلي .

فحاف الأمير بطلاق زوجاته ، وببطلان بيعة المسلمين له بالخلافة ، وبخروجه عن ملة الإسلام إن لم يغني المغني هذه الأبيات طوال الليلة ، وسبع ليال بعدها .

ثم شق حلة وشي كانت عليه لا أدري كم قيمتها وتجرد منها حتى صار كما ولدته أمه وألقاها نصفين ، ورمى بنفسه في بركة الخمر ، فنهل منها حتى نقصت نقصانا بينا . وأخرج من البركة وهو كالميت ، فجاءت الجواري بالكوانين فرمين أنواعا من العود على الجمر ذات رائحة ما شممت لها مثيلا في أي مكان آخر من الدور والقصور التي زرتها .

والجارية التي كانت بجانب الأمير تلوح أمام وجهه بمروحة تغمسها في الطيب كل لحظة ، وتعود فتلوح بها من جديد إلى أن أفاق وعادت إليه الحياة .

رأيته يبحث بعينيه عن المغني ، فأشرت إليه بطرف عيني أن اقترب من سيدك . فذهب يقف قرب السرير .

وناداه الأمير فأجلسه بجانبه .

 وسمعته يقول له :

– والله يا ابن الزانية لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى ، فبلغني ذلك لأضربن عنقك .

ثم أمر به ، فملىء فمه جواهر .

 

 

 

 

سر الرجل النازل من السماء .

 

 

في بعض الأيام يمتنع أميري عن السكر ويعتكف في بيته لا يكلم أحدا من داخل القصر ولا من الزائرين .

يدوم اعتكافه في بعض المرات شهرا ، ولا يزيد في مرات أخرى عن يوم أو بعض يوم .

بالأمس بدأ اعتكافه . أغلق باب مقصورته بالمزلاج من الداخل ، وأخلد إلى الصمت .ومن عجيب أمره أنه لا يأكل شيئا طيلة تلك المدة .

كنا نوطد النفس على ترقب انتهاء الأمير من اعتكافه ، لما وصل صديقه ” الكلبي ” .

كنت مع جماعة من أهل القصر نمقت هذا الرجل مقدار حب الوليد له . فهو يقول ب” الثنوية ” ، ويقدس الإثنين

الأزليين : النور والظلمة . ويكفر بالرسول محمد وبدين الإسلام الحنيف كفرا بينا . ويجاهر بكفره أمام أمير المؤمنين ، ولا يخجل .

قطع الأمير اعتكافه ليختلي بصاحبه مدة حسبتها طالت دهرا ، ثم طلبني إلى حضرته وذلك ” الكلبي ” اللعين في صحبته .

رأيت بينهما على طاولة قصيرة القوائم سفطا فيه زئبق ونشادر ، فوقفت أنظر من بعيد إلى أن طلب مني الأمير أن أدنو لأنظر في السفط . فتلكأت ، حتى غضب ونهرني مقرعا

وكان ” الكلبي ” يبتسم ، ويهمس في أذن الخليفة :

ألم أقل لك إن صاحب سترك أخوف من فأرة يا أمير المؤمنين ؟

ويضحك متشفيا .

فيعود الأمير إلى نهري وتقريعي إلى أن نظرت داخل الجفنة ، فرأيت صورة إنسان .

وطلب مني الكلبي أن أدقق في الصورة ، فدققت فيها النظر إلى أن بدأ الدوار يصيبني .

 وامتلأت الغرفة بأصوات ما سمعت لها مثيلا . أصوات امتزج فيها التسبيح بالتكبير والتهليل بلغات أعجمية تتخللها بين الحين والآخر كلمات عربية .

وبدأت الصورة تتحول شيئا فشيئا إلى رجل من لحم ودم .

رجل يسبح وسط الزئبق والنشادر محركا يديه ورجليه .

 وكانت عيناه تطرفان . وهو ينظر نحونا بمحياه المليح ولحيته البيضاء الهابطة فوق صدره . لحية زادته هيبة ووقارا تغطي وجها يكاد ينطق بالكلام ، وإن لم يتكلم الرجل .

وتكلم ” الكلبي ” عوضا عنه ، فكأن حديثه  صدى أصوات قادمة من بواكير الماضي .

 قال :

– هذا يا مولاي ” ماني ” الحكيم ، لم يبعث الله نبيا قبله ، ولا يبعث نبيا بعده .

فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ، وقلت بعد أن تغلبت على خوفي ووجلي :

– اتق الله يا أمير المؤمنين ، ولا يغرنك هذا الذي ترى عن دينك ودين آبائك .

فصار ” الكلبي ” يضحك مقهقها ، وهو يردد :

– ألم أقل لك إن صاحب سترك لن يحتمل هذا الحديث .

فرد عليه الوليد وهو كالخارج لتوه من دهشة أبدية :

– أردت فقط شاهدا يرى ما رأيت لأتأكد أنني لست في حلم .

ودعا الأمير هذا الخبيث للبقاء بيننا أياما ، فلبى الدعوة  شاكرا . و مكث في القصر ينام النهار بطوله ولا يصحو إلا عند اشتعال النجوم .

 وكان في كل ليلة يأتي بالعجب من فنون السحر، كأن يشعل المصابيح بالنظر ناحيتها ، أو يحرك الحجارة بالإشارة إليها بسبابته ، أو يجلس في الهواء فوق زربية أو طنفسة ، أو يمشي على الماء برجلين حافيتين لا تبتلان

 أبدا  .

وكان يأكل الجمر بملعقة من ذهب  .

 أو يكلم الأموات .

 يستحضر أرواحهم عندنا في القصر ، فيحكون أمامنا عن عوالم ما سمع بها أحد قبلنا .

مرة أحضر أمامنا روح ” آدم ” ، وطلب منها أن تحدثنا عن الجنة .

تحركت الروح داخل الجفنة حركات عجيبة ، فأنبتت شجرة تفاح مثقلة بالثمر الجميل : تفاح أحمر وأخضر وأزرق وأصفر وبرتقالي ومن ألوان أخرى لا حصر لها . ألوان لم تعهدها أبدا في التفاح .

أعطى الكلبي للأمير واحدة منها فذاقها فنزل به العمر عشر سنوات. وصار شابا كعهدي به زمن خلافة والده . لكن الكلبي عاد، فمسه بعصا استخرجها من بين طيات ثيابه ، فعاد له عمره الحقيقي .

وخرجت الروح من الجفنة ، فطارت كما تطير العصافير ونحن بين مكذب ومصدق لما نرى …

ومرة جاءنا بروح سيدنا ” نوح ” عليه رضوان الله وسلامه  وطلب منها أن تحكي لنا عن الطوفان ، فارتجت الغرفة ورأيت وكأن ماء ينزل من السماء ويخرج من تحت الأرض ويفور من بين أصابع الرجل . ماء كالماء وما هو بماء تسبح فوقه سفينة شكلها بديع تخور كالبقرة وتلتهب بأضواء حتى كأن ليلها نهارا .

قال ” الكلبي ” هذه غواصة ، وستكون من آفات آخر الزمان التي سيركبها الأعور الدجال قبل قيام الساعة

 بقليل .

 ودخلت روح ” نوح ” وسط أنوار هذه الآلة وذابت معها في فضاء الغرفة .

وتمادى في استحضار الأرواح إلى أن قدم لنا يوما روح

مولانا ” يزيد بن عبد الملك ” ، والد أمير المؤمنين .

كانت الروح قد تشكلت أمامنا مضغة ، فعلقة ، فدودة ، بدأت تكبر وتنتفخ رويدا رويدا إلى أن انفلقت وخرج منها شكل هلامي تحول إلى بومة نعبت فوق رؤوسنا ، ثم طارت .

قال أمير المؤمنين :

– هذا فأل سيء يا ” كلبي ” .

وأقلع عن هذه اللعبة .

وأحس هذا اللعين بضجر الخليفة منه ، فركب على برذون هملاج أشقر من أفره ما يملك الأمير وقال :

– سأخرج اليوم لأرفه عن نفسي ، وسأعود بعد ساعة .

وقصد الخلاء .

ولكنه لم يعد إلى أن قصد أعراب باب القصر عند هبوط الظلام . كانوا يحملون ” الكلبي ” ميتا وقد انفسخت عنقه ، وبرذونه لا يهدأ عن الركل والصهيل . فمددوه على دكة أمام القصر ، وهموا بالانصراف . لكن الأمير طلب مني أن أستجوبهم وأن أدعو صاحب الشرطة لحضور الاستجواب .

فقلت لهم :

– كيف كانت قصة هذا الرجل ؟

فقال أكثرهم جرأة :

– أقبل علينا على برذونه وكأنه الغمام ، وكنا نعجب لجمال الدابة وحسن راكبها . فما فاتنا حتى انشقت السماء نصفين ورأينا كأن بابا من نار ينفتح فيخرج منه رجل من نور على ثياب بيض وبيده سيف ضوءه يعشي الأبصار .

انقض الرجل النازل من السماء على الرجل الطالع من الأرض ، فأخذ بعضديه فنكسه وضرب برأسه الأرض . فرأينا بروقا  تنقدح وسمعنا رعودا تصطخب ، ثم بعج سيف بطن الرجل الراكب على البرذون ، فالتهب وطار كقشة في مهب الريح

 بعدها صعد رجل النور إلى السماء . رأيناه يا مولانا يركب على درجات من لهب ، ويدخل في أبواب الليل ، ويوصد الأبواب وراءه بابا وراء باب .

 فاحتملنا الرجل وجئناكم به .

لم أصدق كلام هؤلاء الأعراب وتهويلهم لهذه الحادثة ، وأردت مواصلة استجوابهم خاصة بعد ما رأيت الطمع في عيونهم ، وخمنت أنهم أغاروا على هذا الملعون وسلبوه الأموال التي كسبها من الأمير . وتحفز صاحب الشرطة لمعاضدتي لكن أمير المؤمنين وقف في تلك اللحظة  ،

 وقال :

– قيدوا الحادثة ضد مجهول ، وأقفلوا المحضر .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر السجدات الثلاث .

 

مساء ، وصل المغنون . جاءوا من ” مدينة ” رسول الله تسبقهم أصوات الدفوف والطنابير . حطوا رحالهم خارج أسوار ” دمشق ” وترقبوا هبوط الليل . ولأن الخليفة حذرهم من دخول المدينة جهارا ، فقد تنكروا في أزياء التجار وبائعي العبيد وأصحاب القوافل ونصبوا خيامهم قرب الباب الكبير الذي إلى أن أذن لصلاة العشاء فانتشروا في شوارع المدينة الهاجعة يسبقهم الدليل إلى قصر السلطان .

وكان مع الجماعة ” أشعب ” فقد جاءوا به معهم ليزيدوا في غبطة الأمير . فألبسوه سراويل من جلد قرد وعلقوا في عنقه الجلاجل وجعلوه في مقدمة الركب .

كان  ” أشعب ” قصير الأطراف ، يفوق طوله الذراعين بقليل ، له رأس ضخمة فوق عنق قصيرة وغليظة وعينان ضيقتان ثاقبتان وأنف مفلطح وفم واسعة ، وعلى ذقنه شعيرات نابتة هنا وهناك ، وفي قذاله لحية تيس عجوز .

كان ” أشعب ” وقت الدخول على الأمير يغني ويرمي بالدف في الهواء ليلتقطه في خفة السعادين .

رأيت الأمير والحاضرين يقفون له تعظيما وإجلالا ، وهو لا يلتفت إليهم ، يدور في الساحة مواصلا الغناء والضرب على الدف إلى أن سقط على الأرض مغشيا عليه . فأشار الأمير إلى عبدين من عبيده ، فالتقطاه ورميا به في بركة القصر .

كان ” أشعب ” يصيح ويخبط برجليه القصيرتين ذات اليمين وذات الشمال إلى أن أشرق بالماء  وكاد يموت ، والأمير يضحك عاليا ويقوم ويقعد ويدور في كل الاتجاهات كالمجنون . ثم أشار إلى العبدين ، فأخرجاه من الماء وهو في آخر رمق . ودعا جاريتين فنزعتا عنه ثيابه المبلولة وكستاه حلة من حلل الأمير ، وفرشتا له سريرا كسرير الأمير ، وتركتاه ليستريح .

كان الأمير في استماع إلى شعراء ” المدينة ” ومغنيها ولكنه ظل ينظر بطرف عين إلى ” أشعب ” الذي بدأت الحياة تعود إليه شيئا فشيئا إلى أن استوى قائما ، ونادى بصوته الأجش يطلب الطعام ، فجيء له بمائدة عليها جدي مشوي وثمار من كل الألوان وباطية خمر ، ومدت له الجارية الموكلة بخدمته كوبا من الذهب الخالص .

دس ” أشعب ” الكوب في جيبه وصار يكرع من فم الباطية إلى أن شبع ، فحمد الله وقام يلثم يد أمير المؤمنين .

بش الأمير في وجهه وطلب منه أن يغنيه شعرا يعجبه

قال : إن أجدت ، أعطيتك ألف درهم .

 فغنى ” أشعب ” قصائد كثيرة لم تعجب الأمير .

إلى أن قال :

            أشتهي منك  منك      مكانا   مجنبذا

           فأجأ فييييييييييييييه      بأير كمثل   ذا

           ليت أيري وحرك      يوما     تجابذا

           فأخذ ذا بشعر  ذا      وأخذ ذا بقعر ذا

 

فطرب الأمير حتى كفر .

ثم كشف لأشعب عن أير منعظ ، فارتعد وولى هاربا يجري في أروقة القصر ، والعبدان وراءه إلى أن أمسكا به وأعاداه إلى المجلس .

فقال له الأمير :

– أرأيت مثله ؟

فقال أشعب :

– لا يا أميري ، وحياتك ما رأيت مثل مزمار الآبنوس

هذا .

فقال الأمير

– فاسجد له إذن .

فسجد أشعب ثلاثا ، والحاضرون في ضحك لا ينتهي . إلى أن هدأ الأمير ، فاستجاب له الحاضرون بالهدوء .

ساعتها قال الأمير لأشعب :

– لماذا سجدت ثلاثا عوضا عن واحدة ؟

فرد :

– واحدة لأيرك يا مولاي وثنتين لخصيتيك .

فعاد الأمير إلى الضحك المجنون ، وعاد الندمان يضحكون ويلحون في الضحك .

ثم أمر الأمير الغلمان فرموا أشعب بالجواهر ، فجعل يتلقفها كما يتلقف الصبيان البلح . ثم أغرانا بمشاركته ، فترك كل واحد منا ما في يده ودخل الحلبة . واشستد العراك والصياح والهرج والمرج ، ولم يعد يسمع من الجلبة العالية سوى صراخ ” أشعب ” الشبيه بصياح جدي في يد الجزار .

 

 

سر حزن الخليفة على الثائر : ” يحي بن زيد “

 

 

صوت الغنية ينزل على القلب عذبا كالماء الزلال نهار صيف قائظ . والجواري الشبيهات بحور العين لا يتوانين لحظة في تلبية رغبات الحاضرين في مجلس الأمير .

والوليد منشرح ومكلوم في نفس الوقت ، لا يدري أيضحك أم يبكي . يتقاسمه الهم والغبطة ، فقد وصلته قبل قليل أخبار مقتل ” يحي بن زيد “.

سكت مدة طويلة ، ثم دعا بكأسه ، فشرب ثلاثا وهو ينعر مصوتا بخيشومه :

– هذه الكأس في صحة بني أمية ، الأحياء منهم

 والأموات .

فقرع الحاضرون كؤوسهم صائحين :

– في صحة بني أمية .

وغنت الجواري ورقصن كأحسن ما يكون الرقص  ،  والأمير غائب عن الوجود .

أعرف أنه حين يصمت بهذه الصورة ، فيغيب عن العالم المصطخب أمامه مدة قد تطول ليلة كاملة أو تقصر لحظات فقط  . أعرف أنه سيقترف جنونا لا يخطر على بال أحد . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ومنيت النفس بأن تكون العواقب سليمة . وفتحت أبواب الترقب . ولم يدم انتظاري طويلا فقد وقف الأمير في ساحة الرقص وقال للحاضرين بصوت كالفحيح :

– أريدكم أن تكونوا حاضرين ، وما أنتم بحاضرين .

ولم يفهم الرجال مقصده ، فصحت فيهم :

– أغمضوا أعينكم يا أولاد الزواني قبل أن تحل عليكم اللعنة هذه الليلة  .

فحرك الأمير رأسه مؤكدا حديثي :

– أريد أن ترقص الجواري في حضوركم ، ولكن ليرقصن لي وحدي ، أنا أمير المؤمنين والكافرين والفاسدين والصالحين والتائبين والمارقين من الملة .

فأغمض الرجال الأعين ونكسوا الرؤوس . وتجردت النساء من الثياب ، وبدأن في رقص هو مزيج من القفز وهز الأرداف وتحريك النهود والرهز مع تصويت وبكاء ونشيج يتخلله ضحك كضحك المجانين . والأمير يدور بينهن ويفعل فعلهن ولا يكل ولا يمل . ثم التفت على حين غرة ، فرأى واحدا من الحضور يراقب الجارية التي كان بصدد مراقصتها فصاح صيحة واحدة كادت الجدران تنهد من قوتها وفخامتها :

محكمة .

فسكتت كل حركة ، وانكتمت الأنفاس والتفت الجميع صوب المكان الذي قصده الأمير الذي انقض على أحد الطبالين كالنسر الكاسر وانهال عليه لكما ولطما وضربا على القفا وهو يصيح :

– أنت الزاني إذن أيها الطبال ؟ لقد اكتشفتك وأنت تأكل من لحم امرأتي .

لقد رأيت في عينيك رغبتك في جارية أمير المؤمنين أيها الزاني .

وأدخل إصبعيه في عيني الطبال الذي ظل واجما بدون حراك .

وكنت أعرف هذا الطبال الفحل . وأعرف أن كثيرا من جواري الأمير راودنه عن نفسه ولكنه كان ينأى عنهن  ويبتعد عن تغنجهن ودعواتهن له إلى مقاصيرهن خوفا من اكتشاف أمره ، إلى أن وقع في حب الجارية التي كان الأمير بصدد مراقصتها هذه الليلة ، فسقط صريعا في هواها . ولكن حضه التعس أوقعه في غرام المرأة التي اصطفاها الوليد وخيرها عن بقية نساء القصر . فعشقت الجارية هذا الفحل وعشقها وصارت تخيره على الأمير إلى أن اكتشفت القهرمانة غرامياتهما ، فوشت بهما إلى

 الأمير …

وعاد الوليد إلى الصياح :

– إني أطلب منكم أن تشاركوني في إصدار الحكم العادل على هذا المارق عن سلطان بني أمية .

فاختلفت الآراء وتباينت ، وكثر اللغط إلى أن أوقف الأمير الجلسة قائلا :

أصدرنا نحن الوليد بن يزيد الأموي خليفة المؤمنين ، حكمنا العادل في حق هذا الزاني بأن يلاوط الساعة أمام هذا الحشد من الشهود حتى نرد لجاريتنا المصون حقها . والله على ما أقول شهيد .

وأشار إلى واحد من عبيده السودان أن يتقدم لينفذ أمر مولاه عاجلا في المحكوم عليه ، فامتثل العبد ووقعت الواقعة تحت أقدام جارية أمير المؤمنين .

وكان الأمير يضحك وهو يضرب على مؤخرة العبد الجاثم فوق الطبال بكل ثقله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سر الطشت الفارغة .

 

 

وظل الأمير على مزاجه الفاسد إلى أن وصل رسول والي ” خراسان ” برأس يحي بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .

طلب الرسول الإذن بالمثول بين يدي أمير المؤمنين ، فأذن له . وأشار الأمير إلى الحاضرين بالانصراف ، فخلت القاعة من أصوات المغنين والمهرجين والسكارى . وران صمت رهيب على المكان ، صمت كصمت المقابر . حينها دخل الرسول على الخليفة يحمل على صدره مخلاة ، فسلم بأدب جم وبقي واقفا .

دامت وقفته وقتا طويلا ، ثم أشار الوليد إلى المخلاة ، فجثا الرجل على ركبتيه ، وأخرج منها طشتا فوضعه فوق مائدة قرب الخليفة وتراجع خطوتين إلى الوراء .

وعاد الصمت يلف المكان من جديد .

اتكأ الوليد على مرفق يده اليمنى ، وباليد اليسرى رفع الغطاء ، فرأى داخل الطشت رأس آدمي .

رأيت من مكاني ، وراء الستارة ، ارتعاشة في عيني الخليفة وتقطيبة على جبينه .

قال الرسول :

 

– هذه رأس المارق يحي بن زيد يا مولاي .

فأشار إليه بيده إن صه .

فسكت الرجل .

وحركت نسمة خفيفة شعلة الشمعة الواقفة على الطاولة ، فتحرك ظل الرأس . ورأيت تكشيرة ألم ترتسم على وجه القتيل ، فأحسست بحد السيف يمر على عنقي . فاقشعر بدني وارتعشت أطرافي وغامت الدنيا أمام ناظري .

في تلك الأثناء ، داس الأمير الطاولة برجله ، فتدحرجت الرأس على الأرض وانطفأت الشمعة .

وسمعته يقول :

– لا دخل لي في دمك يا رجل . فلماذا تنظر لي نظرتك الميتة هذه ؟

وجعل يلطم رأسه على الجدار ، ويصيد :

لقد طلبت من الوالي أن يؤمنك ويخلي سبيلك ويأمر لك بعشرة آلاف درهم و بإمتيازات أخرى . فلماذا قتلت

 نفسك ؟ لماذا أيها المجنون ؟

ثم التفت إلى الرسول وقال :

– كيف قتلتم هذا الرجل ؟

فرد الرجل مرتبكا وهو يرى جزع الوليد على القتيل :

– أصابه سهم في جبهته ، فعاد مع أتباعه إلى دار أحدهم ،

فحاولوا انتزاع السهم من الجبهة ، إلا أنه مات بعد ساعة .

ودخل عليهم الجند ، فسلبوا يحي قميصه وهو يحتضر . ثم احتز أحد الجنود رأسه . وصلبنا الجثة على نخلة .

 

فتغير لون الخليفة ، وعاد إلى الصياح :

– حتما سأنال نصيبي من لعنة هؤلاء العلويين .

يا غلام ، اسقني بالقرقارة .

فظهر من وراء الستارة ثلاثة غلمان ، فأشعلوا الأنوار من جديد ورتبوا المائدة والتقطوا رأس يحي فأعادوها داخل الطشت ، وركنوها جانبا ، ووضعوا قارورة خمر مذهبة وكأسا من الفضة عليه نقوش ورسوم فارسية أمام الأمير ، وانصرفوا يجرون ذيولهم وراءهم .

قال الأمير للرسول الذي ظل واقفا طول الوقت :

– وهل حضرت مقتل والد يحي : زيد بن علي يا رجل ؟

فرد :

– لا يا أميري . لقد كنت مع جند سمرقند أيامها . وإنما بلغني أصداء عن العملية من أصدقاء حضروا الواقعة .

وسكت الرجل ، فحثه الخليفة على الكلام :

– وماذا قال الأصدقاء يا رجل ؟

قالوا إن يحي حزن كثيرا لموت والده ، وإنه رفض أن يترك مع القتلى في ميدان المعركة قبل أن يفروا لأن جندنا ضيق عليهم الخناق .

– وماذا فعل في آخر الأمر ؟

– وجد حيلة ، فدفن والده في حفرة يؤخذ منها الطين وأمر أن يجرى على القبر الماء لئلا يعرف .

وكان يصيح : لا تتركوا أبي نهبا لأنياب الكلاب السائبة .

– وماذا جرى بعد أن فروا من ساحة المعركة ؟

– دل واحد من الموالي قائد جندنا على القبر بعد أن أوجعه ضرب السياط ، فأخرج زيد من قبره وهو الآن مصلوب على جذع نخلة هو الآخر .

قال الوليد للرسول :

– ستستريح هذه الليلة . ومن الغد ستعود إلى العراق حاملا وصيتي هذه : قل لوالينا يوسف بن عمر أن ينزل زيدا من الجذع ، وأن يحرقه بالنار ، وأن يذري رماده في ماء الفرات .

سألبي رغبة ابن عمي يحي ، فلن تشم الكلاب عظام

 والدك أبدا .

وعاد يشرب بالقرقارة .

ولم ينتبه لرسول العراق الذي ظل واقفا في مكانه حتى الصباح .

ظل يترقب إذن أمير المؤمنين له بالانصراف .

والغريب في الأمر أننا لم نجد لرأس يحي بن زيد أثرا حين هم الخليفة بمغادرة المكان والذهاب للنوم . فقد كانت

الطشت فارغة وإن كانت تفوح منها رائحة الموت . وكانت أربعة كلاب ضخمة تبصبص بأذنابها أمام باب مقصورة أمير المؤمنين .

قفزت الكلاب حين فاجأها وصول الأمير ، فراحت تنبح وتلحس وجهه وعنقه وهو يهشها بعصا الملك وبالكلمات النابية ، إلى أن أغلق الخدم الباب دونها فعادت تقعي فوق أزهار الحديقة ، وتعوي عواء الشياطين .

 

 

سر نار المجوس .

 

مللنا المكوث في القصر .

حط السأم على أكتاف الجواري ، فذبلت الوجوه وفقدت أصوات المغنيات رقتها وحلاوتها . وصار الملل سيد الدار، فكثرت المشاجرات ، وبدأت أصوات بعض الخصيان المرابطين أمام الأبواب للخدمة في الارتفاع .

لاحظت كل هذه الأمور في صمت إلى أن رأيت أن من واجبي إخطار الأمير بذلك عله يجد لنا مخرجا ، خاصة بعد أن امتنعت جارية عن الغناء وساندتها الراقصات المحترفات اللاتي لا يطرب الأمير إلا لرقصهن .

حدثت الأمير عما جرى ، فقال :

– أنا طبيب هذه الأمراض يا صاحبي . أدع لي صاحب ديوان الخدم .

في غمضة عين ، كمان كبير الخدم في حضرة الأمير ، فطلب منه أن يجهز الدواب ويحملها ما تحتاجه إقامة أسبوع خارج القصر .

ركع صاحب ديوان الخدم أمام الأمير ، وخرج ماشيا إلى الخلف إلى أن توارى عن الأنظار .

وتغيرت الأحوال في القصر .

ارتفعت الأصوات بالأهازيج ، وعم الحبور كل مكان ، حبور

 

صاحب قافلة الأمير الخارجة إلى البرية .

كانت الجمال محملة بآلات الطرب والمؤن ودنان الخمر وكلاب الصيد والجواري الروميات . وعلى البراذين ركب أصحاب الأمير . أما الأمير فقد ركب داخل محفة تبادل على حملها عبيد أشداء ، كلما تعب بعضهم عوضهم آخرون .

سارت القافلة من الصباح إلى غروب الشمس وكانت مسبوقة بكوكبة من الفرسان تطرد من طريق الأمير العربان والشحاذين والمداحين .

وساروا إلى أن وصلوا غدير ماء استحسنه الأمير ، فطلب منهم أن ينصبوا الخيام على حافته .

وساح الأمير في البرية مصحوبا بكلبي صيد وبخادم . ومنع البقية من الالتحاق به .

كان الجماعة يعرفون نزوته هذه ، فتركوه وشأنه وانهمكوا في الإعداد لسهرة الخمر والغناء . فرشوا الطنافس على الأرض ، ووزعوا دنان الخمر في الأركان الأربعة ، وأشعلوا النيران لشي لحم الخرفان والجديان والعجول . واهتم خادمان بجدي الأمير – فالأمير لا يروق له سوى أكل لحم الجديان الطرية – تبل الخادمان الجدي ووضعاه على الجمر إلى أن استوى ، فزيناه ووضعاه على مائدة أمام سريره .

وعاد الأمير من البرية ، فاستقبلته الجواري بالترحاب والغناء . والتهب لهب النيران يناوش ضوء القمر .

ودارت الكؤوس ممزوجة بالشعر والرقص والنكات البذيئة

وطلب الأمير طبلا فجيء به ، – وكان الأمير يمشي بالطبل

على مذهب أهل الحجاز – فقام واقفا يحتضن الطبل ويحنو عليه تحنان الحبيب على الحبيب ، متحسسا جلده الساخن بيديه الاثنتين ، ناقرا عليه بأصابعه نقرات خفيفة في بادئ الأمر ، ثم بدأ في قرعه .

وامتلأ المكان بالدق على الطبول .

رفعت عشر جوار طبولا على رؤوسهن وبدأن في الدق والرقص والدوران والغناء ، والأمير وسطهن ، يمتاز عليهن بخفته ورشاقته ، وقد هزه الطرب ، فصال وجال .

تارة يقرع الطبل بعصا غليظة ، فيسمع له دوي وهزيم كهزيم الرعد ، وطورا يتحسسه بعصاه الرقيقة فيدغدغ الأسماع ويفتن الألباب . إلى أن بلغ الحاضرون حافة الجنون ، فما بقي واحد جالس في مكانه .

دخل الجميع حلبة الرقص وتفننوا في اللهو والمجون .

في تلك الأثناء ، ارتفع من وسط الغدير لهب . نار كنيران المجوس تشتعل وسط الماء بدون حطب .

ألجمت المفاجأة الأمير أول الأمر ، فتوقف عن قرع

الطبل . ووقف مشدوها يلتهم بعينيه النيران التي انعكست على صفحة الماء . ثم تحولت البهتة إلى إعجاب . فقد تراءى له أن الماء صار تبرا تنعكس على صفحته البراقة خيالات عجيبة وصور لمناظر من العوالم الأخرى .

 فصاح :

– والله ، ثم والله ، لن نبرح هذا المكان حتى نشرب كل ماء الغدير في بطوننا . سنشرب هذا الغدير ممزوجا بخمرة أديرة ” الحيرة ” المعتقة .

وذهب لتستريح بعض الوقت بعدما أنهكه تعب الصيد والرقص بالطبل .

وأسقط في أيدي جميع الحاضرين لأنهم يعرفون نزوات الأمير التي لا يرجع عنها أبدا .

فما العمل ، والغدير واسع ، وماؤه يكفي لري بساتين غوطة دمشق ؟

ولم تغب الحيلة على رئيس ديوان الخدم ، فجند الأعوان واستنجد بالجواري والأطفال الصغار فأعطاهم قربا ودلاء وروايا وطلب منهم أن ينزحوا ماء الغدير وأن يصبوه على الأرض والكثب التي حولهم ، حتى لا يبقى فيه شيء .

ووصلت النجدة من دمشق : جيش من الرجال الأشداء وصلوا مدججين بوسائل إفراغ الماء . فكانوا يملأون الدلاء والقرب وأواني أخرى كبيرة ثم  يفتلونها بعيدا عن الغدير

لتمتصها الرمال العطشى .

وانهمك الجميع في العمل ، فلم يطلع الصباح إلا والغدير ناشف وأرضه يابسة يلعب فيها الصبيان .

ومن حسن حظ الجميع أن الأمير نام تلك الليلة كما لم ينم منذ سنوات . فلما أفاق في الصباح ، شرب قهوته وأفطر ، ثم قام يطلب الغدير فوجده ناشفا ، فصاح :

– أنا أبو العباس … ارتحلوا الآن .

فارتحل الناس ، وأنا أعجب لحيلة صاحب ديوان الخدم ولغبطة الأمير بهذا الإنجاز العظيم …

ولله في خلقه شؤون .

 

 

سر الصندوق .

 

ليلة عودتنا من البادية ، أصاب الإرهاق الجميع ، فناموا باكرا . ولم يبق في ساحة القصر سوى أمير المؤمنين وجاريتين من محضياته .

أمر الخليفة أن ينصب الخوان وأن تدار كؤوس الخمر ، إلا أن واحدة من الجاريتين رفضت أن تشرب في أول الأمر فأظهر لها الأمير الغضب ، فأذعنت لأمره ولانت لطلبه وصارت تسقيه قدحا وتشرب اثنين حتى كادت تفقد وعيها والأمير يلاطفها وهو في أحسن حالاته إلى أن انتصف الليل ، فصرف الجاريتين ودعا بي .

وقفت بجانب السرير ، فأشار إلى سرير مقابل وأمرني بالجلوس وهو يقول :

– ماذا لو حكيت لي عن واحدة من النوادر التي وقعت لأبي مع جواريه وندمانه . إنني أحس بأرق هذه الليلة يا صاحب ستري ، فتمنعت وطلبت منه أن يعفيني من الخوض في هذا الموضوع . لكنه هددني بأن يحضر جماعة من الخدم فيملأون جوفي خمرا .

ولأنني خفت أن يقع لي ما وقع في مرة سابقة فقد حكيت له قصة والده مع جاريته حبابة ومعشوقها القديم ، عندما سألها إن كانت تعرف رجلا أطرب منه عند سماع الصوت الحسن . فقالت له إنه مولاها الذي باعها له . وأطنبت في الحديث عنه وعن مزاياه حتى غار منه الأمير وأمر بإحضاره إلى مجلس شرابه ، فجيء بالرجل مكبلا بالقيود فمثل بين يديه .

ثم أمر الأمير جاريته سلامة أن تغني ، فرفعت صوتها بصوت أعذب من ترتيل الملائكة . فطرب الرجل وتحرك في قيوده ورقص جالسا رقص الدراويش يميل رأسه يمنة ويسرة ويهتز اهتزاز المخبول .

ثم دعا بحبابة وطلب منها أن تغني من وراء الستر ، فغنت صوتا عرى روح الرجل وكوى قلبه بنيران الجحيم ، فوثب وجعل يقفز على رجل واحدة وهو يقول :

– هذا وأبيكما ما لا تعذلاني فيه .

حتى دنا من الشمعة ، فوقف أمامها لحظات ، ثم صار يلتهم ضوءها ويمضغه مصوتا ، فاحا فحيح الأفعى ، ثم وضع لحيته على نار الشمعة فاحترقت فجعل يصيح :

– الحريق ، الحريق ، يا أولاد الزنى .

ومولاي يزيد يضحك ويرفس الأرض برجليه ويقول :

– هذا والله أطرب الناس حقا .

ثم دعا بكيس الذهب فوصله وسرحه .

التفت إلى الأمير ، فوجدته نائما . فواصلت أحكي بقية

الحكاية لنفسي ، أحكي لها عن دموع حبابة التي سالت على خديها حين فاجأتها في أواخر تلك الليلة وهي تداوي وجه صاحبها المحروق باكية ، فملأت فمي ذهبا وطلبت مني أن

أسكت عن سرها . فسكت ولم أبلغ الأمير .

ورأيتها تدس صاحبها في صندوق كبير وتخبئ الصندوق في دارها ، فطلبت منها بعد ثلاثة أيام أن تسرح الرجل ، فعادت تملأ فمي بالذهب ، فعدت إلى السكوت إلى كان اليوم السابع .

غافلتها يومها حين ذهبت إلى الحمام مع جواريها ، فطلبت من الخدم أن يحملوا الصندوق بعيدا ، إلى الخلاء ، وأن يحفروا خندقا عميقا ، فدفنت الصندوق في الخندق وعدت إلى القصر .

ولم تسأل حبابة عن الصندوق حين عادت من الحمام ، لكنها صارت تأكل من نار الشمعة كلما قابلتني وحدي في الليل ، وتقذف في وجهي :

الحريق يا أولاد الزنى …

 وأنا ، من يطفئ حريقي …

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أيام النكد

 

 

 

 

يوم الغضب الأكبر.

 

بدأت تظهر على أميري بوادر ما كانت لتروقني ، فأنا أعرف مزاجه منذ أن كان صغيرا يحبو ، ثم كبر في حجري وترعرع أمام ناظري ، وها هو الآن سيد

 العالمين . ولكنني لم أره عكر المزاج كما هو هذه

 الأيام ، فحتى في فترة محنته حين كان عمه هشام يسومه سوء العذاب ، ما كانت البسمة لتغيب عن شفتيه أبدا . فقد كان الكدر والقلق من الممنوعات التي لا يؤمن بها . إلا أن الأمر تغيرت كثيرا هذه الأيام .فقد بدأ صاحب الشرطة يكثر من زياراته للقصر . وكان في كل مرة يأتي محملا بأكداس من التقارير ، فيختلي بسيدي مدة تطول دائما حتى هبوط الليل ولا يخرج من عنده إلا ومزاج الأمير قد تعكر فيكثر من الصياح والصراخ والسب والشتم .

البارحة مثلا ، أطرد كل الندامى ، وضرب جاريتين راقصتين ، وقلب أواني الشرب ، ثم اختلى بنفسه  يتكلم  ، ولا يرد على كلام أحد إلى أن كان منتصف الليل ، فخرج من وحدته

ناداني بالاسم ، وهذه واحدة من عجائبه ، وطلب مني أن

أحضر له نسخة من مصحف قرآن ، فارتبكت بعض الشيء لأنه ليس من عاداته قراءة القرآن بالليل . ثم تداركت الأمر بسرعة ، فطلبت مصحفا من الجامع الكبير .

بعد زمن ليس بالقصير ، وصل خادم يحمل مصحفا قدمته

 للأمير ، فطلب ماء وتوضأ فأحسن الوضوء . ثم فتح المصحف ، فصادفته هذه الآية :

” واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد .”

فتغير لون الأمير ، واصفر وجهه ثم ابيض وارتعشت أصابعه وبدأ في صراخ مجنون :

– انصبوا هذا المصحف على الشجرة المقابلة لمجلسي ، هناك بعيدا عني وآتوني بقوسي ونشابي .

وامتثل الخدم للأمير ، فعلقوا المصحف على أغصان شجرة زيتون . وأقبل الأمير يرميه بالسهام حتى مزقه .

ثم أنشد :

 

أتوعد كل جبار عنيد      فها أنا ذاك جبار عنيد .

إذا قابلت ربك يوم حشر   فقل يا رب خرقني الوليد .

 

وبقي واجما مدة طويلة ، ثم قرأ :

 

تلعب بالخلافة هاشمي   بلا وحي أتاه ولا كتاب ،

فقل لله يمنعني طعامي    وقل لله يمنعني شرابي .

فاستغفرت الله في سري ودعوت له بالهداية والغفران . والتفت ، فإذا الجواري والغلمان والخدم ونساء القصر قد تجمعوا في الساحة القريبة يراقبون المشهد مفزوعين .

وكان الرعب قد عم المكان . وترقبنا أن تنزل علينا صاعقة من السماء أو أن يدك القصر زلزال …. والأمير

يمشي جيئة وذهابا في أروقة القصر لا يلتفت لأحد ولا يكلم أحدا . ثم انفجر بغتة يسب أبناء عمومته ويشتم قواد جيشه وصاحب شرطته ويتهدد بني هاشم وجماعة ” الحزب القادري ” بالسحق والمحق .

ونادى صاحب الشرطة ، فحضر في لمح البصر ، فطلب منه أن يحضر إلى القصر ابن عمه سليمان بن هشام مكبلا في الأغلال .

وعاد إلى التمتمة والسب والشتم :

– أولاد الكلب ، يطعنون في توليتي ابني ” الحكم ” و ” عثمان ” ولاية العهد ، لمن يريدونني أن أوليها إذن ؟ أما يكفيني ما فعل بي هشام الأحول حتى أترك إبني لغول آخر من أغوال بني أمية ؟

والله لن يكون هذا أبدا ، وسأركب الجميع رغما عنهم .

وظل على هذه الحال إلى أن وصل صاحب الشرطة مصحوبا بسليمان بن هشام ، فصاح الأمير في وجهه :

– هيه ، أما كفاكم ما فعل بي أبوكم يا أولاد هشام حتى تحرضون علي الخلق وتشتمونني في الأسواق ، وتتحالفون ضدي مع أبناء عمكم الوليد ، وفي أعناقكم بيعتي .

والله سترون مني العجب يا طينة الكلاب .

ثم أحضر الجلاد ، فطلب منه أن يحلق لحية ورأس سليمان ، ثم أمره بجلده مائة سوط على مرأى من نساء القصر .

 

فانهالت السياط على الجسم الرقيق . وسال الدم ممزوجا بمزق من اللحم على الأرض .

وسمعت من خلال زفير الجلاد وأنين سليمان ، صوت الأمير مزمجرا :

لا أريد أن أرى بعد اليوم خلقة الكلبين سليمان وأخيه يزيد أمامي في دمشق .

أحبسوهما بعيدا في غور الأردن .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يوم الندامة .

 

واستمرت أيام النكد ، فقد طلب مني الأمير أن أغلق أبوابه في وجوه كل أصحابه وأن لا أستثني إلا ” القاسم بن الطويل العبادي ” فهو لا يمكن أن يستغني عن صحبته

أبدا .

وصار الأمير يسهر الليل كله مع هذا الرجل ، فيشربان المسكرات حتى يخرجا عن طوريهما ، والأمير يستفتي هذا الرجل في أمر الدنيا والدين فيفتيه بما يرضيه .

وهكذا فرق الأمير بين روح بن يزيد وزوجته ، ورمى إخوته في الحبس . وضيق الخناق على يزيد بن الوليد لأنه رأى ميل الناس إليه ، هو المتعبد ، الزاهد ، المتنسك ، فوكل به صاحب شرطته فصار يؤذيه .

والتفت إلى الحزب القادري ، فبعث عيونه في كل مكان يترصدون أخباره ويخترقون تنظيماته ويقتلون أتباعه

ويرمون بالبقية في السجون والمعتقلات .

والعبادي يسطر القوانين والأوامر ، والوليد ينفذ .

وكان كلما أفاق من سكرته ، سأل عنه إلى كان يوما لا كبقية الأيام . يوم سأل فيه الأمير عن صفيه ، فما وجده .

وكأنما كان في ترقب هذه الساعة منذ بدء الخليقة ، فغضب كما لم يغضب من قبل وصاح بغلام كان واقفا على رأسه :

إأتني برأس القاسم بن الطويل العبادي يا سبرة .

ظل الغلام واقفا في مكانه لا يدري ما يفعل إلى أن فتح الأمير عينيه فوجده قائما كالصخرة الصماء فرماه بقارورة فارغة أدمته . وألح في طلب رأس العبادي .

نظر الغلام وراء الستر فرآني أتابع ما يدور بينه وبين الأمير ، فطلب مشورتي . لكنني تعاميت عنه وعن مشورته لأنني في دخيلة نفسي أكره هذا العبادي كرها شديدا لما رأيت من ملازمة الأمير له واستماعه لمشورته دون العالمين ، فتحركت في نفس الغلام الشهوة إلى الدم ، فذهب يطلب رأس الفريسة .

وجده في حانة غير بعيدة عن القصر يسكر مع جماعة من أصحابه ، فاستل سيفه من غمده ، وببرودة القاتل المحترف وضعه على رقبة الرجل واحتز رأسه ، ثم وضع الرأس في طست ، والدم مازال يشخب منه وترك بقية الجثة في مكانها ومضى في حال سبيله أمام دهشة الجميع . فمن يقدر على الكلام مع غلام أمير المؤمنين ؟

عندما وصل سبرة القصر ، كان الأمير نائما ، فوضع

 

الطست أمام سريره ، وعاد يقف في مكانه ، إلى أفاق من نومه فسأله عن العبادي فأراه الغلام الطست برأسها الملطخة بالدم .

كانت العينان المفجوعتان بالموت المفاجئ تبحلقان في وجه الأمير برعب اندهش له وأفجعه . فسأل عن الخبر ، فعرفه الغلام ما جرى ، فندم على ما فرط منه . ثم قام واقفا وانهال برأسه على حائط المجلس إلى أن سال منه الدم غزيرا . وطلب سبرة ، فهرب منه . وألح في طلبه ، فلم يجد له أثرا . فدخل مقصورته وهو يردد :

– والله لا أبالي متى جاءني الموت بعد الخليل ابن

الطويل .

ونام مع كوابيسه حتى المساء .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يوم القصاص .

 

صباح هذا اليوم ذهبنا إلى المقبرة . كان الجو كئيبا جدا ، فقد هطلت الأمطار بغزارة لم نعتدها في هذه المدينة ، وعصفت رياح شديدة اقتلعت في طريقها حتى الأشجار المعمرة من عهد الرومان . ونزل البرد كثيفا ، مما أخر موكب دفن الأميرة ” سلمى ” ، زوجة أمير المؤمنين الوليد بن يزيد .

سلمى الجميلة تذهب هكذا بدون استئذان وترحل على القصر ، والقصر في أشد الحاجة إليها .

تذهب سلمى لتترك الوليد لفاجعة أخرى لم يحسب لها حسابا . فاضطربت أحوال القصر وصاحبه اضطرابا شديدا لأنها كانت زهرة بستانه وعندليب أغصانه . فهي الملاذ الأخير الذي كان الأمير يعود إليه كلما أغلقت في وجهه أبواب الرحمة .

لكل هذا رفض الأمير تقبل التعازي فيها .

قال : سلمى لم تمت ، فلا تتعبوا أنفسكم في تقديم العزاء

 

 فيها .

وعاد إلى القصر على قدميه . وما أن وصل حتى نادى

رئيس الشرطة وقائد الحرس الأميري ، وقائد جند الخليفة ، ومجموعة كبيرة من الجواسيس ، وطلب منهم وصوته يعلو

شيئا فشيئا مهددا متوعدا أن يأتوه حالا ب”الموت “.

لا يهم ” قال لهم ، جيئوني به حيا أو ميتا .

ابحثوا عنه في كل مكان ،

في شقوق المقابر ،

فوق أسرة المرضى ،

داخل القبور ،

في عيون الأطفال المحتضرين ،

تحت عكاز شيخ ،

في سيف الجلاد ،

بجانب حبل المشنقة ،

تحت أسوار المقبرة ،

المهم أن تجدوه وأن تعودوا به إلى القصر ، مهانا ، مكبلا بالأغلال والأصفاد .

ثم وضع رأسه فوق كفيه ، واتكأ بمرفقيه على خديه ، وأجهش بالبكاء .

فبكى كل من كان في القصر .

ولم يهدأ البكاء والعويل إلا عند منتصف الليل .

فما أتعسك يا أميري وما أتعس حالك هذه الأيام .

قبل سنوات ، عندما كانت أيامك زاهية ، وأنت ولي

 للعهد ، طلقت أختها ” سعدة ” ، فأغضبت بطلاقها الأقربين من أهلك . ثم سعيت إلى ” سلمى ” ، شقيقة لروحك كما كنت تقول .

عشقتها من النظرة الأولى حين جاءت تزور أختها

 ” سعدة ” في قصرك ، فعلقها قلبك وتمكنت من شغافه . وترقبت موت أبيك لتسعى إليها سعي التقي إلى ربه والمؤمن إلى معبده .

جعلتها قبلتك وصليت نحوها ، فشغلتك عن صلاتك الأخرى . وصرفتك عن صيامك وحجك ، فطفت بها ساجدا راكعا .

حولتها يا مولاي إلى كعبة ، كالكعبة .

وما كنت تشبع من حبها أبدا .

ترقص لك الجواري ،

 ونغني لك المغنيات ،

ويطبل لك المطبلون ،

ويزمر لك المزمرون ،

ويضحكك المهرجون ،

ولكن نظرة واحدة من ” سليمى ” تساوي كل هذا ، وتزيد .

عندما طلقت ” سعدة ” ، وهي من هي مكانة ورفعة على العالمين ، قلت :

– هذا الفؤاد لا يتسع للأختين .

واخترت ” سلمى ” ، فردك أبوها .

قال لك معنفا ، وعمك أمير المؤمنين ” هشاما ” يحرضه عليك :

– أتريد مني أن أجعلك فحلا لبناتي ؟

 

ثم أضاف :

– والله لن تشم صخابها يا ولد .

فقلت له :

ومن يك مفتاحا لخير يريده

               فإنك قفل يا سعيد بن خالد .

وعدت تطلب ” سعدة ” ، فنفرت منك وتزوجت عدوك وابن عمك بشر بن الوليد لتزيد في عذابك . وهجت إلى مدينة رسول الله حتى لا تطالها يدك .

وتركتك لأحزانك ،

 تشرب الخمر ، فلا تسكر .

وتنظم فيها الأشعار ، وتبكي …

ولا من يرحم بكاءك وتحنانك .

ما أشقاك يا أمير المؤمنين : عذاب عمك هشام ينخر

 قلبك ، وذكرى سعدة تذبحك ، وحبك لسلمى لا يبقي ولا يذر . حتى أنك قلت ، وقد اشتدت عليك ضربات اليأس :

– أنت طالق بالثلاث يا سلمى لو تزوجتك بعد موت عمي

 هشام .

ثم تعود عن يمينك .

 تبحث لك عن أعذار وفتاوى ، فتجد من يفتيك في أيمانك ويجد لك آلاف الأعذار .

فتطمع في رؤيتها والنظر إليها ولو من بعيد .

أذكر مرة كيف بلغك ” عيونك ” أنها في زيارة لقصر

والدها بالفدين قريبا من دمشق . واستعلمت عن والدهافقيل

 

لك أنه خارج القصر .

فقلت لي : هيا بنا لعل ربك ييسر لي لقياها .

وبعث لك ربك بائع زيت ، فأبدلته ثيابك بمسوحه وحصانك بحماره ، ودخلت القصر تبع الزيت وتنادي :

من يشتري زيت هذا الفقير ؟

لمن أبيع قلب هذا المعنى ؟

فعرفتك سلمى ، وطردتك الجواري .

فربحت ، وأنت الخاسر .

ثم يموت هشام ، فتشرق لك شمس الهناء وتحوز سلمى في قصرك سلطانة على عرش قلبك .

 ولكن الموت يخطفها منك …

فخسرت وأنت الرابح .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يوم المؤامرة .

 

أخيرا اجتمع زعماء ” الحزب القادري ” في المنزل الذي كان على ملك صالح بن سويد ، وتباحثوا في الأمر

طويلا .

قال واحد منهم إن الوليد عند حسن ظننا به ، فلم يطلق الأسرى ، ولم يكف عن ملاحقة أتباعنا ، ولم يعدل بين العرب والموالي . بل فعل أكثر من ذلك ، فقد مد يده

 ل” حزب الجبر” ، وعاد لسيرة أجداده . وإنه لم يتبع خطى مولانا ” غيلان ” إلا يوما واحدا ، ثم حاد عن الطريق القويم . لهذا وجب قتله ، فلن ينفع سكوتنا عنه في شيء .

ودامت الخصومة بين أصحاب هذا الرأي وحزب ” العميان والبرصان والمجذومين والعرجان ” طويلا . فدافع أتباع هذا الحزب عن الإامتيازات التي تحققت لهم في هذا ” العهد السعيد ” ، عن طيبة قلب ” أمير المؤمنين ” ، وكيف أنه لم يدع واحدا منهم للفقر والخصاصة ، ومتعهم بمن يقود خطاهم في ظلام الأبدية الطويل . وأكدوا أنهم سيقفون كالأسوار العالية المنيعة في وجه من تخول له نفسه الأمارة بالسوء بالاقتراب من سيدهم .

وأنهى زعيمهم مداخلته بنشيد وطني يمجد خصال الخليفة ، الوليد بن يزيد .

ورأى البقية أمام بداية تصدع ” جبهة الخلاص والإنقاذ ” أن لا فائدة من مواصلة الحديث ، فتواعدوا على لقاء آخر وفي نيتهم نقل الاجتماع إلى مكان ثان لن يقدر العميان على الوصول إليه . وشددوا على أن لا يحضره سوى الأعضاء العاملين في ” الحزب القادري ” .

فكان لهم ما أرادوا :

اتفقوا على الثورة على الأمير الفاسق الذي خان وصايا مولاهم ” غيلان الدمشقي “. واختاروا من بينهم وفدا طلبوا منه الاتصال بالأمير الثائر ” يزيد بن الوليد ” على أن يكون هذا الأمير غطاء يحكم من ورائه الشعب نفسه بنفسه ، خاصة بعد أن تيقنوا أنه يعتنق مذهبهم ويقسم بخروجه من ملة الإسلام إن لم يساو بين العرب والعجم والعبيد

 والموالي .

وصار الظن يقينا بعد أن زار الوفد الأمير خلسة ، فوجد أنه يعلق فوق رأسه صورة للخليفة العادل ” عمر بن عبد العزيز ” . فبدأوا من يومها في الدعوة ليزيد بن الوليد ،

وفي تكديس السلاح ، وفي شراء ذمم الناقمين والغاضبين والعبيد وكل من يقدر على حمل السلاح .

ونشط الخليفة الوليد بن يزيد في مقاومتهم ، فبث عيونه في كل مكان ، وشدد الحصار على يزيد بن الوليد ، وأرغمه على الإقامة في بيته ، ومنع عنه الزيارة ، وفكر في إعدامه بتهمة التآمر على أمن الدولة كما نصحه بذلك خلياه ” القاسم العبادي ” قبل وفاته .

ولكن مشيئة ربك كانت لها وجهة أخرى .

وهل الإنسان غير ذلك العبد المسكين الذي لا حول له ولا قوة أمام إرادة الرب القاهرة ؟ على رأي أصدقاء دولتنا وفقهاء أمتنا أصحاب ” حزب الجبر ” .

فقد اجتاح الطاعون عاصمة الخلافة ، فأهلك خلقا كثيرا . وخاف الأمير من هذا الوباء ، فهرب من دمشق . وتشتت أولاد مروان في كل مكان من بلاد الشام ، فاستغل أنصار ” الحزب القادري ” هذه المحنة للقيام بعملية انقلابية على الخليفة .

و كان لهم ما أرادوا ، بعدما جيشوا الجيوش وحرضوا على قتل أمير المؤمنين .

ولم يكتفوا بالقتل ، فقد تحدثت الإشاعات هنا في دمشق على أن واحدا من الانقلابيين أدخل رأس سيفه في أست

الأمير .

ثم نصبوا مكان الخليفة ” الوليد بن يزيد الأموي ” ،

 ” يزيد بن الوليد الأموي ” .

ولله الأمر من قبل ومن بعد .

ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خبر من كتاب ” الكامل في التاريخ “

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وثيقة شعرية

 

دعوا لي سليمى والطلاء وقينة   وكأسا ألا حسبي بذلك مالا

إذا ما صفا عيشي برملة عالج   وعانقت سلمى ما أريد بدالا

خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم     ثباتا لا يساوي ما حييت عقالا

وخلوا عناني قبل عير  وما  جرى      ولا تحسدوني أن أموت هزالا

 

الوليد بن يزيد الأموي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

… فلما دخل القصر ، وأغلق الباب ، أحاط به عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ، فدنا الوليد من الباب وقال :

– أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء : أكلمه ؟

قال يزيد بن عنبسة السكسكي : كلمني .

قال : يا أخا السكاسك ، ألم أزد في أعطياتكم ؟ ألم أرفع المؤن عنكم ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ ألم أخدم زمناكم ؟

قال : ما ننقم عليك في أنفسنا ، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم

 الله ، وشرب الخمر ، ونكاح أمهات أولاد أبيك ، واستخفافك بأمر الله .

قال : حسبك يا أخا السكاسك ، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت ، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت .

ورجع إلى الدار ، وأخذ مصحفا فنشره يقرأ فيه وقال :

يوم كيوم عثمان .

فصعدوا على الحائط ، وكان أول من علاه ، يزيد بن عنبسه ، فنزل إليه ، فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه . فنزل من الحائط عشرة منهم منصور بن جهور وعبد السلام اللخمي والسندي بن زياد بن أبي كبشة  . فضرب السندي الخليفة على وجهه ، ثم احتزوا رأسه

 

وسيروه إلى ابن عمه يزيد بن الوليد .

فأتاه الرأس وهو يتغدى ، فسجد .

وحكى له يزيد بن عنبسه ما قاله للوليد . وأن آخر ما سمع منه :

” الله لا يرتق فتقكم ، ولا يلم ثعثكم ، ولا تجتمع كلمتكم . ”

فأمر يزيد بنصب رأسه . فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة :

– إنما تنصب رؤوس الخوارج ، وهذا ابن عمك وخليفة ، ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ويغضب له آل بيته .

فلم يسمع منه ، ونصبه على رمح فطاف به دمشق . ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد . فلما نظر إليه قال :

– بعدا له . أشهد أنه كان شروبا للخمر ، ماجنا ، فاسقا ، وقد أرادني في نفسي .

وكان سليمان ممن سعى في أمره .

وكان مع الوليد ماك بن أبي السمح المغني وعمزو الوادي المغني أيضا ، فلما تفرق عنه أصحابه وحوصر قال مالك لعمرو :

– اذهب بنا .

فقال عمرو :

– ليس هذا من الوفاء ، نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل .

فقال مالك :

– والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد فبلي وقبلك ، فيوضع رأسه بين رأسينا ويقال للناس ، انظروا من كان معه في هذه الحال ، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا .

فهربا …

وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة .

 

وكانت مدة خلافته سنة وثلاث أشهر ، وقيل سنة وشهرين واثنين

وعشرين يوما .

وكان عمره اثنتين وأربعين سنة ، وقيل قتل وهو ابن ثمان وثلاثين

سنة ، وقيل إحدى وأربعين سنة ، وقيل ست وأربعين سنة .

والله أعلم  .

 

 

الكامل في التاريخ

المجلد الخامس

 ابن الأثير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لعنة المحراب .

 

 

 

 

 

– 10 –

 

أفاق عالم الآثار من نومه مساء ، تمطى كقط هرم ، ثم اغتسل وأكل وجبة طعام ، وجهز نفسه من جديد للسهرة ، وبعث يستقدمني .

حين وصلت سألني كالعادة عن سير العمل وعن اكتشافاتنا الجديدة ، فأعلمنه أن كل شيء يسير على أحسن ما يرام ، وأن الحفر داخل المسجد يكاد ينتهي ، وأننا دعمنا حائط المحراب بخشبات خشية انهياره .

شد الرجل على يدي مشجعا وطبطب على كتفي هاشا باشا في وجهي ، فتشجعت وأعلمته أن العمال بدأوا في المطالبة بأجورهم التي تأخرت كثيرا . فقال ‘نه سيذهب قريبا إلى تونس ، وأمرني بتجهيز قائمات بأسماء العاملين في المشروع مع التنصيص على الغيابات باليوم والساعة .

فوعدته خيرا وهممت بالمغادرة ، لكنه استوقفني بإشارة من يده .

رأيت في عينيه تعبا ، وعلى وجهه ارتسمت علامات إرهاق شديد لكنه ما كان يشتكي ، بل بالعكس ، كان يكابر ويخفي تعبه وإرهاقه .

قال :

– أ لن تشاركني سهرتي هذه الليلة ؟ لقد أعددت لك مفاجأة سارة .

كنت أظن قبل حديثه هذا أنه سيحكي عن مخطوط

” صاحب الستر ” . لكن الرجل لم يتطرق لهذا الموضوع بتاتا مما أدخل على نفسي كثيرا من الراحة والاطمئنان ، فقد رتبت أموري وأحضرت أجوبة عن أسئلته التي توقعت أنه سيطرحها علي . لكن الله كفاني وكفاه شر السؤال .

قلت له بأن لي شغلا في الليل يتطلب حضوري الأكيد ، وبأنني سأكون عنده حال الانتهاء منه .

فلم يلح كثيرا ، وطلب مني أن أغلق باب السقيفة وراءي برفق .

ولم أزره في تلك الليلة ، فقد كثرت مشاغلي وتعددت ، فنسيت موعده إلى أن كان مساء الغد .

حين وصلت أمام الدار ، وجدت الباب مغلقا على غير عادته ، فدققته عدة مرات إلى أن جاء يفتح لي الباب .

رأيت على وجهه ارتباكا وشممت في ثيابه رائحة الكتب القديمة . ولم يكذب حدسي فقد أعلمني أنه كان بصدد تصفح المخطوطات التي عثرنا عليها في صندوق الجامع .

وأدخلني الدار ثم عاد فأغلق الباب بالرتاج وهو يلتفت التفات الجاني .

 

وبدون مقدمات طلب مني أن أرتب له جلسة مع ” للا فاطمة ” .

قال إنه يريد أن يراها قبل الذهاب إلى تونس ، وإنه حلم به أكثر من مرة في الليالي السابقة ، وإنه سمعها البارحة وهو بين اليقظة والنوم تناديه وتستغيث به .

قلت ” هي مريضة هذه الأيام ، وربما لن تفهم عنها شيئا حتى وإن قابلتها .

قال ” لا عليك . استشرها في الأمر واسمع ردها قبل ـن تعود .

وأحسست كأن الرجل يختلق سببا لطردي ، فقمت مغادرا منزله ولكنني لم أذهب مباشرة لمنزل ” للا فاطمة ” وإنما قصدت المقهى ، فتحدثت مع الأصدقاء عن أخبار العالم ، وعن العودة القريبة إلى الجامعة ، وعن تحضيراتنا لاستقبال العام الدراسي الجديد . وتذاكرنا قصص  الحب والغرام . وشربنا أكثر من قهوة ، ثم غادرتهم إلى

المنزل .

في الطريق ، تذكرت طلب عالم الآثار ، فعرجت على منزل العجوز .

كان الوقت حوالي منتصف الليل . وكان باب العجوز هرما مثلها . فهو عبارة عن قطع من خشب النخل المصقول والمشدود إلى بعضه البعض بعوارض من لوح شجر

 

المشمش بواسطة مسامير طويلة .

دفعت الباب ، فأز وخشخش . وذهبت إلى الدار الشرقية التي تحبذ العجوز النوم داخلها لأنها أبرد بيوت المنزل صيفا ، فوجدتها صاحية .

حين عرفتني ، سلمت بحرارة وهي تجلس على فراشها وتطلب مني أن أشعل قنديل الزيت مشيرة إلى طاقة في الجدار .

أشعلت عود ثقاب ، فرأيت القنديل القديم قدم التاريخ ، وامتلأت الغرفة بضوء خافت ، هادئ هو ضوء الزيت المشتعل في الفتيلة . وران على الغرفة سكون ورهبة ،

إلى أن قالت العجوز :

– لماذا لم يخضر معك صديقك ” عالم الآثار ؟

فرددت على تسآلها ضاحكا :

– لقد طلب الإذن لمقابلتك .

فضحكت بدورها وهي تردد :

– أإلى هذا الحد صرت مهمة عند صاحبك ؟

وعادت تتكئ على الحائط وتهمس :

– أطلب منه أن يسرع في الوصول وإلا فإنه لن يجدني صاحية لو أبطأ بعض الشيء .

ثم أضافت بعد وقت قصير :

– إنني لم أمت إلى الآن من أجله .

 

لقد ترقبته كل هذا الوقت فاسأله أن لا يفسد ما قدرت

الآلهة .

وعادت ، فغابت عن الوعي .

حينما أفاقت ، كان المؤذن يرفع صوته مناديا المؤمنين لصلاة الصبح فقالت :

أمازلت هنا ، أطفئ القنديل يا ولدي واذهب لتنام . ولا تنس موعدي مع صاحبك غدا .

لا تنس الموعد يا ولدي .

وأغمضت عينيها ، ونامت ….

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 11 –

 

 

قمت باكرا ، فأنا ما نمت تقريبا ،فكأن منبها يدق في الصدر عوضا عن القلب .

عند السادسة بالضبط ، دق المنبه بصوت ثقيل أوجع دماغي ، فقمت وذهبت إلى دار عالم الآثار . وجدته في انتظاري ، فقصصت عليه ما جرى البارحة مع العجوز .

رأيت البشر يعلو محياه ، وسمعته يقول :

قم بنا إليها ، سنذهب لزيارتها هذه الساعة .

وأغلق أبواب البيت بالمفتاح ، وهي من عاداته الجديدة . إذ كان قبل اكتشاف الصندوق لا يأبه كثيرا لما في البيت من أثاث ورياش . ولكنه تغير بعد هذا الاكتشاف . فكأنك أخرجت من بين ثيابه رجلا آخر يكاد لا يشبهه في شيء .

وذهبنا إلى منزل ” للا فاطمه ” الزنجية .

كانت العجوز صاحية وقد تعطرت بذلك النوع من العطر الذي ما شممت له مثيلا إلا في دارها .

عطر هو مزيج من الحناء والقرنفل والجاوي الأسود

 

والسواك والزعفران ، لا تتعطر به العجوز إلا في ساعات

فرحتها القصوى .

نادت العجوز عالم الآثار ، وطلبت منه أن يجلس بجانبها على الفراش . وهمست في أذنه ببعض الكلمات .

رأيته يبتسم ويربت على كتفها الهزيل ، ثم رأيته يرفع يدها إلى فمه ، فيقبلها .

فمررت العجوز يديها الاثنتين على شعره ووجهه ، وباركته بكلام من لغة الزنوج .

فقال ، وهو ينظر في عينيها :

– لن تموتي قبل أن يرقص لك الزنوج رقصة الموت

يا خالة .

أعدك وعد شرف بهذا .

وانصرفنا .

وكانت العجوز تبارك خطانا ، ونحن نغلق وراءنا الباب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 12 –

 

 

في الطريق ، ونحن عائدان إلى البيت ، طلب مني عالم الآثار أن أحدثه عن ” سيدي مرزوق العجمي ” .

قلت له ‘نه واحد من الأولياء الصالحين المعدودين في بلاد الجريد ، وإنه زنجي من إفريقيا السوداء وصل الجريد مع قافلة محملة بالعبيد والتبر وعاج أنياب الفيل .

وعن له أن يستقر هنا ، فخدم في زاوية سيدي ” أبي علي السني ” سلطان أولياء الجريد الذي كان أيامها في حرب مع الخوارج الأباضية الذين كانوا مسيطرين على هذه الديار .

وذات مرة لم يجد مرزوق حطبا لتسخين ماء الوضوء لشيخه ، فأشعل النيران في رجليه ومدها تحت القدر .

في تلك الأثناء مرت واحدة من بنات ” السني ” ، فرأت النيران تأكل رجلي الرجل ، وهو منهمك يهوي عليها حتى يزيد أوارها فذهبت تخبر بما شاهدت .

ومن يومها صار ل ” مرزوق ” كراماته ، فطلب منه سيدي ” أبي علي السني ” أن يستقل بزاويته .

ورفض مرزوق اقتراح شيخه ، وتشبث بخدمته ، لكن

 

الشيخ أصر على استقلال تلميذه بنفسه والخروج من

زاويته .

ولم يجد ” مرزوق ” بدا من ذلك ، فأخرج من تحت جبته عصا من الآبنوس كان قد أحضرها معه عندما كان ساحر قبيلته في إفريقيا .

ورمى العصا ، فطارت . صار لها جناحان من ريش لم ير له مثيلا طارت بهما ، ولم تحط على الأرض إلا عندما أشار لها ” مرزوق ” بذلك .

حطت العصا على بعد عدة كيلومترات من زاوية

” السني ” ، فبنى العبيد هنالك زاوية لهجوا فيها بذكر سيدهم ” مرزوق العجمي ” سلطان عبيد الجريد .

وزادوا ، فكانوا يقرأون القرآن في النهار ويصلون صلوات المسلمين ولكنهم كانوا في الليل يسبحون تسبيح الزنوج ويرقصون رقصات صاخبة على أنغام الطبلة والشقاشيق .

قال لي عالم الآثار بعدما انتهيت من حكايتي :

– سنذهب هذا اليوم في زيارة لزاوية سيدي مرزوق ، فقد وعدت العجوز بإقامة ” حضرة “في بيتها لترقص وتغني مع الزنوج .

فرددت عليه بأن لا مانع عندي .

وذهبنا سوية إلى الزاوية .

 

 

 

 

– 13 –

 

 

 

 

قابل عالم الآثار شيخ الطريقة وشرح له الموضوع ودفع له لفافة من الأوراق النقدية ، فوافق على إقامة ” الحضرة ” في منزل العجوز .

و لكنه اشترط أن نشتري تيسا أسود أقرن ، وباطية ” لاقمي ” من خمرة نخل الجريد المعتقة ، وكمية من الدقيق  وخضرا وغلالا . وأن نحمل كل هذه المشتريات إلى منزل ” للا فاطمة ” لأن نساء الزاوية سيصلن بعد منتصف النهار بقليل للقيام بشؤون ّ الزردة ” .

فوفرنا ما المستلزمات التي طلبها ” شيخ زاوية الزنوج ” وحملناه على عربة وعدنا إلى دار العجوز .

وجدناها قد جهزت نفسها . اغتسلت بالماء والصابون . واكتحلت . ومضغت السواك . ولبست الكسوة التي جاءت بها من ” تمبكتو ” . وأشعلت نارا كبيرة في وسط الدار ورمت فيها كثيرا من البخور وأعواد أخرى لها رائحة طيبة ، ثم فتحت باب الدار وسيعا للزوار .

بعد منتصف النهار بقليل ، وصلت نساء زاوية ” سيدي مرزوق ” . كن ثلاث زنجيات ، عجفاوات ، ليس من السهل تحديد أعمارهن . لكهن انهمكن بسرعة عجيبة في

إعداد ” التكرة ” ، فخلطن الدقيق بالماء وأضفن إلى العجين نقاطا من سائل يحملنه في قوارير صغيرة ، فاحمر العجين في الحال وتغير لونه إلى الأصفر الفاتح . ثم وضعنه على نار هادئة إلى أن صار عصيدة كعصائد عيد المولد النبوي ، فأفرغنه في قصعة كبيرة وهن يتمتمن بكلام غير مفهوم ويهمسن فيما بينهن ، ويزمزمن كزمزمة المجوس .

بعد ساعة من الزمن ، سكبت العجائز على الخليط الزج

” لاقمي ” الباطية الذي تخمر في الشمس حتى صار مسكرا .

ووصل الزنوج إلى دار العجوز ، فوضعت النساء أمامهم قصعة ” التكرة ” ، فانهمكوا في التهامها ، وهم يتخاطفون العصيدة السخنة بأصابعهم الطويلة .

ثم شربوا بقية الخمرة حتى لم يبق منها شيء ، وحمدوا

الله ، وأقعوا على مؤخراتهم تحت الحائط في ترقب محموم لشيخ الطريقة الذي وصل بعد صلاة العشاء ، فطلب التيس وزينه بشرائط بيضاء وحمراء وصفراء . وزاد ، فألصق على شعره كثيرا من قطع البلور اللماعة والودع والخرز الملون ، ثم قرع طبلة معلقة على صدره وساق التيس

 

أمامه وخرج يطوف في شوارع القرية متبوعا ببقية

الزنوج .

طافوا في كل أزقة القرية يجمعون التبرعات والهبات للزاوية ، ثم عادوا إلى منزل العجوز ، فأوقفوا التيس الذي أنهكه التعب في حلقة وداروا حوله ، وجعلوا يقرعون طبولهم بعنف شديد ويشقشقون بواسطة قطع من الحديد مربوطة بأيديهم وهم يدورون والتيس يدور معهم ويرقص رقصة الموت .

رقصوا هذه الرقصة العجيبة إلى أن أصاب الإعياء

الجميع . ساعتها خرجت ” للا قاطمة ” من الدار تحمل في يدها مدية طويلة يلمع نصلها وهو ينعكس على أشعة شمس الظهيرة .

تقدمت بخطى ثابتة إلى أن اقتربت من حلقة الرقص ، فأوسعوا لها طريقا مرت منها باتجاه التيس .

ربطت العجوز المدية بخيط في عنقه ، ثم شدنه من قرنيه فجعل يرصع عاليا وهي تتثبث به حتى لا يسقطها أرضا . واشتد قرع الطبول والدوران حولهما ، فأصاب التيس الإعياء والعجوز ثابتة كالطود لا تتزحزح من مكانها إلى أن بدأ التيس يترنح . وقبل أن يسقط على الأرض ، استلت العجوز المدية وغرزتها في عنق التيس مرة أولى ثم استلتها وعادت تغرزها من جديد بعنف في الجرح الذي

 

أحدثته الطعنة الأولى .

فار الدم قانيا وسال على يدها وعلى وجهها ولطخ ثيابها وثياب القريبين منها من رجال البنكة . ومشى التيس خطوات ، ثم هوى على الأرض فوق الرمال الحارة ، فلحست العجوز نصل المدية من الجهتين ورمتها على الأرض ، وعادت إلى غرفتها .

ولم يصبر رجال البنكة إلى أن تفرق الحياة التيس ، فارتموا عليه وهو يحتضر ويخبط الأرض بحوافره ، وراحوا يمتصون الدم النازف من الجرح الغائر ويلحسون أيديهم الملطخة بالمتخثر منه .

واختار جماعة منهم أن يأكلوا بقايا الدم المبارك المتيبس على الرمل .

كان هؤلاء الرجال وأولئك قد تحولوا إلى مردة من الجان يسيل العرق من جلودهم الملساء ويقدح الشرر من عيونهم الملتهبة بنار الوجد ، فيصرخون صرخات الأبالسة ويرتمون على الأرض يتمرغون فوق رملها ، ثم يمدون الأيدي لجمرات النار فيأكلون منها أكل الصغار للحلوى ، و” للا فاطمة ” من مكمنها في الغرفة تراقب الجميع

وتبتسم .

ظل الحال هكذا ، إلى أن وصل ” شيخ الطريقة ” ، فخلص التيس من الأيدي التي تعلقت به ، ثم وضعه على قطعة

 

خشب كبيرة وانهال عليه بالساطور فقطع اللحم ورماه كتلا داخل قدر كبيرة ارتفعت فوق ثلاث صخرات من الحجر الصوان . وأضافت العجائز إلى اللحم الماء والخضر ووضعن ” الكسكاس ” فوق القدر وأشعلن النيران وهن يهزجن ويغنين . وامتزج غناء الزنجيات بصياح أطفال الحي وهتافات الرجال إلى أن حل المساء .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 14 –

 

في المساء ، أكل ضيوف ” للا فاطمة ” الكسكس واللحم حتى شبعوا ، وحمدوا الرب ، وبدأ الرقص على ضربات طبول الزنوج الكبيرة .

وخرجت ” للا فاطمة ” وقد تزيت بزي عجيب و غريب

” بو سعدية ” ، صاح الأطفال حالما رأوها ، فقد لبست صدرية من ريش النعام غطت بها نصفها العلوي ، وغطت النصف الآخر بجريد النخل والسعف اليابس والليف . ووضعت فوق رأسها طرطورا طويلا ألصقت به قطعا من البلور الملون ، وأخذت في يدها اليمنى ترسا من الجلد وفي اليسرى رمحا طويلا .

وبدأت ترقص .

رقصت بجنون .

رقصت بخفة الشباب .

رقصت بإتقان الشيوخ .

رقصت بحكمة الكهول .

رقصت بمجون الغواني .

رقصت بخفر العذارى .

رقصت بتهور الشجعان .

 

رقصت كما لم يرقص أحد قبلها .

رقصت كما لن يرقص أحد بعدها .

أكثر من ساعة والرجال يدقون على الطبول وهي ترقص وتترنم بأهازيج زنجية وتخبط الأرض برجليها وتطعن بالرمح أعداء لم يرهم أحد غيرها وتتقي بترسها سيوفا نسمع لها صليلا ونرى لمعانها في ظلام الليل . وترقص وتهزج أهازيج فيها حزن وألم كبيران  إلى أن هدها

التعب ، فسقطت على الأرض .

تقدم نحوها ” شيخ الزاوية ” ورشها بعطر أخرجه من

جيبه ، فأفاقت . فتحت العجوز عينيها وأدارتهما في كل الاتجاهات كمن يبحث عن فقيد  .

وحين حاول الرجال إعادتها إلى بيتها لم يقدروا .

وعادوا يحاولون من جديد ، ولكنهم كانوا يفشلون في كل المرات إلى أن اقترب منهم صديقي ” عالم الآثار ” ، فمد يده بخجل وقال :

– اتركوني أجرب معكم لعلي أفلح .

مد يده إلى اليدين ، فجاءتا طائعتين . وناداها فردت على ندائه ، فاحتملها في حضنه كمن يحتمل طفلا صغيرا ووضعها على فراشها .

قالت له وهو يضع الوسادة تحت رأسها :

– لقد ترقبتك كل هذه المدة .

 

ترقبتك ألف سنة أو يزيد ، وما مت إلى أن وصلت ، فهل وجدت أمانتك في الجامع ؟

قال وهو يربت على كتفها بحنان الولد الرؤوف :

– نعم يا للا ، لقد استخرجنا من تحت أرضية المحراب صندوقا به مخطوطات كثيرة .

قالت وهي تشد على يده بلطف :

– هي مخطوطاتي ، أعطانيها رئيس القافلة التي جاءت من

” تمبكتو ” وديعة قبل موته وقال لي ، احتفظي يا فاطمة بهذا الصندوق لرجل سيأتي لهذه الديار بعد ألف سنة . رجل يحمل في رأسه عقلا ويسكن في قلبه كثير من الدراويش .

إذا جاء يا فاطمة ، سلميه الصندوق ولا تخافي .

فقال لها :

– لقد وصلت الأمانة إلى أهلها ، فنامي مطمئنة .

فردت العجوز الغطاء على وجهها ، ونامت كما ينام الأطفال .

 

 

 

 

 

 

 

– 15 –

 

في الصباح ، باكرا قبل طلوع الشمس ركب صديقي ” عالم الآثار ” إلى العاصمة . حمل معه قائمة بأسماء العملة في مشروع ترميم الجامع وصندوق المخطوطات وحرك محرك سيارة ” الأندروفر ” ، وتوكل على الله .

وفي مساء ذلك اليوم وصلني هاتف من تونس .

كان على الخط صوت امرأة لم أتبينه مليا في أول الأمر ، ثم اكتشفت بعد جهد جهيد أنه صوت زوجة عالم الآثار التي عرفتها حين جاءت تزور زوجها في أول عهده بالقرية . كانت تبكي بحرقة وهي تطلب مني الحضور في الوقت والساعة .

قالت إن زوجها أصيب في حادث مرور إذ انقلبت به السيارة في الطريق الرابطة بين القيروان وتونس ، في المنعرجات الجبلية القريبة من مدينة الفحص ، وأكدت أن الطبيب المداوي لزوجها يرغب في رأيتي لأنه وهو يهذي على سرير المصحة ذكر اسمي أكثر من مرة من جملة أسماء أخرى كثيرة . وقالت إنه يهذي بتيس مذبوح ورقصة الموت و” للا فاطمة ” ، ويقول ‘ن لعنة المحراب حلت بروحه . وترجتني المرأة مرة أخرى أن أحضر إلى

 

تونس في الحال .

رأيت من وراء دموعها صديقي عالم الآثار ممددا على سرير المرض ، فامتطيت حافلة الليل الذاهبة رأسا إلى العاصمة .

عند الساعة الثامنة صباحا ، كنت أمام المصحة الخاصة .

قدمت نفسي لممرضة التقيتها أمام الباب ، فقادتني إلى غرفة صديقي .

كانت زوجته جالسة أمام سريره .

عندما رأتني ، مسحت دموعها بكفها وقامت تسلم علي .

وقفت جامدا أمام السرير إلى أن جاء الطبيب ، فحياني بوجهه الجامد وطلب مني أن أتبعه إلى مكتب عمله .

عندما وصلنا المكتب ، أغلق الباب وراءنا وطرح علي عدة أسئلة حول حياة ” عالم الآثار ” في القرية ، وعلاقاته بالناس ، واتصالاته  بالمسؤولين عن أحوال الدنيا والدين ، فأجبته بما أعرف وخرجت .

وعدت أقف أمام سرير الرجل .

كان جسمه موصولا بآلات مختلفة ، وكان ينام هادئا إلا أنه كان يتمتم بين الفينة والأخرى بكلام غير مفهوم .

إلى أن هممت بمغادرة المصحة ، فهمست في أدن زوجة عالم الآثار أسألها عن صندوق المخطوطات .

 

 

ردت مدهوشة :

– ماذا … ؟ صندوق …؟ مخطوطات … ؟

وأضافت بعد قليل :

– لم نجد في سيارة ” الأندروفر ” سوى هذه الأوراق .

وأخرجت من حقيبة يدها قائمة في أسماء العاملين في مشروع ترميم الجامع .

 

أم العرائس / قفصة / تونس

من 15 08/1997

إلى 24/03/1998 .

 

  dargouthibahi@yahoo.fr

 

 

 

 

 

 

 

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

جمر تحت الرماد او الوصية

جمر تحت الرماد أو الوصية “رواية قصيرة” فى مستشفى الرماد بمصر الجديدة ,حجرة العناية المركزة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *