من الشخصيات السياسية الأميركية والعالمية التي عرفها القرن العشرون، ولعبت دوراً جوهرياً في السياسة الدولية هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق، الذي ترك بصماته على العديد من الملفات الكبرى من فيتنام إلى الشرق الأوسط.
وسيرة حياة هنري كيسنجر، هي موضوع الكتاب الأخير للمؤرّخ البريطاني نايل فيرغسون، أستاذ التاريخ منذ سنوات في جامعة هارفارد الأميركية. وسيقوم بتقديم هذه السيرة، التي استغرق عمله فيها طيلة عشر سنوات كاملة، في مجلّدين. المجلّد الأول يتجاوز عدد صفحاته 1000 صفحة، وعنوانه: «كيسنجر، المثالي 1923 ــ 1968».
ولا شك أن التوصيف الذي يستخدمه المؤلف في عنوان هذا الكتاب، مثير للدهشة وللاستغراب، حيث إن اسم هنري كيسنجر مرتبط في الأذهان بذلك السياسي والدبلوماسي الذي رفع باستمرار راية «السياسة الواقعية»، البعيدة عن المثالية، في معالجته لمختلف الملفات.
تجدر الإشارة أن فيرغسون يتعرّض في هذا المجلّد الأول من سيرة كسنغر، للفترة الممتدة من سنوات التكوين الذي تلقاه في المدارس والجامعات، وحتى تعيينه مستشاراً لدى الرئيس الأميركي الأسبق ريشارد نيكسون. ويشير المؤلف أن من التوصيفات التي سادت عن كيسنجر في أجواء إدارة نيكسون «ذلك الأستاذ ذو الشعر الأجعد واللكنة الغريبة».
بهذا المعنى يعود المؤرّخ ــ المؤلف في هذا القسم إلى فترة الجذور في سيرة «هينز الفرد كيسنجر». ذلك انطلاقاً من فترة بدايات تكوينه التربوي في أحد البيوت اليهودية المختصّة في ألمانيا. ويذكر أن أسرته كانت قد هربت من ألمانيا النازية عام 1938 للإقامة نهائياً في الولايات المتحدة الأميركية.
خدم هنري كيسنجر في صفوف الجيش الأميركي، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ثم تابع دراساته في جامعة هارفارد، حيث أظهر الكثير من الكفاءات التي لفتت انتباه القائمين على تلك الجامعة. ويولي المؤلف اهتماماً كبيراً لدراسة الأطروحة التي كتبها كيسنجر، تحت عنوان «معنى التاريخ». ويشير إلى تأثره الكبير بأفكار «وليام ياندل اليوت»، المصنّف آنذاك بين «المثاليين» جامعة أكسفورد.
تجدر الإشارة أن فيرغسون يولي اهتمامه الرئيس في كتابة هذا القسم من سيرة حياة هنري كيسنجر للمسألة الفكرية في تكوينه. لكن هذا لا يمنع من اهتمامه بجوانب حياته الأخرى. هكذا يشير إلى رسالة كتبها للفتاة التي أحبها عندما كان في السادسة عشر، واسمها «اديت». وكان ينافسه عليها صديقاه «كورت» و«اوبوس»، حيث كان الثلاثة يتوددون لها.
مثل تلك الطريقة في الممارسة والعمل «سراً»، دون معرفة صديقيه، وجدت أصداءها في طريقة عمل كسنجر، بعد أن أصبح رجل الدولة الشهير. لكن مؤلف هذا الكتاب..
ورغم اعترافه أن دافعه لكتابة تلك الرسالة، كان «غيرة سن الشباب»، لا يرى أنها تأخذ أهميتها من خلال ما تكشفه من صفات «غير حسنة» في شخصية كسنجر، وفي عمله العام طيلة حياته. لكن بالأحرى، من حيث ما تحتوي عليه من«دقّة في التحليل ومن عمق على الصعيد النفسي، البسيكولوجي».
وهذه الدقة والعمق، يجد فيهما المؤلف بعض سمات شخصية هنري كيسنجر. كما كانا بعض ركائز تفكيره الاستراتيجي. ذلك من حيث القدرة على تحليل مجموعة من العلاقات المتشابكة، وفهم خلفية المصالح التي تتعارض أو تتنافس، وكذلك إدراك أهمية موازين القوى.
ولعل من أهم نقاط قوّة وتفرّد هذه السيرة لهنري كيسنجر، أن المؤلف يملك امتياز إمكانية الاطلاع على الأرشيف الشخصي لصاحب السيرة. ومن خلال مثل هذه الميزة، يجد القارئ مجموعة من المسائل التي يتم الكشف عنها للمرّة الأولى.
هكذا مثلاً، يكشف المؤلف عن خطابات كان كيسنجر قد كتبها لعدد من السياسيين الأميركيين. ومن بينها مسودة خطاب كان قد حرره لنيلسون روكفلر عام 1963، عندما كان حاكماً لولاية نيويورك، وكان كسنجر قد «تخلّى عن العمل في الوسط الجامعي للعمل كمستشار لدى روكفلر». ذلك على خلفية ولعه بالسياسة منذ سنوات شبابه.
كان الخطاب المعني مكرّساً لإلقائه من قبل روكفلر، بمناسبة اغتيال «نغو دينه دييم»، الدكتاتور في جنوبي فيتنام آنذاك. لقد أدان كسنغر في ذلك الخطاب بشدة، عملية الاغتيال، الأمر الذي يرى فيه المؤلف خلفية لمصداقية توصيف «المثالي»، كما جاء في عنوان الكتاب.
ومما كتبه كيسنجر في مسودة ذلك الخطاب ليلقيه حاكم نيويورك: «لقد أطاح انقلاب عسكري شجّعت عليه إدارتنا ــ الإدارة الأميركية ــ بحكومة بلد حليف لنا. ويؤسفني أن أرى بلادي تشارك في استخدام غير أخلاقي للسلطة. إن قوتنا تكمن في المبادئ التي نحملها ونعمل بها، وليس في التلاعب بها».
ويضيف: «إن شرف الولايات المتحدة وأخلاقيتها، يفرضان عليها إقامة علاقة بين الغاية والوسائل. ودورنا التاريخي كان باستمرار متماهياً مع المبادئ والتطلعات الأكثر عمقاً في الإنسانية».
لكن المؤلف نفسه، يعدّل من هذا التوجّه المكتوب أمام دروس الواقع والإشارة، أن نيكسون ومستشاره كيسنجر، قررا معاً قصف كمبوديا بالقنابل في حملة عسكرية سريّة، استمرّت أربع سنوات، وذهب ضحيتها حوالي 100000 من المدنيين الكمبوديين. وكانت الأوامر التي أعطاها كيسنجر للجنرال ألكسندر هيغ، تنص على «قصف كل ما يطير وكل ما يتحرّك».
وكتاب عن سيرة حياة هنري كيسنجر، تأتي لتعيده لدائرة الاهتمام العام من جديد. هذا في الوقت الذي انحسرت صورته و«تأثيره» كثيراً لدى الأميركيين بصورة عامّة. هذا، ولو كان بعض السياسيين يطلبون استشاراته من وقت إلى آخر.
كانت مثالية كيسنجر بعيدة عن المثالية التي نادت بها مبادئ الرئيس الأميركي «ويلسون». إذ لا شك أنه لم يكن في صفوف المناضلين الأشدّاء من أجل استقلال الأمم وحريتها. ما يؤكّده كاتب هذه السيرة أن كيسنجر «لم يكن واقعياً بالدرجة التي تقال عنه». وبهذا المعنى بالتحديد كانت «مثاليته النسبية». بكل الحالات يرسم المؤلف لكيسنجر صورة رجل سياسة متمسّك ببعض الأخلاقيات التي يصنّفها في خانة القيم الغربية. ويبيّن أنه كان مناهضاً باستمرار لـ «استخدام البلدان الصغيرة كبيادق» في لعبة الاستراتيجيات الكبرى.