الرئيسية / قصة قصيرة / رجل محترم جدا

رجل محترم جدا

مضى الآن أكثر من عشرين عاما على آخر زيارة لي لهذا الشارع . أنا الآن في الأربعين . رجل محترم . رجل محترم جدا . ولست أدري أي شيطان ركب رأسي وقادني إلى سوق زرقون * . الكتب مازالت كعهدي بها مكدسة على قارعة الطريق .كتب باللغة العربية : الشيخ العارف أبي عبدالله محمد بن أبي بكر علي النفزاوي يعرض كتاب الروض العطر في نزهة الخاطر ، ويحكي علنا بصوته الطنان عن المحمود من النساء والمكروه من الرجال . عن كيفية الجماع وعن مضراته . عن مكائد النساء ، وعن الأدوية التي تسقط النطفة من الرحم . عن أسباب شهوة الجماع وعما يقوي عليه .

   وابن شداد يصيح : حصاني كان دلال المنايا …

   و رأس الغول مقسوم إلى شطرين . وسيف علي بن أبي طالب ما زال يقطر من دمه .

  وكتاب دلائل الخيرات .

  والمنفرجة : اشتدي أزمة تنفرجي * قد آذن ليلك بالبلج

 ومسجلات تصرخ بمدائح عن مولد الرسول :

عطر اللهم قبره الكريم * بعرف شذي من صلاة وتسليم * اللهم صلي وسلم وبارك عليه .

وديوان المتنبي مخطوطا بالحرف المغربي الأنيق ، وبماء الذهب :

وما المجد إلا السيف والفتكة البكر * وتضريب أعناق الملوك * وأن ترى لك الهبوات البيض * والعسكر المجر * وتركك في الدنيا دويا …

وبين القصرين والسكرية وقصر الشوق . مبروك يا نجيب محفوظ .ولن أقول مع القائلين بأن ملك السويد توجك بتاج نوبل لأنك باركت كامب ديفد ، وصفقت للسلام مع إسرائيل .

وكتب مبلولة بماء المطر .

وكتب صفراء تفوح منها رائحة الجراد الميت .

وكتب حمراء تحمل صور لينين حزينا مهموما .

وكتب باللغة العبرية من بقايا يهود تونس ، سافر أصحابها ونسوها هنا .

 ربما للذكرى .

وكتب إيطالية ومالطية .

وكتب فرنسية : روايات وأشعارا .

وكتب تاريخ : نابليون بونابارت أمام اهرامات الجيزة .

ولويس الرابع عشر يجادل وزراءه .وثوارال89. والملكة الرقيقة تقذف الرعاع بالبسكويت من فوق شرفات القصر . وديدرو ومنتسكيو وفولتير .

 وأبحلق بعيون كثيرة في المقصلة التي ذبحت الملك .

 وأقوم أساوم البائع . أدفع له الدراهم وأتأبط رزمة الكتب .

ولعن الله هذه المسجلات وأغانيها الهابطة التي حرمتني من الاستماع إلى تحية أصدقائي تأتي خافتة من تحت إبطي . من وسط رزمة الكتب : شكرا يا رجل لقد تناسانا الخلق هنا . كنا نموت مرتين في العام ، بردا في الشتاء وحرا في الصيف ولكن ها نحن كما ترى في صحة جيدة .

قال لينين : لقد داس على عنقي رجل ملتح وسبني . وقال لأصحابه دوسوا على هذه الجيفة . لقد شفي غليلي عندما رأيت كتبه في الزبالة في سان بطرس بورغ وصوفيا وتيرانا . سأعود غدا لأشتريه وأحرق جثته أمام المسجد .

شيء واحد لم يتغير في هذه الأسواق : إلحاح الباعة المتجولين :

-خذ هذا السروال بعشرة دنانير يا سيدي .

– لا أريده .

– خذه بخمسة فقط .

– لا .

– خذه ببلاش يا..

– قلت لك لا .

– يلعن أبو والديك .

يقولها ويتركني ليصطاد زبونا آخر .

وأواصل السير داخل دهاليز السوق .

ويصدمني بائع آخر يعرض أمامي سلعا مهربة : ساعات من ايطاليا وشفرات حلاقة مدموغة ب صنع في إسرائيل وراديوهات وأشرطة كاسات للفيديو وسراويل دجين ….

وأهرب من وجهه فيلح . وأقول إنني لا أملك نقودا ، فيكاد يفتش داخل جيوبي . وأحمد الرب لأنه قبض على زبون آخر . وأهرب فتصدمني روائح البخور والند والحنة وعود القماري القادمة من هناك ، من شارع سيدي عبد الله قش *.

عشرون سنة مرت على آخر زيارة لي لهذا الشارع . وأنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا .النساء طوع بناني . بنات الأوتيلات الفاخرة ، والملاهي . أشير بإصبعي فتأتي بلقيس إلى طاولتي . فماذا جاء بي إلى هنا ؟ 

وتزمجر أشرطة الكاسات :

– حبيبي يا صحابي جاني * من بعد الفراق هناني **

– فأتذكر : قالوا زيني عامل حالة * ما لا لا

بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .

وأرى الصالحة أمام باب الماخور ، تهز ردفيها وتحرك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرحمان :

– بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .

وأصعد وراءها درجات السلم واحدة واحدة . وعيناي تنبحان ككلب شرس .

وصاحبتي تهرب من العيون الكاسرة . وتضرب الباب برجليها بعدما ألج الغرفة :

بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .

ماذا جاء بي إلى هنا ، وأنا الآن رجل محترم جدا ؟ 

 

 

*****

روح يا ولد القحبة .

وتلوح في وجه الطفل بعصاها .

طفل .

وعصاها .

وولد القحبة .

وقهرمانة واقفة بالباب .

روح يا فاسد الله يلعن والديك . أولاد آخر زمن . على عهدنا كان الرجال يهابون سطوة هذا الشارع .

هذا بابها .

ها هنا كنا نرقص .

وتغمز بعينيها

وتبيع لمن يشتري .

وكنت دائما أشتري . في الربح وفي الخسارة . ولا أتذمر .

أطلب منها أن تغني ، فتغنيني :

أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل *

أم القد طويل * وزينك ما ريتو في جيل * آ صالحة .

فأدفع الثمن وأهرب . وتناديني ، وأهرب .

وتتعرى من ورق التوت ، وأهرب .

وأقول لها : لن أعود أليك مرة أخرى ، وأعود

وأضرب الدف ، فترقص ، وتغني :

قدك بابور * صالحة

عوام بحور * صالحة

عوام بحور * ورسى على تونس بالليل * آ صالحة

وأضرب الدف . وأقول : بكم أشتريك يا صالحة ؟

فترد : بدينار واحد يا صاحبي .

وأضع الدف فوق السرير . وأهبط درجات السلم واحدة واحدة . وأضع يدي أمام فمي على هيئة بوق ، وأصيح : لن أعود إليك مرة أخرى يا صالحة .

فترد ضاحكة : حاول ، وإذا نجحت شريت لك نزل أفريكا .

 

*****

روح يا ولد القحبة …

وتنغرس في أذني هذه الكلمات كالمسامير. وترتبك خطواتي .ويحمر وجهي . ولا أدري ماذا أفعل .

يا ولد القحبة …

ويقفز من أمامي طفل يحمل رزمة أغطية للرأس ، فولارات ، ذات ألوان زاهية . يصدمني في اندفاعه ، فأكاد أسقط على الأرض .

 يعتذر الطفل : هذه القهرمانة ترفض دفع ثمن مشترياتها .

التفت حيث يشير الطفل ، فأراها . ويندفع الغناء في أذني رخيما كشدو البلابل :

شارد بهواك * صالحة

وانت مابطاك * صالحة

نخطب باباك * ونعزمله في نصف الليل

لكان اعطاك * انحطك في جيبي ليمين * آ صالحة .

وأنظر إلى المرأة . القوادة الواقفة أمام باب البيت .فوق آخر درجة . كانت تحمل في يدها عصا من البلاستيك وتلوح بالعصا في كل الاتجاهات .

رأيت نظارة طبية فوق أرنبة أنفها . فسويت ملابسي ، ومشيت .

هذه العين السوداء التي تطل من وراء النظارة ، أعرفها .

وأمشي …

هذه العين التي تذبح كالمدية ، أعرفها .

وأمشي  …

البيوت على جانبي الطريق مفتوحة الأبواب . واللحم معروض للفرجة . وأكداس من الرجال أمام الأبواب يتفرجون على امرأة تعرض نهديها .

وأمشي …

صاحبتي كانت دائما ترسم خالا على خدها الأيمن ، فوق الشفة العليا . وتلك القوادة ، الواقفة بالباب ، هل كان لها خال ؟

وأمشي …

أنتبه إلى أرجل المارة حتى لا أدوسها .

وأمشي …

ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق ، ويئز الباب وراءه . وتصيح مطربة بأغنية ماجنة . وتنبح الكلاب بين أفخاذنا.

وأمشي …

صاحبتي لم تكن تضع نظارة طبية فوق أنفها .

ووسع ولد القحبة … اترك الطريق للمارين …

يتفرق الشباب من أمام الأبواب . يتركون المكان والحسرة تأكل قلوبهم . ويتكدس مكانهم رجال آخرون .

وأمشي …

ويمشي معي الطريق …

وأجدني من جديد أمام باب القهرمانة التي جرت وراء الطفل ، بائع أغطية الرأس .

أرى الخال على صفحة الخد ، فيقرع قلبي طبول الفرح . وأتعرف على العينين اللتين تذبحان كالمدية .

وأنا الآن رجل محترم .

رجل محترم جدا .

وهذا الخال عزيز على قلبي .

وأمشي …

وينشي معي الطريق …

ما كنت وقتها أضع ربطة عنق .

ما كنت ألبس البدلات الفاخرة .

ما كنت مترهلا .

وبطني ، ما كان بها هذا الكدس الكبير من اللحم والشحم .

كنت أكره الرجال ذوي البطون السمينة . وأسبهم أمامها وأقول لها : سآتيك يوما بشواء من مؤخرة رجل سمين . فتضحك وتقول : سأطعمك من هذا اللحم مع كؤوس الجعة . فأعضها من عنقها الطويل . وأمص شفتيها . فتبكي وتقول : سآكل معك من لحوم الرجال السمان .

وأعود مرة أخرى أتثبت في العينين اللتين تذبحان كالمدية .

هي الآن تحكي مع بنت . حلوة كالشهد هذه البنت التي تحكي معها . اقترب منهما . تنظران نحوي . ليس من عادة الرجال المحترمين جدا الذهاب إلى هذا الشارع مادامت السلعة معروضة في الأنزال الفاخرة . أسلم عليهما . تردان السلام . أدخل . تدخل البنت ورائي . تتعرى البنت .وأجلس على حافة السرير .

 ما اسمك يا بنت ؟

– ميمي يا سيدي  .

 – ومن أسماك ميمي يا بنت ؟

– للا الصالحة يا سيدي .

– من ؟

– للا الصالحة يا سيدي .

وتدق أجراس كل كنائس العالم في رأسي ، فأموت جالسا على حافة السرير . وتهدهدني البنت ، فأبعث من جديد شابا في العشرين من عمري .أمرغ وجهي في وجه صالحة ، فتمسح دم الجرح النازف فوق الحاجب  الأيمن، ومن الفكين ،وداخل شعر الرأس .

تقول : ستهلك نفسك يا صاحبي . أنا لا أفهم في السياسة ولكنني متأكدة من أنها ستقتلك .

وترشني بماء الكونوليا . وتقبلني . فأموت بين يديها . وتحييني من جديد هزات السرير .

*****

تعرفت عليها عندما فرق البوليس مظاهرة كنت مشاركا فيها . انطلقنا من ساحة الباساج نلوح بالأيدي وبالأعلام الحمراء . ونهتف بسقوط أمريكا ، والأمبريالية العالمية ، وروجرس ، وفك الارتباط على قناة السويس . ونهتف بالنصر لثوار الفيت كونغ ، وهوشي منه ، وغيفارا ، وكاسترو .

طفنا بشوارع باريس ، ومحمد الخامس ، والحرية ، والحبيب بورقيبة . وعندما وصلنا إلى شارع فرنسا فرقنا البوليس . وجرى وراءنا . فهربنا داخل شوارع المدينة العتيقة . جرينا وجرى البوليس وراءنا .

وامتدت العصي الغليظة تضرب .

والأيدي تضرب .

ومؤخرات البنادق تضرب .

وسال الدم .

 وطارت الخراطيش الفارغة في الهواء . وزدنا في سب جونسون ، فزادت شراسة البوليس .

وامتلأ الجو برائحة القنابل المسيلة للدموع . وضاقت بنا السبل .

وجدت نفسي محاصرا ، فاندفعت باتجاه نهج زرقون . جرت الكلاب ورائي ، فجريت أسرع منها . سمعت نباحها خلف ظهري . وتصورت أنيابها الحادة تنغرس في مؤخرتي . فجريت … وجريت … وجريت ، إلى أن رأيت العيون التي تذبح كالمدية .

 نادتني : تعال هنا أيها الهارب .

لوحت بيدها ونادتني : تعال هنا أيها الهارب .

ووصلت الكلاب فلم تجد سوى الأبواب الموصدة .

نبحت الكلاب كثيرا ، وبالت على الحيطان ، وعادت أدراجها تلهث .

عندما غاب نباح الكلاب ، خرجت من عند المرأة شكرتها كثيرا ، وبست يدها ، وغادرت المكان .وجدتني في شارع سيدي عبدالله قش .

مادا سيقول عنك الرفاق يا رجل لو رأوك تخرج من عند هذه المرأة ؟

ماذا ستقول لهم وقد كنت قبل حين تهتف بسقوط أمريكا ؟

ماذا ؟ وماذا ؟ وماذا ؟ ماذا ستفعل ؟

وقررت الهرب . انسللت من شارع خلفي ، ولذت بالأنهج الضيقة إلى أن رأيت قرص الشمس يتدلى من سقف السماء . والمدينة مازالت تغلي … والناس يهرولون … وسيارات الشرطة ملأى بالشباب …وكلاب البوليس تنبح وتتبول على أرجل المارة ، فاندسست بين العابرين ، وعدت إلى مبيت الجامعة .

*****

 

– أين للا صالحة يا بنت ؟

– أمام الباب سيدي الكريم

– البطرونة يا بنت ؟

– نعم سيدي هي بعينها .

أهلكتني السياسة يا صالحة . أنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا . ألبس ربطات العنق الحريرية ، والبدلات الباريسية ، وأتعطر كالمومس ، وأجلس في الكرسي الأخير في السيارة المرسيدس .أجلس وراء السائق الذي ينزل دائما قبلي ليفتح لي الباب ويحمل عني الحقيبة . أمام الإدارة ، تستقبلني الابتسامات الكاذبة ، ويقف عند مروري العمال والموظفون . ويبوس رؤساء الأقسام أرجلي . ويمسي السعاة كالحجل أمامي وخلفي .يحملون لي القهوة والشاي . ويوشوشون في أذني كلاما كثيرا : سي علي يحكي عن الاضرابات . سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما . سي عبدالله هرب من الشغل قبل انتهاء الدوام . وفاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني .وخديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا . و… أهلكتني السياسة يا صالحة .

طلبت من البنت أن تنادي للا صالحة . وضعت فوقها بعضا من الملابس وخرجت . بعد دقائق ، وصلت صالحة .طلبت منها أن تجلس . حركت النظارة وتفرست في وجهي هنيهة ، وجلست على الكرسي ، أمام السرير .

قالت : طلبتني يا سيد ؟

وزغردت عصافير باب البحر في قلبي . هذا الصوت أعرفه . به بحة الآن . بحة الكبر وكثرة التدخين . والخال مازال في مكانه . هناك . فوق الشفة . تفرست في عنقها الطويل . به الآن بعض التجاعيد ، ولكنها لا تعيبه . أعطيت للبنت عشرين دينارا وطلبت منها أن تتركنا وحدنا . رقصت الفرحة في عيني الطفلة ، وخرجت ، فعدت إلى للا الصالحة . مازال بعض من فصل الربيع على وجهها . والدف مازال في مكانه ، فوق السرير ، على يمين الباب . مددت يدي . مسحت التراب من على جلده . ونقرت بإصبعي بعض النقرات الخفيفة . نطت الفرحة من عينيها ، فغنيت بصوت خافت :

أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل

أم القد طويل * وزينك ما ريتهو في جيل * آ صالحة

 

وقفت . نزعت النظارة وارتمت في حضني . هو أنت إذن يا ابن القحبة . قلبي قال : انك أنت وعقلي قال:    لا . فأنت تكره البطون السمينة . قل ، هل هذا اللحم والشحم لك وحدك ؟ وراحت تدغدغني في بطني السمينة ، وتخنقني بربطة العنق وهي تردد :

وتضع ربطة عنق حريرية يا خنزير . ترقب قليلا حتى آتي بالسكين من المطبخ . سأقطع بعضا من لحم مؤخرتك لأشويه ولتأكله مع الجعة .

 وتضحك . وأضحك . وأضعها في حضني ، فتفتح لي قلبها وتدسني فيه .

 

*****

كانت قد مرت بضعة أيام عن المظاهرة . وكانت جراح وجهي قد تماثلت للشفاء ، حين تذكرت المرأة التي أجارتني في شارع سيدي عبد الله قش . مرت صورتها في خاطري كالحلم الجميل .قلت ،: لماذا لا أذهب أليها وأشكرها ؟ خاصة وان كثيرا من رفاقي الدين اصطادتهم كلاب البوليس ما عادوا إلى الجامعة . اشتريت لها هدية صغيرة ، وذهبت . كان بابها موصدا . ترقبت حتى خرج زبون من زبائنها . سلمت  عليها ، ففتحت لي الباب  واسعا  ، ونظرت في جرحي ، وقالت : الحمد لله .

أعطيتها باقة الورد فباستني ، وبدأت تتعرى .

قلت : لا تنزعي ثيابك . لم أجئ لهذا .

ولماذا جئت إذن أيها الملاك الطاهر ؟

جئت لأسلم عليك .

أهلا وسهلا وألف ألف مرحبا .

 وأهديك هذه الورود .

مرحبا بالوردود وبروح الورود .

وتعرت كحواء يوم أكلت من تفاح الجنة . وتمددت على السرير .و قالت : تعال إلى هنا ، ولا تدفع ، فأنا أعرف أنك مفلس .

سال العرق على جبيني . عرق بارد . ودق قلبي كطبل يوم العيد . وهربت من الدار .سرت في أزقة المدينة العتيقة إلى أن تعبت … لماذا ذهبت إليها أيها الوغد ؟ هي قحبة وقد أغراها شبابك مادام جيبك فارغ . ألم تشكرها يوم المظاهرة فلماذا عدت إليها إن لم يكن طمعا في لحمها ؟ ألم تقل إن لها عينا تذبح كالمدية ؟ ولكنني ضد هذه التجارة . أنا لا أحتمل ركوب امرأة قتيلة . كيف أستطيع تقدير ثمن المتعة التي تبيعها ، وهي تموت ألف مرة مع كل هزة من هزات السرير ؟

 

*****

قالت : سنحتفل الليلة بقدومك .

 ونادت البنت . أخرجت أوراقا نقدية من جيبي وطلبت منها أن تذهب لتشتري لنا قوارير خمرة . طلبت منها أن تشتري ما يسكر سكان الماخور . وخرجت البنت .

 فعادت تقول :

 أما زلت تؤمن بإغلاق دور البغاء وتشغيل العاملات فيها في المصانع والمعامل التي ستحدثها الثورة ؟

قلت : لقد أفسدتني السياسة يا صالحة . بالله عليك لا تحيي هذا الجرح المندمل .

قالت : عشرون سنة ونحن نترقب اليوم الذي وعدتنا فيه بتحرير أجسامنا من مني الرجال السكارى والمرضى والمنبوذين .

أحسست بالسكين تغوص في اللحم الحي .وتذكرت الأيام التي كنت أحكي لها فيها عن ثوار الفيت كونغ ، وطلاب باريس ، والثورة الثقافية في الصين .

وكانت تضحك وتقول : أنا لا أفهم في السياسة يا صاحبي .

فأقول لها : ستفهمين بعد التحرير يا صالحة .

وها هي اليوم تعمل قوادة في ماخور .

وها أنا رجل محترم .

رجل محترم جدا .

 

بعد أن أعطيتها الورود ، وهربت من الدار كأنني راهب ، تسكعت في الطريق حتى كلت خطاي ،

وعاودني صوت امرأة الماخور أكثر من مرة :

تعال إلى هنا عندما تصير رجلا يا صاحبي .

ترددت كثيرا ثم عزمت على العودة إليها .

قالت بعدما أغلقت وراءنا الباب : لماذا تهرب مني يا صاحبي ؟

قلت : لأنني أريد تحريرك من مني الرجال .

قالت : متى ؟

قلت : عندما يتحرر الرجال .

قالت ومتى سيتحرر هؤلاء الرجال ؟ غدا ؟ أو بعد غد ؟

ثم دفعتني على السرير ، وأطعمتني من تفاح الجنة . فكدت أطير من اللذة .

قالت : ما رأيك لو أعلمك ضرب الدف وأرقص لك وحدك ؟

 قلت : وهل تظنين أنني سأعود إلى هنا مرة أخرى ؟

قالت : ستعود …

وكررت بإصرار عجيب : ستعود حتما .

وتعطل عقلي . أدخلته الثلاجة ، وأغلقت عليه الباب بسبعة أقفال . ورميت بما جاء في الكتب في البالوعة . وهمت بها وجدا .

قال عني الرفاق إنني مرتد عندما اكتشفوا ترددي على شارع البغايا . ولم ينفعني ادعائي الجنون .

كانت صاحبتي قد علمتني ضرب الدف حتى أتقنت الصنعة . ورقصت لي وحدي . رقصت وغنت . وأغلقت بابها في وجوه الزبائن الآخرين ….

وأفقت ذات يوم وهي تطلب مني أن أفي بوعدي ، وأحررها من مني السكارى والمراهقين .

قلت : كيف ؟

ردت : تزوجني . عندي ما يكفينا لبناء حياة جديدة .

 

*****

عادت البنت بقوارير الويسكي ، وذهبت إلى المطبخ تشوي اللحم ، فتمددت على السرير . جاءت صالحة وجلست على الحافة فقمت أليها ووضعت رأسي في حجرها ، وأغفيت إلى أن جاءت البنت باللحم المشوي وبكؤوس صغيرة فوق صينية من الفضة . وتركتنا وغادرت البيت . ملأت صالحة كأسينا  فضربنا نخبينا .

 وقالت : في صحة ثوار الفيت كونغ .

فقلت : في صحة طلاب باريس .

وتبادلنا كؤوس المدام إلى أن أظلمت الدنيا واشتعلت أضواء فوانيس الكهرباء .

قالت : ما رأيك لو تضرب لي قليلا على الدف ؟

قلت : لا مانع عندي .

أمسكت الدف بين ركبتي وضربت : دم .تك تك تك .دم .فقامت ثملة . ربطت مؤخرتها بغطاء رأسها ، وبدأت ترقص . وضربت الدف ، وحركته في الهواء ، فأحدث خشخشة لذيذة .

فتحت الصالحة الباب ، ونزلت الدرجات واحدة واحدة وهي ترقص ، وأنا وراءها أضرب على الدف ، إلى أن وصلنا إلى الشارع .

جاءت البنت تجري . وجاءت نساء الشارع الأخريات . وجاء رواد الحي .

تحلق الجميع يتفرجون على المرأة  الكهلة التي ترقص على نغمات دف يضربه رجل محترم …

رجل محترم جدا …

 

 

إحالات على القصة :

 

1- سيدي عبدالله قش : عنوان شارع البغاء في المحروسة تونس العاصمة .

2- نهج زرقون : سوق الأنتيكات بتونس ، منه تصل مباشرة إلى الشارع المذكور آنفا .

3- حبيبي يا صحابي جاني : أغنية لمطربة تونسية اشتهرت في بداية تسعينات القرن الماضي .

4- قالوا زيني عامل حاله : أغنية للفنانة علية التونسية غنتها في سبعينات القرن الماضي .

5- أم القد طويل آ صالحة : أغنية لمطربة تونس الأولى الفنانة نعمة ، غنتها في ستينات القرن الماضي 

 

dargouthibahi@yahoo.fr

www.arab-ewriters.com/darghothi/

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *