هناك فئة من الموظفين الذين يتمتعون في صلب الدولة الفرنسية وبمختلف الوزارات الحكومية بدور مركزي فيما يتعلّق بإسداء الآراء والنصائح السياسية والاجتماعية وغيرها لرؤسائهم، ويهتمّون بصياغة نصوص القوانين وباقتراح التعديلات عليها وبالإشراف على عدد من الملفات الحساسة في مجال اختصاصهم. هؤلاء الموظفون هم الذين يطلقون عليهم توصيفا رسميا أنهم يعملون بصفة «مستشارين» لدى أصحاب القرار.
و«جمهورية المستشارين»، هو عنوان كتاب دافيد سينا، خريج معهد الدراسات السياسية في باريس والمستشار السابق خلال ثماني سنوات عمل خلالها في أربع وزارات فرنسية كبرى ليس أقلّها مكانة العدل والدفاع والداخلية، قبل إعفائه من منصبه. وهو يعود اليوم للحديث عن تجربة عمله وما عرفه خلالها من لحظات صعبة عبر هذا الكتاب.
ويشير أنه هو نفسه كان «ضحيّة» عملية من ذلك النوع تتعلّق بنشر صحيفة «لوموند» عام 2010 لمحضر جلسات «استجواب» باتريس دو ميتر، المسؤول عن تسيير ثروة ليليان بيتنكور، أرملة مالك شركة «أوريال وغيرها».
لقد ورد في التحقيقات اسم نيكولا ساركوزي، رئيس الجمهورية آنذاك، الذي طالب بالكشف عن هوية «الجاسوس». مؤلف هذا الكتاب ينفي كلياً حتى اليوم أن يكون هو وراء تسريب الخبر لوسائل الإعلام.
ويكرّس العديد من الصفحات لشرح العلاقات «غير المتوازنة» بين المستشارين والوزراء الذين يعملون لديهم. ويلخّص تلك العلاقة بالقول إن الوزراء يعملون باستمرار من أجل خدمة مصالحهم ودائما في منظور تحقيق طموحاتهم. لكن المستشارين هم مثل «مجنّدين» لديهم، حيث يعملون طيلة الوقت «24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع».
ولا يتردد المؤلف ــ المستشار السابق لدى عدّة وزراء في الاعتراف أنه اتسم في أحيان كثيرة بـ«بعض السذاجة» في النظر إلى آلية عمله وحتى في سلوكياته. والتأكيد أن المستشار يكون في أغلب الأحيان «في خدمة وزيره» أكثر مما هو في خدمة «قناعاته».
وينبّه في هذا السياق من خطأ شائع مفاده أنه يسود الاعتقاد لدى الرأي العام أن المستشارين لا يهتمّون سوى بالمسائل السياسية أو الأيديولوجية أو الملفات ذات الاهتمام العام. لكن الحقيقة هي في مكان آخر، إذ ليست قليلة هي الحالات التي يكون فيها المستشارون مجرّد «جنود صغيرين» يقاتلون من أجل خدمة المصالح والطموحات الشخصية لوزرائهم.
ويحدد دافيد سينا القول عن تجربته: «الحقيقة التي كان يقولها الوزير كانت بالضرورة هي الحقيقة التي أرددها وأقولها. ذلك من خلال مزيج من المجاملة والعماء كانا هما الخطأ الكبير الذي اقترفته خلال تلك السنوات التي أمضيتها في العمل كمستشار».
ومن خلال مجموعة من القضايا من نفس الطبيعة يشرح المؤلف آليات عمل الدوائر القضائية في فرنسا من موقع كان فيه القلائل يعرفون ما كان يعرفه من معلومات في «الكواليس»، كما يشير. والفكرة الرئيسية التي يكررها المؤلف بأشكال مختلفة أن المستشارين هم بمثابة «الفاصل الكهربائي» الذي يتلقى الصدمات و«يحترق»، بينما يمكن تبديله في أيّة لحظة.
ومن القضايا الأكثر إثارة للدهشة هي تلك التي وجد المؤلف نفسه ينتقل فيها من موقع المستشار صاحب النفوذ إلى جانب «المتهمين». ذلك فيما عُرف بـ«قضيّة فيزيونكس» الخاصّة بتزويد حوالي 700 مقهى بآلات للألعاب دون أيّة رخصة رسمية. وكانت تلك القضية قد وصلت أصداؤها إلى رئاسة الدولة.
في إطار التحقيقات حول تلك القضية أمضى المستشار حوالي 60 ساعة من التحقيق معه وعدّة ليال في زنزانة صغيرة بالقرب من متهمين بقضايا عامة. ويشرح كيف أخذوا منه ساعته قبل الدخول، وحيث لم يكن هناك ما يسد جوعه طيلة وجوده في «قاعة النظارة» لساعات سوى بعض قطع «البسكويت» وعلبة كرتونية صغيرة من عصير البرتقال.
انتهى ذلك كلّه بتبرئة المستشار من قبل القضاء بشكل كامل من أيّة مسؤولية. لكن تلك المغامرة «تركت آثارها العميقة» التي كان إخراجها والبوح بها عبر نقلها إلى الورق هو أحد الأسباب وراء تحرير هذا الكتاب، كما يشير مؤلفه. .
ويكرّس المؤلف صفحات كثيرة في هذا العمل لتوصيف طبيعة عمل المستشارين. ولا يتردد في التأكيد على الدور المركزي المناط بهم فيما يتعلّق بدراسة مختلف الملفات المكلّفين بها تبعا لاختصاصاتهم.
ذلك من جميع وجوهها ونتائجها وسياقها ووصولاً إلى صياغة مشاريع القوانين الخاصّة بها عندما يقتضي الأمر ذلك. وفي المحصلة يقوم الوزراء المعنيون بالإعلان والإعلام عنها و«يتحمّلون مسؤوليتها» أمام الرأي العام والسلطات العليا في الدولة.