دفعت الممرضة الباب ، وتقدمت نحو سريري تسبقها ابتسامتها الآسرة .
قالت وفرح الدنيا يقفز قفزا من عينيها :
– الحمد لله . أخيرا استيقظت . عندما جئتك بالغذاء منذ ربع ساعة كنت تغط في نوم عميق .
قلت وأنا أبحث في كل الاتجاهات :
– أين ذهب جاري ؟
ردت منفعلة :
– من ؟ جارك ؟
قلت ضاغطا على الحروف :
– نعم جاري . صاحب السرير المقابل للباب .
قالت وهي تضحك وتربت عن ظهري :
– آه . الصياد …
ونظرت مباشرة في عيني وابتسمت .
ثم ، وهي تخرج ، أضافت :
– سأعود بعد قليل . لا أحب أن أجدك نائما ، وإلا فلن تتغدى هذا اليوم .
( 2 )
لست أدري لماذا تبتسم هذه المرأة كلما سألتها عن جاري ، وتتهرب من نظراتي وتغادر الغرفة كمن تجري وراءه العفاريت . وقد كانت – في أيامي الأولى – تهوى الجلوس إلى جانب سريري لتحادثني طويلا عن تونس العتيقة ، عن روائح أسواقها ، وعن جامع الزيتونة ، وعن جامع سيدي محرز الذي شربت من مائه وتمنت أن تزوجها بركته واحدا من الأمراء ، يخطفها من أمام هذه المصحة الذي تعمل فيها ، وعن شواطئ الحمامات التي رمالها كالدر ، وعن الألمان الذين جنوا بها ، فغازلوها بين موجة وموجة ، ورغبوا فيها هي السمراء طويلة القد أسيلة الخد ، بارزة النهد ، وعن غابات عين دراهم وعن طبرقة الخانسة تحت الجبل كعروس مغناجة . كانت تحدثني عن رحلة الصائفة الفارطة التي زارت فيها تونس ولا تمل . وتتهرب من عملها في باقي الغرف . وتحتمل من أجل ذلك توبيخ رؤسائها ونظرات الريبة والشك من زميلاتها ووشوشاتهن عن هذه الممرضة التي تعشق مريضها حد التوله . ثم تغيرت فجأة . ولم يبق من حدبها علي واعتنائها بشؤوني وشوقها إلى لقائي سوى تلك البسمة الممزوجة بالحنان واللطف .
ولم أدر أن سبب هذا الفتور في علاقتنا هو جاري في الغرفة . جاري الصياد …
( 3 )
جاري الصياد ، جاء إلى هذه الغرفة بعد وصولي إلى المصحة بأسبوعين . كنت قبل مجيئه قد خضعت لعملية جراحية كادت تذهب بحياتي ، فقد صدمتني سيارة رجل مهم . رجل من أهل البلاد ، فتكفل بمداواتي في هذه المصحة الراقية وبدفع أتعابي والسهر على سلامتي .
قال حتى تخرج إلى الدنيا رجلا جديدا .
تعبت كثيرا خلال الأيام الأولى ، لكن أحوالي تحسنت عندما عرفت مليكة التي دسها الرجل المهم في المصحة لتعينني على الجلوس ، وعلى الأكل ، وعلى الذهاب إلى دورة المياه ، وعلى نسيان الألم والغربة .
وذات يوم ، وقد دنوت من الشفاء حتى صرت أرى أبواب الخروج قاب قوسين أو أدنى مني ، جاء جاري إلى الغرفة . جاء تقوده ممرضة . تمسك به بيد ، وتضع يدها الأخرى وراء ظهره . انتبهت إلى العصابة التي تطوق رأسه . كانت عصابة مبقعة بالأحمر القاني . ولم أعرف إن كانت هذه البقع بقايا دم أم دواء .
قالت لي الممرضة المرافقة له :
– سلم على جارك وشجعه ، ستجرى على عينيه عملية جراحية بعد أيام .
سلمت عليه ، وقدمت له نفسي بكل أدب وتهيب ، فحرك رأسه يمنة ويسرة وقال :
– هل ما زالت الحدأة تحلق في سماء المدينة ؟
قلت ، وأنا أحاول اكتشاف ما وراء الشباك :
– لا أرى حدأة ولا زرزورا .
فرد منفعلا :
– كفى مسخرة أيها القرد . اغلق الشباك فأنا لا أطيق جريان الهواء في الغرفة .
اغلقه جيدا حتى لا تعود الحدأة التي أكلت عيني إلى سمائي .
( 4 )
جاري الصياد رجل في الأربعين من عمره . له وجه شديد السمرة ، تطوقه لحية كثة ويتوسطه أنف قد من حجر وفم يفتر عن أسنان تشبه أسنان الحصان . عندما تمدد على السرير بدأ في الشخير ، و ظهرت بطنه الكبيرة كالجبل . رأيت داخلها خرفانا ترعى ورعاة يغنون وكلابا تجري هنا وهناك . وشممت رائحة اللحم المشوي . وسمعت ذئابا تعوي وهي تلعق من دماء فرائسها .
وعاد جاري إلى الشخير ، فامتلأت الغرفة برائحة فسائه وضراطه . وظل يشخر ويضرط إلى أن كدت أختنق فأحدثت ضجة مفتعلة جعلته يتململ في مكانه ، ثم يفز مذعورا ، صائحا :
– هل أحكمت إغلاق الشباك يا مغربي ؟
فقلت كالمتشفي :
– أظن ذلك يا مولاي .
فقال بهدوء هذه المرة :
– قم وتأكد من إغلاقه يا يرحمك الله .
وعاد إلى الشخير …
– 5 –
جاءت مليكة بالغداء . وضعته فوق طاولة صغيرة قرب سريري وخرجت . رفعت الغطاء عن الصحون فوجدت كدسا من الأرز الأبيض ولحما مشويا وسلطة وتفاحا وموزا
فقربت الطاولة من السرير . ووضعت مخدة كبيرة وراء ظهري . وبدأت في الأكل وأنا أحمد الله على السلامة . كنت مشغولا بالأكل حين جاءني صوته المؤنب :
– قل باسم الله قبل الشروع في الأكل يا مغربي .
فرددت عليه كالمتسائل :
– هل أقولها جهرا أم سرا ؟
فرد :
– كما تشاء ، ولكن قلها حتى لا تأكل معك الشياطين .
واستدرك بعد هنيهة :
– ويستحسن أن تقولها جهرا حتى تسمعك الملائكة وتكتبها في دفتر حسناتك الذي بيمينك .
حين رفعت اللقمة إلى فمي رأيت حدأة ترفرف بجناحيها وراء زجاج النافذة . بقيت اللقمة معلقة في الفضاء ، والحدأة تضرب الشباك بكل ما تملك من قوة ، بجناحينها والمنقار . وتعول عويلا مزعجا .
وجاري الصياد يصيح :
– لا تفتح الشباك يا مغربي وإلا أكلتني الحدأة .
– 6 –
قال لي ذات ليلة جاري الصياد وقد جافاه النوم سأقص عليك قصتي ، ولكن انسها حالما انتهي من القص . والله لو سمعتك ترددها ولو في قلبك لقطعت لسانك ورميت به للقطط الجائعة . هل سمعت يا مغربي ؟
فقلت : السمع والطاعة يا مولاي ،فقال :
دكاني في السوق كبير . أكبر من كل دكاكين المدينة . يعمل فيه خدم من الهند والسند ، فأنا لا أثق في العرب . جربتهم ، ولكنهم سرقوني . فقررت الاستغناء عن خدماتهم
وأولادي ما فلحوا إلا في تبديد أموالي في اللهو وفي معصية رب العالمين ، فقررت طردهم من رحمتي . وعولت على نفسي .
كنت أشرف على الدكان بعيني صقر عندما دخلت قلبي . داسته بأحذيتها هي وصويحباتها وقد جعلني شموخها أنتبه إليها . قامة مديدة كغصن البان ، وأرداف ثقيلة ، ووجه سبحان الخالق الباري .
التقطت قطعة من القماش الرخيص المستورد من الصين الوطنية ، وجاءت تدفع الثمن . عندما تكلمت عرفت في لهجتها أهل الشام . فقلت وأنا أفتح لها اليدين :
– مرحبا … يا هلا بعروس الشام …
باغتها كلامي فاحمر وجهها خجلا . ظلت واقفة لحظة ثم دفعت الثمن ، وخرجت يسبقها ارتباكها وحشمتها .
عندما ابتلعها زقاق جانبي ، ندمت كثيرا لأنني تركتها تمشي دون أن أعرف عنها شيئا . وما فرطت قبلها في امرأة تشهيتها .
ولكنها عادت بعد ثلاثة أيام .
جاءت هذه المرة مصحوبة بأولادها ، فقد سمعت بالتخفيض الكبير الذي أعلنته الجرائد والذي يخص ثياب الأطفال والنساء ، فجاءت تستغل الفرصة . ما كانت تعلم أنني أعلنت هذا الصولد لأجل عينيها ، وأنني قد أخسر بسببها الملايين .
كانت منهمكة في اختيار ما يلائم أطفالها ، عندما اقتربت منهم ، وسألت أحد الصغار :
– من أي بلاد الشام أنتم يا ولدي ؟
قال : من فلسطين
– من أين بالضبط ؟
– من يافا .
وجاءت بكدس الثياب . وضعته أمامي وتأخرت خطوتين .
قلت منفعلا ، والعرق ينز من جبهتي ومن تحت إبطي :
– يا هلا … يا ميت هلا بعروس يافا .
فردت على اندفاعي بعبوس :
كمكم أدفع ؟ من فضلك كم تساوي هذه الثياب ؟
رددت عليها ريالاتها بلطف هامسا :
– لا تدفعي شيئا . هذه هدية من صاحب الدكان إكراما لفلسطين الحبيبة .
وأردت مواصلة الحديث لكنها لم تترك لي فرصة للكلام ، فقد فتحت حقيبة يدها ، عدت كمية من الريالات وضعتها فوق الطاولة ، وخرجت …
فخرجت روحي وراءها . ولزمني هم وغم طول ذلك اليوم . فامتنعت عن الأكل . وأقمت صلاتي في غير أوقاتها . ونهرت من لم أنهره من قبل . ونمت نوم المجانين . أعلن عن شيء في المساء ، وأعمل بنقيضة في الصباح . وأولادي يكيدون لي كيدا مع أمهم وأعمامهم وأخوالهم حتى أعود إلى الرشد . ولكنني واصلت المشي في الغي . فقد كان الدكان يخسر كل يوم أكثر ، وأنا لا أنفك عن إعلان التخفيضات .
وكانت تجيء دائما إلى الدكان ، فأتغزل بها ، ولا أشبع . وهي ترفض الرد على غزلي ، ولا تلتفت لعذب الكلام ، إلى أن ضرب اليهود مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس .
جاءت يومها وحدها .
قلت في نفسي : هي فرصتك يا بن الكلب . فرحبت وسلمت كأحسن ما يكون الترحيب والتسليم :
– يا هلا … ياميت هلا بيافا وبعروس يافا …
فردت على كل هذه البشاشة والاندفاع باقتضاب شديد :
– ماذا تريد مني يا سيد ؟
قلت وقد انفتحت في وجهي أبواب السماوات والأرضين :
– وصالك يا روحي .
ردت ، وابتسامة لم أقدر حتى الساعة معناها :
– اليوم تطلب وصالي ؟ ألم تسمع بما فعل الصهاينة ؟
قلت ، وأنا أرى الأبواب تنغلق في وجهي الواحد تلو الآخر في فرقعة تصم الآذان :
– وماذا فعلوا ؟ هل أحرقوا قبر النبي ؟
سنبني لكم مقرا آخر لمنظمتكم الشهيدة يا سيدتي . أقسم لك أنه سيكون أفخم من السابق وأبهى .
وحدثتها عن حبي لفلسطين وكيف كنا نجمع القروش للمهجرين من ديارهم ، ونتبرع بالدم للمجاهدين . وكيف فرحنا بعائلاتهم التي جاءت إلى قريتنا للسكنى والاستقرار المؤقت حتى تحرير فلسطين ، كل فلسطين .
وتكلمت…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………. إلى أن هزني الضحك وأنا أروي لها كيف كنا نتخاصم مع جيراننا أطفال فلسطين ، فنعيرهم كلما اعتدوا على أحدنا بالضرب :
– روح من بلدنا يا …… فلسطيزي .
رأيتها ترفع يدها أن كفى . ثم تستجيب لطلبي باندفاع محموم :
– هيا بنا إلى حيث تريد ، فأنا الآن ملك يمينك . افعل بي ما تشاء .
باغتي ردها الإيجابي فارتبكت . ولم أعرف بماذا أجيب . فقالت :
– ما لك ؟ هل ندمت ؟
قلت ، وأنا أغطس في عرقي :
– ترقبي ساعة حتى أصلي المغرب وأغلق الدكان .
ترقبيني أمام باب المسجد الكبير .
ووجدتها أمام الباب في عباءتها السوداء ، فركبنا سيارتي الكاديلاك التي طوت بنا المسافة طيا بين السوق وعمارتي الجديدة التي خصصتها لأحبابي . وكنت في مسيرتي قد أحرقت كل الأضواء المعرقلة للعدو . ولم ألتفت إلى علامات المرور . وكدت أدهس شرطيا جاء يعترض طريقي . ووصلت وأنا ألهث كعداء المسافات الطويلة . نزالت قبلها ، وذهبت أفتح لها باب الرحمة :
– ادخلي برجلك اليمنى ، واذكري اسم الله وأنت تلجين الدار يا أميرتي .
ثم ذهبت إلى الحمام ، فاغتسلت وتنشفت وتعطرت وخرجت لها عريسا في ليلته الأولى . سبحان الخلاق . فخاصرتها وأنا أقودها إلى الحمام وأطلب منها أن تلتحق بي في بيت النوم .
تركت الجميلة في شغلها وشغلت جهاز التلفزيون ، ثم تكومت تحت الغطاء أترقب عودتها .
جاءت بعد وقت قصير .وجاءت معها صور العمارات المدمرة ، واللحم الآدمي المحروق ، والرؤوس المهشمة تحت الحجارة ، وصياح سيارات الإسعاف المزعج . والدم في كل مكان . فوق الإسفلت ، وعلى الجدران والحجارة .
أوقفت البث بضغطة عصبية ، ولعنت جد من اخترع التلفزيون .
عندما رفعت عيني في اتجاهها ، رأيت العجب العجاب . هل تصدق يا مغربي ؟
كانت امرأة يكسوها الريش تنظر نحوي بعينين صفراوين مدورتين . امرأة لها مخالب من الصلب ومنقار معقوف مخيف . رأيت يا مغربي امرأة كالحدأة ، أو حدأة في صورة امرأة . شيء مرعب يا مغربي . فماذا أنت فاعل لو كنت مكاني ، وامرأة كالحدأة ترتمي على وجهك . تأكل عينك اليمنى ، فاليسرى ، ثم تهجم على رأسك لتشرب من مخك ؟
قل لي بربك يا مغربي ماذا تراك فاعل ؟
حين هممت بالرد على سؤاله ، رفع في وجهي سبابة مهددة . وأمرني بالسكوت ، فرميت الغطاء على وجهي ونمت حتى الصباح …
– 7 –
قلت لمليكة وهي ترفع الصحون وتمسح الطاولة :
– أين ذهب جاري الصياد وميعاد العملية الجراحية لم يحن بعد ؟
قالت كالمستغيثة :
– إذا كنت ترغب في الذهاب إلى مستشفى المجانين ، فاسألني مرة أخرى عن جارك الصياد ، يا مغربي .
وتركتني للحيرة والتسآل .
ولكنها تركت لي كعادته في كل مرة طيف ابتسامتها العذبة مرسوما على زجاج شباك غرفتي المطلة على حديقة المصحة …
www.arab-ewriters.com/darghothi/