ـ ” أهذا أنت ؟ ”
.. كانت تقف أمام المرآة بينما يتشرّب جسدُها الضوء الأزرق السائل من المصباح . نظرتُ إليها .. إلى عنفوان ظهرها .. إلى ………/
شلالٌ هذا من عتمة شعرها انسدل فجأة .. فانكتمَ العريُ .
ـ ” أخيرا !! ” .. قالت .
رأيتُ صوتَها يتشكل مثلَ سحابةٍ من ذهب ../
وضعتْ مِشْبكَ شعرها بين أسنانها ، ولمعتْ كلماتُها المشوبة باللهفة :
ـ ” انتظرتُكَ طويلا ..”
تحركتُ صوبَ السـرير .. كان جبلٌ من جليد يتقرفص بـين الأغطية المزهرة ، جلســتُ على حاشيته ،
.. ونظرتُ إلى المرآة ، كانت يدُها ـ هناك ـ تعقصُ بمهارة خصلةَ شعرٍ .. أو تسوِّيها بالمشط .. لم أرَ عينيها ..!
بي رغبة شديدة في إشعال سـيجارة . بحثتُ في جيوبي ولم أجد .. مشــتْ عيناي إلى المنضدة حيث أترك علبةَ السجائر غالبا ، كانت
السـاعة المنضدية قد توقفت ، وبقيت عقاربُها تلدغُ لحظةً ميتة من الزمن . لم تكن هناك علبة سـجائر ، بل كتابٌ وزهريةٌ من البلّور ..
قبيـحةٌ وبـلا حياة .
كانت هناك رياحٌ بحرية بعيدة تتمطى في ذاكرة القوقعة الكبيرة ، أيضا ، ولا شيء آخر على المنضدة .
ـ ” كم الساعةُ الآن ؟ ! ”
.. هل كانت تسأل ؟ !!
نظرتُ إلى الساعة في يدي .. فلم أتبين الوقت .. لم أرَ الساعة..ولم أجد يدي . كان خَدَراً مَحْضاً جسدي ، وشيئاً من ألم ..
وعن بعد كنتُ استشعرُ حالةً من الحزن .
رفعتُ رأسي ، ومددتُ يدي إلى رقبتي ، ركضتْ حباتٌ من العرق إلى صدري ، وتسللتْ بين أصابعي .. في عروقي نارٌ وفي نَفَسي زمهرير ، إنها الحمّى .
انتشر العطر في المكان ،كان الهواء حِرِّيفا ، لسع جمرتَيْ عينَيَّ .. فتوهجتْ فيَّ شهوةٌ ملحَّة للبكاء .. ولكن كيف ؟ !
استدارت .. /
.. منذ متى لم أرَها يا رب ؟
تحركتْ .. تموَّج ثوبُها .. هي بضعةٌ من بحر .. رجراجة ..لينة .. وخطيرة ..
ارتجفْتُ ..
كانت ابتسامتُها تملأ الفضاءَ بالفراشات وعصافير الكناري وأزهار القدّاح والياسمين ..
بيضاءُ هي ، ولكنها الآن أشدُّ بياضـاً ، إنها تشعل غيرةً في روح المصباح الذي لم يتوقف عن إنشاد زرقته الوضيئة
.. وتشعل في جسدي وجيفاً لا يهدأ . إنها تورِّق روحي بحثا عن قدّاسها القديم ..
ها هي ذي بداءات تَفْلَحُ كينونتي وتُذريها .. وإذا بِنا معاً أنا وهي .. وما عدا ذلك فخطأً محض !!
التفاصيل منطفئة ، ونحن مشتعلان :
ها أنا أشتعل رهبةً وظلاماً ، وها هي تشتعل سكينةً وبياضاً ..
.. منذ متى يا رب ؟
متى انغلقَ العالمُ خلفَنا آخر مرة ، وانفتحنا على بعضنا ؟ بأية طقوس ، انفردنا ؟
أية لغة خلقتْنا .. تناقلَتنْا .. هرَّبتْنا إليها .. ثم عادت فطوَّحتْ بنا إلى هذه الفكرة الممسوسةِ ؟ منذ متى ؟
مثلَ دمعة لؤلؤ انسكبتْ أمامي ..
.. كيف ؟
الحمّى تنهشُ ملكوتي ، وتُفقدني سلطاني ، فيغيبُ عني كلُ شيء .. فقط ، ها هي راحلةٌ نحوي عبرَ أبدٍ سحيق …!
كم سأتلبّثُ من القرون حتى تصل ؟
مَنْ لِهذا المسكين الطاعن في العشق .. وهو يتفكّكُ في مكوثه المشبوه هذا ؟؟
ها هي تتأوّدُ ..
ترقصُ ..
الموسيقى تحتشد وتنطلق دفعةً واحدة ..
ها هي تتألق بين كائنات الموسيقى..
… أرتجف
أغمضتُ عينيَّ ، وقُمتُ أشقُّ بألمي المتهالك موسيقى لينةً .. تحتل كسلَ المكان .
ها أنا أرقص في شبه غيبوبة ..
درتُ على نفسي دورات عنيفةً ..
كانتْ بروقٌ ..
ورعودٌ ..
وأمطارٌ ..
ورقصنا معاً :
بألفة وتوحُّش ، بتمدّنٍ وبداوة ، بخفة وتثاقل .. كانت تحتفظ بابتسامتها ، وكنت أضمحلُّ في ثورة الرقص وأتلاشى …
…………………..
…………………………… !
عندئذ ـ فقط ـ كفكفتْ بيدها المكان !
انبثقت صورتي ـ مرتجفة ـ في المرآة ، بينما انحرفت هي إلى النافذة ، أزاحت الستائر ، فتبدَّت لعيني ـ أضواءُ المدينة الأخيرة
.. تغازلُ النجيماتِ والقمرَ المتهدهدَ في سرير من الغيم .. التفتتْ ، كانتْ ابتسامتُها مغسولةً بدموعٍ هينة ، وبهاؤها شديداً . لم يكن هناك ما تقوله ..
فتحتِ النافذة .. فاندفع سربُ أحصنةٍ مجنحةٍ من الهواء .. كان صهيلُها لذيذاً انزرع في جسدي المحموم .. لم أستطع مقاومة الجمال الذي نبعَ في روحي .. كنتُ مطمئنا وهادئا ، بينما دارت الخيولُ بأجنحتها العظيمة في سماء الغرفة .
كانت هي تقف في النافذة ، راسمةً صورةً مذهلة لقديسة خرافية ..
نظرتْ إليَّ طويلاً .. وقليلاً قليلاً لوَّحتْ بيدها ، ثم نشرتْ أجنحةً ذهبية براقة .. وانطلقت في رحابة الفضاء .. تتّبعُها أفراسُ الهواء المجنحة …!