الركض فوق الماء
رواية
** محمود قاسم **
اللابداية
لكل منا خريطته الخاصة في تحديد الأماكن الأكثر أهمية بالنسبة له , عندما يتواجد في أي مكان .
لعلك سوف تندهش من طريقتي في تحديد الأماكن المهمة بالنسبة ليّ , التي تأخذ الأولوية في التعرف عليها , ورغم دهشتك , بل ورفضك التام لخريطتي , فإنك بعد أن تنتهي من التجوال في كل أركان الخريطة التي سوف أرسمها لك ستجد أنني , تقريبا , قد رسمت لك الأسهم نفسها التي مشيت في الكثير من الأحيان , باحثا عن اتجاهاتها , بل لعلنا تلاقينا يوما ما هنا أو هناك , تجاورنا , كل منا يهدف أن ” يفك ” عن نفسه , ويخفض من وزنه , ويلقي عن جسده العبء الثقيل الذي جثم في مثانته بعض الوقت أو كله .
سوف تقرأ بعضا مم سأرويه عليك عن علاقتي بها , لعلك ستصدم , أو تشعر بالغثيان والتقزز , وتتهمني بالبذاءة والسفه , والخروج عن التقاليد .
ولعلك سوف تطوي صفحات هذا الكتاب , بينما تتسرب إلى أنفك بعض الروائح التي تتناثر هناك , ولعلك تلقي بالكتاب في أقرب كومة , وتسرع نحو الصبانة , تغتسل , تزيل عن أناملك ويديك ” صنته ” وما تخيلت أنه علق به , وقد تمد يديك إلى زجاجة عطر رخيص , أو ثمين , لتتأكد أنك أزلت أثر هذا الكتاب تماما ..
لكنك بعد أن تتخلص من فعلتي الشنعاء , سوف تفعلها مثلي , بعد قليل , وتشعر بارتياح وأنت تتنهد , خفيفا , أو بصوت مسموع , وتسمع لهاتك العميق , ثم تكتشف فجأة , أن ما حكيته لك , جزء منك , أكثر مما هو حالة خاصة بي .
أعرف إنك عند هذا الحد من المراجعة سوف تخرج منه بلا ورقيا , وتمسك به أطراف الرواية , وتعاود القراءة باهتمام شديد . لأنك ستجد بين السطور توحدا حقيقيا بين كل ما عشته في تلك الأماكن , وبين المفردات نفسها التي سرت بها في درب حياتك .
لا يستطيع أي منا أن يتذكر كيف كان يفعلها لأول مرة , لكن عندما تحرك الزمن بنا, أدركنا تماما إننا لم نكن نختار الوقت ولا المكان المناسبين كي تفعلها . وعرفنا دوما أن الروائح النفاذة , المصاحبة لفعلتها كانت بالنسبة لأمهاتنا أقرب إلى العطور الذكية, وأن رائحة المسك , التي لم أشمها طوال حياتي , سرعان ما تتبخر , وتتلاشى في الجو , ويبقى عبق ما نفعله مصدرا لتضخيم الإحساس بالأمومة لدى النساء اللاتي أخرجتنا من أجوافهن .
الغريب أن الرائحة التي ظلت تصحبنا دوما تجددت دوما , دون سابق إنذار , وبلا موعد محدد .
لا أعتقد أن أحدا منا , يمكنه أن يزعم أنه يذكر جيدا , أو ببصيص من ضوء الذكريات كيف فعلها , بإرادته لأول مرة , ولا المكان الذي حدث فيه ذلك , لكن المؤكد أن أحد الأبوين , أو الأشقاء , عندما شاهدني , أفعلها , أو شاهدك , عن طيب خاطر , وبواعز من نفسي , أحس بسعادة وهو يردد :
– آه .. الآن .. صار كبيرا .
ها ااااااااااااه ….
ما دفع الرجل الذي إلى جواري أن يقول بمزاح واضح :
– ياااااااااااااه … كل هذا خبأته في جسدك ؟ … يا صبرك ..
علت قهقهته في المكان , فتضاءلت ضحكتي أسفلها , ضحكة مفاجئة , انطلقت من أعماقي , تعبر عن خجل ملحوظ من عمق تلك التنهيدة التي انطلقت دون إرادة مني , وأنا أنهي ” عملتي ” إياها , لم أكن أقصد … وددت أن أقولها , لكن جاري الذي راح يشد الياى الخاص ببنطلونه قطع قهقهته , لبرهة , وقال :
– هذا بيت الراحة , فاسترح كما تشاء .. إن لم تسترح هنا , فأين بمكن للمرء أن يفعلها …
استكمل قهقهته , ووجدتها فرصة لاستكمل تنهيدة أقصر عمرا .. قال :
– هل تعرف إننا نقضي هنا خمسة بالمائة من أعمارنا .. دون أن ندلاي ..
أعرف بالطبع من أين جاء بهذه النسبة , ولماذا ليست ستة أو سبعة بالمائة , أو أقل أو أكثر .. تذكرت ما قاله لي حد رؤسائي السابقين , إن بيت الراحة الخاص به , مزدحم بالمجلات والصحف , والكتب , وإنه المكان الأنسب للقراءة بصفاء ليس له مثيل … وددت أن أحك لهذا الشاب الغريب , القصير بشكل ملحوظ , ما ردده عليّ رئيسي الأسبق , لكنه سألني :
– هل حسبت كم مرة نذهب كل يوم إلى … ” بيت الراحة ”
اكتشفت أنني في مكان غير مناسب لمثل هذا الحوار , وأفكار غريبة تتوارد إلى ذهني , عن اصطياد الرجال مثل هذه الأماكن , ولماذا غريبة , وجدران مرحاض سينما الهمبرا , قد امتلأ بعبارات ورسوم تؤكد أن الحوائط ليست فقط دفاتر المجانين , مثلما يقول المثل , بل أيضا هي مكان للتعبير عن الكبت , والهياج الجنسي , والحرمان , والرغبة في اصطياد الشواذ .. قال , كأنه وجد في تنهيدتي المليئة بالزفرات فرصة للتعبير عن أفكاره :
– يبدو أن كافة الموظفين هنا جعلوك تأتي لتتبول عليهم هنا بدلا من أن تسيبهم وجها لوجه ؟
تمتمت : ربما .. لا .. بالتأكيد …
اكتشفت إننا وحدنا في دورة مياه مليئة ببقايا الطين المتخلف عن شباشب وقباقيب موظفين ملأوا المكان قبل قليل , عندما دخل أحدهم وقد فتح ” ياى .. بنطاله قبل أن يدفع بكتفي , ويصل إلى هدفه ليتخلص من مياهه الدافئة في مثانته ..
شدني الشاب إلى الخارج , وأشار إلى الغرف المتناثرة في دائرة البناية , وقال بصوت مسموع :
– أخبرني عن , من الموظف , أو هي الموظفة ، الذي كان سببا في كل هذه التنهيدة …
لم ينتظر إجابتي , نظر إلى الوريقة التي في يدي , وقال :
– جواز سفر .. آه .. هارب جديد من الوطن …
قلت عقد عمل مجز … لا يمكن رفضه ..
تمتم في أسى : لا يمكن رفضه .. لا يمكن رفضه … هذه العبارة دمرت الوطن …
بدا كأن شخصا آخر يخرج من أعماق صاحب القهقهة الذي شد مني وريقة استلام جواز السفر , وهو يشدني إلى الغرفة التي خرجت منها قبل قليل لأدخل بيت الراحة … أول مكان سألت عنه بعد ولوجي هذه البناية المكدسة بأشباه البشر .. قال مشيرا إلى ” حكمت ” التي طلبت منى أن أصبر سيحج عشرة مرة ( بالتقريب ) ؛
– يا مدام حكمت , هل تعرفين ماذا فعلتين بهذا الشاب , وكيف عبر عن مشاعره تحول هناك ؟
ضحكت موظفات الغرفة , قالت إحداهن :
– يا ضنايا … ماذا حدث لك …
قال ” سمير ” حسبما نادته زميلته قبل أن أخفي ابتسامتي :
– أعرف أن هذه التنهيدة لا يفعلها المرء في حياته سوى مرة واحدة … أخبرني هل هي تنهيدة , أم زفرة , أم صرخة من الأعماق .. ام ..
قالت ” حكمت ” وزميلها ينصحني بالجلوس إلى جوارها :
– على فكرة … يا أستاذ .. وقعت بين يدي من لا يرحم ..
علقت زميلتها الجالسة على يمينها : سمير … يفخر أنه أديب فاشل …
وقف يضرب على صدره في إعجاب , وقال : ليسانس تاريخ , شاعر فاشل , بلا فخر … هل تعرف … ما هي قصيدتي القادمة …
لم أسأله , أكمل : ” تنهيدة … في …. بيت الراحة ” …
تجلجلت القهقهة في الغرفة , وعلت ضحكات النساء اللاتي أطلقن عليه السباب واللعنات المازحة , ” خيبك الله يا سمير ” , ” المدير سوف يعطينا جزاء ” , قالت “حكمت” :
– المدير ليس هنا , ذهب إلى الوزارة …
همست في أذني : معذرة يا أستاذ … تأخرت في تسليمك الجواز , لأنني …
لعلها نست أنها قالت الجملة نفسها أكثر من مرة , قبل أن أنطلق إلى دورة المياه , لأعبر عن إحباط أصابني , سألتني موظفة أخرى :
– هل لديك عقد العمل …
رددت : سأستلمه بعد غد … عندما أريهم جواز السفر …
سألت ” سمير ” : إلى أين … ؟
قلت : هناك … في بلادهم … بلاد الأثرياء …
أخبرته عن اسم المجلة التي سأعمل بها , قال :
– آه .. أنت صحفي …
قلت : ربما … أنا كاتب …
برقت عيناه , واقترب مني , وهمس : هل استلمت عقد العمل … بكم ؟
يبدو أنه لم يسمعني وأنا أقول أن العقد سيكون متاحا بعد غد , قال في حماس :
– لا تقبل أقل من عشرة آلاف في الشهر …
” عشرة آلاف ” … أي عشرة آلاف فيهم .. دولار .. جنيه مصري … يورو .. إسترليني , ريال .. درهم … لم يحدد بالضبط ..
– ألا ترى أن الرقم مبالغ فيه … ؟
يبدو أرقامه في العلو الشاهق نفسه لضحكته , ومداعباته الماجنة المثيرة في خفة ظل ملحوظة . يتكلم بتلقائية وهو يتنقل بين المكاتب , يبدو كأنه يبحث عن شيء يفعله وقد انشغلت بعض النساء عنه , بينما ” حكمت ” تدفعه بيدها , كأنها تحاول إخفاء شيء ما عنه , وهو يوجه كلامه إلي :
– أعرف كتابا هنا , في مصر يأخذون ضعف هذا المبلغ , هنا في وطنهم .. بدون غربة ..
وددت أم أبوح له بالرقم الحقيقي المتفق عليه في العقد الذي سأوقعه بعد غد , قرابة أربعة آلاف جنيه , لصحفي يعمل هنا تحت التمرين , نشرت له بعض القصائد في مطبوعات الثقافة الجماهيرية
أشار إلي بسبابته , فيما يشبه التهديد , والتحذير ألا أقبل أقل ما يعادل خمسة عشر ألف جنيه مصري , ومسكنا مناسبا لأعزب .
– أنت لست متزوجا .. أليس كذلك .. إياك أن تتزوج ,و إلا سيكون حالك مثل ازدواج هؤلاء الزميلات .
رمته إحداهن في حده :
– سمير دع أزواجهن في أحوالهن … زوجي أفضل رجل في الدنيا ..
كأنه يمثل مسرحية هزلية تافهة , وقف وسط الغرفة , أشار مجددا بسبابته , وقال:
– قبل ساعة كانت تبكي من زوجها أكثر الرجال بخلا في هذه المدينة
رمته بنظرة حادة منكسرة :
مد سمير يده فجأة في درج مكتب ” حكمت ” , وأخرج جواز سفر , دقق فيها , وقال :
– عندها حق … المدير العام ليس هنا …
شدني من يدي وأخرجني من الغرفة , تلاحقه سخريات زوجة الرجل الأكثر بخلا في المدينة , مشى بي في الممر , وقبل أن يدفع بنفسه إلى ” بيت الراحة ” أمد لي ببطاقة زيارة , وقال :
– قابلني في السابعة مساء … على هذا العنوان
وجدت نفسي أتصفح البطاقة , بينما اختفى داخل دورة المياه , ورحت أقرأ محتويات البطاقة , العنوان المطبوع , أسفلها يشير إلى مقهى في ميدان ” باب اللوق ” , وإلى مواعيد تواجده هناك … قرأت محتويات البطاقة قرابة ثلاثين مرة , هي المدة التي غابها في الداخل , ها ولى انني سمعت صوته وهو يفعلها , بعد أن أغلق عليه أحد الأبواب , دخلت المكان وصحت :
– سمير … ماذا تفعل ؟
كان يتوقع سؤالي , أو لعل أحدا فعل معه الشيء نفسه من قبل , قال بصوت مسموع وهو يضحك :
– اعملها … خلاص … خلصت …
عندما فتح الباب راح يتنهد بارتياح , وقال :
– – حلوة .. فعلها سنمار رائع …
سألته في جدية ك هل هذا هو عنوانك ؟
رد بطريقته : اسمع .. لا تقبل أقل من عشرة آلاف جنيها … مفهوم ؟
اثنان وثلاثون عاما .. دون أن أتمكن من نشر سبعة قصائد , ووعد بالعمل في إحدى الصحف الصفراء , وعقد عمل بقرابة أربعة آلاف جنيه … هل يتردد المرء في رفض أو قبول . لا خيار ولا اختيار , ثمانية وأربعون ألف جنيه سنويا … وخلال عشر سنوات قرابة النصف مليون جنيه , وفي عشرين عاما أستطيع أن أكون مليونيرا … صحيح إنني سأدفع عشرة في المائة لمدة عام للسمسار الذي دبر لي العقد , لكن بالتأكيد , هذا أول الطريق كي أكسب من الكتابة …
أطلق علي تحية المساء , وسحب زجاجة البيرل من فوق المائدة , التي لم أشرب سوى نصفها , ومشى أمامي كي يجلس في ركن أكثر هدوءا من المقهى الواسع , المزدحم بالزبائن , دخلت وراء ستار منها لك , لأجد نفسي أمام منظر لم أتوقعه , زجاجات بيرة , وأطباق مليئة بالفول السوداني , والترمس . ودخان دفعني للسعال , والخروج من المكان كي يشدني سمير مرة أخرى إلى الداخل : وهو يقول :
– الق تحية المساء على أساتذتك يا أبو جنيه …
حطم كل الحواجز بيننا ,خاصة وهو يراني ابتسم راضيا لهذا الاسم الجديد , مد لي بجواز سفر وقال :
– لا تقل شكرا .. وقعت على استلامه بدلا عنك …
قبل أن أقرأ اسمي على الصفحة الداخلية , أشار إلى الرجال الثلاثة الذي ملأوا المكان بأدخنة الشيشة , والسجائر , وقال :
– قلت لك ألق تحية المساء على أساتذتك …
رددوا جميعا بما يشبه الكورس : ورحمة الله وبركاته …
قال يغرفهم بالوافد إليهم :
– عبيط جديد … وافق على خمسة عشر آلاف في الشهر يا أستاذ عدنان …
لم يكن للأستاذ عدنان أن يفسد أنفاسه المنطلقة كي يعلق بكلمة واحدة على ما ردده سمير حولي من أكاذيب ومبالغة , سألني هذا الأخير فور أن جلست :
– ماذا تشرب …
أشرت إلى زجاجة البيرل , بدا كأنه أدرك شيئا :
– هل تناولت جمبري في العشاء من قبل ؟
كأنه يعرف الإجابة , كما بدا من سؤاله , أكمل :
– الدور الليلة على كمال وجدي .. شلة المفاسد .. تدعوك الليلة على أول جمبري في حياتك … لو قبلوك معهم ستدعوهم يوما على جمبري … يعني اعمل حسابك من الآن , يوما ما ستدفع ثمن وجبة عشاء … ستة كيلو جمبري.. كل منهم يلتهم نصف كيلو … دون السلطة ..
لم أستوعب , على وجه السرعة , ما يحدث حولي , كل ما استطعت أفهمه أن سمير استطاع أن يدبر لي جواز السفر في اليوم نفسه , وهو الذي لم أكن أعرفه قبل ست ساعات من الآن , وحسب عباراته المتلاحقة , فإنني لا يمكن أن أخرج له أيا من المبالغ المتناثرة في جيبي , يتحدث عن دعوة جمبري لم أذق له طعما من قبل , ليس لأنني غير قادر على شرائه فقط , بل لأنني نباتي , لا أميل إلى كل ما به روح ودماء ..
أردت أن أنسحب من غرفة الدخان هذه , وأن أنطلق لأبلغ أمي أن سفري إلى بلاد المال صار وشيكا , لكن سمير وضع أمامي الشيشة التي طلبها بالتليفون المحمول قبل وصوله إلى المقهى بقليل , وقال :
– احبس أنفاسك … ينتظرك عشاء فخم هذه الليلة …
أردت مداعبته :
– ونساء …
ضحك وأشار إلى رفاقه :
– اطمئن .. كل هؤلاء فقدوا الأهلية … السكر , والضغط , والتوتر , والإحباط.. وعرايا النت …
همست : زميلتك … زوجة أبخل رجال المدينة ….. حلوة …
لكزني في كتفي , وهو يدفع لي بطرف المبسم : ذوقك زفت … سوف تنضم قريبا إلى هؤلاء الأعفة …
قلت : هل يمكن أن أذهب لأخبر أمي … ؟
دفع لي بهاتفه المحمول , نصحني أن أتصل بمن أريد لم أشأ أن أخبره , إن أمي ليس لديها هاتف في دارها ز لم تعد لديّ الحجة لمغادرة المكان , لاحظت أن هناك ” مبولة ” صغيرة في ركن الغرفة . فضلا عن واحدة أخرى دخلتها قبل قليلا , وأنا أنتظره .
بدون سابق إنذار , أشار إلى جواز السفر في جيبي , وسألني :
– هل تعتقد إنك جئت إلى هنا مصادفة ؟ … انظر إلى هذا الرجل .
بدا كأنه يود أن يقوم بدور شرير الفيلم , وهو يشير إلى عجبان يزفر كل هذا لكم من الدخان كأن يفرغ كل ما بجوفه من محتويات , ردد :
– عجبان .. أصابه العجز .. لم يعد بقادر على القيام بمهمته .. وأنت أنسب من يحل مكانه .. تقززت من نفسي وأنا أراني أستنشق هذه الأدخنة المتعددة الألوان , سألته :
– ما تعني بالضبط ..
مرة أخرى , أشار إلى جواز السفر , ونصحني أن أمزقه , قائلا :
– عندما رأيت أوراق استخراج الجواز الخاص بك , قلت لنفسي ” هو الشخص المنشود ”
سألته :
– ماذا تريد بالضبط … ؟
سحبني خارج المقهى , رد عني كل هذا العدد من العشاق المحرومين فوق سور الكورنيش الذي بدأ يشهد اعترافا لم أتخيله في حياتي .. امتزجت كلماته بقضم كوز الذرة الذي دفع جنيهن لبائعه دون أن يسأله عن ثمنه , قال :
– عدنان , قرر التمرد على ولي نعمته … ليس عجبان وحده .. بل الآخرين … كلهم … أصابتهم الشيخوخة , والزهايمر …
استطاع بحكايته المزعومة تقريبا أن ينسيني عادتي في البحث عن بيت راحة أسرع عليه عندما تشتد بي الحاجة , فالحكاية بالفعل غريبة , وهو يسألني :
– ثمانية رجال … هل خمنت ما هي وظائفهم …
هززت رأسي , وضع ذراعه أسفل ذراعي , كأن مودة قديمة تربط بيننا , وكأننا لم نتعارف فقط منذ ساعات , عرفت منه أنهم ليسوا على الاستيداع مثلما يؤكد بياض شعر أحدهم , وصلعة الآخر , وقدرة الثالث على سحب أكبر قدر من الأنفاس , وعدد زجاجات البيرة التي تناثرت حول الرابع , ورائحة منفرة انبعثت من الخامس وهو يصافحني عند مغادرة المكان , قال محددا كلامه :
– إنهم تقريبا حكومة الظل , حكام البعد الخفيين ..
سحبت يدي كمن قرصته أكبر حية على ظهر الأرض , وقلت :
– ولا السياسة , أنا أجبن مخلوق في الأرض .. صفعة واحدة كفيلة بالتخلص مني , لا , بل نصف صفعة , هذا إذا كان هناك ربع صفعة ..
استعاد قهقهته التي تساءلت قبل قليل هل هي اصطناعية , وتأكدت مجددا إنها خرجت من الأعماق وأنا أسمع أحد جنود النهري يردد :
– يا بخت الرائقين ..
قال :
لو أصروا عم في رؤوسهم .. ستكون كارثة ..
من الطبيعي أن أسأله عن أبعاد الكارثة , هل سيحولون كل هذه الأدخنة المنبعثة منهم إلى مفجرات نووية يخيفون بها الولايات المتحدة , فيرسلون إلينا بخبير أسلحة الدمار الشامل ويثبتون أن مصر نجحت في عمل أول قنبلة من الدخان ذات أثر فعال على العالم .
شدني من يدي , كي نعود إلى المقهى , أطلق تحيته وسأل :
– أخبار الجمبري … يا غجر ..؟
داس على أزرار هاتفه , وجاءه من يؤكد أن العشاء علو وشك الوصول .. أشار إلى غجره :
– هيا .. قبل أن يبرد الجمبري ..
قبل أن نصعد الشقة التي تعلو المقهى مباشرة , اشترى الطبعة الأولى من صحيفة طالع عناوينها على عجالة , بينما أقدام الرجال الثمانية الثقيلة تضرب الدرجات وتسبقنا وأنا أكاد أتخيل بطني وقد حشرت بالجمبري لأول مرة في حياتي , أشار إلى الجريدة , وهي يعطيها لي , قبضت عليها , وهو يسألني :
– هل تود مقابلة الكاتب الرئيسي في الصفحة الأولى … ؟
هززت رأسي بالإيجاب … سألني مرة أخرى : هل ترجع عن قرارك بالسفر لو قابلته ؟
لم أستطع أن أعرف هل أهز رأسي إيجابا أم نفيا . إلا حين سألني , كأنه يرمي فوق كاهلي بالسؤال تلو الآخر :
– هل ترجع عن السفر لو أصبحت مكانه ..
حسب معرفتي به طوال هذه الساعات , فأنا لم أر سمير يدخن سيجارة , أو يتجرع من زجاجات البيرة , أو حتى يتعاطى الشيشة , إنه يمزح بلا شك , مزاحه يوجع الأمل , ويوقظ الأوجاع . دخلنا من باب شقة واسعة مفتوح , رأيت في داخله جدران الكتب وقد زاحمت المكان كله .. لم يشف تساؤلاتي التي لمعت في عيني دون أن ينطق بها , لا يمكن لأحد من الذين يزحمون المقهى أن يتصور أن قوتهم مباشرة , تنكيس كل هذه الجدران من الكتب القديمة والحديثة . التي كشفت عن هيئتها عندما داس صاحب الشقة فكري على زر الإضاءة كأنه يستعرض ممتلكاته الغريبة .
سألت : هل قرأ أحد كل هذه الكتب .. ؟
ردد صاحبها : ليست كل الكتب للقراءة . هذا الركن للرجوع إليه عند اللزوم.. هذه مكتبة للعمل …
لكزني سمير وهو يشير إلى صاحب الشقة الذي اقترب من فريسته الجمبري , وتحسسه بإصبعه , همس في أذني :
– إنه هو ..
– من تقصد .. ؟
– الكاتب الرئيسي … في هذه الجريدة …
– من .. عاصم النيال ..
أطلق قهقهة التي أثارت انتباه صاحب الشقة , وقال :
– بعد الأكل … وفر ضحكتك إلى بعض الأكل .
مستفزا قلت : ليس هذا هو عاصم النيال
لم يشف تساؤلاتي المليئة بالدهشة , احتوتنا مائدة أرضية , جلسنا حولها جميعا , رحت أنظر إلى صاحب الشقة , محاولا العثور على إجابة لأسئلة تتردد في داخلي . علت أصوات المضغ , وتقطيع أجزاء الجمبري , ومن سمير علي انني لا يمكن أن أجد مثل هذا الدفء في أي مكان في العالم , كأنه يذكرني أن قراري بالسفر سيحرمني طزاجة أسماك البحر الغالية , قال :
– هل تعرف في أي مكان أنت ؟
رد بدلا عني :
بدا كأنه يتعمد أن يفقدني لذة تناول الجمبري لأول مرة في حياتي رغم حساسيتي ضده وهو يؤكد أن صاحب الشقة هو الكاتب الرئيسي في الجريدة , قال :
– هل تريد أن تسمع الحقيقة ؟
سألت هل هناك حقيقة .. ؟
جاءت الإجابة غريبة , حين قال سمير موجها كلامه إلى صاحب الشقة :
– يا أستاذ .. هل يمكن أن نسمع منك حكاية الجائزة والمحاضرة …؟
وهو يلتهم القطعة الأخيرة من الجمبري , قال :
– أقسمت ألا أفشي سري أمام غريب ..
قال سمير : هذا ليس غريبا , إنه العضو الجديد … تحت التمرين .
جعلني سمير , دون أن أدري عضوا تحت التمرين في جماعة الجمبري , وهو يقول :
– على كل .. ليس على شارب البيرة أي حرج … عندما يزول تأثيرها , أستغفر الله كأنك لم تقل شيئا ..
ردد صاحب الشقة :
– بل أخاف إذا رويت شيئا أن يضيع تأثيرها كل ما شربت في المقهى …
ورغم خوفه , جلس يتكلم , إلي وحدي , بينما تناثر رفاقه حول موائد الشطرنج الصغيرة ولعل ما ردده صاحب الشقة كأن يصل إلى أسماعهم , فيهز أياديهم , وهم ينقلون القطع فيرمون بجنودهم , وملوكهم خارج الرقعة .
الأول
كاتب صحفي
نال هو الجائزة
وحضرت أنا الندوة
نودي على اسمه الميمون , بفخر واعتزاز ملحوظين , قام من مكانه , فك أزرار سترته , وبثقة ملحوظة , صعد إلى المنصة كي يصافح الرجل الكبير , وتعمد أن يتكلم إليه , كأنه يطلب منه شيئا , أو كأنه يوحي إلى كل الحاضرين , استلم شهادة التقدير رغم رفعها في الهواء , ليتيح لحاملي الكاميرات أن يلتقطوا ما يشاءون من صور لجريدته , ولبقية الصحف , كان عليه أن يترك فرصة لزميل آخر له , نال كتابه الجائزة الكبرى في نهاية العام أيضا …
في اليوم التالي . صدرت إلىّ الأوامر , من مديرة مكتبه . أن أذهب إلى الندرة . جلست مكانه أمام المنصة لمناقشة الكتب الفائزة في نهاية العام , وراح مدير الندوة يردد :
– يعتذر الكاتب الكبير عاصم النيال عن حضور الندوة لمناقشة كتابه .. ويحضر النقاش معنا , الأستاذ عامر مفتاح .
ثقبت أذني تلك الصفة , كأنني أسمعها لأول مرة , أو كأنني أكتبها أيضا لأول مرة , ” الكاتب , الكبير ” … كاتب … وكبير .. , ترى هل يفهم مدير الندوة معناها الحقيقي , قد منى الرجل بصفتي أستاذ , لا كاتب , ولا كبير …
ترى هل “عاصم النيال” كاتب كبير , لأنه رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية كبرى , مزدحم بالمسئوليات , وأرصدة البنوك , ويمتلك مقادير حيوات كل الذين يعملون تحت إمرته , المتأهبين لنهش لحمي بدمه , لو انتابتني الرغبة أن أطلب حقى في أن تكون صفتي الأساسية ” الكاتب الكبير ” , وإنني عاطف الأشموني الحقيقي مؤلف الجنة البائسة , المسماة الآن ” صدمات الزمن ” . يجب أن أستعرض صفحات الكتاب , وأتحدث إلى الحاضرين , الذين تبدو الصدمة على وجوههم لعدم حضور قائدهم الندوة , جاءوا جميعا يملأوون القاعة , لإثبات أن جمهور ” الكاتب الكبير ” قد ملأ المكان , وأثار الحوار , في عيونهم الكذب والنفاق , يعرفون الحقيقة التي يتبادلونها في همس , دون أن يجرؤ لسان واحد على البوح بها , ربما لأن من بينهم عشرة على الأقل تنطبق عليهم صفة ” كاتب ” دون أن يعرف أحدهم حقيقة ما يكتبه الآخر . مثلي في الخفاء ..
أنا المواطن عامر مفتاح , رئيس قسم التحقيقات السياسية في المؤسسة الصحفية الكبرى فقط أحضر بصفتي الوظيفية لمناقشة الكتاب الحاصل على الجائزة .
جاء وقت إعلان الحقيقة إذن , إن قولها على الملأ , أن أجعل ” كتبة الظل” أكثر شهرة ممل يتصورون , أن أعلن إنني المؤلف الحقيقي لـ ” صدمات الزمن ” , وإنني أيضا مؤلف ثلاثة من الكتب الخمسة عشر التي تم إيداعها في دار الكتب , موقعة بأن مؤلفها هو ” عاصم الميال ” , وسوف أجزم لهم إنني أعرف أربعة من المؤلفين الحقيقيين لهذه الكتب ,
حان الوقت لأعترف إنني الكاتب الرئيس للمقالات السياسية للأستاذ , وإن ناجي الصباح هو كاتب العمود اليومي , وإن رجاء إصلاح كاتب المقال الفني , وإن سحر عماد الدين تكتب بالتبادل , المقال الأدبي , مع رءوف صبيح .. و …
ردد مدير الندوة للمرة الثاني :
– نستمع إلى كلمة الأستاذ عامر مفتاح , نيابة عن الكاتب الكبير …
حدث ما سبق إن عهدته , في مثل هذه المواقف مرات عديدة , إن ” اندمج ” وأتوحد مع الأستاذ , أن أتخيله , وقد لبسني , أو إنني صرت هو .. مع فارق واحد إنني يجب أن أتقبل أن يناديني الناس باسم آخر هو ” عاصم النيال ” , ولماذا اسم آخر؟ أليس هو في حقيقة الأمر اسمي المستعار , أو اسمي الحقيقي , وقد استخدمه رئيس مجلس الإدارة نيابة عني ..
استبد بي حماسي آلفته , وأنا أتحدث عما كتبته بفهم واعي , متعمدا الا أنظر إلى عيون الحاضرين الكاذبة , حتى لا توقظني من حالة التقمص التي صرت عليها كالعادة , إلى أن انتهى كلامي , دوت الصالة بالتصفيق , لشخصين معا , أو ربما لشخصه فقط , شخص حاضر , استطاع أن يقرأ من الورقة التي كتبها على إنها من صياغة الكاتب الكبير , وآخر أبدع فيما كتبه وحلله حول القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بصدمات سبتمبر وأفغانستان , والعراق التي أضيفت إلى صدمات القرن القديم وعلى رأسها فلسطين التي لن تجد حلا سياسيا قبل نصف قرن قادم ..
وبدأت الأسئلة البطالة حول الكتاب , وما جاء فيه عن أفكار , لم تكن أسئلة حقيقية , بل تقديس لكل سطوره , وأفكاره الجديدة , فكرا , وأسلوبا , ( آه من أسلوب هذه ) , إلى أن أفسد هذه الندوة سؤال حقيقي أربكني أكثر مم أفعل لكل بطانة القاعة :
– هل ما جاء في الكتاب هو رأي الأستاذ عاصم النيال أم رأي شخص آخر …
بدا السؤال أشبه بفيروس كومبيوتر من النوع الذي يدمر موانع الفيروسات في أي جهاز , ويحول الشاشة إلى صفحة بيضاء ولا أمل في أن تضم سطرا واحدا من المعرفة , لا أستطيع أن أتذكر ما قاله مدير الندوة ردا على السؤال القاصم للظهر , لكن كل ما أجزمه إنني دفعت ثمن هذا فاتورة ثمان زجاجات ويسكي تناولتهم فوق معدة جوفاء بمجرد أن خرج بي سائق المؤسسة من ساحة الندوات , واتجه إلى أشهر فندق في أطراف المدينة …
هل يجب أن تحدث للمرء مراجعة للذات , ها … وما قيمتها , وسط هذه الزجاجات الغالية الثمن , مدفوعة ثمنها بالدولار , وعلى حساب المؤسسة .. هل من حقي أن أنهار إلى هذا الحد , أو أن أراجع نفسي . وأكتشف أن بداخلها , وفي ركن صغير منها ، ذلك الشاب الذي دوخته أزقة القاهرة وأرصفتها , قبل أن أصبح محررا تحت التمرين في المؤسسة .
قررت أن أوقف هذا الشكل التقليدي من الاعتراف , وأن تكون الكتابة على طريقتي أنا , وليس هو ..
سؤال : هل كنت تحلم , وأنت تسكن في الزقاق , أن تتناول ثمان زجاجات ويسكي , على نفقة المؤسسة ؟
جواب : أحلم … أبدا .. لأن هذا النوع من الأحلام لم يدر بخاطر أي شخص , كل ما يمكن أن أحلم بتحقيقه , هو أن أستعير الجريدة من مكتبة الهيئة التي التحقت بها عقب خروجي إلى الاستيداع من الجيش في صيف 1975 . المرتب سبعة عشر جنيها , والصحيفة بقرش صاغ , لمعرفة أخبار الدنيا , لا تلبث أن تتحول إلى مواد للثرثرة بين الموظفين , والموظفات ، الذين تتناثر الأطعمة , وورق الصحف فوق مكاتبهم , ويرمون بآرائهم حول ما تكتبه الجرائد إلى بعضهم البعض , أحلم , لم يكن لدي حلم محدد , كان أملي هو أم أنهي خدمتي العسكرية , وأن أخرج إلى المدنية , أرسلوا لي بقرار التعيين في إدارة الخدمات في إحدى المؤسسات الاجتماعية , رغم أن شهادتي تؤكد إنني يجب أن أعمل سفيرا , أو قنصلا , أو حتى مساعد قنصل . كان الحلم الحقيقي هو أن أظل مقيما في هذه الغرفة لأطول فترة ممكنة , أربع حجرات , تختنق بستة عشر طالبا , يمثلون أكثر من سبع كليات , وثمان محافظات , خمسة من الوجه البحري , وثلاثة من الوجه القبلي , ينظرون إلي كنموذج يجب أن يحتذي به , يقرأ كثيراً , ويختفي في بعض الأحيان إلى حيث لا يعرف أحد .. سأقول أين كنت أذهب … كنا نلتقي هناك , نأكل , ونشرب , ونعلن سخطنا على ذلك الانفتاح الذي ملأ الأسواق بعلب الكمبوت ، وثلاثة وعشرون نوعا من العطور الغالية ، والعدد نفسه من المياه الغازية الحقيقية ، التي استطاعت أن تطرد أنواعا رديئة ، لم تتجاوز أن تكون مياه مذاب بها سكر ، من السوق ، و…
سؤال : هل تذكر أول مقال كتبته لرئيس التحرير عاصم النيال ..؟
الجواب : أليس من حقي أن أتحدث عن كيف دخلت المؤسسة ..
سؤال : أنت تتحدث بتفاصيل أكثر .. لعل الخمر لعبت برأسك
الجواب : التفاصيل أمر عبقري ، أنا لا أكتب مختصرا لحياتي ، أريد أن أحكي تفاصيلها … نعم .. أذكر متي كتبت المقال الأول لعاصم النيال ، لكنني أذكر أول يوم دخلت الصحيفة .. تم ذلك علي يد واحدا من كبار الكتاب الاشتراكين في الصحيفة ، ذهبت إليه مع واحد من شلتنا التي كنت أقضي معه بعض الأمسيات ، نتوحد معا في أن السادات أسوأ خلف لعبد الناصر وانه سوف يؤجر البلاد إلي الأميركان بالتقسيط المريح … في مكتب الكاتب الاشتراكي الكبير ، قام بتوقيع قرار صغير ، يفيد أن الشاب عامل مفتاح يصلح أن يكون محررا تحت التمرين ، وأمر بتخصيص مكان لي في صالة التحرير التي اكتظت بعشرات من الذين جاؤا إلي المكان عبر خطابات توصية عقب تخرجهم من الجامعة ، أو انتهاء مدة خدمتهم العسكرية … في تلك الفترة ، كان عاصم النيال محرراً في شئون الإسكان ، سريع الحركة ، لا يكاد يجلس فوق مكتبه كان أكثر المحررين الذين تأتيهم مكالمات هاتفيه ، وبلغة أيامنا لو كان الموبيل موجوداً في تلك الآونة ، لاختصر زمانه إلي واحد من عشر لكنه كان الأسرع بإيقاع زمانه، يعرفه الوزير شخصيا ، ورؤساء قطاعات الإسكان في الوزارة ، والمسئولون عن الإسكان في المحافظات ، يستطيع أن يدبر لك مسكنا ي أي مكان توده بأسعار معقولة ، وخلو رجل مناسب ، وكم ناشد رؤسائه وده ، وطلبوا نه خدمات لأنفسهم ، ولكثير من معارفهم ، لم يكن يتأخر أو يرفض طلبا ، كأنه يبني هذه الشقق من ورق ، أو يحمل معه مصباحه السحري ينفذ ما يطلب منه بأسرع وقت ممكن
لذا ، لم يكن غريبا ، أن يتولى رئاسة القسم فجأة ، والغريب أنه تكفل بكل مصاريف جنازة رئيسه الأسبق ، الذي أصابته ذبحة صدرية عقب صدور القرار ، وطلب من المؤسسة تحويل كافة مصاريف الجنازة ، والمكافأة الأخرى كأموال نقدية لأسرة الفقيد هذا الموقف ، لم يجعل الآخرين ينظرون إليه كقاتل لرئيسه الراحل بل تهامسوا فيما بينهم أن القاتل الحقيقي هو مهارة عاصم في عمله وحب الناس له وأن أي شخص في مكانه لا يمكن أن يوقف مسيرته .
في هذه الفترة ، كنت قد تجاوزت مرحلة المحرر المستمع الذي يضع السماعة علي أذنيه ، ليعرف أخبار الدنيا من الإذاعات ، واستطاعت أن أكتب اسمي علي أول خبر منشور في الصفحة الأولي ، وبعد ستة أشهر نشرت أول مقال سياسي لي في عشرين سطر داخل صفحة الرأي … وبعد عام ، كان مقالي عن الهدف الاقتصادي لزيارة القدس، قد منع من النشر تماما وشطب بقلم الرقيب الأحمر .
سؤال : هل تذكر المقال الأول الذي كتبته لعاصم النيال
الجواب : صار عاصم النيال نائبا لرئيس التحرير ، صمن سبعة نواب ، واحتفظ برئاسة قسم الإسكان في الجريدة وتعاظمت أعماله ، وخدماته داخل الجريدة ، وخارجها ، وصار له تليفون خاص بالسيارة التي خصصتها له المؤسسة وسمعت أن أحد زملائي يردد أنه ليس لديه وقت لينام ، فكيف له أن يكتب العمود اليومي الذي يحمل اسمه ، وهنا بدأ الهمس .. وسمعت أن صلاح عويضة هو الذي يكتب العمود يوميا ، وأنه قبل هذا كنوع من التنفيس عن إيقافه عن العمل حاول من نقل لي هذا الرأي أن يعطيني الدليل ، فصلاح يسكن الآن في شقة كبيرة بالمعادي والمؤسسة خصصت له سيارة تنقله طيلة يوميه ، وأن سيارته الجديدة تركها لأسرته ..
لابد أن تشعر بالغبطة ، والحسد اتجاه كاتب موقوف عن الكتابة صار هذا هو حاله، بل أن الإشاعات طالت هدي صفوت ، السكرتيرة الجديدة لمكتب عاصم النيال ، وهي التي تخرجت في الكلية نفسها ، سمعت من يردد أن الفرصة راحت من صلاح عويشة إلي هدي ، التي تكتب لرئيسها المباشر كل ما ينشر باسمه في الجريدة ، من أخبار ، ومقالات ، وتصريحات …
إلي أن كانت المفاجأة ، أن رأينا صورته علي الصفحة الأولي ، وأن قرارا بترقيته ليتولى رئاسة مجلس الإدارة ، ورئيس تحرير الجريدة ، لم تكن في الأمر مفاجأة ، للبعض ، فهذا أمر متوقع بين لحظة ، وأخري لكنه حين تولي المنصب كان دون الأربعين بثلاثة أعوام قيل يومها أن القرارات الجديدة تؤيد اختيار الشباب الكفء ،
يعني هذا بالنسبة للجميع صعود نجم كل من هدي صفوت وإعادة صلاح عويشة إلي مهمته القديمة ومحاولة مصالحة للعديد من الذين تم إيقافهم عن العمل كل بطريقة تترأي الإدارة الجديدة معي ، كان القطار سريا في مكتب هدي صفوت التي قالت لي:
– الأستاذ علي سفر دائم .. وأنت مرشح لكتابة الرؤيا السياسية …
تصورت أن عفوا عاما أصابني ، وأن اسمي سوف يملأ الصفحات كما حلمت طوال أيام الأرق التي صادفتني أثناء الانقطاع الذي استمر أربع سنوات وخمسة أشهر ، وعشرين يوما ، قالت :
– بدون توقيع !!
وقبل أن أعلن عن دهشتي قالت بصراحة
– وحذا ري أن يعرف أحد انك من مكتب الرؤيا السياسية
وقبل أن أدقق في الشيك الذي دسته في مظروف ابيض عليه اسم المؤسسة قالت :
– هذا أول اختيار لك …
كان المبلغ الذي صرفته من خزينة البنك التابع للمؤسسة يعادل عشرة أضعاف ما يحلم امرؤ يوافق أن ينشر مقاله بدون توقيع لذا ترددت مرات قبل أن اندهش وأنا أري اسم عاصم النيال فوق مقالي مصحوبا بصورته مبتسماً كان ينقص المصور أن يطلب منه إخراج لسانه لإغاظتي لكنني لم أحب أن يدفع لي مصاريف جنازتي من جيبه ،لو أصابتني ذبحة صدرية ، وقبل أن أتردد ، كانت سيارة المؤسسة تنقلني إلي شقتي الجديدة المهداة من المحافظة والتي قيل لي أن أساسها أحضر خصيا من دمياط
سؤال : إذن ، كان الثمن كافيا حتى لا تتمرد …؟
الجواب : بل كان الثمن أكبر من أن يكون كافيا ، لم يكن هناك ثمنا واحدا ، بل عشرات الأثمان مكافآت ، تذاكر سفر ، رحلات ، بدلت ، مكتب فخم ، هدايا منزلية ، وأحيانا فتيات جميلات ، كي تتشجع ، وتكتب الفصول الأولي من كتاب ” رؤية الغد” .. كي ينشر مسلسلا في الصفحة التاسعة كل أسبوع .. علي الطرف الأيسر للصفحة ، صورة للأستاذ ، وهو يضع عويناته المقعرة ، وبشعره المصبوغ قبل الأوان ، وتحت الصورة ببنط كبير : رؤية : عاصم النيال ، وفي الوقت نفسه ، بدأت صحف خليجية ولبنانية عديدة في نشر الحلقات مع الحرص أن المؤلف والكاتب هو صاحب الرؤية عاصم النيال .. قد تسألني : هل كل الحلقات بقلمك ، كلها .. كلها .. وهل راجع عاصم النيال ضميره ؟ ألم تلتقي به يوماً ؟ .. سل كما تشاء ؟ .. لكن الإجابات المدهشة أنه لا يكاد يعرفني ، وربما لا يعرف سوي اسمي كما أنه حين يراني في أحد الاجتماعات لا يكاد يستجمع ملامحي . كل ما يربطني به هو وريقة التعليمات التي تقدمها لي هدي وبها إشارات إلي النقاط الرئيسية في الحلقات لا أعرف من هو صاحب هذه الإشارات كي يعطي لنفسه الحق في أن ينسب إليه كل هذا طالما أنه صاحب الأفكار الأساسية التي لم ألتزم بها قط عند الحلقة العشرين جاءت خطابات عديدة تمتدح فيما جاء فيها ، وقد أرسلت الرسائل كلها إلي صاحب العمل ، وولي نعمتنا عدا ثلاث رسائل ، فيها انتقادات وإشارات إلي أخطاء في المعلومات وبعض التواريخ المغلوطة ، مما يعني أن احدي هذه الرسائل قد قرأت بتمعن ..
وطوال ثلاثة أيام لم يكن ليّ هم سوي البحث عن وسيلة للرد علي ما جاء بالرسائل ، حرست هدي علي عدم نشرها ، وكأن الخطابات لم تصل قط إلي الإدارة لكن بعد أسابيع ، استدعني هدي ومدتني بمظروف كبير ، وقالت :
– هذه بروفات ” رؤية الغد” .. اقرأها ، وصحح أخطأها كما جاء في ردك … لا نريد خطأً واحداً في الكتاب …
زجاجات الخمر وصناديق التفاح ، والهدايا المتراكمة ، وربما تهديد بأن كل هذه النعمة قد تزول عند ظهور خطأ واحد . ما دفعني إلي ملازمة شقتي منعزلا عن العالم .. كي أنتهي من مراجعة الكتاب سبع مرات قبل إعادته إلي صاحبة الشأن التي رمت بالمظروف طرف مكتبها الكبير ، وهزت رأسها بما يعني الشكر إلي أن جاءني صوتها عبر الهاتف :
– الكتاب جيد ، عدا سبعة أخطاء معلوماتية ما كان لمثلك أن يقع فيها شكرا .. مع السلامة
سؤال : ماذا كان شعورك وأنت تري النسخة الأولي من الكتاب ..؟.
الجواب : سؤال ساذج يحتاج إلي إجابة أكثر سذاجة وهل يجب أن يكون هناك شعور في مثل هذه الحالات لنقل أنني لم أشعر بشيء .. بالمرة .. إذا أردت أن يكون هناك انطباع فهو التعود , بدت النسخة غريبة عني تماما , وأنا أراها , لم أشأ حتى أن أتصفحها , كلمات في سطور , وبعض الصور , ومقدمة , وكلمة غلاف , مثل كل الكتب , أم أن هذا قد تم مسحه , إذا كان قد حدث في ذاكرتي ، لذا فإنه لم تكن لدي أي مشاعر تجاه الكتاب , لم أمصمص شفتي مثلما تفعل النساء عند الدهشة .. السبب إنني لو أحسست بأي شيء , فالنتيجة ستكون سيئة , أشبه بمن يفوق من التخدير كي يتألم بأعلى الأصوات , فلا يستطيع أحد إنقاذه , كل ما فعلته أن شرعت في كتابة حلقات جديدة , أنا صاحب فكرتها , تحمل عنوان ” الشرق والغرب . صراع بلا نهاية ” , قالت هدى وهي ترى الحلقات الأولى منها :
– سأعرضهم على هيئة التحرير … انتظر .. لا تكمل الكتابة …
ولأول مرة لم أطعها , استكملت الكتابة , وانتهيت مع ست عشر حلقة في عشرة أيام .. اكتشفت أن الغيظ هو أشد تأثيرا من الخمر , وإنني أحاول أن أثبت إنني أستطيع أن أكتب , وأن هذا الممنوع من نفسه , يمكنه أن يفعل شيئا …
استدعتني هدى عن طريق الهاتف
– تعال بسرعة .. عندي خبر عاجل .
لعل إدارة التحرير وافقت على كتابي (هـ ) الجديد , سوف تزداد النعم المنتظره التي ستهل علي , أطلقت عليها تحيتي المعتادة , وجسدي ينتفض , مدت لي بصحيفة أجنبية , وقالت :
– أنت تجيد الإنجليزية .. أليس كذلك ؟
لم أرد , بدأت في قراءة عرضا للكتاب في صحيفة أمريكية , سألت :
– خيرا … ؟
ردت : هناك عرض بترجمة الكتاب , ونشره في صحيفة هارد تايم .. ومطلوب منك اختصاره إلى النصف وبحروف ثقيلة قالت : بالإنجليزية …
وصار علي أن أدبر اثنتين وسبعين ساعة كل يوم لأنجز المطلوب مني , مراجعة الكتاب , واختصاره إلى النصف , ودفعه إلى قسم الترجمة في المؤسسة , ومراجعة البروفات التي ترسل لتوها إلى إدارة الجريدة الأمريكية , وفي الوقت نفسه لا أتوقف عن كتابة فصول أخرى من الحلقات الجديدة .
سؤال : هل تعرف أن الصحف الأمريكية تدفع مكافآت مجزية بالدولار مقابل نشر هذه الكتب , في حلقات ..؟
الجواب : أعرف كل شيء … أخبرتك إنني كنت مثل الكومبيوتر , قبل أن يصل البت بشكله الحالي كنت أدوس على زر ” مسح ” دون أن تنتابني أي مشاعر ..ز لم يكن عاصم النيال رجلا , ولا غليظا , ولا ناكرا لحقوق الآخرين , جاءتني مكافأة مقابل ما أديته من عملي , وذات مساء , سألت نفسي أسئلة كثيرة , وتوصلت إلى إجابة مقنعة للغاية …
ما فائدة الاسم ؟ .. أنا أؤدي عملاً , وأنال عليه أجرا .. وقد ارتضيت لنفسي بهذا النوع من العمل , هو عمل بمقابل , مثل كل عمل آخر . هل يكتب الطبيب على بطن المريض , إنه الذي أجرى له العملية , هل يوقع المهندس على باب العمارة إنه صممها , هل يعرف أحد منا , من صمم الهرم ، أو نحت تمثال رمسيس . أو بنى برجي التجارة المنهارين عند الأطراف البعيدة للمحيط الأطلنطي :
تعليق : إذاً , اقتنعت مع مرور الزمن , وزيادة الإغراءات التي تحصل عليها بأن موقفك صح .. ؟
إجابة : أبدا , لم أقتنع بدليل إنني الآن فيما يشبه لحظة الاعتراف , تسألني , فأجب , لمجرد إنني أحسست أن مغفلا جديدا سوف يدخل هذه المملكة المليئة بالمتناقضات ,
تعليق آخر : لعلك خائف من أمثالي أن يحلو مكانك , لأن ظروفنا أسوأ , ولأن قدراتنا أكبر …
إجابة : ربما نعم , لن أكذب عليك , ولا على نفسي , لعلها اللحظة الأكثر صدقا في حياتي , أنا أعيش في الظل , ويعيش عاصم النيال في النور الحقيقي , يحصل على عائد كبير , أكبر من الدنيا , لو صنعنا حزاما م الأوراق المالية التي تأتيه من كافة الاتجاهات شهريا , ولففنا هذا الحزام حول الكرة الأرضية , استطاع أن يحوطها مرتين , لا أحسده , فهو رجل كريم , يمنح من حوله الكثير من مكاسبه , أي إنه يقتسم معهم الكعكة , ومع ذلك فالحزام الذي أخبرتك به يمكنه أن يلف حول الأرض مرتين .. أحس أنه يحتفظ في جعبته ببعض من مجد أستحقه , فالنقود صُرفت , لكن المقالات موجودة , والكتب تحمل اسمه , وغدا , أو بعد عام , سنموت , ولن يعرف أحد أن لي نصيب من هذه الكلمات المكتوبة .
لم تسألني عن الجوائز , وهو سؤال توقعت أن تطرحه , فهو الشيء الذي يحز في نفسي , أرجوك أن تسألني عن الجوائز , إنها تغيظني , اسألني إن كنت تود أن تعرف حقا .
سؤال عن الجوائز …
إجابة : منذ ثلاثة أعوام , كان الأستاذ , كعادته , في رحلة إلى أقصى الأرض , كان عليه أن يغيب عن مكتبه , وطنه , الذي يحمل اسمه , كان على هدى أن تدير كل شيء , كأنه موجود , ولما لا , وهو موجود عبر التليفونات الدولية , والاتصالات , والبريد الاليكتروني , اعتدنا على هذا الإيقاع من الحياة , لكن يبدو أن مكالمة مهمة جاءت إلى هدى . استدعتني على وجه السرعة :
– طلاب الجامعة .. يريد الأستاذ أن يكتب سيرته الذاتية , ليليقها في كلمته إلى الجامعة ..
سار أمامي , وفتحت باب الأستاذ , الذي أراه لأول مرة في حياتي , هل لك أن تتخيل المفاجأة التي تصيب رجلا اقترب من الخامسة والخمسين يومذاك , أم أدعك تتخيلها , سأقول لك ماذا هناك في كلمات تلغرافية مختصرة , حتى ر أعيد على نفسي هول المفاجأة , وصدمتها , مكتب من الخشبي , إذا وقفت أمامه يكون الجالس على الناحية الأخرى , على مسافة ثلاثة أمتار , نصف بيضاوي , عليه أعلام صغيرة تمثل البلاد التي زارها , في الكرة الأرضية التي يمكن أن نلف دخله حولها بحزام , وعلى الجدران حزمة من الصور للأستاذ وهو يجري حواره مع رؤساء الدول , يبدو مبتسما , وهو يوجه عينيه إلى المصور , مؤكدا أنه كان هناك , حريص على مصافحة الرئيس الذي يقابله , بدت الغرفة الأقرب إلى قاعة كأنها تضيق بكل الصور , وبأطقم المقاعد المتناثرة بشكل هندسي الذي يعكس ذوق هدى الرفيع , التي لاحظت دهشتي , وهي تبحث عن أوراق يجب أن أخذها لأكتب السيرة الذاتية للأستاذ , قالت :
– ماذا بك .. غرفة جميلة … أليس كذلك …
تمتمت : هذه أول مرة أدخل هنا ..
ببرود رددت : معقول …
بدهشتي قلت : لم أتخيل إنها بهذه الفخامة . تليق بالأستاذ فعلا
كانت في عجلة أمرها , وعليها أن تجد وريقة بعينها , كي أستوحي منها كلمة الأستاذ التي يجب أن تصله خلال ساعة , راحت تبحث , بينما اقتربت عيناي من إحدى الصور , أو لعلها سقطت بشكل متعمد على كتابي الرابع ” صدمة العولمة ” وهو بين يدي الملك , بعد أن أهداه إليه الأستاذ , شيء ما دفعني أن أقترب من الصورة , لأبحث عن اسم المؤلف المكتوب على الغلاف , شيء ما جعلني أتصور أن الكتاب قد يحمل اسمي , أو يحمل اسمينا بالاشتراك , لم تر عيناي سوى ” عاصم النيال ” , وصورته في الطرف الأعلى من الغلاف , عاجلتني هدى :
– هذه هي الأوراق …. خذها …
وكأنها راحت أن تتعجلني لأخذها , وأخرج من تلك المملكة , فجأة , دق جرس الموبايل , الموجود فوق مكتبها أسرعت حاملة الأوراق إلى الخارج , وتركتني في دهشتي , حاولت من جديد أن أتأكد من الاسم الموجود على الغلاف ” صدمة العولمة ” لكن قبل أن أفعل , وقعت عيني على ركن الجوائز , فاستحققت أن أندهش أكثر … شهادات وكؤوس , وأوراق , وصور للأستاذ يستلم الجوائز , ومصافحات لكبار المسئولين , وصك من الذهب مخصص لتكريم صاحب الكتاب الخامس ” انهيار الأمم ” ثم الأستاذ يبتسم بسعادة , وهو يعرض أمام المصور , الجائزة الكبرى التي نالها عن ” سقوط البروج المشيدة ” .
وسط الرنين المزعج لهدى , وهي تناديني من خارج القاعة الملكية , ثم ترد على هاتف آخر جاءها , لم أر سوى اسم واحد فوق هذه الجوائز , هو عامر مفتاح , وبدت الصور كأنها مرآة تعكس وجه شخص لم أعد أعرفه , في الخامسة والخمسين من العمر , يقف وسط الرؤساء والملوك , يصافحهم الواحد تلو الآخر , ويمنحهم كتبه ومؤلفاته …
أيقظتني الملعونة هدى من غفلتي الصغيرة العميقة , وهي تصرخ في بدون حرج أو مراجعة :
– الأستاذ يتعجل الكتابة … يريدها خلال ساعة …
بدت كأنها تتعمد أن تطردني من الجنة المسروقة , في أدب بارد , كأنها تستعطفني أن أكتب , وأنا أنظر إليها في عتاب لتغير أسلوبها في معاملتي , فجأة , وضعت التليفون المحمول جانبا , وقالت :
– معذرة يا أستاذ عامر .. كما ترى .. أنا وحدي اليوم , والمطالب كثيرة …
سؤال : أتوقع شيئا مهما , وأنت تكتب السيرة الذاتية للأستاذ , أليس كذلك ..؟.
الجواب : ألم أقل إنني أخاف منك , أنت صورة جديدة , ووقحة مني … فعلا , حدث هذا … عندما عدت إلى مكتبي , طلبت من سكرتيرة مكتبي , روضة , أن تغلق أبواب الدنيا دوني , وطوال ساعة كاملة , لم يكن في غرفة مكتبي سوى عامر مفتاح , يكتب سيرته الذاتية , في أبلغ ما وصل إليه من عبارات , ومفردات لغوية , تحدثت عن مكتب مشاهير الفكر الاشتراكي الذين أثروا في , وعن العلقة الساخنة التي طالتني , وأنا في مظاهرات 1968 , وعن الغرف الضيقة التي عشت بها , وعن نجاة التي خطبت لمعبد في قسم التاريخ , دبر لها مسكنا , وحياة أفضل , وعن سارتر الذي جعلني أفهم الحياة أفضل , وعن روايات دوستويفسكي , وأفكار البيركامي , وسيزيف الذي لم يتوقف حتى الآن عن صور الجبل حاملا صخرته , ثم نزوله كي يأتي بها مرة أخرى وهو يعلم إنها سوف تسقط , وتكلمت عن مؤلفاتي الحقيقية الخمسة ابتداء من ” رؤية الغد ” , وحتى كتابي التاسع ” سقوط صدام أم سقوط الوطن ” ,
وجدت قلمي ينسال , لاعترف إنها كتبي , لأول مرة … طرقت روضة الباب :
– السيدة هدى تتعجل المقال ..
صرخت في وجهها :
– لم أنته بعد …
مرة أخرى قالت , بعد قليل : هات ما كتبته … أطبعه …
صرخت : لم أقل بعد كلمتي الأخيرة …
يبدو إنها فهمت , سلمت المقال منقوصا إلى روضة , التي أرسلته لفورها عبر البريد الاليكتروني , ورحت أرتجف , تمنيت أن تراجعه , أو أن تراجعني , وألا ترسله , ورأيت مستقبلي الأسود , وأنا موقوف عن العمل , مطرودا من المؤسسة , مغضوباً عليّ لأنني تجرأت , وفعلت ما فعلته , واعترفت ببعض الحقيقة , سوف يكتشف الأستاذ أن السيرة التي ذهبت إليه كي يقرأها فخورا تخص شخصا آخر , لا يعرفه , وأن ذلك قد يوقعه في مشاكل عديدة , قد تدفعه إلى إلغائها , وهو الذي يعتمد عليها بقوة , لكنه سيضطر إلى أن يلغيها , ففيها كثيرا ما يعيبه , وسوف يتصل بهدى عقب الحفل , لاعنا أسلاف أجدادي وأخلاقهم , آمرا بطردي بلا عودة , والاستعانة بشخص آخر من مئات الموجودين في المؤسسة الذي يعرفون إنني الكاتب الأول للأستاذ .
في العاشرة مساء , ظهر رقم هدى على هاتفي , فارتج كيان الهاتف من أصابعي المرتجفة , أغلقت عينيّ , كي أتقبل مصيري المنتظر , وسباب لم اسمعه من قبل في حياتي , اختنقت كلمة ” ألو ” في جوفي , حين جاءني صوتها :
– شكرا يا أستاذ .. الأستاذ يشكرك … سوف يتكلم إليك بنفسه , صباح الغد … الكلمة كانت رائعة .. نالت تصفيقا حادا … أنت عبقري يا أستاذ …
ليلتها اكتشفت لأول مرة أن لغتنا العربية عاجزة عن أن تعبر عن المشاعر المتناقضة التي تصيب شخص مذبوح , في مثل حالاتي , توقع أن يقصوا له رقبته بمقص عملاق , فإذا بهم يضعون فوقها أكليلا من الكذب والنفاق ..
يا إلهي .. سرق عاصم النيال سيرتي الذاتي , واستعذبها , ونال بها نجاحا إضافيا , ونسبها لنفسه …
بعد مكالمته اللطيفة لي صباح اليوم التالي , وهي المرة الوحيدة التي سمعت فيها صوته في الهاتف , قررت أن يصير اسمي , وإلى الأبد , عاصم النيال ,دون أن أذهب لأدون ذلك في السجلات المدنية , وبدأت أكتب بشخص جديد مختلف تماما عن عامر مفتاح الذي طردته من جعبتي .
***
الثاني
كاتب سيناريو
مشهد رقم (1) ,
نهار داخلي , مكتب كاتب سيناريو
يجلس كاتب السيناريو بديع عبد الرحمن , خلف مكتبه , في شقة , تبدو من خلفها مدينة القاهرة القديمة بأسطح بيوتها المغطاة بالمخلفات , رغم أن الشقة نفسها في عمارة عالية , فخمة , جديدة , على الجدار الخلفي للمكتب صورة بديع عبد الرحمن , يصافح السيد الزير , ويستلم منه شهادة تقدير , وعى الحوائط الأربعة إطارات مختلفة متعددة الأحجام لشهادات تقدير حصل عليها بديع عن أعماله المختلفة , يبدو بديع أنيقا بشكل ملحوظ , يرتدي قميصا شبابيا , مشجرا , متعدد الألوان , مفتوح الصدر , يبرز منه شعر صدره الأبيض , يقترب سنه من الثانية والستين , يجلس خلف المكتب , حين يبدأ المشهد يدق جرسا المحمول , والهاتف الأزرق الموجود إلى يمينه .. يبدو كأنه معتاد أن يفعل ذلك , يضغط على زر المحمول , ثم يرفع سماعة الهاتف الأزرق , ويتكلم :
– من فضلك .. لحظات …
ثم يتكلم في الهاتف المحمول , بصوت على شكل ملحوظ , كأنه يود أن يعلم المتحدث في التليفون الأزرق أن لديه مكالمة مهمة في المحمول .
– آلو .. أهلا … سيدتي الرائعة … صباحك مثل شهرتك .. رائع , ومشرق … أنا تحت أمرك ..
تبدو السيدة الرائعة المقصودة , على الجانب لآخر من الهاتف :
– أستاذ بديع … شكرا للإطراء … أنا الذي تحت أمرك …
– أمرك يا هانم … كل شيء جاهز … المشاهد الأخيرة … سنرسلها خلال ساعة مع مخصوص إلى سيادتك … حضرتك في البيت ؟
– عندي حديث في محطة فضائية … أخي في المنزل … هو ينتظرك … لا تتأخر من فضلك
– طلباتك أوامر … يا نجمة الشرق ..
نسمع صوت ضحكتها المجلجلة عبر هاتفه
– مع السلامة …
– مع السلامة ..
– ألف سلامة …
– لا تتأخر , أريد أن أقرأ …
– مسافة الطريق … ألف سلامة
يغلق السماعة , ويبدو كأنه ينتبه إلى أنه يمسك السماعة الزرقاء بيده الأخرى , يسرع كي يرد على من يكلمه :
– من .. أحمد …؟
تتغير سحنته في غضب ملحوظ ..
– أحمد .. أين أنت … أين الورق الذي معك … كما سمعت لا تتأخر .. قلت لك لا تتأخر
قطع
مشهد رقم (2)
نهار خارجي . داخل حافلة ميكروباص
أحمد شفيق يجلس حبيبته نورا , في الميكروباص , وهو في الثامنة والثلاثين من العمر , يبدو شعره أبيض بشكل ملحوظ , رغم سنه الصغير نسبيا , أما نورا , فهي متواضعة الجمال , في الحادية والثلاثين , ترتدي ملابس بسيطة . يجلسان في وسط الحافلة , يبدأ المشهد , وأحمد ينهي مكالمة , تفهم منها أنها مع بديع عبدالرحمن , يبدو سعيدا بشكل ملحوظ , ينظر إلى نورا , وهو يبتسم , تنزل الكاميرا إلى يده اليسرى , وقد تشابكت في قوة بيدها اليمنى , ثم تصعد مرة أخرى إليه , وهو يتكلم
– خلاص .. اليوم .. سنأخذ الجزء الثاني من المبلغ ..
– الحمد لله .. فرجت .
تركز الكاميرا على وجه شاب يجلس خلفهما مباشرة , يبدو كأنه يستمع إلى كلامهما , له زغب خفيف في وجهه , سنه لا يتعدى التاسعة عشر , تلمع عيناه , لما يسمعه من كلام :
– ألم أقل لك .. وجهك سعد …
– ربنا يرزقك ..
– لو مشينا هكذا … يمكن أن يكون معنا عشرة آلاف جنيه قبل ديسمبر
– أدخرهم ..
– أحبك يا بلهاء ..
– أحبك يا عبيط
أثناء الحوار , يكون الغضب قد علا وجه الشاب , الجالس في المقعد الخلفي مباشرة , فجأة يضرب أحمد فوق رأسه بقوة :
– احتشم يا رجل
تنتقل الكاميرا سريعا لتعكس ما يحدث في السيارة , من ردود فعل سريعة , لهذه الصفعة فوق الرأس , ينتبه أحمد أن الشاب الصغير أقوى منه , فيبدو مترددا وهو يهم بضربه , يحاول الشاب أ يبرر سببا لما فعله , يتكلم بصوت مسموع , لمن فاجأهم صدى الصفعة :
– هذه الكلمات لا تقال في ميكروباص ..
ينتفض أحمد من مكانه , وكأنه يهم بمقاتلته , دون أن يجرؤ على ذلك , بينما يلهث الشاب , كأنه قذف بشحذته في الصنعة , دون أن يود استكمال الموقف , أو أن يتحول ما حدث إلى معركة . يأتي صوت السائق من الأمام :
– ماذا جرى يا شباب
يردد أحد الركاب : لا شيء … يا أسطى , أكمل طريقك
امرأة من الراكبات تقول في شماتة : عنده حق .. أنا سمعت …
تقول نورا في خجل , وكأنها تدافع عن نفسها : ماذا قلنا , ماذا فعلنا .
يردد الشاب الذي صنع : هذا مكان له قدسيته .
يتدخل أحد الركاب : أنا لم أسمع شيئا …
يرد الشاب نفسه : أنا سمعت … لا أريد أن أقول ماذا سمعت … فجور ..
يتمتم أحمد : فجور .. الله يسامحك ..
الراكب نفسه , يقول : لم أسمع شيئا … ثم من أعطاك السلطة كي تتصنت عليهما.
المرآة المتحمسة للصفعة تقول : الفجور ساد الدنيا ..
السائق من الأمام يوقف السيارة , وهو يقول : هل سينزل أحد …
يندفع أحمد وفتاته بأسرع مما يتصور أحد , ويغادران الحافلة ,
تنطلق الحافلة , في لقطة من أعلى , بينما أحمد ونورا تملأهما الدهشة , والانكسار , ومن أعلى , تسقط الأوراق منه , فيسرع كي يلمها , وتساعده نورا في ذلك
قطع
مشهد (3)
مكتب بديع . نهار / داخلي
يدخل كاتب السيناريو الشاب سامي شوكت إلى المكتب , ويلاحظ أن بديع يرتدي نفس ملابس المشهد رقم (1) ويتحدث في الهاتف , ويبدو منشغلا , بينما يقف سامي ومعه رواية ” الميت الحي ” الصادرة في سلسلة أبو الهول , وهو ينتظر حتى ينتهي بديع من المكالمة , يبدو أن بديع منشغل في مكالمة خاصة :
– خلاص يا حبيبي … سوف أشارك في الإنتاج … اعتبري أن الورق جاهز .. يوم الخميس , مع السلامة .
أثناء الحوار , ينظر بديع إلى سامي ,يمسك الرواية , التي معه , وينظر إليها في ازدراء واضح , وبعينين يملاها العتاب ينظر إلى سامي , الذي يبدو مرتبكا ..
– ما هذه …
– رواية … تصلح فيلما .. رواية مهمة لكاتب فرنسي , حصل على جائزة جونكور .
– أعرفها …
– هل قرأتها …
– بلغتها الأصلية
– بالفرنسية .. اسمها الموت يمسك بالحياة .. هل تحب أن أحكي لك المزيد عن المؤلف .. هنري ترويا ؟
– هي رواية جميلة …
– لماذا هذه الرواية بالذات …( يكرر ) بالذات ؟
– موضوع غامض , أظنه تحول إلى فيلم فرنسي ..
– ( في حدة ) لماذا هذه الرواية بالذات , اسمع يا سامي , أنا لا أحب الماكرين .. لماذا رواية عن كاتب ينسب إلى نفسه تأليف رواية كتبها صديقه الراحل ,
– لا أفهم …
– بل تفهم .. هل تقصد شيئا .؟. أنت تقصد ذلك .. اسمع .. عماد الحساب الذي أرسلك كي تتجسس على شغلي لن ينفعك
– والله … لم ..
– خذ حسابك … ومع السلامة .. شرفتنا ..
– في تلك اللحظة , يدخل أحمد شفيق , وقد بدا عليه التعب , يقف عند باب الغرفة , عندما يلحظ أنه دخل في لحظة غير مناسبة , يتراجع سامي نحو الباب , بينما يغير بديع من لهجته :
– – تعال … يا أحمد … خلصت الورق ..؟
يخرج سامي , بينما يتقدم أحمد , الذي يطلق التحية :
– كيف حالك يا أستاذ … معذرة … المتطرفون ملأوا المدينة
ينظر بديع إلى الأوراق المتسخة , التي أمامه , يبدو وجه أحمد معبرا , وقد اكتسى بهزيمة ملحوظة
قطــــــــــــع
مشهد (4)
مطعم شعبي . نهار / خارجي
يبدأ المشهد بصوت قرآن كريم بصوت قاريء خليجي . ينبعث من مسجل موجود, فوق المكان الذي يجلس أمامه صاحب المطعم , والذي يدير منه المكان , من طباخين , إلى النادلين , ثم تتحرك الكاميرا نحو أحمد شفيق , ونورا اللذين يجلسان في طرف المكان , وقد كادوا أن ينتهيا من التهام الطعام .
وبينما يفصص أحمد بقايا الدجاجة التي يكاد ينتهي منها , ونورا تفعل الشيء نفسه , يدور الحوار :
– لو استمر الأمر كما حدث , يمكننا أن نشتري سيارة صغيرة …
– السيارة أم الشقة …
– غرفتك الصغيرة تكفي … شهدت ذكرياتنا الحلوة , بعد حادث اليوم , لا ميكروباس بعد اليوم
– أريد أن أعرف ماذا فعلنا ,
– أخبرتك مرارا إنهم قادمون …
– هذا شاب لا يتعدى أن يكون محارا , ماذا يفهم في الفجور … والفضيلة ,
– كان يتجسس علينا ..
– كل الناس تتجسس على بعضها بدرجات مختلفة
يقوم أحمد , ويتجه إلى الحوض كي يغسل يده , ونسمع أثناء ذلك التمخط الملحوظ لرجل يغتسل في الركن الأيمن من الحوض
قطــــــــــــع
مشهد (5)
غرفة في شقة إلهام – ليل / داخلي
غلاف الرواية الفرنسية ” الموت يمسك بالحياة ” للكاتب هنري ترويا , تتحرك الكاميرا , بحيث تبدو في يد بديع وهو مسترخ نصف عار فوق فراش , إلهام , التي تدخل عائدة من الحمام , وقد لفت جسدها ببشكير أبيض يعكس سمارها الملحوظ , تقوم بتجفيف شعرها بالفوط , وهي تتكلم إليه , تظل أغلب المشاهد بهذه الصورة , وهي تتحرك كثيرا في مكانها . نشير إلى الرواية , التي في يده :
– هل هذه الرواية أعجبتك … ؟
– بالتأكيد …
– تعرف أنني لا أجيد الفرنسية … إلا في … ( تضحك )
– سأحكي لك موضوعها , أنه موضوع طريف , امرأة جاءت إلى صديق زوجها , وقدمت له مسودة رواية كتبها المرحوم ( يضحك ) , وتطلب منه أن ينشرها باسمه , لأن الحي أبقى من الميت ..
تقترب إلهام من بديع , وتنثر شعرها المبلل نحوه , فيحاول أن يتفادى الرزاز , يحاول أن يجذبها مرة أخرى إليه , لكنها تبتعد .
– أكمل .. موضوع طريف
– تنجح الرواية , وتتحول إلى فيلم , ويكسب الكثير , ويصبح مشهورا , ويأتي الناشرون يطلبون منه رواية ثانية , فيعجز ..
– لا تصلح أن تكون فيلما ..
– بل ألف تصلح , نضيف شخصيات … تكون له زوجة , زوجة الكاتب تشعر بالغيرة , تختلف مع الكاتب , تهدده بالفضيحة , وأشياء من هذا القبيل ..
– رأيناها من قبل .
يضحك ملء شدقيه , لقطة كبيرة على وجهه الضاحك :
– كل الأفلام المصرية رأيناها من قبل
قطع
مشهد (6)
ستوديو سينمائي , ليل / داخلي
في ستوديو , يتم تصوير أحد المشاهد السينمائي , لفيلم كتبه بديع عبد الرحمن , الممثلة هويدا المصري , مع الممثل الشاب ناجح فايز أمام الكاميرا في قبلة طويلة , تتحرك الكاميرا , إلى أن نرى وجه المخرج عصمت زمالك ينظر في دهشة إلى القبلة الحارة بين بطلي الفيلم .
يهب عصمت فجأة من مكانه , ويتف :
– ستوب …
تستمر القبلة في حرارة شديدة
– ستوب …
قطــــــــــــع
بديع :
نادر :
بديع :
نادر :
بديع :
شويكار :
بديع :
نادر :
بديع :
شويكار :
بديع
المذيعة :
بديع :
المذيعة :
بديع :
المذيعة :
بديع :
المذيعة
بديع
نورا :
أحمد :
نورا :
أحمد :
أحمد :
نورا :
أحمد :
نورا :
أحمد :
نورا :
أحمد :
صادق :
كاريمان :
صادق :
كاريمان :
صادق :
صادق :
أحمد :
صادق :
أحمد :
مشهد (7)
منزل عصمت زمالك وزوجته هويدا المصري .
ليل / داخلي
تبدو شقة المخرج عصمت زمالك بالغة الفخامة , ما إن تدلف منها زوجته هويدا , حتى يدخل وراءها غاضبا .
– لا .. كاتب السيناريو لم يكتب مثل هذه القبلة الطويلة
– ألم نتصل به … بماذا أخبرك … ؟
– قال .. لم يعرف ماذا يقول .. أولا .. مرة كان أسمك شفيقة , في الرواية , ومرة أخرى اسمك شريفة
– ( تضحك ) ألم أقل لك .. إنه ليس الكاتب …
– البركة في الورشة …
– لا تهمني ورشة , المهم إنك اندمجت …
– قلت لك رائحة فمه كريهة , حاولت أن أشد نفسي منه … هو الذي اندمج ..
– كله يندمج .. ناجح اندمج .. ونعيم تعامل معي على أنه كاتب السيناريو , وأنا أعرف الشاب الذي كتبه له ..
– الفيلم سينجح … أنا متأكدة …
وجه المخرج يملآ الشاشة : وأنا أيضا .. لن أترك المونتير يقص هذه القبلة .. سأتحايل على الرقابة .
قطــــــــــــع
مشهد ( 8 )
فندق يطل على البحر ,
نهار / خارجي
يجلس بديع عبد الرحمن , فوق مقعد شيزلونج على طرف حمام سباحة , في فندق يطل على البحر , يبدو متصابيا بشكل ملحوظ , يجلس أمامه اثنان من الشباب الصحفيين , نادر , وشويكار , بينما يجلس أحمد شفيق في الخلف كأنه ينتظره , من الواضح أن الشابين الصحفيين يجريان حديثا مع بديع , يبدو الاثنان وكأنهما من صحيفة محلية , أو صفراء كما يقول بديع .
الصحافة الصفراء تهاجمنا , وأنا في إمكاني أن أجرهم إلى المحاكم , شاب مثلك ادعى إنني أقتبس قصصي من الأفلام العالمية , هات لي دليلاً واحداً .. يا حبيبي , كل موضوعات الدراما تنحصر في خمسة وثلاثين موضوعا , ثم اختصارها إلى سبعة عشر فكرة .
لكن
دعني أكمل , أنا أعرف , قرأت أكثر منك , أستطيع أن أعرف , أنا كتبت في أحد أفلامي أنه مقتبس .
لكن
قلت لك دعني أكمل .. ( يبدو مترددا ) قل ما عندك .. حتى تعرف أنني ديمقراطي .
ما رأيك في الورشة الفنية .؟.
عمل مشروع , وإن كنت لا أعمل به , نحن ندرب مجموعة من الشباب مثلكم … أنت مثلا , بدلا من أن تعملي في صحيفة صفراء .. يمكنك المشاركة معنا , تتعلمين كيف تكتبين … و
هل هو عمل مشروع حقا ..
وهل من المشروع أن يمتص رئيس التحرير في جريدتكم , مجهودكم , فلا يعطيكم نقودا , وفي صحف لا يقرأها أحد .. هل هذا مشروع ؟
هل هذا الكلام للنشر .. ؟
طبعا .. أليس لمصلحة الجريدة
قطــــــــــــع
مشهد (9)
مهرجان سينمائي , ليل / داخلي
على خشبة قاعة كبيرة , يقف مسئول كبير , يتم اختياره حسب قوة المشهد , وإلى جواره رئيس مهرجان , تنادي المذيعة زينات فهمي على أسماء المكرمين . يقف النجم السينمائي الكبير سنا , وشهرة , على السويقي , إلى جوار رئيسة المهرجان , بينما يتم النداء على كاتب السيناريو الكبير بديع عبد الرحمن .
بقعة ضوء كبيرة تسقط على القاعة الكبرى , نحو المقعد الذي يجلس فيه بديع , الذي يقف في مكانه , وسط تصفيق حار , خاصة من الجالسين إلى جواره , زملاءه , صفير واضح وتصفيق من القاعة الخلفية , شخص ينادي ” أيوه .. يا عم ” كنوع من التحية .
تنتقل الكاميرا لتصور , وجه المسئول الذي يستعد لاستقبال بديع الذي يصعد بما يناسب سنه , وبوقار شديد ، الدرجات القليلة , يقف فوق خشبة المسرح , ويوجه تحية للجمهور , حيث يخرج من جيبه وردة بيضاء , يرمي بها إلى الجمهور , فيزداد التصفيق , يخرج وردات أخرى من جيبه الآخر , ويكرر الشيء نفسه , لقطات لوجوه رئيسة المهرجان , والمسئول , وعلي السويقي وهم يبتسمون في بلاهة واضحة , ثم لقطات للجمهور الذي اشتعل نارا من التصفيق .
بكل ثقة يتقدم نحو المسئول , ويهم بمصافحته , وفي الخلفية التصفيق الحار , الذي يخفق قليل
قطــــــــــــع حـــاد
مشهد (10)
قاعة كبيرة
ليل / داخلي
مذيعة توجه الميكرفون نحو بديع , تحاوره , وسط زحام شديد , في قاعة , يختلط الجميع معا , لحظات إذاعية وقنوات تلفزيونية , تجري حوارات مع النجوم , والمكرمين , والمسئولين , والإداريين في المهرجان يبدو أحمد شفيق وحقيبته , في الخلفية , في إحدى لقطات الحوار , بما يعني أنه هناك , تجيء حيوية المشهد من تصويره لما يدور في مثل هذه الأجواء
أستاذ بديع , وسط التكريم الذي يأتي من مهرجان له شهرته , ماذا تقول بعد هذه الرحلة
أقول لها ما أجملك من رحلة .. وأشكر السادة المسئولين عن المهرجان , لتكريمي خاصة السيدة زينات فهمي رئيسة المهرجان .
ولو سألناك , ما أحب أفلامك إلى قلبك ..
كلهم أولادي … لأنني تعبت في كتابتها , كلها , وعانيت كي تكون في أحسن صورة ..
نريد فيلما واحدا … فقط
لو فعلت ذلك , لغضب مني بقية أولادي , قلت لك , كلهم أبنائي … وأحبهم بالدرجة نفسها , قد تقل أهمية فيلم عن آخر , وذلك لظروف الإنتاج , لكن لا … كلهم أولادي ..
وما هو فيلمك القادم
ماء الورد …
قطــــــــــــع
مشهد (11)
غرفة أحمد شفيق , نهار / داخلي
تجلس نورا أمام كومبيوتر قديم , وهي تتابع طباعة سيناريو فيلم ” ماء الورد ” , على الطابعة المجاورة للكومبيوتر وقد ارتدت قميص نوم أحمر ساخن , أو ربما يوحي المشهد إنها عارية تماما مع الأخذ في الاعتبار ما يمكن للرقابة أن تحذفه , ويبدو ذلك على شاشة الكومبيوتر التي تعكس ذلك , تتكلم إلى أحمد الذي يبدو في الحمام , أو في المطبخ يعد لنفسه فنجانا قهوة ..
أنا ضد تسميته ” ماء الورد ” ..
هو اسم جديد , غير مألوف , المهم الموضوع .. سينجح تجاريا ..
هل تعتقد أن الرقابة ستوافق عليه
تعرفين إننا نكتب , وفي ذهننا الرقابة , نكثر من المحظورات , حتى إذا وقفت الرقابة ضد فزنا بما نريد ، ماذا سيلغي الرقيب , عشرة مشاهد , يكون أمامنا أكثر من عشرة أردنا فيها أن نقول ما نوده .
أثناء هذا الحوار , يخرج أحمد من المطبخ على غير المتوقع , بملابسه كاملة ,وهو يمسك فنجان القهوة , ويقترب من الكومبيوتر , كي يتأكد أن ل شيء على ما يرام , ثم يقبل كتف فتاته العاري , ويتحسسه :
رائع … سنسلمه في موعده ..
ألن تسأله أن يكتب اسمك عليه ..
يبدو الضيق على وجهه , وه يتكلم :
لمحت له , غضب , ولم يوافق ..
حاول أن تكتب سيناريو لنفسك ..
لديه شبكة علاقات مع المنتجين ,
هل ستظل هكذا طيلة عمرك ؟ .. تكتب للآخرين ..
يلتفت حوله , خوفا أن يكون أحد قد استمع إليها .
ماذا … اخفضي صوتك .. لئلا يسمعك أحد …
تنظر إليه في دهشة , بينما يبدو وجهه مرتعبا أكثر من اللازم
قطــــــــــــع
مشهد (12)
فندق – نهار / خارجي
فندق ضخم , يطل على النيل , تبدو مدينة القاهرة , بالغة الاتساع , الشرفة واسعة بشكل ملحوظ يجلس صادق السمري أمام مائدة مستديرة من المامبو , وقد وضعت فوق المائدة أكواب كثيرة , توحي بأنه كان هناك الكثير من الزوار , صادق في الثامنة والثلاثين من العمر , يتكلم في الهاتف , بينما تنعكس صورة أحمد وهو خارج من الحمام بما يوحي أنه كان يتبول . يتكلم صادق مع المنتجة كاريمان
السيناريو جاهز الآن , يمكن أن تبدأ , التصوير كما تشائين
اسمع يا صادق .. لا أريد أخسر نقودا مثل الفيلم السابق ..
هذا فيلم مضمون النجاح … صدقيني ( همسا ) لكن , سبعة أيام في الفندق لم تكفي ..
اسمع يا صادق .. كانت الفاتورة ساخنة في المرة الماضية … سبعة أيام ضيافة كاملة , فقط كي تكتب
اسمع يا صادق … هل يحتمل جوفك كل هذه الخمور
(ضاحكا ) إنه ليس جوف … إنه بئر عميقة ( يضحك )
هنا يكون أحمد شفيق قد دخل الشرفة . فتتغير طريقة الكلام التي يتحدث بها صادق إلى المنتجة التي تبدو كأن لازمتها في الحديث تنحصر في ” اسمع يا صادق ” . يسخر منها صادق
اسمع يا صادق .. اسمع يا صادق .. سمعت .. سوف أكلمك في وقت آخر .. عندي ضيوف ..
يضع صادق الهاتف المحمول , بينما يلتهم أحمد شفيق من تفاحة حمراء , يسحب صادق مظروفا صغيرا منتفخا يدفع به الشاب الذي يشد سست بنطاله ….
أكثر شيء يفعله الإنسان في حياته هو دخول الحمام .. هل سألت نفسك كم مرة تدخل الحمام يومياً ..؟
لا تهمني هذه الأسئلة … المهم .. السر في بئر …
أنا الذي أقول ذلك , لو عرف الأستاذ حكاية الفيلم , سيحطم رأسي ..
قطع
مشهد (13)
بهو الفندق نهار / خارجي
يخرج أحمد من المصعد , وينظر مباشرة , ناحية المقعد , في البهو , الذي تجلس فيه , نورا , ما إن تراه حتى تقوم من مكانها , وتتجه إلى بوابة الفندق , يمشي بخطى ثابتة , وما إن يلحق بها , حتى تمسك يداه اليمنى في مودة ييسراها ..
قطــــــــــــع
أول تعليق : السيناريو يبدو ناقصا .. أليس كذلك ..
الرد ك كل سيناريوهات العالم ناقصة , لذا , كلمة النهاية لم تعد تكتب في المشهد الأخير من الفيلم . ولذا فإن الأفلام الآن جزء ثان , وثالث , ورابع , وهناك فيلم أمريكي يتم إنتاج الجزء العاشر له .
التعليق الثاني : لكن حسب قانون الأفلام , فإن الأشرار هنا … لم ينالوا العقاب المنتظر , يجب أن يتم اكتشاف أمر أمثال بديع عبد الرحمن , وصادق السمري , وأمرك أنت أيضا .
الرد : لم أرتكب معصية , هو تاجر متميز , يجيد تسويق بضاعته , ولديه اسمه الذي يساعده في ذلك ، هو يتعامل معي كأستاذ , يتبناني , يعلمني , بدونه لم أكن سوى مدرس جغرافيا , ألهث وراء دروس خصوصية , في مواد لا أتقنها , مثل اللغة العربية , أو الإنجليزية , لكنني الآن صاحب شقة في مدينة نصر , ومتزوج من امرأة عانت معي الأمرين , وترددت عليّ في غرف حقيرة ضيقة , وكتبت لي السيناريوهات على الكومبيوتر , وأضافت إليها , واحتفظت لي دوما بنسخة على الاسطوانة تحمل اسمي , وأنجبت لي ابني الوحيد , ترعاه , وترعاني , يجب أن يكون لدينا الولاء لمن علمونا …
التعليق الثالث : وصادق .. وغيره .. ألم تبع هذه السيناريوهات ؟
الرد : وماذا في ذلك .. كنت في حاجة إلى المال لأدفع أقساط الشقة … هي وظيفة , لا يعاقب عليه القانون رغم أنها قد تثير الفضائح , لكن كل الفضائح لا تلبث أن تذوب مع ضربات الواقع المؤلمة .. نحن في الواقع مثل من يجري فوق الماء … ينطلق , دون أن يعرف أنه قد يغرق في أي لحظة , وعليه أن ينطلق مثل أبطال القصص الفنتازية دون أن ينتابه الإحساس أنه في خطر ..
وتكميلي : لماذا الغضب علينا , ليت هذا الحال قد دام .. فالجيل الذي جاء أخيرا ليكتب الأفلام , حطم معبدنا الذي طالما اختبأنا فيه , فجلسنا في الظل , نرى الملايين تتساقط فوق رؤوسهم المبتسمة , ونشوة النجاح , لم يحظ أي منا بهذه الأرقام , لا نحن ولا من علمونا , الآن , لم يعد المنتجون يعبأون بأمثال صادق السمري , يستأجرون له جناحا في فندق ضخم , لمدة أسبوع , أو أسبوعين , كي ينتهي من كتابة سيناريو , سواء كتبه هو أم غيره .. مسكين صادق الذي لم يتجاوز الخامسة والأربعين , أحس أنه موضوع فوق الصندرة , وعليه أن ينتظر حتى نهاية عمره القصيرة , لينزل من فوق الصندرة , سمعت أن رقابة التلفزيون رفضت له أكثر من سيناريو , لا أعرف السبب الحقيقي في ذلك ,
سؤال أخير , أو قبل الأخير : هل تعتقد أن الكتاب الجدد , سيحتاجون إلى من يكتب لهم يوما ؟
الرد : لا أستطيع أن أحدد , فنحن في زمن تغيراته حادة للغاية , وحتى الآن , فإن أحدا لم يستعن بي , أو يطلبني في مكالمة , ربما أن لبعضهم من يفعل يكتب له , لا أستطيع أن أجزم .. كل ما أستطيع أن أقوله أن أقراننا موجودون , مع كل زمن يجددون أنفسهم بوسائل مختلفة .
الثالث (ة)
مذيعة أطفال
.. الحدوتة الأولى ( عن الأمانة )
ماما تهامة , يا أطفال , تقول لكم مساء الخير ..
وبطل حدوتنا اليوم , صياد عجوز , في السبعين من عمره , لم يعد قويا مثلما كان في الزمن الماضي , صار عليه أن يخرج مرة واحدة في الأسبوع , بحثا عن صيد ثمين … يكفيه طوال الأسبوع .. فهو يعيش وحيدا , بلا عائلة .. والصياد العجوز اسمه أمين , وهو بالفعل شخص أمين , لا يجب أن يأخذ لنفسه ما ليس من حقه , أو أن ينسب إلى نفسه مجهود غيره ..
ذات يوم , يا أطفال , خرج العجوز إلى البحر , لم يكن قد اصطاد سمكا منذ عدة أيام , وراح يدعو ربه أن يرزقه برزق أيامه القادمة , وأخذ قاربه , وأبحر به إلى الأفق البعيد , ورمى شبكته الصغيرة , ثم نام , وراح يحلم أن أسماك مملكة البحر خرجت إليه تدعوه أن يأخذها معه إلى البر , لتعيش هناك , وأن تتخلى كلها عن خياشيمها , التي تتنفس بها تحت الماء , وأن تستبدل الخياشيم بأنوف يمكنها بها أن تحيا دون ماء … واستيقظ العجوز أمين ليجد نفسه وسط النهار , وقرر أن يعود بالشبكة مهما كان الرزق فيها .
وعندما خرج إلى البر , راح يبيع السمك إلى من يشتري , وجاءه رجل فقير , فاشترى السمكة الكبيرة , ثم باع بقية السمك الصغير معا , لرجل آخر , وزوجته … وفي نهاية اليوم , وبينما هو يصلي صلاة المغرب , طرق عليه الباب , فلما انتهي من صلاته , فتح الباب , فوجد الرجل الفقير الذي اشترى منه السمكة الكبيرة , يمد له بشيء يلمع , وقال :
– يا عم أمين , اشتريت منك السمكة الكبيرة , ووجدت فيها هذا الخاتم المرصع بالماس .
اندهش عم أمين من المفاجأة , ومن أمانة الفقير , فقال له :
– هو خاتمك .. لأنك اشتريت السمكة بما فيها …
رفض الرجل أن يأخذ الخاتم , فهو اشترى السمكة فقط , أما الخاتم فيساوي آلاف ثمن السمكة التي كان بداخلها , ودار نقاش ساخن , بين الرجلين , فالخاتم من حق من … وبعد نقاش , وجدل , ذهب الاثنان إلى كبير القرية , الذي تفحص الخاتم وقال:
– اسم صاحب الخاتم .. مكتوب عليه .. إنه الثري الكبير مظهر , الذي يسكن عند الطرف الآخر من البحر ..
قرر العجوز أمين أن يذهب بالخاتم المرصع بالذهب إلى حيث يسكن الثري ، وأن يعيد إليه ما ضاع منه , وأصدر كبير القرية قراره , إنه إذا منح الثري مظهر للعجوز أي مكافأة , أن يهب جزءا منها لأعمال الخير , ويقتسم الباقي مع الفقير الذي اشترى السمكة ..
في صباح اليوم التالي , أبحر العجوز أمين في قاربه فوق البحر , ناحية الجانب الآخر , حيث يسكن الثري مظهر , ظل فوق الأمواج , ليل نهار , حتى وصل البر الآخر بعد ثلاثة أيام … وما إن وصل حتى سأل عن قصر الثري مظهر ..
وعندما اقترب من القصر , سأل الحارس مقابلة صاحب المكان , وأخبره أن لديه شيء ثمين فقده , وأنه جاء ليعيده إليه , وبعد قليل إلتقي بالثري مظهر , الذي سأله في عجرفة واضحة :
– هل أنت الذي سرقت خاتمي المرصع بالماس ؟
اندهش عم أمين , وقال :
– لا , يا سيدي الثري مظهر , بل أنا صياد , اصطدت سمكة كبيرة , بعتها إلى رجل فقير بداخلها الخاتم المرصع بالماس ..
وراح الذي يضحك بصوت عال , مليء بالسخرية , والغضب , وهو يقول :
– هل تعتقد أنني ساذج إلى درجة أن أصدق القصة , أنت لص , وأيضا كاذب .. قل الحقيقة , حتى لا أغضب أكثر , ولا أجعل الحاكم يضعك في السجن .
وجد الصياد الأمين نفسه في موقف لا يحسد عليه , وقص حكاية العثور على الخاتم المرصع بالماس , مرة أخرى , لكن الثري لم يصدقه , وكلما ضيق عليه الخناق . كرر القصة نفسها , فلا يصدقه …
وبعد ساعات من الأسئلة , حكى القصة نفسها , تضايق الثري أكثر , ثم قال :
– وقتي ثمين , مثل الخاتم , سأصفح عنك , فقط لأنك عجوز , من الواضح أن جسدك النحيل , لم يعد يحتمل عذابات السجن , أطلقت سراحك كي تعود إلى كوخك … وإذا كان ما تقوله صدقا , وإذا كانت الأسماك الكبيرة تأكل الخواتم الماسية , فسوف أعطيك فرصة جديدة كي تصطاد المزيد من الأسماك وبجوف كل منها خاتم مرصع بالماس .
وعاد العجوز إلى قريته , المطلة على البحر , قضى ثلاثة أيام حزيناً فوق قاربه ، إلى أن وصل إلى القرية , حيث استقبله الناس سعداء بعودته , وما إن نزل من القارب , حتى راحوا يبحثون عن أكياس الدراهم التي منحها إياها الثري مظهر …
حكى العجوز لأهل قريته ما حدث .. فلم يصدقوه , وراحوا يحاصرونه , ويضيقون عليه الخناق :
– أين المكافأة التي تستحقها , وحصلت عليها من صاحب الخاتم .
كرر العجوز حكايته , فلم يصدقه أحد .. هددته بالسجن , لكن العجوز الذي لم يعرف سوى الحقيقة راح يكرر الحكاية , حتى انفض عنه الناس … وهو لا يكف عن حكي القصة الحقيقية ..
أصدقائي الأطفال .. عنوان هذه الحدوتة هو الأمانة .. وأنا في رأي يمكن أن نسميها ” الصدق” .. وأيضا ” الحقيقة “, كتبتها لكم وقدمتها ماما تهامة .. وغدا لنا حدوتة جديدة , من حواديت ماما تهامة .. فيها التسلية , والمعنى والطرفة , وتترك لكم يا أطفال فرصة التفكير ..
[ ملحوظة :هذه واحدة من القصص التي كتبتها , وأذيعت ضمن برنامج “حواديت” ماما تهامة أكثر من مرة , قرأتها ماما تهامة بمهارة .
ملحوظة : لا تضارعها أية ماما أخرى في برامج الأطفال , ولا تعليق التوقيع .. كاتب لا يعرفه أحد ]
الحدوتة الثانية .. الحقيقة
ماما تهامة .. يا أطفال .. نقول لكم مساء الخير ..
صباح اليوم , جاءتني صديقة قديمة , أعرفها منذ سنوات عديدة , قالت وهي تتنهد:
– ماما تهامة .. لقد تعبت … تعبت كثيرا … حتى الآن , ورغم عمري الطويل لم يعرفني أحد …
أدهشني ما قالته صديقتي القديمة , التي أعرفها منذ أعوام طويلة , وقلت :
– أعرفك جيدا .. يا صديقتي العزيزة , ولم أنطق إلا بك … وأنت تعرفين ..
نظرت ألي صديقتي , الحقيقة , وقالت في حزن بالغ :
– يا ماما تهامة … وماذا يفيد … أنت الوحيدة التي تنطقين باسمي … وتحكي كل يوم للأطفال حكايات عن الحقيقة والصدق والأمانة . والشرف .. لكن الصغار , لن يلبثوا أن يكبروا في السن , ويصيروا شباب , ثم رجالا , يدخلون في دائرة الطموح .. والأحلام … وأتوه في دروب الحياة ..
وبصراحة .. يا أطفال فإن كلام صديقتي القديمة , قد أدهشني , ورحت أسأل نفسي:
– ترى ما هي الحقيقة …
وسألت أول صديق قابلته , وأنا في طريقي اليوم إلى العمل :
– اسمع يا صغيري .. ما هي الحقيقة ..
وبكل بساطة , وسذاجة , قال : الحقيقة … هي الحقيقة …
ضحكت كثيرا .. فطبعا , الحقيقة هي الحقيقة , وليست سوى ذلك . ثم قابلت صديقا آخر في النادي , وأنا أودي تمرينات الصباح فرد علي :
– الحقيقة هي الصدق …
ابتسمت وأنا أسأله : وما هو الصدق ؟
وسط حيرته , قال : الصدق … الصدق هو الحقيقة .
أحسست أنني لم أحصل على إجابة سؤالي , كل ما فعلته أن أخذت معي صديقتي الحقيقة , وقابلت بعض الأطفال , وسألتهم عن رأيهم في هذه السيدة , قال أشرف :
– هي بدينة بشكل ملحوظ .. أنه تشبه خالتي … أنا لا أحب البدينات …
أما عصام , فقد قال :
– هي تشبه مدرسة اللغة العربية , لكنها أقصر قليلا .
وردت نائلة :
– ليس ليّ رأي .. هي مجرد سيدة … تبدو عجوزا …
تمتم صلاح وقال :
– يبدو أنها تأكل الكثير من النشويات …
ثم ضحك , وقال قبل أن يغادر المكان : الحقيقة , كنت أمزح .. تبدو طيبة … للغاية
لكن وائل دقق فيها , وقال ها مسا : يا ماما تهامة … هل هي صديقتك حقا … ؟
هززت رأسي بإيجاب , فهمس بصوت خفيض أكثر :
– أنت ماما تهامة , الطيبة , صاحبة الحواديت المدهشة , كيف تصاحبين سيدة لها مثل هاتين العينين الشريرتين ؟
علق هشام بكلمات سريعة :
– دع الملك للمالك …
لوحت ” نسمة ” بيديها , وقالت ، وهي تسر نحو ملعب التنس :
– الله أعلم ..
حاول ” جلال ” أن يتفلسف كعادته , وراح يتأمل صديقتي القديمة , وقال :
– هل تضع شعرا مستعارا فوق رأسها .. أعتقد أنها أشيب الشعر , أو أن شعرها خفيف , تبدو عيناها وكأنها تضع عدسات لاصقة من نوع جديد , لا يعجبني لون ردائها المتعدد الألوان … ماذا .. الأخضر لا يتناسب مع الأزرق , ولا البني , أنا شخصية لا أميل إلى السيدات اللاتي يرتدين الأحذية ذوات الكعوب العالية …
رمقها إسلام , وقال :
– هي قصيرة بشكل ملحوظ ..
حاولت نهاد أن تقيس طولها , مقارنة بها , ورددت :
– طويلة جدا …
سألني خالد : هل تعرفينها جيدا , إذن قولي أنت رأيك أولا , يا ماما تهامة ؟
سألته بدوري , أكرر السؤال نفسه : ما رأيك فيها , هل تعرف ماذا تعني الحقيقة…
رد : الحقيقة , تختلف من شيء لآخر , ومن زمن إلى زمن ..
ثم أكمل : هذا القلم , حقيقة , له سن وأنبوبة , وغطاء , ولونه أبيض , و …
سألته صديقتي في محاولة لأن تعرف هل الكذب هو الخصم اللدود للحقيقة , أقصد .. كم كذبة ترددها كل يوم ؟
شرد قليلا , وتلعثم , ثم قال في ثبات ملحوظ :
– أنا لا أكذب … ولماذا أكذب .. ؟
بدأت صديقتي تتردد على الناس في بيوتهم , وفي المكاتب , وقابلت الأطفال في المدارس , وتحدثت إلى الناس في الإذاعة , واستضافها المذيع الشهير إيهاب الجندي في برنامجه ” البحث عن الحقيقة ” فلم يتعرف عليها أحد , ولاحظت أن أغلب الضيوف في البرنامج يستخدمون اسمها دون أن يعرفونها : في الحقيقة أن … في الواقع أنني … لذا قررت أن تترك البرنامج أثناء إذاعته على الهواء …
واليوم , أصدقائي الأطفال , أحكي لكم حدوني عن الحقيقة , التي قالت لي :
– أنا حسبما يفهم الناس … وحسبما يرونني , أرتدي في أعينهم ألف رداء , ورداء … وأمثل بالنسبة لهم وجهة نظرهم في الأشياء … ومعتقداتهم في كل نواحي الحياة … ولاحظت أن الحقيقة تود أن تقول شيئا .. في برنامجكم , كي تنقلونه إلى أحبائكم في كل مكان :
– اعتدت أن يكون لي ألف وجه وجه , ليس كل يوم , بل كل لحظة … أرتدي أثوابا عديدة , وأتشكل بألف شكل وشكل .. لم أعد أتضايق … ولم يعد القلق يساورني , فهكذا أنا … ودون هذا فأن الناس لن تعرفني .
– اسمح يا محجوب .. الحقيقة أن الإذاعة بدأت في تقليل المكافآت ، انها تعاني من أزمة مالية , ومع ذلك , ستظل المكافأة ثابتة مع علاوة ملحوظة بمناسبة العيد العشرين لتعاوننا معا .. ]
الحدوتة الثالثة : اللص الصغير
ماما تهامة يا أطفال .. تقول لكم مساء الخير
الحكاية بدأت مع تامر . حين كان في النادي , وهو في السادسة من عمره , تسلل تامر بين الموائد ووجد فجأة , مائدة خالية من أصحابها , لكن هناك بعض أكواب المثلجات … شب تامر في مانه , وأخذ لنفسه أحد الأكواب .
شعر تامر بسعادة بالغة . استمرت معه , كلما كان يأخذ شيئا يعرف أن ملك للآخرين , حتى إذا دخل المدرسة , أحس بأنه الصاحب الحقيقي للقلم الرصاص الأخضر الذي دسه في حقيبته , وحرص أن يضعه في درج صغير وسط الأوراق التي يعتز بها , لم يتكرر الأمر كثيرا بالنسبة للأقلام , مرة مع محماة فصار عنده ثلاث محا وات , وجرب ذلك مع كراس أحس أنه بلا قيمة , فرمى به في صندوق القمامة بالمدرسة , ولم يحس بأي ندم عندما سمع في مكبر صوت المدرسة أنه تم العثور على كراس يخص التلميذ يوسف صلاح الدين , بالصف الأول ..
لم يسأله أحد , في البيت , من أين أتى بهذه الأقلام , أو هذه الأشياء الزائدة التي لم يشترها له احد , لكن أخته الكبرى , سألته , وهو في الصف الثالث :
– هل تستخدمون البرجل في الفصل ؟
بكل جرأة , وثقة , أجاب :
– لا .. لكن لماذا السؤال … ؟
ردت : أرى بين أوراقك ثلاثة براجل … من أين أتيت بها ؟
لم يتلعثم قال بالثقة نفسها : إنها ملك لي .. اشتريتها من مصروفي ..
بدت الإجابة غير مقنعة , عرفت شادية أن أخاها يكذب , وخافت إن أبلغت أباها فيعاقب أخاها بقسوته المعهودة , واختفت البر اجل من المكان , وكأن تامر وجد مكانا أمينا يضع فيه الأشياء التي يأخذها عن غير حق من الآخر
بصراحة , إنها أشياء مسروقة .
لكن , تامر , كانت له وجهة نظر أخرى , ويقول :
– هذه أشيائي , ذهبت إلى الآخرين عن طريق الخطأ , المفروض أن تأتيني أنا , وهاأنذا أستعيدها لنفسي , وبالفعل , فعندما صار تامر في الصف الثالث , فوجيء بزميلته ” نهى ” تقول وهي تأخذ منه قلمها الأصفر الطويل :
– هذا قلمي … آخذته مني
نظر إليها تامر في دهشة , وغضب , وسحب منها القلم ذا الشكل الغريب , وقال:
– بل هو قلمي , وقد اشتريته من المكتبة
– فقدت قلما مثل هذا .. منذ يومين .. بالطول نفسه ..
– وهل كل قلم مثل هذا .. يكون قلمك … المكتبات مليئة بالأقلام …
– لكنه قلمي المميز … أنت كاذب ..
– هل تشتمينني يا نهى … سوف أشكوك إلى الأستاذ عادل
– بل أنا الذي أشكوك للأستاذ نادر …
وبعد مواجهة طويلة بين الاثنين .. تامر ونهى .. قال اللص الصغير لزميله أمام الأستاذين عادل ونادر :
– أستطيع أن أعطيك إياه .. كهدية إذا كنت ترغبين فيه .
قال الأستاذ عادل هذا موقف نبيل من تامر .
أحس الأستاذ نادر أن القلم يخص تلميذته , عضو أسرة السلام , وانتهى الأمر بأن عاد القلم إلى نهى , وتصور تامر أنه أعطاها إياه كهدية لا ترد …
وبدأ اللص يغير خططه , كان حريصا أن يخفي ما يأخذه , تصور أن الآخرين يطمعون فيما يملكوه , وإنهم يدعون ملكيته , بدأ يغلق درج مكتبه المتسع , بما حشره فيه من أشياء أخذها خلسة من أصحابها دون أن يدروا …
بصراحة .. كان يسرقها ..
كان يسرق السندوتشات , ويلتهمها قبل أن يكتشف أصحابها ضياعها , وعرف حمدي أن تامر هو الذي يفعل ذلك , فأخذ يحمل حقيبته أينما ذهب , وراح يتمتم له يوما :
– يا حرامي … يا حرامي …
وفي الصف الخامس , اكتشف أن عليه أن يخفي المزيد من الأشياء التي اقتناها من الآخرين , في أماكن أخرى , وصعد إلى الصندرة , ووضع فيه دمية الدبة لبيبة , وحاسوب صغير , داخ صاحبه عليه , دون أن يتخيل أن ذلك الصغير الذي زاره مع أبيه , يوما , قد تجرأ ودسه في جيب سترته .
وفي اليوم الأول من الصف السادس , كانت المفاجأة …
صرخ تامر : قلمي .. الجديد .. اشتراه لي أبي … لا .. المقلمة كلها , سرقت…
وراح زملاؤه الذين كم سرق منهم في الأعوام السابقة الماضية , يساعدونه في البحث عن المقلمة التي ضاع , قال تامر أنه وضع بها بطاقة المدرسة , ومصروف الشهر , وأدوات المدرسة للعام الجديد , فتشوا معه في أرض الطابور , وعلى السلم , وعند بوابة المدرسة … فجأة , صرخ :
– آه .. أنا ذلك اللص في الأوتوبيس , لقد سرقت و أحسست به يفتح الحقيبة .
حاول أن يتذكر ملامحه , لكنه لا يستطيع , ظل يتألم طيلة الأسبوع , ولم يستطع أن ينام , تقلب فوق حجرات الندم دون أن يعرف أنه كان يهذي :
.. أنا حرامي .. وسرقني الحرامي …
قالت له نهى صباح أحد الأيام : لعل من سرق المقلمة يفكر بمثل طريقتك القديمة, أن المقلمة جاءت إليك عن طريق الخطأ . وإنها عادت إليه …
وكانت هذه الجملة , أول طريق الندم الذي لم يبرح تامر حتى الآن ..
سيداتي وسادتي ..
كل الأطفال الذين يسمعون حواديت ماما تهامة , أراهم موجودين في هذه القاعة , يطلبون مني أن أكتب لهم المزيد من الحواديت , وأن أفوز من أجلهم بالجوائز الكبرى , والفائز الأول اليوم لست أنا , بل هم الأطفال الذين يشجعونني على الاستمرار في الكتابة , والعمل دون آخذ أجازة ليوم واحد طوال حياتي .
تصفيق حاد يملأ القاعة , تزداد أصداءه حين يصل إلى أرجاء مدينة الخرطوم , ويطير , حتى يصل إلى كل المدن , والقرى التي تعرف فقط اسم ماما تهامة , ودون أن أتمالك نفسي , أقف وسط الصالة , وأرفع رأسي بشموخ , وأرد على التحية دون أن الحظ أن ماما تهامة تفعل الشيء نفسه من فوق المنصة ]
الحدوتة الرابعة : السيف والكلمة
ماما تهامة يا أطفال .. تقول لكم مساء الخير
حدوتة ماما تهامة اليوم , بطلها فارس مغوار , عاش في كل العصور , ولديه سيف ضخم , لامع يعكس الضوء , وأشعة الشمس , ويعمل بكومبيوتر صغير , لكنه متطور للغاية , هذا السيف قدراته هائلة للغاية ليس لديه مثيل في كل الحواديت , فيمكن للفارس أبو السيوف أن يحول سيفه , إذا أراد ، إلى مدفع صغير طلقاته عملاقة , تنطلق إلى أبعد المسافات , ويمكنه أن يتحول إلى مسدس رصاصاته طويلة , كما يمكنه أن يتحول إلى عود اليكتروني بسيط , يعزف عليه أجمل الألحان , وفي بعض الأحيان , يتحول السيف الاليكتروني إلى قلم يكتب به القصائد , والحواديت البسيطة…
هذا السيف الاليكتروني , صار خطرا , وعندما سمع الحاكم الأكبر بحكايته , استدعى أبو السيوف , وقال له :
– أخشى أن يستغل اللصوص الأشرار نومك العميق , فيسرقون منك السيف الاليكتروني , ويستغلونه في عمل الشر ..
ولأن الفارس أبو السيوف , يعرف أنه ينام نوما عميقا , فقد وعد الحاكم أن ينصرف , وتحدث إليه وحده , وقال :
– سوف أجد وسيلة أخرى لحماية السيف …
وبعد ساعات , كانت المدينة تشهد رجلا عجوزا , يتوكأ على عصاه , يتجول في الحدائق , ويحمل فوق ظهره حقيبة جلدية , غريبة الألوان , يتجنب الحديث مع الناس … لم يكن هذا العجوز سوى أبو السيوف , الذي قرر أن يخفي فروسيته , أما العصا البسيطة الشكل فهي واحدة من الصور التي اتخذها السيف الاليكتروني .
ذات صباح , فوجيء الناس بأمر غريب , فالصحف والمجلات , والكتب , وحتى شاشات الكومبيوتر وشبكات المعلومات , قد صارت صفحات بيضاء .
ماذا حدث , هل هو فيروس أصاب المدينة … ؟
وكثرت الأسئلة , واكتشف أهل المدينة أن الكلمة اختفت , وقررت الذهاب إلى حيث لا يعرف أحد , وأمام هذه المحنة , استدعى الحاكم , الرجل العجوز , والعصا البسيطة , وقال له :
– اختفت الكلمة , ولا نستطيع أن نعيش بدونها , يجب أن نبحث عنها .
وأخرج العجوز عصاه , وسرعان ما حولها إلى كومبيوتر , لم تصبه أي عدوى , وراح يتكلم إليه :
– ماذا حدث .. أين ذهبت الكلمة ؟
وبسرعة قفزت الكلمة من الكومبيوتر , وقالت :
– لن أعود .. إلا إذا استخدمني الناس فيما أستحق
راحت الكلمة تشكو أنها صارت وسيلة للكذب , والنفاق , والتملق , والغش , والكسب السريع , والفساد , وأن كل هذه الأمور السيئة , خنقتها , فأثرت أن تحترم نفسها , وأن تختفي .
وسرعان ما اختفت الكلمة مرة أخرى , بينما اندهش الحاكم , مما سمعه , وراح يردد :
– أنا السبب , سمحت للناس أن يقولوا لي أنني أعظم الحكام الذين أنجبتهم التاريخ , وصدقتهم , وتصرفت على هذا الأساس , إنني الملهم الوحيد في التاريخ .. ونسيت أن الكلمات نفسها قيلت لكل من جلس فوق العرش نفسه الذي أجلس عليه .
وأصدر الحاكم أمره إلى كبير الوزراء أن يلغي كل الكلمات السيئة من القاموس .
قال الفارس :
– سيدي الحاكم , لا يمكن إلغاء الكلمات السيئة من القاموس , فقط , نحتاج إلى جهاز اليكتروني , يكشف النفاق والكذب .. ويضربهما في مقتل .
وسرعان ما بدأت المشاكل , فسرعان ما تجسدت المعاني السيئة , في مخلوقات شريرة , راحت تمسك سيوفا , وتقف أمام الفارس , أبي السيوف , وتستعد كي تتخلص منه :
– أنا النفاق , مرتبط بمصالح الناس , كلما نافقوا , كلما صدقهم الكبراء … يجب أن أعيش كي يبقى للناس مكاسبهم ..
وردد الآخر بصوته الأجش :
– أنا الكذب .. ما أحلى طعمي على ألسنة من يمارسونه , لأن الحقيقة مرة , بالغة المرارة ,
وردد الثالث :
– الناس تحب من يغشها , من يلف البضائع في أوراق مفضضة , أنا أضحك أمام الوجوه ويقبل الناس علي , مهما الأسعار ارتفعت , أو زادت …
ردد الفساد :
– سيحزن الناس كثيرا لو تم القضاء علي .. فأنا أعني التضخم , وأزيد كل يوم .. اعتاد الناس علي وجودي بينهم ..
وراح كل معنى سيء , يتجسد بقوة , أمام الفارس , أبو السيوف ,
وبدأت المعركة الكبرى , بين الوحوش , وبين الفارس , أبو السيوف , الذي راح يضرب بسيفه اللامع ذات اليمين , وذات اليسار , كان كلما قطع رقبة واحدا من خصومه , زرعت له رقاب عديدة , لم يحس باليأس , وظل يقاتل بكل ما لديه من قوة , حاولت الشيافين أن تصيبه , لكنه لم يتوقف عن القتال .
ومرت ساعات , والمعركة لا تنتهي . أحس الفارس بالتعب , والإنهاك , كاد أن يخور أرضا , في تلك اللحظات فقط , قفزت الكلمة من بين السيف الاليكتروني , وصاحت :
– أيتها المعاني الجميلة , دافعوا عن وجودكم ,
وفجأة , انتصب شباب وسط ساحة المواجهة , يبدو كل منهم أنيقا , قوي البنيان , يحمل في يده سيفا مشابها للسيف الاليكتروني , ملئوا المكان , استعد كل منهم لمعركة حاسمة , لا يعرف أحد متى ستنتهي وما هي نتائجها ..
صاح الفارس الأول :
– أنا الصدق . ما أجمل طلعتي , وما أحسن عواقبي , أنا الذي يجب أن أعيش , سوف أذيقك أيها الكذب لذة الموت , ومرارته .
وهتف الشاب الثاني , وهو يحرك سيفه في الهواء :
– أنا الشفافية , سوف أقاتل النفاق , صديق الرياء … حتى يأذن الله في أمر هذه الدنيا .
وبكل ثقة , تقدم , وقال :
– أنا الصدق , عند آخر النهار , سوف أضع خصمي اللدود , الغش , في صندوق الأشرار المكتوم , وأريح الناس من وساوسكم الأبدية .
وبدأت المعركة , بين أطراف بالغة القوة , وارتجت السيوف , والأسلحة بكافة أشكالها , والغريب أن الخصوم كانوا أشداء .. لم يعرفوا الهزيمة بسهولة , ولم يسقطوا عند أول طعنة , ويا أصدقاء … لا تزال المعركة مستمرة .
الحدوتة الخامسة : الكلمة المسروقة
يدون
– آلو … منصور .. مساء الخير … ماذا تفعل الآن .. ؟
– أكتب حلقات الأسبوع القادم …
– أترك كل شيء , وتعال بسرعة , أنا في البيت
في الطريق إلى بيتها , تفاديت ثرثرة سائق السيارة الأجرة , وأنا أضع كافة الاحتمالات أمام ذهني , ترى ماذا حدث , كان في صوتها انزعاج واضح , إنه ليس الصوت الذي يطلع على المستمعين الصغار مرة كل يوم , في المساء يحكي لهم حدوتة ما قبل النوم . ترى هل اكتشف أحد أنها لم تؤلف سطرا واحدا من القصص التي أكتبها لها ، وتؤكد أنها مؤلفتها : ماما تهامة يا أطفال تكتب من ستوديو 79.. ؟..
راحت رأسي توجعني وعند كل تساؤل أؤكد أنها تستطيع أن تتجاوز كل المصاعب ، فهي ماهرة في كبح عبارات الهمس حولها , إن منصور السنباطي هو الذي يكتب لها حواديت ما قبل النوم التي تذاع طوال خمسة عشر , .. وكم أنكرت أمام الآخرين إنني صاحب سطر واحد … فقط أقول :
– أنا أكتب على الآلة الكاتبة
وفي السنوات الأخيرة : أنا أكتب على الكومبيوتر .
لم أكذب مرة واحدة , ولم أبالغ , ولم ينجح أحد في أن يجر اعترافا مني إنني كتبت كلمة واحدة من كل القصص التي نالت الجوائز , وجاء إلى مبنى الشركة التي تنتجها الآن الرسائل سنويا , على مدى هذه السنوات , وحققت أرباحا طائلة لأصحابها : ماما تهامة , ومنصور السنباطي , وعزيز الدياسطي صاحب الشركة . وأيضا لشركة قبل النوم .
لم تقل ما لديها مباشرة إلا بعد أن قدمت لي مشروبي المفضل :
– سرقوا القصص مني , أولاد الحرامية …
قلت كأنني أتوقع أكثر من هذا : أمر عادي .. ما الضرر ؟
في انزعاج واضح , قالت : سوف أرفع عليهم قضية , يسرقون قصصي , وينشرونها في مجلة .. وباسم شخص آخر ..
حتى لا أزيد من حدة غضبها , أشرت إلى رأسها وقلت :
– في الجعبة آلاف القصص ماذا يضير .
سكتت فجأة , بدت باردة , شاردة , ثم تحسست رأسها , وقالت :
– هل تتصور .؟ لكنها مسروقة بالكلمة … لصوص ..
– في المحاكم , سيستغرق الأمر وقتا طويلا … ووقتنا ثمين ..
بغيظ ملحوظ , تساءلت :
– كيف يجرؤ المرء أن يسرق شيئا … وينسبه لنفسه .. أود أن أفهم ؟
ببرود مماثل , من الخارج فقط , قلت :
– طبيعة البشر .
تساءلت من جديد : هل أرسل بريد اليكترونيا إلى رئيس التحرير
بالبرود نفسه , قلت :
– سيقول توارد خواطر ..
رددت : لكنني أريد حقي , أريد أن أضغط بحقي .. حقي الأدبي على الأقل ..
ثم تمتمت : على الأقل …
اقترحت : إذن لنذهب ونقابلهم .. ونقاضيهم
نظرت نحوي باستغراب ملحوظ , وتساءلت : ولماذا لا أذهب وحدي .. أنا صاحبة , الشأن , فقط وددت أن أستشيرك .. باعتبارك معاوني , كتب لي على الكومبيوتر ..
الرابع : باحــــث
من يشرفنا سيجد ما يسره ..
لسنا حواه . لكنه مكتب خدمات لمن يشاء .. صحيح أنه ليس مكتبا رسميا , لكننا ننجز فيه كل ما يطلب منا .. تعني عبارة ” مكتب غير رسمي ” , إنه لا توجد فيه مكاتب , ولا موظفون , ولا مراسلات أو أي من أشكال التعامل الموجودة في المكاتب الرسمية ,
نحن هنا , نقابل العميل الذي يعرف همسا أنه سيجد لدينا ما يبحث عنه ..الموضوع الذي يختاره , أو المطلوب منه , في الوقت المحدد , وبالكفاءة التي تجعله يحصل على أعلى الدرجات , امتاز في امتياز . فقط عليه أن يحدد رأس الموضوع . ويبلغنا إياه .. هو ليس في حاجة إلى الحضور سوى مرة واحدة , للتعارف ليس أكثر .. يترك بطاقته , ومبلغا يحسم جدية التعامل , وبعد ذلك هو حر فيما يختار , ربما يتكرر حضوره , أو يرسل شخصا من طرفه , منعا لشبهات , أو يتصل بالهاتف على رقم خاص .. معروف أنه ممنوع الاتصال بالبريد الاليكتروني لأنه ببساطة مراقب , ونحن لا نريد لعملائنا أن تمسهم شبهات , باعتبار أنهم سيكونون من المرموقين في العقود القادمة , وسيتولى أغلبهم المناصب السياسية والإدارية العليا في الدولة , والوظائف الحساسة , داخل الدول وخارجها ..حتى وإن كانت جامعاتنا التي تتناسل كل عام , لم تستطع أن تدخل قائمة الجامعات الخمسمائة المعتد بها في كل أنحاء العالم ..
لسنا السبب , فنحن نحاول أن نعد لعملائنا المطلوب بالشرف , والأمانة لتخرج رسائلهم بشكل فريد , يعتدُ بها , صحيح إنها سوف تجلد بشكل فخم , وتوزع على الكثيرين , وإنها ستجد أماكنها في أرفف المكتبات الخاصة , لكن , لو فكر شخص جاد , ومخلص , أن يخدم الوطن , فسيجد الحل في صفحاتنا التي نعدها بإخلاص يستحق هو أيضا تقدير ” امتياز” .
لم يكن إدريس المصاحب أول عملائنا , لكنه أحد الذين شجعونا بقوة أن نستكمل مشروعنا الطموح ,فالمبلغ الذي دفعه لمكتبنا غير الرسمي سمح لي أن أشتري شقتي في الدور العاشر بشارع عباس العقاد ,من أجل استقبال الزبائن الجدد , الذين عليهم أن يقدروا قيمة ما سوف يحصلون عليه , من فخامة الشقة , التي إذا دخلوها فقدوا أي قدرة على المساومة , أو التراجع فيما هم مقبلون عليه .
بدأ اللقاء في مكتبة عم عجبان ي سوق الكتب , حين سألني :
– ألا تعرف شخصا يمكنه إنجاز مهمة في شهرين … وسيكافيء … ؟
المهمة , كتابة رسالة جامعية حول مكافحة فيروسات الكومبيوتر , وتدميرها , والبرامج الصالحة لذلك ..
مهمة غريبة وصعبة , وغريبة بالنسبة لي .. لكن المبلغ الذي ذكره صاحب المكتبة , إلتهم الدهشة من وجهي :
– نصف مليون جنيه .. ؟ !!
وقبل أن أستعيد الدهشة الملتهمة , أغراني أكثر :
– بل نصف مليون دولار
هل ينام شخص في إمكانه أن يحصل على هذا المبلغ خلال شهرين لا أكثر ؟ يعرف إنني متعدد العلاقات , خاصة في الأوساط العلمية , وأعمال الكومبيوتر , ردد مؤكدا :
– أصحابك كثيرون ..
وحتى ما بعد منصف الليل لم يتوقف هاتفي في البحث , عمن يمكنه أن يفعل ذلك , عماد الحديدي , سامح الكفء , هشام أبو لبن , نادية هراس , سميحة نواس … رفض نادر عز الأهل المبدأ بقوة في البداية , ثم ظهر رقمه على الهاتف قبل الرابعة صباحا :
0 أستطيع .. لكن .. خلال ستة أشهر … وأنا موافق بالمبلغ ,
كان الرقم المطروح عليه هو نصف ما عرضه علي عم عجبان , وإن كنت أرجح أن الرجل العجوز سيحصل على نصيب أسد جريح في معركة غير متكافئة .. لذا , فعندما اتصلت به قال :
– تعال , خذ ما يفيد جدية التعامل , وتوكل على الله ..
لم ألتق بإدريس المصاحب التي وضعنا اسمه على الرسالة , وسلمناها إياه ورقا , وأسطوانة منسوخة عدة مرات , تلقيت ما عرض علي بنهاية الشهر الرابع المتفق عليه , لم أكن كثير التساؤل , ولم يتأخر نادر في إنجاز عمله , وكان سعيدا , وهو يستلم المبلغ , لكنه قال في ضيق ملحوظ :
– خسارة فيهم هذا المجهود ..
لم أعرف على وجه التحديد , من يكون إدريس هذا , وهل هو اسم وهمي , أم إنه شخصية حقيقية , ولا هل سيحصل هو على الدرجة العلمية , أم سيقوم ببيعها إلى من يدفع له مبالغ لا يمكن تخيلها , لكن هاتفا من عم عجبان , طلب مني سرعة الحضور إلى مكتبته القديمة , المليئة بكتب التراث :
– هذه مكافأة منه … يبدو أن الرسالة تركت أثرها …
اشتريت شقة الدور العاشر في مدينة نصر , كانت الفترة الماضية قد شهدت مخاض ثلاثة رسائل غير متشابهة تم الاتفاق على إعداد كل منها في أوقات متباعدة , ولأشخاص حقيقيين , قابلتهم بنفسي في شقتي التي أقيم بها مع أسرتي ..
لم يعد الأمر صعباً.. كل ما هو مطلوب , يجب تنفيذه , المهم تحديد عنوان الرسالة ومعرفة اسم المشرف على الرسالة , للتأكد من حدود ثقافته , وتبحره في مجاله من ناحية , وفي موضوع الرسالة من جانب آخر ..
صرت أكثر دراية بمفردات التعامل مع الأطراف جميعها : الطالب المتقدم لنيل الرسالة , مستواه العلمي , ودرجاته العالية التي حصل عليها , وأيضا مستواه الاجتماعي , للتأكد من معرفة القدرة الدفعية , ومن هنا يسهل اختيار الباحث الذي يمكنه أن ينجز المطلوب منه بكفاءة , تستحق الحصول على الامتياز … كما يجب معرفة اسم المشرف على الرسالة , وجمع كل ما يمكن من معلومات عن مسيرته العلمية , وسلوك حياته , لم تكن هناك مخاطرة , فكل شيء يتم في حدود المتعارف عليه ..
يجلس طالب الرسالة مع أستاذه , يعرض عليه مجموعة أفكاره , ورؤوس الموضوعات التي بإمكانه أن يكتبها , ثم يتفق الطرفان على المطلوب ..
وحسب مقابلات الطالب المتكررة مع الأستاذ المشرف , أو الأساتذة , يتم تنفيذ المطلوب حرفيا , كل ما هو مطلوب من الطالب , أن ينقل إلينا تعليمات أستاذه , بدقة شديدة حتى لا نخرج عليها , وكل المطلوب من كاتب الرسالة أن يستمع إلي بدقة , وأنا أسلمه وريقة بها تعاليم الأستاذ ..
لا مواجهة ولا مقابلة بين أي من الأطراف , فأنا الوحيد الذي أعرفهم جميعا .. حفاظا على سرية العمل , وحتى لا يصاب بفيروسات السلوك الإنساني …
العروض تزداد , واسمي يتردد بين الباحثين عن درجات علمية ما , سردوا اسمي فيما بينهم , في مختلف التخصصات : في أثر الأسمدة المغشوشة على نمو النبات , وفي المقرر اللغوي في قصيدة النثر في التسعينيات , بين الذين سمعوا عن الأقساط الكبيرة التي أدفعها بانتظام وبدون إيصالات , وعند كل إنجاز , اتصل أحدهم بي يوما :
– هل يمكنني أن أتفضل بزيارتك … ؟
لم يكن من السهل أن أخبره بما هو مطلوب منه , في رسالة ماجستير عن رحلات البدو عبر المدن المصرية , قلت :
– أنت لم تحصل سوى على بكالوريوس تجارة
بثقة قال :
– يا سيدي .. أنت تريد رسالة عن رحلات البدو .. أم تسأل عن شهادتي … ؟
– هذه رسالة علمية .. وليست مقالا …
– اسأل عم عجبان عني ..
– أريد تأكيدا …
تفضل بزيارتي …
إنه جبل من الكتب والمراجع , لا أعتقد أنه موجود في مكتبات الجامعة المتخصصة , من هذا الرجل الذي لم يقترب بعد من الستين , لا يمكنك أن تتكهن بعمره الحقيقي , من خلال تلك الألوان المتناقضة التي يحرص أن يرتديها , قبو ضخم تحته قبوا ضخم , في بيته القائم في أعلى المقطم , قال :
– الكتب والمراجع تحفر لنفسها مكانا … وترتب لوجودها …
لكل موضوع مكانه , إذا أتى جون ديوي , أو العبقري الذي رتب مكتبة الكونجرس إلى هنا لأرتبك في العثور على أي من العناوين الموزعة بدقة شديدة خاصة بالسمحاوي , الذي حرص على أن يضع بطاقة صغيرة فوق بعض الأرفف :
مسح دهشتي , وترددي , وهو يشير إلى الملفات المتراصة حول البدو .. وقال :
– نحن لا نتعامل مع الكتب فقط , الملفات متحركة المعلومات
قال عارضا علي مهاراته :
– يمكنني أن أجهز لك ما تشاء .. في الوقت المطلوب …
– أطلقت عليه سؤالي :
– – لماذا لم يعرض عليك عم عجبان أن تفعل ذلك مباشرة … ؟
ردد في حسرة :
– أرزاق !!
منحته أول جدية تعامل , تصرف بالتزام ملحوظ .. وبأدب مثقف يعرف ما عليه أن يفعله , يقول في ثقة :
– أنا ضد هذا النوع من السلوك … لكن صاحبه سوف يلجأ لآخرين , لو رفضنا , وأنت أيضا ستختار شخصا آخر , وسيحصل الطالب على الماجستير المنشود … أنا في حاجة .. إذن أنا موجود .. وأنا أتوق إلى شراء المزيد من الكتب ..
الكتب كالأرقام , كالأموال .. ليس لنهايتها عدد , ولا سقف , ولا تتوقف عن التدفق , إنه مصاب بهذا الهوس , يشعر بالسعادة وهو يشتري المزيد من الكتب , والمجلات التي يقوم بقطع صفحاتها ويرتبها , ويصنع منها هذا الجبل المحبوس في دهاليز منزل القريب المليء أيضا بتماثيل زعوتية مقلده , قلت :
– ليس هناك تبرير فيما يخص الأخلاق ..
ردد : بل هناك تبريرات …
وراح يتحدث عن فلاسفة الأسباب الذين تعلم منهم , وأكد لي أن الغاية أهم من الوسيلة …
– ماذا ستفعل بهذه الكتب … ؟
ضحك وقال : أنهي رسالة عن ” رحلات الغجر عبر المدن المصرية :
كالتلميذ المجتهد , تتبع التعليمات , وسار عليها , فوق قضبان سكة حديد , مقواز , يعرف طريقه , والسرعة التي عليه أن ينطلق منها , اتصل أنا بطالب الرسالة وأعرف منه ماذا يود أستاذه بالضبط , وابلغ التعليمات إلى الأستاذ ” كدمة ” كما قررت أن أناديه , الذي يصر أن أسميه ” كلمة ” , لكت الورم ملحوظ الذي لم تسببه له زوجته , لم يتزوجها , كان هو اسمه المناسب عندي , ليتم بإعداد النص المطلوب , باللغة المنشودة , في وقت محدد , أستلمه , وأدفع به إلى كاتب الكومبيوتر , وأسلمه إلى طالب الرسالة , الذي يحدد موعده مع أستاذه ..
وتتوالى المراحل , إلى أن يجد الناس رجلا في الخامسة والخمسين , جالسا في الصف الأخير من المدرجات , حتى وإن كان فارغا من الحاضرين , يراقب تلميذا أثناء المناقشة , ويشجعه على الرد على أسئلة مصنوعة , أو متوقعة , قبل أن ينطق أحد الأساتذة بجدارة أن البحث يستحق تقدير الامتياز مع مرتبة الشرف .. الأولى …
أغلب الذي يفعلون ذلك . لم يكونوا في أول الأمر . من أبناء الأساتذة , هؤلاء المحظوظين جدا في الكليات التي تأتينا منها طلبات عمل رسائل جامعية , ينال بها الطلاب الدكتوراة , أو الماجستير , فأبناء الأساتذة , كما ردد لي طلابي , كما أعتبرهم محظوظين فيما ينالون , ويفعلون , باعتبارهم أنهم أصحاب الخطوة , أساتذة المستقبل , شاء الآخرون أم أبوا .. ومن يعترض فلا يلجأ إلى القضاء لفتح ملف أبناء الأساتذة في مختلف الكليات , والتعرف على الدروب التي نالوا بها هذه الدرجات , أو فتح صفحات الحوادث والقضايا في الصحف , للتأكد من معاناة طلابنا الذين يلجأون إلينا . فلماذا المحاباة , حتى في الخروج عن القانون … لذا فإنني وجهت أذني إلى ” كدمة ” الذي قال في حماس :
– صدقني يا أستاذ .. اعتبر هذا الكهف من الكتب , كنزا يجب أن يخرج إلى الناس , أعدت منه كتبا عديدة نشرت بغير اسمي لدى أكثر من ناشر .. واسأل عم عجبان .
قلت :
– اختصر , ماذا تود أن تقول ؟
ردد : فقط .. أن استكمل العمل معك …
لم يكن يدري إنني قررت ألا أترك هذا الجبل من المعارف والمراجع دون أن أستغله لمصلحة مشروعي المنشود , وأن نترك للناس ما يفيدها , إذا أرادت أن تستفيد يوما , خاصة بعد أن رأيت رسالتي دكتوراه , لو عرضتا على باحثين حقيقيين لنال صاحباها درجة ضعيف جدا .. وربما جدا جدا , لكنها مرتا بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى ..
قلت هل ستراع الله في ما ستفعل .. ؟
لم يكن محتاجا إلى تأكيد , بدأ في إعداد رسالته التالية , حول ” موت العصب الرئيسي بدلا من خلع الأسنان ” , بدأ الأمر صعبا بالنسبة له , فهذا يتطلب مراجعا معقدة في طب الأسنان , , وباللغة الإنجليزية التي لا يتقنها إلى درجة إعداد رسالة في هذا الشأن , قال لي :
– جغرافيا , آداب , فنون , تاريخ , فلسفة إسلامية , فلسفة حديثة , لكن دعنا من البحوث العلمية في الكليات العميقة ..
وصار علي أن أبحث عن متخصص يمكنه أن يفعل ذلك بالكفاءة المطلوبة …
وبعد عدة أيام رأيته يضع سماعة على أذنيه , ويقرأ في كتاب لتعليم اللغة الإنجليزية , قال :
– الضرورات تبيح المحظورات .
لم يتمكن أبدا من بلوغ إنجليزية تدفعه بجرأة إلى إعداد رسالة عن أعصاب الأسنان الرئيسة, وهل يمكن قتلها والإبقاء على الضرس , أو السنة المرتبطة بها , وبينما كانت هذه الرسالة تجهز ببطء شديد , من طرف آخر فإن ” كدمة ” بدأ في الإعداد لرسالة ثانية حول التصوف النسائي في الدولة الإخشيدية , قال :
– موضوع صعب , لم أقرأ فيه , لكن عندي ما يخص الدولة الإخشيدية ..
وتركته بعد أوراقا جديدة , ويلملم مراجعة المفقودة , ثم جئت إليه بعناصر البحث الأولى التي اقترحها التلميذة على أستاذها .
كل شيء يبدو سهلا لهؤلاء الطلاب والطالبات , يعرفون كيف يتصلون بي , أقرأ العناصر الأولى , أحدد المن الإجمالي لإعداد البحث , والدفعات , وعدد الجلسات , ومدة إعداد البحث , كل شيء محسوب بدقة .
الطالبة هذه في الثالثة والخمسين من عمرها , تريد أن تترقى ببحثها على زميلتها التي صارت مديرة عليها , ولا أمل في الترقي سوى الحصول على رسالة جامعية , وحرف الدال متروك باسمها ..
ولأنها مشغولة , فقد طلبت فقط الرسالة في صورتها الأخيرة , ولم تساوم في السعر المضاعف الذي تتطلبه مثل هذه الظروف …
واعتكف ” كدمة ” في العمل , قلت له :
– تصورت أنك تملك جبلا من المعرفة , لكنه جبل متصدع ..
قال يدافع عن نفسه :
– الموضوع صعب .. الأستاذة تضع العراقيل أمام تلميذتها , هناك من له مقصد خفي وبدأت في مساعدته , واكتشفنا الهدف الخفي , ففي أيام الدولة الإخشيدية , لم تكن هناك متصوفات بالقدر الكاف , مم يساعد في عمل رسالة متكاملة , لكنني أبحث في مراجع متعددة , وعاونني عم عجبان في الحصول على المزيد من المعارف عن المتصوفات في الإسلام , وقابلني بأعمدة المتصوفين الذين يأتون إلى مكتبته القديمة , للعثور على المراجع النادرة …
وفي حفل نقاش رسالة الدكتوراة , بدت الطالبة ذات الثالثة والخمسين من العمر واثقة في نفسها , وهي تجيب على أستاذتها التي لا تكاد تعرف القليل في هذا الموضوع المعقد , بدت الطالبة , كأنها التي تسأل , رحت أرتشف ثلاث زجاجات من المياه المثلجة التي وزعت علينا , وأنا أتنهد في ارتياح شديد .
وزعت الطالبة العجوز أكثر من عشرين كيلو جراما من الشيكولاته في عملها ,أ ين حصلت على الشهادة , تعبيرا عن فرحتها بالحصول على شرف حرف الدال الذي لن تناله زميلتها , بعد أن صارت مديرة عليها , لم يهمني أن أعرف ماذا صار ي العمل , لكنني أتخيل إنها وضعت فوق مكتبها لوحة من الصدف عليه اسم الدكتورة ” تهاني أبو جبل ” دكتوراه في الفلسفة ” . وأن المديرة إما أنها تبحث عني لتقتلني , أو لتطلب رسالة جاهزة تغيظ بها خصمتها , لكنها بالتأكيد لا تعرف أن مسألة السجيل بالغة التعقيد .
بدا ” كدمة ” سعيدا , دءوبا يسعى أن يتقدم , فوجدت أنه اشترى بكل ما حصل من مكافأة جهاز كومبيوتر حديث , وملتزماته من طابعة ليزر , وسكانر , وإنه اشترك في خدمة شبكة المعلومات السريعة , قال :
– يجب أن تكون محترفا … في هذه الشبكة كل ما يمكن الحصول عليه …
يحاول التقلد بي , ربما يسعى لأن ينافسني , وأن يبحث عن وسيلة للاستقلال بنفسه , بدأت أتصرف معه بحذر , وتعمدت ألا أمنحه إلا القليل من الفرص , فهذا النوع من العمل لا يمارسه في المدينة إلا أشخاص قليليين , يفعلون ذلك في سرية تامة , لكن أبدا ليس بهذا الدرجة من الاحتراف الذي بدا ” كدمة ” في تطبيقه :
– يا أستاذ … يبدو أن الكومبيوتر غير محظوظ بالنسبة لي .
بدا كأنه فهم معنى ما قاله لي :
– الحال متوقف هذه الأيام . الطلاب في حالة ترقب …
– هل انكشف أمر أحدهم … ؟
– لا أعتقد , ولن يحدث هذا , طالما أن الأمر يتعلق بالمعلومات , نحن نكتب رسائل حقيقية , الأشخاص هم غير الحقيقيين .
– هل يمكن أن ينكشف الأمر يوما … ؟
– نحن ننع الرسالة , ولا ننقلها , الأغبياء وحدهم ينقلون الرسائل , وهم لا ينكشف أمرهم جميعا ..
كنت قد أسديت إليه النصيحة , كي يتصرف بشكل أفضل , ولمصلحته , أن تكون الرسالة أصلية , غير منقولة , موثقة المصادر , وأن يكون المرء دءوبا , أدهشني , وهو يقدم لي مجموعة من الأوراق باللغة الإنجليزية , يا إلهي .. إنها رسالة عن ” موت العصب الرئيسي بدلا من خلع الضرس ” , انتابتني الدهشة وتملكني الغيظ :
– ماذا يعني هذا … ؟
– كتبتها … استهلكت مني عامين ..
– هذه الرسالة نوقشت , وحصل طالبها على امتياز .حاولت أن أثبت لنفسي أنه لا يوجد مستحيل .
– هل نقلتها من شبكة المعلومات … ؟
أعلن بذلك أنه تفوق علي , وأنه يقبل التحدي , ويمكنه أن يستغنى عني , فأنا شخصيا لا أستطيع عمل رسالة علمية معقدة باللغة الإنجليزية , وكل ما استطعت أن أفعله , في مساعدة الطالب , أن لجأت إلى أكثر من متخصص , وجمعت أوراقهم لدى باحث نهائي قام بالصياغة النهائية … كانت الصدمة أنه أعدها بنفسه , رغم معرفته أنها نوقشت لكن عنده الخاص , أكل جدران رأسه ليثبت أنه لا يعرف المستحيل , وأنه قادر أن يفعل كل شيء … أردت أن أكون صريحا :
– التلميذ صار أستاذا .. لماذا لا تقدم طلبا للحصول على رسالة باسمك .. ؟
أدهشني : هل كان عباس العقاد في حاجة إلى دكتوراه … هل أحتاج أحمد أمين إلى إثبات أنه أستاذ .. ؟
– الزمن تغير , الأساتذة مكانتهم عالية في عصرنا …
– ردد : فقط أحببت أن أثبت لنفسي إنني لا أعرف الفشل .
سألته : يعني هذا إنك ستعمل وحدك .؟
أجاب : لديك تخوف دائم أن أفعل هذا , تحوط أمورك بسرية , وشكوك , ولا تذكر الناس بأسمائها
– السرية ضرورة عملنا
– ما نفعله حرية شخصية . العلم متاح للجميع , ولا يوجد قانون يصادر حق الإنسان في الابتكار
– يجب أن يعمل كل منا بمفرده , حتى لا ينكشف أمرنا بسهولة .
– أعمل بمفردي فعلا , لا أكتمك الأمر إنني أجد بعض الصعوبات …
حاول لإقناعي أن ذاكرته لم تعد بالقوة نفسها التي كانت عليها فيما قبل , وأنه في حاجة إلى منشط ذاكرة , يخاف أن تخطيء , فيفسد أشياء وأن هذا قد يكشفه بسهولة , اندهشت لصراحته , في الوقت الذي تباهى فيه أمامي بقدرته على قهر المستحيل , خلت أنه يحاول مناورتي , سألته :
– كيف وجدت زبونك ..؟
ردد : لا يسأل المرء عن مصادره .. أنا لم أسألك قط هذا السؤال ..
ختمت اللقاء : كن حذرا ..
عرض علي أن نتعاون حين الضرورة , أن يستعين بخبرتي إذا احتاجني , وأن أرجع إليه وإلى القبو الذي يمتلكه إذا أردت مساعدة , كان يتصور إنني أقوم بالكتابة بنفسي , ولم يعرف إنني أتخلص أولا بأول من الرسائل التي أعدها . بحثا عن أمان أنشده , حتى هذه الرسائل , المحفوظة في اسطوانات ممغنطة , فقد أعدمتها حرقا , وأنا أتوقع أن يحدث شيء .
بدأت الأمور تضييق , وقلت العروض , رحت أترقب ما يمكن أن يحدث دوني في هذا السوق الغريب الذي شهد نوعا جديدا من ” الأفندية ” المتأنقين , رايت أحدهم يوما في سيارته الجديدة أشاح بوجهه عني ما إن وقعت عيناه علي , يبدو كأنه يتعمد ألا يتذكرني , أو يحس إنني موجود على قيد الحياة , شارة سيارته ” جمرك السويس”.
هذه الشارة ,جعلتني أقرر أن أرسل زبائني الجدد إلى ” كدمة ” كي يعد لهم رسائلهم بنفسه , مقابل نسبة مئوية من المبلغ المدفوع من الطالب , وجدتني أذهب كهف الكتب بعد زيارتي الأولى بتسع سنوات , لم يكن هناك , سألت عنه بواب العمارة المقابلة :
– إنه هنا في الدور الأول ..
لم أنتبه إلى اللافتة المعلقة عند باب العمارة إلا وأنا خارج من البناية التي أقيم في دورها الأول مكتب استشاري لإعداد الرسائل العلمية وتنسيقها , دخلت إلى مكتبه بعد أن انتظرت ربع ساعة فوق مقعد مقابل لسكرتيرته الصغيرة السن , تلمست لها عذرا , إنها لا تعرفني وتكهنت أنه جالس مع أحد الزبائن يعقد معه صفقة .. يبدو أنه خرج إلى النور .
– قبو الكتب سبب لي حساسية , لم أتخل عنه , استرحت كثيرا في هذه الشقة المكيفة الهواء لم يكن لديه المتسع من الوقت للحديث الذي أعددته كي أديره معه , ثلاثة أجهزة محمول , لدى السكرتيرة التي تخابره في الرابع إن هناك من يتصل به , وجهاز كومبيوتر محمول صغير فوق مكتبه , يدوس على أزراره وهو يتكلم معي , وأحيانا يتكلم إلى التليفون العادي . مر نصف ساعة دون أن أتبادل معه ثلاث جمل , أحسست أنه يتعمد أن أرى كل هذه النعمة التي حلت به , والمسئوليات الملحة التي تثقل ظهره , ردد ” مرحبا ” أكثر من مرة إلى أن قلت مغتاظا :
– – سأزورك مرة أخرى .
ترك الهاتف جانبا , وقال وهو يلاحقني معذرة … كما ترى ..
بكل وقاحة : لو أردت أن أكون مثلك , لفعلتها منذ زمن , أنا الذي ابتدعت هذه المهنة ,وأنت تلميذ في مدرستي , قرأ غضبي في عيني , وملتي , أعتذر أكثر من مرة , وأنا أشهر عليه كل ما نويت من هجوم , حدقت فيه بما أمتلك من قوة بصر , رفع يده إلي متوسلا :
– أرجوك .. إلا هذه النظرة .. أنا أعرفها ..
قلت أعرف طبائع البشر جيدا , وأنت أولهم ..
بتوسل أيضا : من فضلك . كنت مشغولا .
كأنه ألقى كل أسلحته الاستعراضية التي أشهرها حول , قام من مكانه فوق المقعد , واتجه إلى الباب , فتحه , وألقى أوامره إلى السكرتارية .
– أنا لست هنا , حتى لو جاء الدكتور ثروت ..
أغلق الباب علينا بالمفتاح , جلس فوق المقعد المقابل لي أمام المكتب :
– لا تعتقد إنني توقفت السؤال عنك , اعرف كل أحوالك ..
تنهدت , بدأت أهدأ : أنا في أفضل حالاتي ..
قام مرة أخرى من مكانه , اتجه نحو الباب , فتحه بالمفتاح … ثم طلب مشروبي المفضل مرة ثانية , وطلب لنفسه عصير فواكه ساخنة , ثم أعاد ما فعله مرة أخرى , أراد أن يشعرني بأهميتي , وأن يكرر اعتذاره لما فعله . قال قبل أن يجلس قبالاتي مرة أخرى :
– يبدو أنك زهدت المهنة .
بسخرية واضحة , وأنا أسترخي على المقعد الجلدي , ذي المسند العريض :
– يكفيني نجاح تلاميذ … لن أضيع الكثير من وقتك ..
قال : أستطيع أن أمنح المكتب كله أجازة … من أجلك ..
مسترضيا أكثر , قلت : كان يجب أن تسألني لماذا جئت …
بتعليق واضح : على الرحب والسعة . المكتب مكتبك .. أنتظر هذه الزيارة منذ ثلاثة أعوام ..
– لكل شيء موعده … لم تسألني السبب …
– ليس بيننا سبب …
طرق الباب , قام بنفسه ليفتح الباب , دخلت نادلة بالغة الأناقة , أجمل من السكرتيرة , كان يمكنها أن تلف رأسي لو لم أكن متوترا , لكنها ساعدت في أن أنتبه أكثر , وضعت المشروبات بطريقة أنيقة فوق المائدة الصغيرة التي تفصلنا , أمرها قبل أن تغلق الباب من الخارج , قال :
– بكالوريوس تجارة , لغة إنجليزية … أساهم في حل مشاكل البطالة ..
لم أعلق , قلت :
– أريد أن أسألك .. هل حدث أن قابلت أحد زبائنك يوما بعد أن صار حاله أفضل ؟
تركني أتكلم , حكيت له بالتفصيل , ما حدث قبل يومين , ذلك الطالب السابق صاحب السيارة الفضية الجديدة , يجلس وإلى جواره زوجته , وقد غطت وجهها تماما , وهي تحمل رضيعها بين يديها , وقفت عينانا في الخط المستقيم نفسه , رآني , كان يتزلف إلي كلما جاء مكتبي الصغير , يلح بشدة أن أنهي رسالته , في الوقت المناسب وبالكفاءة التي قيل عنها , أهداني لوحة فنية رائعة بعد حصوله على درجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى , وراح يراسلني من الجامعة التي عمل بها , ثم انقطعت خطاباته بالتدريج
قال ” كدمة ” أذكر هذا الشاب .. كان دمثا , ما الحكاية بالضبط .. ؟
حكيت له عن اللقاء العابر , الصدمة الذي حدث بيننا أول الأمس ز أول لقاء من نوعه , يتم بيني , وبين أحد زبائني , بعد سنوات من البعاد , لم أتوقع أن يشيح بوجهه عني , أنا الذي ألقيت عليه بالتحية , اندفع بسيارته مخترقا الإشارة , كأنه يهرب مني , كل ما لفت نظري اللوحة المعدنية التي تؤكد أنه قادم لبعض الوقت إلى الوطن لقضاء أجازة منتصف العام .
تخفف ” كدمة ” من الترقب الذي أحدثه له غضبي , وغيظي , وتعصبي عليه , تنهد , وقام ليمسك الهاتف المحمول كأنه تذكر أن عليه أن يجري مكالمة . يردد :
– يا سيدي .. يحدث هذا كثيرا ,المهم أنه دفع المطلوب ..
سألته : هل حدث لك مثل هذا ؟
ضغط على أزرار الهاتف , واتصل بسكرتيرته :
– هل طلبني أحد … ؟
قال : ماذا كان عليه أن يخبر زوجته . لو قدمك إليها , وسألته عمن تكون ..
كان بذلك قد أنهى المقابلة , بعد أن امتص كافة قدراتي على الغضب والعصبية , صافحته ببرود :
– عنك حق .
انتبهت إلى اللوحة التي علقت على باب العمارة , ضمن لوحات عديدة لأطباء , ومحامين , ومكاتب استشارية أصحابها من الحاصلين على أعلى الشهادات , فجأة تنبهت أن علي أن أفعل شيئا إزاء ذلك الأصلع الأنيق الذي يحدق في متوقعا أن أرد عليه التحية إنه الدكتور ثروت مليس , العميد الأسبق لكلية تقنيات الغد , يبتسم في مودة وهو في طريقه لمقابلة كدمة , دون أن يتوقع أن أتجاهله عن عمد .
كان يجب أن أندمج ..
الاندماج هو عذري الوحيد مقابل كل ما كتبته له , ونشر هو باسمه …
وهل كنت أصدق يوما ما إنني أكتب رواية قصيرة للكاتب سامح شعيب , الذي كم حلمت أن ألقاه , وأن يوقع لي على الاوتوجراف ..
عندما قابلته لأول مرة , لم أتخيل أن أرى صورة الوجه المنشورة دوما في الصحف والمجلات تتحرك أمامي , وأسمع صوت صاحبها الذي طالما شاهدته في البرامج الأدبية …
اقتربت منه , ومددت له كراسي المليء بالشخبطات المتخيلة :
– هل يمكن أن أصبح كاتبا ذات يوم .. ؟
كان محاطا بعشرات من المعجبين بكتاباته الجذابة , ينهالون بالأسئلة العديدة , المتنوعة , أسئلة عن حياته , وعن إحدى قصصه المنشورة في جريدة , أو مجلة , أو في كتاب , سؤال عن حياته الخاصة , وسط كل هذه الأضواء من حوله .. دس كراستي القديمة في حقيبته البنية , وقال وهو يمد بطاقته :
– اتصل بي على هذا الرقم ..
من الواضح أن صوتي لم يزعجه عندما طلبته على هاتفه , قال :
– شخابيطك رشيقة يا صابر .. غدا سيكون لك شأن عظيم ..
أطلق علي قنبلة من المدح تكفيني أعواما من الشعور بالثقة في النفس , رغم أنه تدارك :
– تحتاج بعض التدريب …
هتفت في السماعة من الطرف الآخر للمكالمة :
– فقط أحتاج أن ترضى عني ..
اختصر مكالمة أردتها أن تكون طويلة , طلب مني زيارته في ورشته التي يأتيه إليها الكثير من الكتاب الشباب في اجتماع الثلاثاء . وأشار علي أن أحضر قبل الموعد بنصف ساعة .. وأن أحمل معي المزيد من الكتابات …
ليلتها استغرقت كل ساعاتي في جمع ما استطعت أن أقوم بإعادة كتابته في كراستي الحمراء , ووصلت إلى ورشته قبل الموعد بساعة , فكان هناك ينتظرني , هالني تواضعه , وهو يعد لي الشاي بنفسه , ويقول :
– أنت موهوب .. هذه الكتابات يجب أن ترى النور … بأي ثمن …
وهو يصب الشاي في الفنجان الأبيض الصغير , قال :
– تستحق أن تحمل اسم كاتب كبير …
لم أفهم ماذا يقصد فسر :
– سوف أمنح هذه الكتابات اسمي , فقط , كي أشجعك على الاستمرار .
لم أستوعب ماذا يعني , لكنه كان قد قدم عرضه الغريب , تركته يقرأ من كراستي الحمراء , التي رسم على غلافها ميكي ماوس , وهو يهز ذيله الطويل .
وانتظرت أن يعلق من جديد , كنت في حاجة أن أشعر إنني في الواقع , وإنني لا أحلم , فقد تم كل شيء بسرعة غير متوقعة , وها هو يلقي الدرس الأول في التدريب:
– هذه القصة لو أرسلتها إلى صحف العالم العربي ومجلاته , لن تنشر ولو بعد عشرة أعوام , خسارة أن تضيع في أدراج أوقمامة رؤساء التحرير . وهي جيدة …
بدت عيناى كأنها تسأله أن يتولى مساعدتي بأي شكل , لم تكن في برمجتي , أي نية لنشر القصة الأولى على الأقل , أعرف مدى صعوبة النشر , كتبتها بخط يدي سبع مرات , وأرسلتها إلى كل ما أعرفه من صحف ومجلات يمكن أن تنشرها …
قال , كأنه روح إلهية , ينبئني أن السماء فتحت أبوابها من أجلي . لبعض الوقت :
– سأقدم لك خدمة العمر … بدون توصية …
توسلت إليه , وسط كبريائه الملحوظ : أرجوك .. امنحها اسمك … أعطها الشرف أن تكون لك …
ألقى خطبته البليغة , فأقنعني بما تمنيت أكثر منه عشرات المرات , وبكل غطرسة , ممزوجة بالبساطة نزع الوريقات المكتوبة بخط يدي تحت عنوان ” الرحم ” , وقال :
– سوف تغير عنوانها … إلى ” الفرج ” ..
سألته : أليس هذا عنوانا إباحيا …
ردد : لنترك القاريء يشكل الحروف كيفما شاء … كي نهرب من الرقابة , والمساءلة … أنا أراها ” الَفَرجْ ” وأنت تراها ” الفرج ” وذاك يراها ” الفَرجْ ” .. كل حسب تقدير من يقرأ … ِِ
أدخلني في دائرة أنستني مسألة أنه وهبني اسمه , ليضعه على القصة الأولى التي رأيتها مطبوعة في صفحتين وقد رسمها فنان تشكيلي معروف في تصميم أغلفة الكثير من الكتب … ومظروفا أبيض :
– في المرة القادمة سيكون المبلغ أكبر ..
وأنا أدس المظروف في جيبي :
– تصورت أن المؤلف يدفع للجريدة ..
قال الأستاذ شعيب , كما ينادونه في الوسط الثقافي :
– الكتابة نعمة . شهرة , وتعبير عن الذات أو نجاح … الآن نبدأ الريق الصحيح
سؤال : هكذا بدأ التعارف , كيف كان الطريق الصحيح إذن ؟
• حين نشرت القصة الأولى التي دفع بها إلى المجلة الأسبوعية التي تنشر له أعماله , أتذكر جيدا موضوعها , لا , لا, بل عنوانها , والفقرة الأولى بها , بل يمكنني أن أقرأها عليك من الذاكرة , كلها بفواصلها , وحوارات أبطالها , الذين جاءوا من الجيل , كي يؤسسوا مدينة إلى جوار النهر , فتصارعوا من أجل امتلاك أفدنة الماء , وانقسموا شيعا , وفرقا , وتبعثروا على ضفتي النهر , يتناحرون , ويقتتلون , إلى أن جاءهم الغزاة , فاحتلوا النهر , واستعبدوهم .. وحولوا رجالهم إلى دواب تجر المحاريث , والنساء إلى خادمات بيوت وفراش , وأعطوا للصغار أسمائهم , فصاروا أبناء لهم نسوا على مدى الزمن أن دواب الزراعة هم الآباء الحقيقيين ..
لم تصلني عن مشاعري وأنا أقرأ القصة المنشورة لأول مرة , لن أحدد بالضبط عدد المرات التي قرأتها فيها , ولا عدد نسخ المجلة التي اشتريتها . ولا الوقت الطويل الذي وقفته قرابة بائع الصحف , أترقب الناس , أكاد أحثهم أن يشتروا باكورة قصصي , رأيت شابا لا يتصفح المجلة , ثم يضعها مرة أخرى في مكانها , وددت لو دفعت له ثمنها , لكن عهدا بيني وبين الأستاذ شعيب إلا أفعل ذلك حال بيني وبين أن أفعل ذلك ؟ فماذا يمكن أن أقول لهذا الشاب لو فتحت له صفحتي القصة , وأكدت له إنني مؤلفها , يعني هذا , إنه لو قبل , فسوف يرى أن القصة من توقيع الكاتب الشهير سامح شعيب , علي أن أعترف له إنني المؤلف , فأما أن يعتقد بخبولي , وهوسي الخاصة , أو أن يوليني ظهره , أو أن أقنعه أن الأمر كله لا يتعدى أن الأستاذ يمنحني اسمه , كنوع من الشرف الأدبي ..
نعم , كان هذا هو الاتفاق , أسعد اتفاق في حياتي , أن يمنحني الأستاذ اسمه , في كل ما أكتبه , وأنا أرى السطور والكلمات الحقيقية التي أكتبها تطبع في هذه المجلة…
سؤال : ألم تشعر قط أنه يسرقك ؟
• لا .. بالمرة , يسرقني , من قال هذا , كاتب كبير , له صيته , يتولاني بالرعاية , بكافة جوانبها , هذا الملاك الرقيق , الذي وهب نفسه لخدمة الآخرين , يسرقني , لا , إنه العكس تماما , بل أنا اللص , فأنا الذي أسرق اسمه , وأضعه فوق الصفحات إنه يتنازل عن اسمه , ويمنحه لي , دون أي مراجعة , يا له من رجل كريم في كل شيء , يتركني أكتب , ويأخذ ما ألفته ,فيراجعه , ويصحح أسلوبي الركيك , وأخطائي النحوية , ثم يدفع بها إلى كاتب الآلة الكاتبة , ويتأكد أن المكتوب صحيح يخلو من أخطاء الكتابة , وهو الذي يذهب بعد ذلك إلى الناشر , كي يحول القصة إلى كتاب صغير , في سلسلة تحمل أم ” قصص الكبار ” , يقرأها القراء المتعجلون في أي مكان , في قطار , أو على الشاطيء , أو في دقائق انتظار , بسعر رخيص لا يتجاوز الخمسين قرشا , وبعد عدة أيام من دفع القصة بالمطبعة يأتيني الأستاذ حاملا عشرة نسخ إهداء للمؤلف , ومظروف به ما لا يقل عن مائة جنيه , دون أن أوقع على إيصال , أو أي التزام مادي … ياله من رجل كريم , يفعل ذلك بنفسه دون أي عناء مني , كل المطلوب أن أجلس في منزلي , أكتب , وقد تقمصني الأستاذ بكل ما به من هيبة وحنو وأنفذ تعليماته في اختيار القصة التي يحكي لي أحيانا وقائعها , وربما يأتيني بقصاصة جريدة من إحدى صفحات الحوادث , وكي أستوحي منها القصة الجديدة ..
نعم , يا له من رجل كريم , يفعل كل هذا عن طيب خاطر … ثم يمنحني اسمه , بدأت هذه المشاعر تنتابني إنني يجب أن أخفي سري , وإلا افتضح جريمتي , إنني أختلس لما أكتبه اسم مؤلف كبير , نراه ثلاث مرات أسبوعيا على الأقل في برنامج تلفزيوني , يتحدث إلى الناس عن ” الفعل الصحيح ” , وكيف يؤلف أعماله , ونصائحه إلى الأجيال الجديدة القادمة إلى عالم التأليف .
يسرقني يا له من سؤال ظالم .. اللص هو أنا , من يأخذ المكافأة الكبيرة عن صفحات يؤلفها , مبلغ لا يقبضه أمثالي من الموظفين الشباب في مصلحتي الحكومية داخل المجمع الحكومي بميدان التحرير , ولا حتى مديري العام الذي لا يمكنه أن يحصل على هذه الجنيهات الأربعمائة , كل هذا بفضل الأستاذ شعيب , جنتلمان حقيقي في كل معاملاته , سهل لي طريقي , وأحضرني معه كل ندواته , والاحتفاليات الخاصة بتكريمه , أحسست أنني أصفق لنفسي , والناس تناديني باسمه ..
يسرقني … لا .. أبدا .. أنا الذي سرقته , وأبحته لنفسي , فقد توحدت مع اسمي الجديد , وبدأت أستبيح ” سامح شعيب ” لنفسي , ليس الاسم , بل أيضا التصرف والسلوك في كل مكان , عندما أرى صورته في الجريدة , تنطبق ملامحه على ملامحي , بشار به الكثيف , وصلعته اللامعة , لذاته .. أن أطلق شاربي على طريقته , فشلت بشدة , فلم أستطع الحصول علي هذا الشارب الكثيف قط ، وأعاقني شعري الغزير أن أصير أصلع مثله .
سؤال :- متي بدأت تشعر أنه يسرق اسمك .. وليس العكس ؟
– عندما محني الجائزة … وطبعت لي هيئة البريد الكتاب الفائز بالجائزة الأولي … تلك قصة تستحق أن ارويها بالتفاصيل فقد استغرقت رحلتنا معا أربعة وستين كتابا ، وقصته واحدة نشرت في مجلة ، الكتب ، صدرت تباعا في السلسلة نفسها لدي الناشر الذي لم يقابلني يوما ، ولعله لا يعرف أي شئ عن اسمي ،أو عن علاقتي بالأستاذ ، أصابتني حالة من طوفان الإبداع الذي يمر بمراحل النقيضان العادي ، تدفق مسهب عند المنبع ، وفورا ملحوظ عند المصب ، فجأة أحسست إنني حققت هدفي ، وأنني حدث سامح شعيب بما يكفيني ، صرت غير قادر علي كتابة جديدة ، أيا كان نوعها ، فقط كنت احتاج إلي أحوال جديدة ، اكتشفت حين توقفت مدة أسبوعين أنه لا عائد لي ، فلم يصدر كتاب جديد باسمي الحقيقي سامح شعيب ، ولم يأتيني الأستاذ ، الذي صار فقط الأستاذ بدون اسمه القديم بالنسبة لي ، بالمظروف الأسبوعي ..
يبدو ، بل من المؤكد ، أن الأستاذ أحس بمخاطر علي أن الأمر غير عابر ، وأنه يجب أن أخرج من جعبته ، وأن أفعل شيئا من أجل “صابر كساب ” الذي نسيته تماما سوي عند التوقيع علي كشوف الحضور والانصراف في المجمع ، واعتبره اسم التدليل يناديني به أحدهم ، وما أكثر ما كان يحدث ذلك ..
سألني :
– ألا تشتاق إلي صابر كساب ..؟
بدا السؤال غريبا ، ومثيرا للحيرة ، كأنه يناديني باسم لا أعرفه تقريبا ، تأخرت كثيرا في الإجابة ، علي السؤال ، استفقت أن استجمع من يكون هذا الكساب ، والغريب إنني لم أفعل ذلك ، ظل شخصا متأثرا في الجو المحيط به ، قبل أن أقول في لا مبالاة
ملحوظة :
– ربي ..
وبسرعة أكدت : لا .. الأمر لا يهمني ، يكفيني أنني سامح شعيب …
قال في حزم ملحوظ :
– لكنك لن تظل ” سامح شعيب ” إلي الأبد ، ربما أموت غدا … أنا تجاوزت الستين .
– نبهني أن هناك موتا ، وأنني يجب أن أعمل حسابا لهذا اليوم ، لم أعلن ، بدا كأنه يرميني بقنابل الدهشة ، التي تتابعت ، وراء بعضها بدرجات انفجار متباينة ، ورغم شدة المفاجأة ، فإنني احتفظت بصمتي الداخلي . لا أعبر بسهولة سمعته يعرض أغراره الكبير :
– هناك مسابقتان في التأليف ، يجب أن تشترك فيهما ، وألا تضيع فرصة الفوز ..
قال أن هيئة البريد تقيم أول مسابقة من نوعها في التأليف الأدبي ، حول عظماء الوطن ، وإنها تستعد لامتداد مجموعه ، من الطوابع عن هذه الشخصيات، وتفكر أن تدفع الكتب الفائزة إلي ناشر ، يصدرها متضمنة صور كبيرة لهذه الشخصيات.
ثم قال أن وزارة التربية ، والتعليم سوف تعلن عن مسابقة في تأليف قصة دينية ، تقرر علي أحد الصنوف المتقدمة ، الأول الثانوي ، وأن الفائز سوف يحصل علي جائزة عادية كبيرة ..
في ذلك اليوم، عرفت الطامة الكبري ..
عرفت إنني لست الوحيد الذي توحد مع اسم الكاتب الشهير ” سامح شعيب ” وأن ثلاثة أشخاص ، علي الأقل ، من مجموعة لقاء الثلاثاء ، يفعلون ذلك عن طبيب خاطر ، بل وأن وافدا جديدا ، متخصصا في التاريخ ، انضم إلينا أخيرا ، هو رأفت درويش … تكهنت انه هو الذي سيكتب الرواية التاريخية حول فتح مصر ، التي ستدخل مسابقة التربية والتعليم …
” جن جنوني”
تعبير ساذج ، وأولي تافه ، قياسا إلي ما انتابني من هوس ، انتظرت يهل اجتماع الثلاثاء قبل موعده بسنوات طويلة ،وارتكبت الساعات أمامي ، وهي تعاندني ، كي تتيح فرصة أن التقي بهؤلاء الأربعة الذين سرقوا اسمي المفضل “سامح شعيب” ، بدت العقارب كأنها أصرت علي ألا تتحرك في دائرتها ، وتزاحمت البدائل في مخيلتي لما سوف افعله باللصوص الذين انتحلوا اسمي الأدبي ، تخيلت أنني ثائرا علي الجميع ، في حضرة الأستاذ ، أطالبهم جميعا أن يردوا إلي اسمي … رحت أري بتخيلاتي فوق الورق ، املأه بما سوف افعله بالجميع ، نعم ، بهم جميعا ، عدا أستاذي الوقور الذي قال ،وهو يقرأ ما كتبته طوال أسبوع الانتظار
– رائع .. لا داع لمسابقة هيئة البريد … سوف ندفعها إلي مسابقة الأمير رافع…
ومن حقيقته الجلدية الأنيقة ، التي يرتب فيها وراقد بطريقة يحسد عليها ، اخرج وريقة دفع بها إلي : ” الجائزة الأولي عشرة آلاف دولار … الجائزة الثانية سبعة آلاف دولار .. الجائزة الثالثة خمسة ألاف دولار وانتهت علاقتي بالأوراق المجنونة ، التي تخيلت فيها ما سوف افعله بلصوص اسمي ،عدة اشهر ، عدت خلالها إلي بيتي المفضل “سامح شعيب ” ، وعن طيب خاطر حقيقي قبلت أن أشارك أربعة آخرين في اسمي الأدبي علي طريقة أغنية أم كلثوم. لكن كل منا راح يحتفظ بسره لنفسه ، وأن كنا نحن الأربعة نعرف أن من الشرف أن تحمل برسم الأدبي نفسه ، وأن نتوحد في داخله ،
إلي أن حدثت المفاجأة الكبري ..
سبعة ال دولار وخبر في الصفحة الثقافية بجريدة الأخبار ” الكاتب المصري صابر كساب يفوز بالجائزة الثانية في مسابقة الإبداع التي نظمت باسم الأمير رافع عن روايته ” صندوق الأسرار ” وقيمتها سبعة آلاف دولار ، وسوف يتم توزيع الجوائز في حفل يحضره الأمير في أوائل ديسمبر القادم .
صورتي تنشر لأول مرة في الصحف ، واكتشفت إنني لم أعد سامح شعيب ، وأن هذا الرجل البائع من الأربعين عمرا ، الكثيف الشارب والشعر ، يدعي صابر كساب ، بدأت انتبه إلي طرافة الاسم حين أجرت صحيفة المساء حديثا معي ، تفنن محرره عبادة في صياغة العنوان علي طريقة كساب كسب الجائزة “…
فجأة تفجرت أشياء كثيرة من أعماقي ، وخرج الجني كساب من القمقم المظلم الذي حبس نفسه بداخله ، حاملا اسما أخر، وراح يفخر بقدرته علي إتيان الأفعال العجيبة ، كانت الجائزة الأولي قد حجبت ، أما رأفت درويش فلم يوفق في مسابقة التربية والتعليم ، وأقام الأستاذ حفلا في لقاء الثلاثاء دعا إليه الكثير من الصحفيين الشبان الذين ، لعلهم يطمعون ، أن يتوحدوا باسمي مثلما فعلت معه ، التهموا الحلويات ، والكعكة التي عليها اسمي ، واسم الرواية الفائزة ،تبادلوا المشروبات ، وقاموا بتهنئتي ، سمعت اسمي الجديد بتردد أكثر من مرة في كلمات الترحيب والتهاني , وتسرب الحي القديم الذي الفته طوال سبع سنوات من داخلي رأيته يتناثر في كل هؤلاء الذين عرفوني باسمي إلي لي , تقدمت كاتبة شابة , حاملة أوتوجرافا وأشارت أن أوقع لا في صفحة زرقاء وهي تردد :
– نيفين …
لم أر سوى عينيها الواسعتين . تسمعني بهما . وأنا أقول كلمتي :
– لولا أنني تلميذ في لقاء الثلاثاء , ولولا أنني الابن المخلص للأستاذ … ( سكت) للأستاذ … (ثم قذفت اسمه) سامح شعيب , (كأنني أتخلص منه ) أوأطرده خارج وهي , … (تصفين) ..
لمعت عيناها . تخيلت أن نيفين قد قبلت اليوم فقط أن تمنح اسمها له بديلا عني , وأن تجدها فرصة في اختصار زحلة مشقة طويلة تجعلها تحصل علي مظروف أسبوعي , والكثير من الامتيازات الأدبية …
لأول مرة في حياتي , أري هذه الكتب الأربعة الستين غريبة عني , رغم أن الحي القديم مكتوب علي أغلفتها الخارجية والداخلية , وصورتي السابقة , وأنا ابتسم مطبوعة علي الغلاف الأخير , فردت الكتب فوق المائدة , سمعت زوجتي تصرخ في ابنها , وتعلق له جهرة انه ” ابن كلب ” , تمتمت وأنا اكتشف أن صورة المؤلف ليست في مكانها كأنني أخاطب آمراتي :
– والله عندك حق…
فتحت باب الدولاب, أخرجت الحافظة بنطالي السود , رأيت صورتي الجديدة ملونة , وضعتها فوق صورة الرجل الأصلع كثيف الشعر , تمتمت :
– عندك حق …
كان كل شيء جاهزا … الصمغ ألصقت به الصورة , القلم الأبيض محوت به اسمي القديم , وبقلم فلوماستر أسود , كتبت بخطي الرديء اسمي الجديد , تنهيدة عميقة انطلقت من صدري , وزوجتي تصر على أن وحيدها ” ابن كلب ” للمرة الخامسة , قررت أن أفتح الباب , وأن أصفق لها إنها اكتشفت حقيقة أخفيتها عنها , منذ أن بدأت بعد زواجنا بعامين وستة أشهر .
سؤال : هل تعتقد أن لحظة الاستكشاف هذه تحدث عادة لمن اشتروا أسماء الآخرين..
– لا بالطبع , فليسوا كلهم فائزون بسبعة آلاف دولار , يمكن لهذا المبلغ , عند تحويله إلى قرابة خمسة وعشرين ألف جنيه مصري , حسب قيمة الدولار في تلك الفترة , أن يلف رأس شخص مثلي , وأن يكون أشبه بكأس خمر معتق يجعله يرمي كل الحسابات ضد من اعتبرهم آلهة الأرضيين …
قد تسألني ماذا فعلت , ركبت طائرة , وهناك استقبلوني في المطار , قرأت اسمي فوق لوحة صغيرة , تحملها فتاة واسعة العينين خلتها يفين عند الوهلة الأولى . جلست إلى واري في سيارة لم أر مثلها في أفلام السينما القليلة التي شاهدتها , حدثتني واسعة العينين ” فردوس ” أن الأمير بنفسه سوف يسلمني الجائزة , في الفندق قابلت الفائزة الثالثة القادمة من الدار البيضاء , حضر مندوب الأمير ليقدم لي في بهو الفندق حقيبة سوداء حملها عني أحد موظفي العلاقات العامة كي يرسلها إلى غرفتي , تساءلت وأنا أضحك دون أن يفهم أحد المعنى :
– هل الدولارات ثقيلة لهذا الحد … ؟
في الثالثة صباحا , وفور أن غادر غرفتي آخر من يودعني , أسرعت بفتح الحقيبة بمفتاحها الصغير , هالتني ساعة اليد الذهبية وعليها صورة الأمير , تحولت الساعة إلى رقم حسابي أتكهن به ثمنها , لأعرف القيمة الحقيقية للجائزة بالجنيهات المصرية
سؤال : لا نريد وصفا تفصيليا لأثر الجائزة في حياتك , تعرف إنك في اليوم التالي , كنت أول من نودي باسمك , وصافحت جلالة الأمير الذي منحك شهادة تقدير , ومظروفا به سبعين ورقة من فئة المائة دولار .
• حقيقة , ودون مبالغة , أو تزيين للكلمات , كانت المفاجأة الحقيقية أنني استلمت النسخة الأولى من الرواية الفائزة , على الغرف كان هناك ثلاثة عناوين .. بأعلى اسم الجائزة والأمير , ثم اسم الرواية , واسمي .. قبلت الكتاب قبل أن أرى صفحة الغلاف الأخير , يا إلهي , هذا الرجل الكثيف الشعر والشارب أعرفه , اسمه صابر كساب .. وهذه المعلومات عن تاريخ ميلاده , وبلده تفهمنا العذب , وشهادته في كلية الآداب قسم اجتماع , كلها صحيحة ,
المفاجأة الثانية , رأيتها بعد أن عدت إلى مقعدي .. كان هناك واقفا خلف الأمير الذي لم أر غيره من قبل , كنت قد صافحته دون أن أرى صلعته , إنه لا يزال يبتسم , وهو يصافح الفائزة المغربية , يا إلهي , لم أتخيل أنه هناك , فركت عيني أكثر من مرة كي أتأكد من حضوره , وأنه ليس كعادته في الاستحواذ علي في الأسابيع الأخيرة , أن لم أقل في سنوات عمري السبع الماضية , فتحت الكتاب لأتأكد أنه يحمل اسمي , وأن الأستاذ لم يأت هنا ليضع اسمه على الغلاف الداخلي على الأقل , قرأت اسمي مقرونا باسم جائزة الأمير , واسم الرواية , أدرت الصفحة , كانت هناك صورة الأمير , أدرت صفحة أخرى , قرأت اسمه بين هيئة التحكيم الذين مثلوا عدة دول عربية ” سامح شعيب ”
تمنيت لأول مرة , لو انمحى اسم ” شعيب ” من الوجود , لم أشعر بأي كراهية تجاهه , عرفت فجأة أنه هو الذي منحني الجائزة , كمكافأة لي على أن أعارني اسمه فوق الكتب الأربعة والستين . ووصلتني رسالته الواضحة : إنني لست كاتبا موهوبا , ولا أستحق جائزة , وأنه يقف وراء هذا التكريم الأسطوري الذي يحدث لي …
في الطائرة , تحركت من مقعدي في الدرجة السياحية , إلى الدرجة الأولى حيث يجلس , حاول المضيف الأنيق أن يمنعني , اقتربت من الأستاذ , وقلت له :
– شكرا , لكن , هل أستحق الجائزة حقا ؟
رد بذكائه , ولطفه :
– أنت في حاجة ملحة إلى سبعة آلاف دولار .. لعلك ترضى …
رنت كلماته في أذني , طوال رحلة العودة , هل أنا في حاجة ” ملحة ” إلى هذه الدولارات , لأدفعها كعربون شقة تسكنها زوجة مقتنعة تماما أن وحيدها ” ابن كلب ” , أم في حاجة لاسترداد ” صابر كساب ” , وصورته فوق أغلفة أربعة وستين كتابا …
وددت أن أخبره , ونحن ننزل من الطائرة , أن النقود التي استهلكتها عن هذه الكتب , وقيمتها ثمانية آلاف جنيها , وخمسون باعتبار إنني حصلت على مائة وخمسين جنيها , كمكافأة لمجهودي عن بعض الكتب , قد صرفت جميعا , على أم ” ابن كلب ” , وإنها راحت إلى البقال , والخضري , والفرارجي , والسماك , وبعض الباعة الجائلين , لزوم سد البطن , بالإضافة إلى ما أقبضه شهريا من مجمع ميدان التحرير…
بحثت عنه وسط النازلين , لم أره , لمحته يدلف مع شخص أنيق يرتدي سوداء , ويدخلان ما عرفت أنه صالة كبار الزوار … لم أشعر نحوه بأي ضيق , بل أن عرفاني قد أزداد نحوه , وقررت وأنا أغادر المطار بحقائبي الثقيلة أن أمحو ” صابر كساب ” إلى الأبد , وأن أعود لاستقبال اسمي الحقيقي القديم . فلولاه ما عدت إلى ابني الكلب , حاملا إليه كل هذه الهدايا , وإلى أمه التي فرحت كثيرا , وأعادت إلى جسدها سخونته , وإغراءه القديم , وهي تخلع عنه قميصها الذي لم ترتده من أجلي بنفسها … الشهوة , منذ أول ليلة جمعتنا عاريين معا , ومن جديد , وهي تبلغ ذروتها صارخة , فخورة برجولتي وبما أتيت إليها به , قررت أن أعود إلى اسمي القديم …
لكن عروستي قالت لي , وهي تحاول أن تؤهلني لمعاودة الكره ..
– صابر يا كساب .. هل الجوائز , تعيد الرجولة بهذه الدرجة .. ؟
رددت اسمي بما يجعلني فخور به , صابر كساب , وجائزة رجولة , ودرجة , إذن , هل سيستعيد ذلك الجسد سخونته لو نال صاحبه جائزة جديدة , لكن بالتأكيد أنا لا أستحق الجائزة , ولولا الأستاذ , ما رقد الرجل في فراشي , وما فرحت زوجتي بما حملته إليها في الحقائب .
سوف أرد على سؤال لن تسألني إياه , خاص بما فعلته المرآة , فلم يسترع انتباهها بالمرة , الكتاب الذي ألفه صابر كساب , ولم تهتم أن الأمير وقع على صفحته الداخلية بقلمه الأخضر , ولم تسألني أن أعلن الجائزة في القاعة الضيقة , التي جاء إليها بعض أقاربنا للتهنئة , ولتناول حلويات الأمير …
سؤال : هل هو الانفصال الأخير , بينك وبين شعيب .. ؟
• انفصال , لا أعرف , لن أدعي أنني استكشفت خطابي فجأة , سأقول الإجابة بشكل مختلف , فالزوجان , عندما يختلفان لا ينفصلان , فإن كل طرف يحاول إلصاق الأخطاء برفيقه السابق , أنا لا , أعترف أنه قد انتابتني لحظات من المراجعة , كانت سريعا ما تتلاشى , وإنني حينما حاولت أن أتصرف بلغة البطل , النبيل , أدركت أن الطفيل الذي يعتمد في حياته على نبات آخر لا يمكنه الاستغناء عنه …
سرعان ما فهمت الحكاية …
فالأستاذ اختلف مع ناشر سلسلة ” قصص الكبار” التي صار عليها أن تتوقف . وأعضاء ” لقاء الثلاثاء ” كانوا يؤدون مهامهم بإتقان شديد , يأتي إليهم الأستاذ بملخصات لقصص في سطور , ويطلب من كل منهم أن يكتبها كما يشاء .. رأيت رأفت درويش ينزل من سيارته الخضراء الصغيرة , وأنا في طريقي إلى لقاء الثلاثاء , حييته في برود , وقد تمثلت المعاني في مخيلتي , فهو أكثر مني موهبة , كما أنه دؤوب , ولا يفكر في أن يفصل كتاباته عن الاسم الذي نحبه جميعا .. الذي يوزع صاحبه هباته علينا
جف حلقي في داخلي دون أن أبارك له امتلاك سيارته الصغيرة , وهو يتقدمني نحو السلم , تناثرت عطوره التي اعتدنا أنا نشمها من أستاذنا , فوجدت نفسي أتمتم :
– ما أخبار المسابقات … ؟
رد في ثقة : للجوائز أصحابها ..
لم أتمكن من لملمة معانيه التي تتسرب من جملته , طيلة ” لقاء الثلاثاء ” مع الأستاذ لم تسمع أذناى سوى ” للجوائز أصحابها ” ترى هل أخبرهم الأستاذ أنه وراء منحي الجائزة , أم إنهم يتهامسون بذلك , دون أن يكون لديهم الدليل .أن إنه يطمح في الحصول على سبعة آلاف دولار , وساعة ذهبية , أحتفظ بها في درج مكتبي , لا أعرف .
سؤال : ربما لأن الجائزة فتحت أبواب النشر , وصدرت لك سبع روايات في خمس سنوات ..
• ربما .. فالناشر زكي خليل , طلب عند عودتي من رحلة الجائزة أن ينشر لي الرواية الفائزة , أخبرته أن الأمير طبعها على نفقة مؤسسته , وأخبرته إنني كتبت رواية جديدة , لم تنشر بعد , لم يتحمس كثيرا , لكنه طلبها مني بعد عدة أشهر , وقال بعد أسابيع :
– روايتك لم يبع منها سوى خمسين نسخة …
قلت دون أن يفهم ما أقصده : لكن كتب الأستاذ سامح شعيب تباع ..
بدا كأنه يعرف أسرارا نتداولها فيما بيننا دون أن نجرؤ على الإفصاح عنها , قال :
– الأستاذ ” ظاهرة خاصة ” لا تتكرر .. الكتب الأدبية لا تباع اليوم ..
تصرف الأستاذ كأنه أخرجني من فردوسه , وأنه غضب علي , دون أن يعلن ذلك جهرة , يستقبلني بترحاب شديد , ويتكلم إلي بمودته المعهودة , ينصحني ألا أتوقف عن الكتابة , لكنه أحتفظ باسمه لنفسه , لم يعد يعره لي , أحسست إنني عاطل عن العمل , رغم كثرة ما أكتبه , وأن الأوراق المتراكمة في الأدراج , لن تخرج إلى الناس أبدا .. بأي اسم , إلى أن قررت أن أطبع روايتي الجديدة على نفقتي الخاصة … طباعة تتناسب مع الألف جنيه التي استقطعتها من مرتبي الضئيل , وأغاظ زوجتي حين عرفت أن الناشر لم يأخذ سوى , مائتي جنيه ,قلت لها :
– ربما سيفوز بجائزة .. جائزة الدولة الآن قيمتها عشرة آلاف جنيها ..
بدت كأنها تذكرني بالكلب الذي تسب به ابنها , وتكاد أن تطلق نباحها علي , أوليتها ظهري , وانكفأت على بروفة الرواية , أقرأ سطورا أهديتها إلى الأستاذ , نعم كان أول شيء كتبته في الصفحة الأولى من مسودة روايتي ” ليل النهار ” أن المؤلف هو سامح شعيب , وعندما دفعت بها إلى الناشر ليطبعها على نفقتي , أو بالأحرى لأساهم في تكاليفها شطبت اسم المؤلف من عليها , لكن الرجل قال :
– هناك شطب , ماذا يحدث … ؟
حاولت أن أزيل الشطب فوق الصفحة , قال :
– سامح شعيب … إياك أن تكون قد اقتبست النص من الأستاذ شعيب ..
لم أفهم ماذا يقصد بالضبط , لم أستطع أن أجد مبررا لما فعلته , كشفت رغباتي عن جريمتي , تقريبا , أكدت له أن النص يخصني , قال :
– إذن , هات ورقة من الأستاذ , إنك الكاتب …
وضعني أمام مأزق غير متوقع , أن أذهب بالنص الأصلي المكتوب بخط يدي , كي أحصل من الأستاذ على أنه ليس المؤلف الأصلي للنص , أحسست إنني مثل بطل أقصوصة , في كتاب ” دماء وطين ” ليحي حقي , ذلك البوسطجي الذي ختم الخطاب من داخله , ووضعه في حبرة ..
عدت إليه بعد يومين , ومعي الخطاب , وهناك كانت المفاجأة … كان هناك إنه الأستاذ , حياني بأدبه الزائد , وقال :
– أوصيت الأستاذ ضياء على روايتك الجديدة , ابشر يا صديقي ….
تحسست الوريقة التي وضعتها في الملف الخاص بأصول الرواية , وقد قلدت فيها توقيع الأستاذ , تمنيت لو ألتهمها في جوفي , وأن أهضمها مع طعام الفطور الذي لا يزال قابعا في أطراف معدتي , لكن , فجأة رأيت ما أدهشني ..
إنه كتاب جديد , طبع لتوه في المطبعة . التي يمتلكها الأستاذ ضياء . مؤلفه هو رياض درويش الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الأميرة هويدا كمال ..
يا إلهي .. يعني هذا أشياء عديدة …
أن الأستاذ منح رأفت مكافأة نهاية الخدمة , وإنه أي رأفت سوف يحصل على عشرة آلاف دولار من الأميرة , وأن نسخ هذا الكتاب سوف تسافر بعد أيام كي يتم توزيعها في الحفل , وأن الأستاذ منح اسمه الشهير لكاتب جديد , سوف يؤلف له عددا من القصص .
سؤال أخير , بل تعليق …
بعد يومين , لا أكثر , نشرت الصفحات الثقافية خبر فوز رأفت درويش بالجائزة الأولى في المسابقة السنوية التي تقيمها الأميرة هويدا , عن رواية ” مسح الجوخ ” , وقيمة الجائزة عشرة آلاف دولار .
نعم أنا التي كتبت سبع حلقات كاملة من هذا المسلسل الذي يثير ضجة بين الناس ..
كل ما يقوله الممثلون دونته فوق الورق , إنها لغتي , وتلك مفرداتي … والله على ما أقول شهيد …
ما قبل الحلقة الأولى .
عقب انتهاء الندوة الكبرى التي أقيمت في نقابة الصحفيين لمناقشة مسلسل رمضان , التف الحاضرون حول نجوم المسلسل , وأبطاله , ومؤلفه , ومخرجه , تترامى الأسئلة من حولهم , وتتكرر الإجابات , وتوقيعات أوتوجرافات , وتبادل بطاقات الهوية , ووعود بأن يكون المسلسل القادم بالمستوى نفسه , وربما أفضل , حاولت اختراق اللحوم البشرية التي أحاطت بالمؤلفة لمياء سيف الدين , لكنني فشلت , أمام سيارتها التي انتظرتها على باب النقابة في العاشرة والنصف مساء , وجدتني أستودعها مع خمسة من المعجبين , ضغطت على زر من أزرار المحمول , وقلت في أدب جم :
– عندي لك مفاجأة لرمضان القادم , هل أطمع في رقم هاتفك الخاص .
تلاقت عينانا فيما يشبه التعارف المؤكد أملته على كأنها تعترف به , وتقول :
– لا تكلميني قبل الواحدة ظهرا .. فأنا أنام في ساعة متأخرة ..
في الواحدة ظهرا , وعند دقات الساعة :
– أنا هدى رياض ..
لعلها كانت تنتظرني , بكل ثقة , كأنها تعرفني منذ سنوات : كيف حالك يا هدى .. أخبريني عن برجك .
قبل أن أأبلغها إنني من مواليد برج العقرب , قالت :
– كيف عرفت أن عندي ورشة للكتابة … ؟
بدت كأنها ترميني بأسئلة عليها أن تلم إجاباتها , قبل أن تسترسل في تباسطها معي . بعد إجابتي قالت :
– مواليد برج العقرب لا يعرفون الوسط , لديهم فعلان فقط .. يحب .. يكره ..
سألتها :
– كيف عرفتين إنني أعرف أن لديك ورشة …
رددت : لأنك أخبرتيني أن عندك مفاجأة لرمضان القادم .
وبعد ساعة كنت في حجرة المطبخ الواسعة في شقتها التي تطل على القاهرة من أعالي المقطم . أعدت لي فنجان القهوة , ومدت لي بعلبة سجائرها , وهي تقول :
– أفضل المحلي , أحب بلدي …
راحت تقضم قطعة ” التوست ” وتبلعها بالشاي ذي الحليب , وهي تقرأ ملخص المسلسل الذي جئت به إليها , مرت عيناها على الصفحات بسرعة جعلتني أشعر بأنها تتعامل باستهانة مع ما كتبت , وعندما انتهت من الصفحة العاشرة , قالت :
– رائع .. فكرة جديدة .. لا بأس بها .
سألتني : هل كتبت مسلسلات من قبل ..؟
– كلها في أدراج مكتبي ..
– لماذا لم تبيعها ..
– أنا مستعدة … أنا من الإسكندرية , جئت من أجلك خصيصا , أقيم في فندق صغير , قررت ألا أعود لبيتي إلا ومعي ما أدفعه ثمنا لدروس عزيز في الثانوية العامة .
كأنها ستخرج لي علبة بسكويت صغيرة من الدرج المجاور , الذي فتحته , أخرجت مظروفا أبيض , عليه اسمي وقالت :
– هذا لأبنك .. هل عندك مسلسل يناسب إحدى الشركات الخليجية ؟
قلت :
– ” أزهار الشر ” …. عشرون حلقة
– ولماذا ” أزهار الشر” , إنه عنوان ديوان بودلير الشهير
– العنوان يحكم
– اذهبي واحضريه ..
– وهذه النقود … وهذه الفكرة …
– سوف نتفق
الحلقة الأولى
وقائع اليوم الأول , من الشهر الأخير في حياة شخصية عامة شهيرة , اكتشف فسادها بعد أسبوعين فقط من إحالته على الاستيداع ..
المكان , قصر فخم , كأنه الحصن , محاصر بين البحر الأبيض , والصحراء , لا يأتي إليه سوى المدعوين فقط , والتي حددت معهم مواعيد رسمية , رغم أن صاحب القصر مسعود أبو طالب غادر موقعه الرسمي قبل خمسة عشر يوما , فإنا موظفي الزمن لا يزالوا يقوموا بمهامهم على خير وجه .. فالعقد مع الشركة ينتهي بعد ثمانية أشهر كاملة , وكل شيء على ما يرام .
رجال الأمن يتهامسون فيما بينهم , حول المقال الذي كتبه رئيس إحدى الصحف الحزبية , حول مسئول سابق في إحدى المؤسسات المهمة , اسمه م. أ , استغل نفوذه , وتربح فصارت ثروته ثلاث مليارات جنيه , يعيش في قصر على الساحل , يقضي فيه أيامه ولياليه بعيدا عن الصخب, يبلغ ثمنه مائة وثمانين مليون جنيها , أهدى إحدى موظفاته إلى ثري عربي لمدة أسبوعين … وما لدينا من وثائق سننشره تباعا ..
تم إخفاء الجريدة عن عمد , إلا أن صاحب القصر صرخ :
– أين جريدة ” النميمة ” , لماذا لم توضع وسط بريد الصباح ,
لم يغير مفرده ” بريد الصباح ” طوال الأسبوعين الماضيين , فالحياة لا تتغير بسهولة في مدة قصيرة .
هاتف محمول جاء , قبل دقائق : ” النميمة تنم عليك .. اقرأها ”
عندما قرأ الخبر تملكته سكينة , ثم استبد به غضب , أو قلق , أو مزيج بين الاثنين , لقد بدأوا في مس بشرته , وبشكل مباشر , فهو كل هذه الأشياء معا , ترى هل يتصل مباشرة برئيسه السابق , ويبلغه إنه المقصود .. أم يتصرف كأنما الأمر لا يخصه , وكم من ” م . أ ” كانوا موظفين كبار سابقين , ولديهم قصور مجاورة للبحر .. لكن الإشارة أن العدد القادم سينشر المزيد من الحقائق , والنميمة , أمر يستدعي الحذر ..
وقبل أن يقرر , مكالمات : افعل أي شيء .. الخطر يمسك شخصيا وصار لديه أكثر من بديل لحل المشكلة الطارئة…
قالت لمياء , وهي تقرأ الحلقة الأولى :
– رائع .. الحوار جميل , ولكن
انتظرت ” لكن ” هذه من اللحظة الأولى التي عرفت فيها أن لمياء سيف الدين , صاحبة المسلسلات الناجحة لديها ورشة لعمل سيناريوهات المسلسلات , وأن أشهر ما لديها هو ” لكن ” التي تستخدمها لغرض سيطرتها على أعضاء الورشة أيا كان عددهم , حتى لا يتصور , أي منهم أنه كاتب بالفعل . لذا عاجلتها :
– المسلسل ذو طابع سياسي , وسيواجه مشاكل مع الرقابة
ردت : لا , تعرفين أن مسلسلاتي سياسية . وإنني أتصدى للرقابة في هذا الشأن بالذات .. لكن
– المشاهد قصيرة , وسريعة الإيقاع عكس ما نعهده في التلفزيون
مصت شفتيها : دعيني أقول :
تركتها تتكلم
– هذا المسلسل سأعدل فيه كي يستحق أن يكون من تأليفي أنا
ودون تردد : موافقة , افعلي ما شئت .
الحلقة الثانية .
القصة مستوحاة مما تنشره جريدة ” النميمة ” تباعا , والتي كشفت مقالات رئيس تحريرها عن الفساد الذي استشرى في المؤسسة الحكومية التي تولى مسعود إدارتها عددا غير قليل من السنوات , حول فيها مشاريع إدارية عقارية لثلاثة من أولاد أخيه إكرام , وهم : جابر , وناصر , وأميمة , وهذه فرصة رائعة أن تتعدد المساحة الدرامية , والشخصيات , فأميمة هي عميدة العائلة . التي تدير كل شيء من خلال أخويها , وأبنائها الثلاثة , وفي الحلقة تكتشف أميمة أن ابنها أشرف , تورط في علاقة مع الخادمة السريلانكية التي أصرت أن تبلغ الشرطة بأنها حامل , وأن عشيقها أشرف يود أن يتخلص من الجنين وربما من أمه بأي ثمن ..
وهنا يأتي دور مسعود , رجل الدولة , في إخفاء كل أثر يؤكد أن ” كرستينا ” كانت يوما على قيد الحياة ..
إنه الخيط الذي التقطته الجريدة لمعرفة مكان كرستينا , وهل تم بالفعل التخلص من جنينها , نظرت لمياء إلى , كأنها تحاول معرفة ما سيحدث من خلال سطور مكتوبة على ملامحي , قالت :
– ألست معي أن هذا لم يحدث في الواقع … أعرف .. أعرف ما ستقولين , أن هكذا تحكم الدراما , المزيد من مقبض لأوبرا صوب ” والمحرمات , والمنوعات , والأشياء المثيرة للدهشة , كي يستوعب المسلسل ثلاثين حلقة ..
– وربما أن يكون هناك جزء آخر للنميمة باسم ” نميمة تو ” ..
ضحكت , وقالت , وهي تداعب ساقيها العجناوين :
– هل تتصورين أن ما كتبته الصحف حول الموضوع صحيح …
تكتمت , وقد انتابتني الرغبة , في أن أسحب سيجارة من علبتها , فلماذا أعتبر التدخين عادة سيئة :
– لعل حقي كان أعظم , قال هيتشكوك أن اثنا عشر بالمائة من الجرائم فقط يتم اكتشافها .
ضحكت , دفعت العلبة نحوي قليلا , كأنها تغريني ؛
– إذن , فحسب كلامك , فما نعرفه عن هذا الرجل مسعود رشاد هو إنني عشر بالمائة ..
شددت السيجارة , بدون تردد ..
– في الحلقات سوف أتحدث عن النسبة المئوية الباقية ..
– وماذا لو لجأ الرجل إلى القضاء …
– بطلي اسمه مسعود ارشاد , وقد غيرت مهنته … هذا بطلي
وطلبت مني أن أعود إلى الفندق الذي استأجرته باسمي , وأن أعود إليها بالغد ومعي الحلقة الثالثة التي لم أفكر بعد في أحداثها .
الحلقة الثالثة
أثار الحاج متولي الجدل بين الناس , حسده الرجال , وتمنته النساء . جمع الرجال بين الفحولة , والثراء , والحزم , وكثرة الأولاد , والشباب , والجاذبية , وجمع بالحلال كل هؤلاء النسوة , اللائي يطلبن وده , ويتمنين مجرد الرضاء , وهو رجل وفي لا يتخلص من نسائه , ويضيف إليهن الكثيرات , ولو أباح الشرع مئة امرأة , لفعلها دون تردد , ألم يحدث هذا في قصور السلاطين , وفي سوق الآمات …
في الحلقة الثالثة , تظهر نساء جديدات في حياة م . أ , سكرتيرته سحر تأتيه إلى شقته في أطراف المقطم , وهي تدخل بالنقاب الأسود المتفحم , ما إن تنزعه عن نفسها حتى تظهر امرأة خليعة رمت عن نفسها كل وقار الصباح , لكن قبل أن تطلق تحيتها , يرن المحمول الخاص به :
– ألو… مسعود … كرستينا .. هربت …
بكل ثقة , وهو مع سكرتيرته , قال :
– لم تهرب , أخذت ما طلبت … كل شيء على ما يرام
جاءه صوت أخته عبر الناحية الثانية من رقمه السري :
– لكنها تطلب من أشرف نصف مليون جنيه ..
قال : أعطيتها , أكثر …
ألحت أخته : أعرف , نريد المزيد ..
يغضب وهو مع سكرتيرته , قال :
– عندي اجتماع مهم : .. سأحدثك فيما بعد .. نصف ساعة
همست سحر , وهي أذنه :
– هل تتخيل أن أبقى هنا نصف ساعة فقط
ابتسم , وأغلق غطاء الهاتف المحمول , بدا مؤرقا , فسألته :
– ألم ينته أمر سحر بعد ..
قال : ماذا لو تم اكتشاف أمرنا …
تحسست حقيبتها : معي عقد زواج ” عرفي ” ..
تمتم : هل كان أشرف واثقا في كرستينا , وهو يلامسها .. إنها لن تفعل ما فعلته ..
لم تعرف بماذا ترد , هي السكرتيرة الصغيرة , التي صارت مدير مكتب السيد رئيس مجلس الإدارة , وهي عيونه ولسانه , أنفه , وفمه , وقلمه . إنه يثق بها , لدرجة أنها في داره الآن , زوجة شرعية بعقد عرفي , حقيقي . معها النسخة الوحيدة منه , تأمينا لها , واثقا فيها إنها لن تفعل يوما مثل كرستينا .
اعترضت لمياء على أكثر ما جاء في هذه الحلقة , متهمة إياي بأنني كتبتها في تعجل , أو وأنا أجرب السيجارة الثانية في غرفتي بالفندق , أجلس فوق الأرض , وقد عجروت من كل العالم حولي , إلا من علاقتي بورق , وقلم , ومسعود ارشاد , والنساء من حوله , وابنة أخيه التي تدير شركات لحسابها الخاص ,.
قالت لمياء :
– مسألة النقاب هذه , لا داع لها , لا نريد أن نوجع أدمغتنا .
قلت : سبق لك أن تحدثت عنها في مسلسل لك .. ” الزوبعة ” .
لم تعلق , استمرت في القراءة , تابعت سير الحوادث , وقيام بعض المجهولين بالاعتداء على كرستينا في غرفتها بالفندق , وسرقة كافة ما لديها من أموال , كانت تضعها بخزينة الفندق , وحضور الضابط أدهم , ومدير العلاقات العامة , ومحاولة البحث عن أثار أو بصمات , ثم تقييد المهمة ضد مجهول , وقيام صحفي بنصيحة كرستينا , أن تبلغ الأمر لإحدى صحف المعارضة . لكنها تفكر في الأمر بروية
قالت لمياء :
– الأحداث تتداخل , لم تعرف الحاضر , من الماضي , في مسلسلات التلفزيون , تحبذ البساطة دون التعقيد …
الحلقة الرابعة
زوجة جديدة في حياة مسعود ارشاد , هو لا يختلف كثيرا عن الحاج متولي , في مسألة الاقتران بالنساء فالشرع مرن , ويتيح لك أن تفعل كل شيء في حدوده , توقيع عقد زواج عرفي أمر سهل , وها هي آمال تدخل شقته في مدينة الرحاب , كي تحل زوجة شرعية , وهي التي جاءت من بلادها , بعد أن طلقها زوجها للإقامة في مصر , وتهدف إلى عمل مشروع سياحي ضخم , للعلاج الطبيعي , خاصة للأثرياء العرب الذين يبحثون عن المتعة والتريض والعلاج في مصحات أوروبا , قال لها :
– سوف يكون المشروع السياحي للمرآة فقط , تأتي إليه النساء , دون الرجال , الذين عليهم الذهاب إلى مصحات أوروبا , مطمئنين أن زوجاتهم أو نسائهم بين أيد أمينة ,
راقت لها الفكرة كثيرا . وحولت لحسابها في مصر مبلغ ملياري دولار للبدء في المشروع , قالت :
– أريد أن أكون مصرية . كي يتم تسهيل كل شيء …
اقترح عليها أن تبقى على جنسيتها , فالاستثمار سهل الآن للعرب , للأجانب , وأعطاها الضمان بأن اقترح أن يقترن بها , وشرح لها في كلمات مقتضبة ظروفه الوظيفية , والسياسية , وأخبرها أن خصومه في جرائد المعارضة , والصحف المستقلة , يرقبون الفراشات إذا حامت حول شعره , وأنه يجب أن يبقى الأمر سرا , وأن يظل في عيون الناس رئيس مجلس الإدارة , ورئيس التحرير المشهور له بالنزاهة . وافقت المرآة , ولم تطرح عليه السؤال الذي أرقها وهي في وحدتها :
– هل لديك أكثر من مشروع استثماري مشترك مع مؤسسات أخرى …
وحتى لا تجد لديها الوقت للاستفسار , أو التساؤل , بعث برجاله الموثوق فيهم إليها , ليشغلونها , في إنهاء الإجراءات اللازمة لمشروعاتها الطموحة , لم تعد تجد وقتا حتى تطلق تحيتها في الهاتف , وحذر عليها أن تغازل , ولكنها في الأسبوع الأول , كانت تجده في قصرها الجديد الذي اشترته في أطراف المدينة , , , ويلهث , وينتفض , ويقول وهو يسرع إلى سيارته المصفحة السوداء :
– اجتماع لهم مع قيادة سياسية , إلى الغد
إنه يمسك كل الخطوط بأنامل يده اليمنى , ويكتب مقالاته ييسراه , ابنة أخته أميمة , وقضيتها التي تتشابك , سكرتيرته التي عرفت بزيجته من آمال , تجيد إخفاء أسراره , حين تسأل عنه زوجته المطربة المشهورة نوال سالم , أو ابنته شذى المقيمة في تورنتو , أو أي قيادة سياسية , كل الردود جاهزة , وكل الدروب أشبه بلعبة المتاهات المعقدة , تصل إلى بعضها , عند اللازم , فآمال تعرف جيدا , من الصحف , أن مسعود متزوج من نوال سالم , وهي تعي تماما أنه رجل مشغول , وأن الوقت الذي يمنحها إياه , هو وقت سياسي في المقام الأول .
أبدت لمياء سيف الدين ملحوظات سريعة على الحلقة الرابعة من المسلسل , لأول مرة , وجدتها تكتب لي الخطوط العامة للحلقة الخامسة التي يجب أن أقضي ساعات كاملة في غرفتي بالفندق , أو في الحديقة العلوية , كي أتفرغ لكتابتها , أعطتني الورقة وقالت :
– اتبعي هذه التعليمات , من أجل مصلحة المسلسل
الغريب إنني عندما بدأت الكتابة , واسترشد بما جاء فيها , اكتشفت أن ما كتبته لم يكن خطها
الحلقة الخامسة
قالت لمياء في دهشة :
– ليس هذا ما تفقنا عليه
كنت قد جهزت الرد : أريد أن أكتب مسلسلي بنفسي
ردت بحدة : من قال هذا , إنه مسلسلنا جميعا , مسلسل الرشة … وأنا .. لمياء سيف الدين
لخصت الموقف كله في هذه الكلمات التي نطقتها كأنها تحسم الأمر , وضعت مظروف النقود الذي استلمته منها بالأمس فوق المائدة :
– دفعت مصروفات المدارس , وعلى أبيهم أن يهتم بهم
بدت كأنها تحسم الأمر , وأن لديها بديلا غيري , قالت :
– خذي مظروفك , إنه مجهودك .. سنكتفي بهذا القدر من المسلسل
– أخذت ثمن حلقات أخرى , سبع حلقات …
– كما تريدين , اكتبي حلقتين … اخريتين ..
إنها حادة , وحادة فيما نقصده , يبدو أن دوري قد انتهى بالنسبة لها , من الواضح أن كتاباتي لم تعجبها , ورغم أن ملاحظاتها قليلة على ما قرأته , وإنها قد منحتني الثمن الذي اتفقنا عليه للسبع حلقات الأولى من المسلسل , أو ربما لأنني كنت كثيرة الأسئلة بالنسبة لها , أو لعلي عرفت أكثر مما يجب , فهناك اتفاقات على مسلسلات خليجية , أو برامج تلفزيونية تحمل اسمها ودعوة لبرنامج الاتجاه المعاكس , كي تتحدث في مواجهة كاتبة زارت إسرائيل مؤخرا , شمعتها تساوم في مقدار المكافأة التي سوف تحصل عليها , وهي تبدي اشمئزازها من أن نتحاور مع الكاتبة وجها لوجه في بث مباشر ,
صار علي أن أكتب الحلقتين الباقيتين , عدت إلى مدينتي , وحبست نفسي ي غرفتي , لأول مرة منذ تعلمت كتابة حرف الألف بدأت امراق ما أكتبه , مرة , تلو الأخرى , مضى أسبوع دون أن أكتب ما أرضى عنه , أحس مدحت بالقلق علي , وهو يراني عصبية , أطعم تسعة أطباق , واصرخ لاعنة الزواج , والأطفال , ولقمة العيش , يعرف زوجي إنني لو لم أكتب لدمرت البيت قلقا وصراخا , بكل أدبه الجم , أتى لي بالعدد الأخير من ” النميمة ” , وقال :
– حجزت لك في الفندق .. اذهبي لتكتبي وحدك ..
تصرف بذكاء , وأثار دهشتي , فهو يعرف إننا في أشد الحاجة لنقود إقامة ليليتين في هذا الفندق , لعله يتيح لي فرصة أن أكتب بقية الحلقتين المتفق عليهما , أو لعله يأمن لنفسه , وللبيت إنني لن أحطم المزيد من الأطباق , والخلاط الوحيد في المطبخ , وبذلك سوف يدبر المزيد من المال
صار موقفي غريبا للغاية , وزوجي يودعني عند باب غرفة الفندق , وهو يقول :
– لن أحضر لأخذك إلا بعد أن تتصلي بي , وأتأكد إنك أنهيتي الحلقتين .
وأنا أفتح النافذة , المطلة على البحر , أحسست برغبة شديدة , وقد انتابتني حمية شديدة أن أنتهي من الكتابة قبل أن تغرب هذه الشمس
الحلقة السادسة والسابعة
يجب أن ينتهي كل شيء بسرعة , وان اختصر محنة مسعود ارشاد في الحلقتين الأخيرتين من المسلسل , نعم , لماذا لا تكون المسلسلات في سبع حلقات , مثلما كانت السباعيات من قبل , ولماذا يكون هناك مسلسل عن مسعود في ثلاثين حلقة , فالأمر لا يتعدى هذه الحلقات التي بدأت أكتبها وأنا أجلس في مواجهة البحر , يصنع خريره مؤثرات صوتية تلهمني المزيد من الحكايات عن صحفي صغير , عمل في العديد من الوظائف , قبل أن يلتحق كمحرر يتجول بجريدته التي صار رئيس تحريرها وهو دون الأربعين , ثم تربع على إدارة المؤسسة بعد عامين , ولمع بريقه واسمه في العديد من المؤسسات السياسية , واعتبره الجميع نموذجا لرجل ناجح , ما إن ترك وظيفته حتى خرجت أوراقه السرية إلى جريد النميمة , التي سارعت بنشرها على اثنا عشر حلقة , متتالية ,
ها هي صورته أمامي تملأ ” النميمة ” , قصوره الفخمة في أنحاء الوطن , وخارجه , وزوجاته الرسميات السابقات , والحاليات , كل شيء حسب الشرع , يساعدنه في أداء أعماله , ويقمن بأدوراهن بإخلاص ومودة , يتنافسن في إنجاحه , ويبذلن ما لديهن من كفاءات , لم يستطع محرر جريدة ” النميمة ” أن يفسر سر هذا الوفاء الذي بذلته النساء من أجل الرجل , وها هن النساء يتكاتفن الآن من أجل إخراجه من محنته , يدافعن عنه , قال المحرر أن مسعود استخدم مسألة الزواج العرفي ليحتفظ بكل هؤلاء النساء معا , تمزق إحداهن وريقتها , كي تتيح لأخرى أن تدخل في عصمته عن طريق وريقة أخرى , حتى لا يخرج عن القانون .. أسماه المحرر برجل لكل النساء , فأميمة ابنة أخته تبدو وكأنها هي التي تحرك الأشياء , وباسم خالها , استطاعت أن تمسك بكافة الخيوط , وردد المحرر إنها التي اختارت له سكرتيرته , وزوجاته , وسيدات الأعمال التي توقع معهن على العقود , نيابة عن الخال , أو بالأحرى دون أن يكون هناك أي ذكر للسيد رئيس مجلس الإدارة .
أصابتني الحيرة وأنا أتساءل عن مصير الرجل في المشاهد الأخيرة من الحلقة السابعة , هل أزج به في السجن , كنوع من العقاب القدري جراء ما فعله , لكنني اكتشفت أن الرجل بريء في كل ما نسب إليه , فالأحوال التي تنسب إليه خفتها من مجهود طارق قام به , ونتيجة لذكاء حاد وهبه الله إياه , بدليل أن ما أنجزه لمؤسسته لم يحققه أي زميل آخر له من قبل , وأن كل الأموال التي نسبت إليه , مكتوبة لحساب نساء عقد قرانه عليهم لبعض الوقت , أو إنهن جميعا قد مزقن العقود عندما أحسسن بالخطأ يلمس رجلهن , كلهن فعلن ذلك عدا زوجته الرسمية , التي قيل إنها ثرية بالميراث , وليست في حاجة إلى إثبات مصادر أموالها ..
– الو .. مدحت .. ( وأنا أتنهد ) تعال ..
عندما فتحت باب الغرفة هب الهواء من النافذة المفتوحة على البحر , تود أن تغلق الباب في مواجهة زوجي , قال :
– الحمد لله .. انتهيت أخيرا .. حمد لله على السلامة
بدا كأنه يهنئني على مولودي الجديد , مثلما سبق أن فعل عندما أنجبت له ليلى , وسناء , وكاميليا , وهدير , سألت :
– لم تسلني , ماذا سأسمي الوليد الجديد ..
– اسمه .. قيمة ..
وطوال خمسة عشر دقيقة فقط , لم تتوقف أطرافنا , عن ممارسة مما افتقدته من نميمة , قفزت من جواره فجأة , وأسرعت إلى المائدة , أحس بي , وهو يستعد في النوم :
– هل ستستحمين ؟
– – لا , بل أنهي المشهد الأخير … لم أكتبه بعد
ما بعد الحلقات السبع
كنت أعرف إنها ستقول :
– رائعة … حلقات رائعة …
بكل ثقة , سحبت سيجارة جديدة من علبتي , وقلت لها :
– لم يعترض زوجي على قيامي بالتدخين ..
لم يهمها أن تعلق على ما قلته , كانت قد أمسكت بالقلم الأحمر , وبسرعة غير معهودة , أخذت تصحح مثل مدرس اللغة العربية الذي لم يكن يجد شيئا يصححه في كراستي , لجمال الخط , وحسن الأسلوب , كانت قد أغلقت التليفون المحمول حتى لايزعجها من يطلبها , ويقطع عليها حبل تسلسل الأفكار , فهي تترك للهاتف الذي معها , ظاهرة استقبال الكلمات , التي سوف تسمعها حين تفتحه , تحاول أن تؤكد لي إنها تقوم بما يؤهلها أن تضع اسمها على المسلسل دون أن نمتلك حق الاعتراض , وهي تدخل الغطاء في القلم , قامت بالضغط على الهاتف :
– الو .. مرزوق … تعال خذ الحلقتين … بسرعة …
قلت :
– هذا هو الديسك , لست في حاجة إلى كتابة كومبيوتر … ثم أنا أستطيع أن أعيد التصحيحات على الديسك
بدت كأنها تعرف ما تريده بالضبط … مدت يدها إلى مظروف بجانبها , وقالت :
– هل لديك وقت لقراءة هذا المسلسل …
فتحت المظروف , ومدت لي بحلقات مكتوبة , لتسألني الرأي فيها .. إنها أمرآة مثيرة للدهشة , قالت :
– لا تنظري إلي هكذا , فقط , كنت أثير همتك ..
ضحكت واثقة أن هناك من يسمع ضحكتي في القصر المجاور , بدت ضحكتي حالة من الهيستريا التي لم تستطع أن توقفها . فجرت في عبارتها كل مخزون الضحك الذي تبقى لي إلى أن بلغ الستين من العمر , ‘ذا كان لي أن أموت في ذلك العمر , استجمعت في هذه الضحكة المهووسة , كل ما طعمته من أطباق . واستهلكته من وقت في معانقة البحر , والورق , وزوجي , أمارس مع الثلاثة الشيء نفسه , كبت الغيظ الذي أشعلته في , وهي تقسم أن أمثالي لن يكتب لهم الاستمرار في مثل هذه المهنة .. الكتابة
لم اهتم برد فعلها , ولا بما اقترفته في حق ضيافتها لي بمنزلها , كل ما استبد بي إنني تخلصت من كابوس فرضه مسعود علي وأنا أبريء حاله , وقد وعيت تماما أنه ليس وحده , وإن دخوله السجن أرحم له من البقاء داخل الزنازين الأوسع , التي تمثل الوطن , قيودها تلك الشائعات التي تطلقها النميمة عليه وعلى أمثاله …
أمثاله .. أنا من أمثاله , وأيضا لمياء سيف الدين .. بل هو من أمثالها ..
قالت في انزعاج واضح , وهي تراني أمسح دموعي الغزيرة التي انتهى بها هذياني
– ضحكتك غريبة …
– هذه أول مرة أضحكها … ولو لم أفعل لخرجت من هنا فاقدة الحركة .
– لديك مشاكلك , بالتأكيد , زوجك , أليس كذلك ..
– زوجي , إنه أول من يحل مشاكلي , أبقاه الله لي .. مدحت ..
– ماذا بك .. إذن …
– مرزوق ..
في دهشة : مرزوق … ماذا تقصدين … ؟
– فهمت الحكاية , تأخذين مني سبع حلقات , تعطيها إلى مرزوق , يقرأها , يستكمل حلقات أخرى , ثم تعطين الحلقات الأربعة عشر إلى مرزوق آخر أي مرزوق , حتى ينتهي المسلسل . فلا يصير له أب شرعي سواك .. باسمك أنت .. لمياء مسعود سيف الدين ارشاد ..
– لم تكن في حاجة إلى مذكرة تفسيرية أقدمها لها , قالت :
– – لا تمزجيني بمسعود .. أنا شيء آخر ..
وأنا أبصق السيجارة في المنتفضة , اشمئزازا , وتمردا , قلت :
– نعم , مسعود شيء آخر .. لقد تقمصته طوال الأيام الماضية , أما أنت فلم أستطع أن أتقمصك , أنا في حاجة للمزيد من النقود , فقد أنفق مدحت علي مبلغا أعجزنا , وهو يؤجر لي غرفة الفندق المطل على المياه مباشرة ,
سوف أستكمل هذا المسلسل مضطرة .. أنا مجبرة ..ز
وبرقتها الثعبانية , سحبت مظروف المسلسل الجديد , وقالت :
– لم اعد في حاجة إلى من يتقمص الشخصيات , أريد فقط من يجيد الكتابة
نعم , أنا التي كتبت الحلقات السبع الأولى من هذا المسلسل الذي يثير ضجة بين الناس , رغم أن بطله يدعى كامل التبراوي , رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات القابضة , التي قررت الدولة أن تبيعها , للتأكيد أن الخصخصة هي الحل
***
أجمل ما في اللعبة أنك تمارس ذلك الفعل بنفسك , وأن لا أحد يمارسه نيابة عن الآخرين , فيصير واحدا من الحقائق القليلة المؤكدة مثل الميلاد والموت , كل ما على المرء أن يفعله إذا كان رجلا مثلي , أن يخرجه من مكمنه الذاتي , ثم ” يفعل ” في المكان المؤهل لذلك ..
كنت واثقا أنه مثلما يتحلل الجسد بعد الوفاة , فإن هذه المياه المصفرة , المؤيدة ( أي المليئة باليود ) سوف تتصرف مع مكعبات المياه المندفعة نحو محطات الصرف الصحي , أو إنها سوف تجف بعد أن تبتلعها مياه الصحراء حيث فعلناها تكرارا , أو في الحدائق , متى حلا لي أن أفعل , ورأسي تلتف يمينا وشمالا متمنيا لو رآني أحد ..
انسابت الحقيقة الجديدة هنا , أفعلها بنفسي , دون نيابة عن أحد , أركض فوقها , وفوق ما فعله آخرون مثلي في معسكر إشارة الجبل الأحمر , الثانية صباحا , حاملا بندقيتي على كتفي , وخوذتي فوق رأسي , أحرس سور الكتيبة وأخرجه كي أنفث عنه , وأجعله يتخلص من عبقه , وأشمه عبق الحرية لدقائق .. في ليتوانيا , حين رحت أعد المرات التي يفعلها ” باريس ” الكلب الشاب المتدفق حيوية ونشاط , تطلق صديقته اوشر بين الأشجار , كلما حلا له مكان تشممه , فيطلق ” بولته ” أحصيت ثلاثين مرة في إحدى الأمسيات , وخمسين مرة , الأبولة , في السادسة صباحا حين اصطحبتها لمرافقة شابها الذكر , الذي دربته ألا يفعلها قط في شقتها الصغيرة , وأن يحتفظ بها بداخله حتى إذا انطلق في الصباح إلى الغابة المجاورة , صار له أن يفعل ما يحلو له , سابقا , ولاحقا , لم ترق المداعبة لرفيقتي وأنا أعد وراء الفعلات الخمسين , لا أكف عن الضحك , في كل مرة , في المصعد إلى شقتي , كادت المياه أن تندفع عبر البنطال , غير قادر على أن أحبس رغبتي , فأكاد أخنق نفسي , وأنا أتعجل المصعد أن يبلغ الدور الخامس , فإذا فتحت لي زوجتي الباب وجدتني أجري , وأنا ألهث , ثم أتنهد , والمياه الصفراء تجد طريقها إلى مثواها الأخير , في معمل فحص الانكلستوما , تملأ الأنبوبة بسهولة , ونسلمها إلى الممرضة التي أوصت ألا نملأها حتى أطرافها , في الوقت الذي يتعذر علينا إخراج قطعة براز واحدة للتحليل , في معمل تحليل السكر , نحمد الله إنهم لا يطلبون سوى عينة سهلة الإنتاج , لتقدير كمية السكري فيها . من البول , والدم , انتابتني الرغبة أن أفعل ذلك في غابة مدينة بسكاني السلوفاكية . وأنا جالس فوق مقعد في المدينة الكبرى , لكنني رأيتها قادمة نحوي , تجرأت , وناديت عليها , قمت إليها , وقدمت إليها اسمي , وشخصي , عندما جلست فوق المقعد , نسيت تماما الرغبة التي انتابتني , ولم أفعلها طيلة النهار , إنها حالة خاصة ونادرة , وجدت فراشي مبللا في اليوم الأخير مع اوشر , قبل أن أعود إلى مدينتي , راحت المرآة تمسح كل بقعة خلفتها أسفلي دون أن تجعلني أشعر بجرمي الذي تسلل مني دون أن أرى , وأنا نائم , تراني مندهشا دون أن أعترف إنني تبولت رغم إرادتي فوق فراشها , بكل مهارة نقلت الأغطية الملاءات إلى الغسالة , دون أي بادرة على وجهها أن ما فعلته متعود على أختا ما دون الخامسة , وربما أقل من ذلك . في رحلتي أنا واوشر من العاصمة فيلزس إلى المدينة السياحية المطلة على بحر بلطيق , منحتني المرآة نصف , كي أرفعها إلى المرآة ثمنا للممارسة الفعل , شعرت بأنه من الخسارة أن أدفع ثمن شيء , هو فعل مجاني في كل مكان , فلماذا ندفع حتى ولو مبلغا صغيرا . في ميدان باليه بوسط جنيف , وودت مشاركة المطر في أن أبلل المدينة , في الساعة الثالثة صباحا , تبدو القطرات الكثيفة , كأنها تزيد من نظافة المدينة , فأخذت السماء تبرق , وتهطل المطر طوال أكثر من ساعة , وأنا أقف وراء زجاج نافذة غرفتي بالفندق , خرجت إلى الحاجز الحديدي للشرفة , وامتزجت أمطاري التي تندفع من الدور الرابع حيث أقف عاريا لا تراني سوى السحب الممطرة التي سدت أبواب السماء , وأنا أشاركها في وظيفتها غير شاعرا بأي مراجعة , فكلها مياه سوف تمتزج معا , وسوف تجف فور توقف المياه عن غسل المدينة في ميدان الكونكورد بباريس , صار علي أن أبحث عن مكان أتخلص من حمولتي المائية , لا توجد مقاهي في الشارع الذي قذفني منه الميدان , قررت أن أجرب هوايتي في أن أفعلها أسفل ذلك الممر المجهول , نزلت السلم , رفعت الباب الحديدي , وتأكدت أن أحدا لم يراني . وأن الشارع الذي ابتلعني كان خاليا من المقاهي , ومليئا بالمكتبات التي تفرغت لمطالعة أغلفتها اللامتناهية , قررت أن أفعلها مع شجرة الصبار الطويلة في أطراف شرفتي , عندما لاحظت بطء نموها في أشهر الصيف , عما كان يحدث في الأعوام السابقة , شخصت حالة الشجرة إنها في حاجة إلى يوديا طبيعيا , بدلا من أطلب سمادا من البواب , قررت أن أروي شجرتي التي انتقلت معي إلى أكثر من شقة , وأن أعطيها ما تستحق من يوديا , ولم أعبأ أن يشاهدني أي من الجيران المنشغلين في بيوتاتهم بمباراة القمة بين الأهلي والزمالك , لم ألتفت خلفي , لأرى إن كان أحدهم قد رأى الشجرة ترتوي , وشعرات بارتياح حقيقي , في قطار الترحيلات , تعمد علاء أن يفتح النافذة , وأن يفعلها لاعنا كل من جعله يرتدي الزي الأصفر , وأنا عائد إلى مدينتي , اختبأنا نحن الستة جنود من المحصل الذي أخذ يطرق الباب علينا , دون أن يتمكن من فتح الباب , دون أن تنتاب أحدنا الرغبة في أن يفعلها , في الطائرة العائدة بي من براغ , بعد أن فعلتها بلون السائل الأزرق الذي انساب يغسل مياهي التي تناثرت في الجو عقب قذفها , في أتوبيس الطريق الصحراوي , يجب أن نفعلها في مكان قام فيه النادل بتخزين الأطعمة والمشروبات , دون أن ينتاب الشارميون أي نوع من الشعور بالقرف , في التوربيني المتجه شمالا وجنوب الإسكندرية إلى القاهرة , أو العكس , أن أتعمد أن أرش المقعد بمياهي الصفراء , قبل أن أمسحها بمنديلي الورق , لأترك المكان نظيفا لمن سيأتي , أو ستأتي بعدي , وفي بعض الأحيان أتعمد ألا أفعل ذلك , بعد أن تعمد من سبقني أن يرش دون مراعاة إنني سوف أدخل بعده . أول مكان هرولت إليه في الطريق بين زلق وبراغ حين وقفت السيارة التي تنقلنا , هو دورة المياه التي ازدحمت بالباحثين عن ثقب مثلي , يتسرب منه مياهنا الزائدة عن الحاجة , في باريس من السهل أن نفعلها في أي مطعم , وذلك بهدف تنشيط السياحة , فلا أحد يمكن أن يعترضك ويخبرك أن المكان مخصص فقط لزبائن المطعم , في فيلم ” سيداتي وسادتي ” طرق الابن باب المرحاض , فأجاب الابن بكل رصانة ” مشغول ” كأنه بإنهاء فعلي , لكنني لم أشعر بالراحة إلا بعد أن انتقلت إلى مكان مقابل لأتخلص مما هو زائد , ابلغني صادق أن ما شربته من بيرة هو السبب الذي جعلني اذهب لأن أفعلها أكثر من مرة أجزم وأعترف أن كل البشر عبر كافة التواريخ التي انصرمت ، لا يعرف عدد المرات التي فعلها رغم أنها حاجة ملحة ولم يستطع شخص أن يرصد عدد ألاف الجالونات التي استهلكها شربا وإخراجا ، لا أعرف لماذا صرت أفعلها أكثر خاصة أثناء الليل ، بعد أن ارتفعت نسبة السكري في الجسد ، كما أن مرات فعلها تزداد في الشتاء أكثر من الصيف ، أخبرني أحد الأصدقاء بأن السبب هو قلة العرق شتاء ، نسبة إلي استخراج الماء عن طريق العرق في الصيف ، أصابني الرعب حين انطلقت المياه شديدة الصفرة وهي تقذف نفسها في مكانها النهائي بالنسبة لي قلت لزميلي في هلع :
– يبدو أن الصفراء أصابتني …
ل كثيرا ، وأنا أصف له الحالة وكأن الأمر لا يعنيه بينما هو بالنسبة لي إنذار لأمراض كبدية . تحتاج ال علاج طويل ، في نهاية اليوم اكتشفت السبب إنها حبة الفيتامين التي تناولتها مع حبوب تخفيض نسبة السكري في الجسد تحركت المياه في طرقه الأتوبيس العائد من مرسي مطروح إلي الإسكندرية بينما استراح الشاعر العجوز الذي فعلها ولم يستطيع أن يقاوم دفقها ، فاستراح ، وغاص في النوم .
بسم الله الرحمن الرحيم
هل من حقي أن اجمع محل الخطب السياسية التي ألقاها السيد الزعيم في مناسبات مختلفة في كتاب يحمل اسمي بعد أن تنازل عن منصبه في قيادة حزبه ..
أعرف الإجابة سلفا ، وهي أن الخطب السياسية ، وكلمات المناسبان قد سجلت باسم الزعيم في مضابط رسمية تحمل اسمه وحدي ،وانه ليس من حقي أن انسبها إلي نفسي ..
نفسي تري من أن أكون حتى أفكر ، حتى، في فعل هذه الفكرة المستحيلة ،لست سوي كاتبا مجهولا ، لا يعرف أحد اسمه ،امشي بين الناس دون أن يرفوا أن هذه الكلمات التي سمعوها مرارا ، ونشرت في الصحف ، وعلقت عليها وكالات الأنباء ،وقيل إنها ،ثارت جدلا،هي من صياغتي ،أنا المواطن الأول المحكوم عليه أن يعيش في الظل ،لست صحفيا مثل الذين تنازعوا علي كتابة خطب الزعيم لينالوا شرفا فريدا . ولست كاتبا معروفا ببلاغة ،مثل هؤلاء الذين سبقوني إلي هذا الشرف ،لقد قرر الزعيم في طائرته ذات يوم أن يوقف ما أساه بهذه المهزلة ،بسبب الخصومة الشديدة فيما بينهم ، أو فلنقل المنافسة ، قال :
– مالي أراكم صغارا ، عندي بديل آخر …
وبعد ثمانية و أربعين ساعة كنت في مكتبة ، مكتب مدير المكتب ، أنه مكان لم أتخيل يوما أن أراه في صورة ،جلست أمام ذلك الرجل الأنيق ، الأستاذ عزيز الذي دخل في الأمر مباشرة :
– يا أستاذ إسماعيل .. هذا هو الملف الخاص بك ..
يوحي كل شئ أنني في موقف حرج، ارتبكت معدتي بقوة وأنا أري اسمي فوق ملف ضخم فوق المكتب ، لافظا كل ما في معدتي :
– والله العظيم , أنا أحب السيد الزعيم
ردد , وهو يتصفح الملف بثقة , متعمدا ألا يرد على الهاتف الأحمر الذي على يمينه : نعرف
– والله العظيم .. أنا لست عضوا في حزب معارض
استكمل تصفح الملف : نعرف .
– وعلي الطلاق بالثلاثة من زوجتي إنني لم أتفوه في مكان برأي ضد ما يدور في البلد ..
ابتسم هذه المرة , وأغلق الملف : نعرف …
ثم قام من مكانه , وقال : لهذا أخذناك .. أنا الذي اخترتك
يزداد الأمر تعقيدا , دخل في الموضوع مباشرة , وقال :
– ألست أنت عصام السميحي , مدرسة البهاء الثانوية
لملمت كل السنوات الثلاث التي عشتها في مدرسة البهاء الثانوية : أقسم لك إنني لم أشترك في أي مظاهرات الطلبة ضد الدولة في 1968
ضحك : ذاكرتك تخونك .. لهذا اخترتك .
ودخل في الموضوع مباشرة : اسمع يا إسماعيل , أنا عبد المولى الجمال .. كنت زميلك .. أنت كنت أبرعنا في موضوعات الإنشاء … وأنا ..
عرفته كان الأول دائما , وكان يتضايق مني وأنا أحقق الدرجة النهائية في الإنشاء , والدرجات المقاربة للنهائية في اللغة العربية , مما أهلني للالتحاق بكلية دار العلوم , وأن أنسى أغلب من كانوا معي في الصفوف , بالإعدادي والثانوي , قلت :
– أنت اسمك …
وشرح لي أنه منذ أن عمل بالسياسة غير اسمه , لدواعي أمنية , وإنه سوف يحكي لي ما يريده مني كان جانبي قد آمن له , وأنا أتناول المشروب الذي آتى به ساعي المكتب الأنيق , المهمة باختصار أن أكتب كلمة بليغة باسم السيد الزعيم موجهة إلى المؤتمر السنوي مؤسسة البحوث اللغوية , والذي اختار الزعيم مؤخرا رئيسا شرفيا له , قال :
– يجب أن تكون الكلمة بليغة , أعرف إنك سافرت إلى جامعة الملك عبد العزيز لسنوات , وعملت بالتدريس هناك ..
وطوال الليل بدأت في كتابة الكلمة .. قصيرة . مركزة , عليها أن توفي بالغرض , مشكلة , وسهلة القراءة , وعلي أن أجلس مع الزعيم أسمعه ينطق الكلمات صحيحة النطق .
الخطبة الأولى
أيها العلماء والأجلاء …
باسمي يسعدني أن أفتتح المؤتمر الأول لعلماء اللغة العربية , وأن أكون بينكم اليوم , أنتم حراس اللغة العربية وحماتها , والغيورون عليها . ورثتم كلماتنا البليغة , فحافظتم عليها , وأضفتم إليها , وحاولتم التجديد من خلال التعامل مع المتغيرات السريعة التي تحدث في عصرنا , ففي كل يوم تأتينا من العالم الذي حولنا مصطلحات جديدة ومفاهيم يجب أن نستوعبها , وأن نقدمها إلى الناس في شكل يتناسب مع ما نبتغيه من تطور , ومع ما نمتلكه من أصالة , فأثبتم بذلك أن اللغة العربية , هي لغة كل عصر , متجددة دوما , دون أن نتخلى عن كل ما اكتسبناه عبر العصور ..
أيها العلماء الأجلاء
أنتم الباب الرئيسي الذي يفتح للماضي أن يدخل إلى المستقبل , فيحتفظ بكل ماورثناه عن أجدادنا , وأن ندخل إلى الغد وقد ملأنا الاطمئنان إن لغتنا كانت دوما صالحة لكل زمان , ومكان , فاستطاعت أن تصبح اللغة الأولى في أغلب الأوطان التي وصلت إليها , واستطاعت بذلك أن تجمعنا معا , على عهد واحد , ومنوال مشترك , وهدف محدد , نتكلمها ونكتبها في الأمة العربية كلها , وتطمح أمم كثيرة لو أتقنتها , خاصة الدول المسلمة المنتشرة في كل أرجاء الأرض .
أيها العلماء الأجلاء
اسمحوا لي من هذا المنبر أن أرسل كل تحية , عبر التاريخ والزمن إلى من خدموا اللغة والعلم , وزاوجوا فيما بينهما , ولا أستطع ولا يتسع المجال هنا أن أعدد أسماء هؤلاء العلماء الذي أضاءوا شمس الحضارة العالمية بأبحاثهم وكتبهم , وإنجازاتهم , ولا يسعني في هذه الكلمة الموجزة , سوى أن أرسل تحية لكل العلماء الذين حضروا إلى هنا , وتكبدوا مشاق السفر الطويل , ليجتمعوا حول موائد العلم والمعرفة , من أجل لغة عربية صالحة لتكون لغة بحث علمي في كل زمان ومكان .
السادة العلماء
نصركم الله , داعيا المولى عز وجل أن يحقق مؤتمركم السنوي كافة أهدافه , في دورته لهذا العام حول التزواج بين العلم واللغة .
وفقكم الله إلى ما فيه الخير , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليق
أبلغني عزيز أن التصفيق الذي دوى في القاعة قد جعله يثق في اختياره لي , اختيار عزيز لي وطلب منه أن أعد نفسي لكتابة كلمة المؤتمر العربي الطاريء الذي سيحضره زعماء الأحزاب الحاكمة في البلاد العربية التي تنتهج الديمقراطية .
عرف عزيز إنني استخدمت مهاراتي القديمة في حفظ النصوص , وأنا أستمع إلى السيد الزعيم يلقي بكلمته على الهواء في احتفالية المؤتمر , وإنني سجلت المكالمة على شريط فيديو , وحولها لي ابني صادق إلى اسطوانة كومبيوتر , كما إنني سجلتها من الإذاعة , في الوقت نفسه على شريط كاسيت .. جلست أمام التلفزيون , أردد معه كل حرف ينطقه , واندهش أولادي الأربعة من اهتمامي المفاجيء بالسياسة , ومشاهدتي لهذه الاحتفالية , أنا الذي لا يستخدم التلفزيون , قط سوى في متابعة كافة مباريات كرة القدم .
لا أعرف , لماذا لم ينتابني الإحساس بأن ينطق كلماتي , ولا بأنني صاحب هذه الجمل , كل ما كنت حريص عليه أن تخرج الحروف والكلمات سليمة وهو يتكلم أمام أعضاء المؤتمر , فلا شك أن أقل خطأ في همزه سوف يثير انتقادا صامتا , وربما خفيا ,
لكن الرجل نجح ..
وأنا أيضا
ملحوظة : لم أتحدث عن الرهبة الشديدة التي حدثت وأنا أقابل الزعيم لأول مرة في الغرف المجاورة لمكتب عزيز , لقد لعب زميلي القديم الدور في إزالة الهيبة , حين وجدت الرجل الذي نراه في الصور , والتلفزيونات يدخل بنفسه إلى غرفة عزيز , مرتديا زى لاعب كرة قدم , خلفه واحدا من أبطال اللعبة , كان يلهث , وقادما من مباراة مع فريقه الخامس , وعندما رأني , حياني , وبدأنا القراءة الأولى في غرفته المجاورة , وهو بالملابس الرياضية , كان بسيطا , ولم يتضايق عندما أبلغته إنني أشجع الزمالك ..
الخطبة الثانية
أيها النواب , والنائبات الأجلاء ..
يسعدني قبل إلقاء كلمتي , أن أهنيء السادة أعضاء البرلمان الجدد , والسيدات العضوات , الذين عادوا إلى مقاعدهم في هذا البرلمان العتيق , بثقة أبناء الشعب فيهم , وفي الوقت نفسه , فإنني أضع يدي على صدري , حاملا معكم المسئوليات الجسام , فأن يصبح المرء نائبا . يعني مسئولية أمام دائرته , وأمام شعبه , وأمام العالم في زمن صارت فيه الكرة الأرضية أصغر من كرة القدم : ابتسم وهو يلقي هذه الكلمة التي أثارت ضحكا خفيفا وسط أعضاء البرلمان في أول اجتماع بدورته الجديدة ) ونحن هنا في أقدم البرلمانات في المنطقة , في دولة تفخر أنها أول من طبقت الديمقراطية . فأنتم سليلوا طلائع الديمقراطيين في وطننا الكبير ..
دعونا لا نتكلم كثيرا , بل أن نوجز هذه الدورة في خطوات محددة , بحيث إذا مرت السنوات الأربع للدورة يكون الجميع قد شهد إنجازات , وليس وعودا , وتعهدات . فالوطن الآن في حاجة إلى أبنائه جميعا , وليس إلى طبقة بعينها , أو مجموعة من الفئات , فبلادنا لنا جميعا , ويجب أن نفكر في الشباب الذي تخرجوا وتعذر عليهم العثور على فرصة لائقة , وإنني أدعوا الأحزاب أن تساعدنا في مهمتنا الصعبة , وأقترح إنشاء أول مدينة للشباب , يبنى فيها رجال الأعمال مؤسساتهم الجديدة , وأن يذهب الشباب إلى هناك , يبنون أولا مساكنهم التي سيقيمون فيها , والمصانع , والمؤسسات التي سيعملون بها , وسوف تقدم الدولة كل ما لديها من خدمات , تسهل هذه المهمة .بحيث إنه إذا مرت السنوات الأربعة تكون المدينة بكافة مؤسساتها قد انتهت , ودعوني أحلم معكم أن تدار هذه المدينة بواسطة هؤلاء الشبان الذين قامت على أكتافهم , وأن يكون لها في البرلمان القادم عضوان في هذا المجلس العتيق .
هذا الحلم الذي أحلمة معكم , سوف نعمل جميعا على تحقيقه , فإذا نجح , ف‘ن التجربة ستتكرر في الصحراء الواسعة من حولنا , ولنبدأ المشروع الأول بليون شاب وفتاة , آمل أن يكونوا الأسر معا , وأن يحسوا أن كل جدار بنوه ينتمي إليهم … ( تصفيق حاد جدا )
متابعات
الصحف لا تكف عن رسم أحلام مدينة الشباب , ونشر أسماء السباب الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين الذين سجلوا أسمائهم للمشاركة في بناء المدينة الجديدة , فقد ذكر الزعيم أن أعمار هؤلاء الشباب حين يسكنون مدينتهم لن تزيد عن الأربعة والثلاثين عاما , أي سيكون أمام كل منهم فرصة بدء حياة جديدة , أما من تجاوز الثلاثين , فإن الدولة تعد لهم الآن مشروعا آخر يليق بكفاءة كل منهم .
جاءت الفكرة حين جلس الزعيم مع عزيز , يقم لي الأفكار الأساسية التي سوف أصوغ حولها خطاب افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان , وكانت الفكرة الأساسية أن المدن الجديدة لم تعد تجذب الناس , وأن أغلبها مغلق , وصارت مسكونة للأشباح , بكل أدب عرضت على الزعيم فكرة رددها صادق دوما , فأعجبته , وقرر أن تكون مشروعه الوطني القادم لحل مشكلة عويصة تعذرت الحكومات السابقة في إيجاد حل حقيقي لها .
وأنا أشاهد خطاب الزعيم في التلفزيون , على الهواء مباشرة , وفي وسط الحديث , ناديت صادق :
– انظر .. إنه يفكر على طريقتك …
بكل انتباه , حدق الشاب , 32 عاما , في الشاشة , وصرخ من أعماق :
– ينصر دينك .. هكذا يفكر الرجال …
لم يهمني في هذه المرة , مراجعة مخارج الألفاظ , أو طريقة نطقه الصحيحة للغة العربية , بقدر إحساسي إنني شاركت في الصياغة ,صياغة كلمات أحفظها حتى الآن , دون أن أنسى حرف جر واحد .. وبدأت لأول مرة أتخيل إنني لو وقفت خلف هذه المنصة , لألقيت الخطاب بطريقة لأفضل ..
الخطاب الثالث :
السادة الأجلاء أبناء الوطن
هذه كلمتي إليكم , في يوم الوطن , الذي نحتفل به في كل عام , فنتذكر معا العبر , والمعاني التي يمثلها هذا اليوم حين دفع مجموعة من الرجال المخلصين حيواتهم من أجل إعلاء اسم الوطن , فماتوا هم , ليبقى الوطن نابضا بالحياة , يتذكرهم دوما , دون أن ينساهم , وفي اليوم الوطني فإننا نجتمع معا , كي نقرأ الفاتحة على أرواحهم الطاهرة , نقتدي بما فعلوه , فنسير على دربهم , ونرسل إليهم رسالة مفادها إنهم إذا كانوا قد دفعوا الدماء من أجل الوطن فإن أقل ما نفعله أن نذكرهم , وأن يبذل كل منا ما لديه من قدرات لدفع الوطن إلى مسيرة التنمية فنمشي معا على الصراط المستقيم
السادة الأجلاء , أبناء الوطن وبناته .
لا يعني الاحتفال السنوي باليوم الوطني للبلاد أن تكون هناك عطلة رسمية , وإن ألقى كلمتي عبر التلفزيون , بقدر ما إن هذا اليوم صار يرمز إلى كل ما أنجزناه في العقود الأخيرة , وما سوف ننجزه في السنوات القادمة , ونحن أبناء وطن عتيق , يتعلم من دروس الماضي كي ينطلق إلى المستقبل ,
وفقكم الله خير التوفيق ,
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليق :
خطاب تقليدي ليس فيه جديد , ألقى الزعيم مثله في مناسبات عديدة الكثير , في اليوم الوطني , وفي عيد النصر وفي يوم الاتحاد الاجتماعي .. لذا , لم أحس بأي قدرة على الابتكار , أو إنني أضفت شيئا مهما ..
الخطاب الرابع :
بني وطني الأعزاء …
بفضل الله ونعمته , أقف أمامكم معافيا سليما , فقد شاء العلي القدير لي أن أكون بينكم , بيننا شاء أعداء الدين والوطن أن يكتبوا لي الموت مفخخا , فكتب الله عليهم خيبة الأمل , وقدر لي نعمته بأن استكمل رسالتي مع أبناء وطني الطيبين ..
لست أول زعيم تتم محاولة اغتياله , ولا أول من ينجو من الموت بفضل الله وقدرته , وقد كادت انجارات السيارة المفخخة أن تلمسني , فدعونا أولا نقرأ الفاتحة على الشهداء الأبرياء من رجال الشرطة الشرفاء الذين دفعوا حياتهم في هذه العملية الغادرة , ودعونا نشارك أسر الشهداء السبعة كل الأحزان , والمواساة وأن نعلن الحداد على أرواحهم لمدة يومين كاملين .
لقد حاولوا اغتيال المستقبل , والمسيرة التي بدأناها لبناء الوطن , وسيادة الحرية , وتدعيم الديمقراطية , ورفعة الوطن , وتطوير التعليم , وإيجاد فرصة عمل شريف لكل مواطن , وإنهم يفعلون ذلك باسم العقيدة والدين منهم بريء , فإذا كانوا قد نالوا مني , فالوطن به الملايين , وما أنا إلا مواطن , صعد إلى مقعده بانتخابات حرة نزيه , في وطن متعدد الأحزاب , ولم نعرف في التاريخ المعاصر , ولا القديم , أن الاغتيال قد حل مشكلة , أو منح جماعة ما تشاء من رغبات , وقد أتاح نظامنا الديمقراطي لجميع أبناء الوطن أن يمارسوا حقوقهم من خلال الأحزاب ز وأنا أقول لهم , غاضبا : حذار من النار التي تلعبوا بها , إنها لن تمسني وحدي , بل سوف تمس كل الأبرياء والشرفاء من أبناء الوطن , وإذا كنتم قد فجرتم سيارتكم المشئومة , فالعدل لكم بالمرصاد … وأنا أناشدكم أيها الأجلاء الشرفاء أن تتكاتفوا معا , كي يشعر هؤلاء بأنهم قلة ضئيلة , لن تشوه أبدا صورة البلد , وسيظل وطننا آمنا إلى يوم الدين , أقول لهم . لن تنالوا مآربكم , ولن تتوقف مسيرة بلادنا نحو الخير والمستقبل,
والله الموفق , وبه نستعين
تعليق :
كان متا مسكا للغاية , دون أن تطرف عيناه بأي بادرة صغيرة تعكس غضبه , ولم يحاول أن يخرج عن النص المكتوب له , حتى لا ينفجر غضبه الداخلي , أو قلقه مما حدث , فقد نجت سيارته المصفحة من الانفجار , بينما تطايرت جثث رجاله , من حرس الحزب , ورجال الأمن , وكان عليه أن يعود إلى مسكنه في أطراف المدينة , ليعلن أمام العالم أنه لم يصب بأذى , وجاءته كلمتي قبل أن يصل إلى حديقة منزله , لم يتمكن من مراجعتها . ولم استطع تشكيلها لكنها كتبت بخطي الكبير الواضح , كأنما خطاط قد رسمها ,
ألتقط الوريقة قبل أن يتجه إلى المنصة , وقد امتلأت الحديقة برجال الأعلام من كل أنحاء العالم , فالزعيم كان في طريقه إلى الأوبرا لحضور حفل توزيع جوائز الدولة , لكن , كل شيء تغير فجأة , وكنت هناك , أسرع بكتابة الكلمة التي قالها … غالب نفسه في أن يتكلم على سجيته , واستطاع أن يكسب تعاطف الجماهير , وكان ذلك الحدث , كأنه مدبر تماما ليفوز على منافسيه في الانتخابات التي تمت بعد أربعة أشهر .
الخطاب الخامس
السادة الملوك , السادة الرؤساء ..
ها هي القاعة نفسها تجمعنا مجددا في فترة بالغة الحساسية التي تمر بها أمتنا , ونحن في أمس الحاجة لأن نلتقي , بينما أخوة لنا تضربهم القوات الأجنبية , وشعب بأكمله يتعرض لنيران شرسة من البحر والجو والبر , دون أن تكون لدينا أي قوة الاختيار في التدخل , لقد طلبت أن تكون هذه الجلسة سرية كي أعلن لكم ضعفنا , وإننا لا نملك سوى أن نشجب , ونستنكر ما يحدث الآن تحت السمع والبصر , من مذابح , ودماء تسفك باسم إنقاذ شعب , وإنني لأعبر عن أسفي الشديد , في أن هذا ليس حالنا وحدنا , نحن الذين نجتمع هنا بشكل طاريء , بل أن الأمر يحدث في كل أنحاء العالم الذي انقسم إلى قسمين , الأول يقف ضد هذه الحرب المجانية , التي يدفعها الشعب الصديق , دون أن يرتكب ذنبا , سوى أن قيادته السياسية قد أخطأت مرارا تجاه الشعب , وفي علاقاتها الخارجية , خاصة ضد الأمم العظمى , ولا شك أن كل منا يضع يده على صدره , يتحسس قلبه الذي ينبض بقوة , وهو يتصور أن ما نسمعه الآن من أصوات إنفجارات تهز العاصمة الشقيقة . يحدث مثلها في عاصمة كل دولة من الدول التي نتولى مسئوليتها , ومن هنا تتضاعف مشاعر الخوف , نعم , لا أخفي عليكم إنني خائف على شعبي , وعلى أمتي , ونحن في أمة طمعت فيها القوات الأجنبية طوال التاريخ , وعانت من الاحتلال أيام الحروب بالفرسان , فما يحال أن يحدث ذلك في زمن الحرب الاليكترونية التي لا يرى فيها المقاتل خصمه , وتباد الشعوب بقنابل خفية , لا يعرف مدى قوة انفجارها , ولا من أين سوف تأتي ..
نحن المجتمعين هنا , لا أسعى إلى تزو يق الكلام , وكل ما أطلبه أن يصدر بيان هاديء , يرضي كل الأطراف , فنحن الآن مستهدفين , وكل المؤشرات تؤكد أن الطرف الآخر لا يعرف المزاح , وأنه خلال أيام قليلة أرسل قواته التي اكتسحت أرضا بأكملها ..
لن أقول سوى أن ادعوا الله معي أن يخرجنا من هذا الكرب العظيم , وفقنا الله وإياكم ..
الحقيقة :
طلب مني عزيز أن أكتب كلمتين يلقيهما الزعيم في الملتقى الطاريء للسادة الحكام الذين أفزعهم ما دار من حولنا , سمعت منه أن الأمة لم تتعرض طوال تاريخها إلى مثل هذه الأزمة , وأن التتار الجدد لا يعرفون الهزيمة , ويهوون الاجتياح , وقد اختاروا هذا البلد بالذات لأنه يقع في قلب منطقة صرا عات وأن من يمتلك هذا البلد , يسيطر على المنطقة المفتوحة .
بدأت في كتابة خطاب التحية العلني حسب الأوامر والتعليمات المدونة في وريقة مربعة صغيرة , الذي لا يتضمن سوى سبع جمل تشمل التحية , والشكر على الاستجابة لعقد الملتقى الطاريء , ثم الإعلان عن شبب عقد هذا الملتقى , وفتح الجلسة , كي يقوم الحاضرون بإلقاء كلمات تباعا .
أما التعليمات الحقيقية , فقد جاءت واضحة , بشأن إعلان عن المخاوف التي تستبد بسيادته , جراء ما حدث من غزو مجاني بلا , أو سبب , وأن ما حدث , يمكن أن يطال البلاد التي يتولى مسئوليتها كل الحاضرين , كان على الزعيم أن يلقي الكلمة في الجلسة السرية , وأن يعبر فيها عن قلقه الحقيقي , وألا يخفي ما لديه من ضعف , وأن ما يدور الآن من غزو يمكن أن يحدث على الحدود المجاورة لكل الدول ..
لم يكن هناك وقت لمراجعة النص المكتوب معه , ليس فقط لأنه كان منشغلا , بلقاء الضيوف , وبمتابعة ما يحدث من حولنا لحظة بأخرى , بل أيضا لأنه في الفترة الأخيرة , كان قد اعتاد على ما أكتبه , ولم يعد يقوم بتغيير حرف واحد مما يكتب , كما أنه لم يكن في حاجة إلى إعادة الطبع على الكومبيوتر ..
ورغم ذلك , فلم أكن سعيدا , وددت أن أرى وجهه الحزين , وهو يقرأ كلماتي , التي عبرت فيها عن رأي الخاص , وإنني تقمصت لنفسي منصب المسئول , وقمت بكتابة خطابي بشكل مخفف , ولعلي قرأته في الجلسة العلنية كاعتراف بضعفي , وليس في جلسة سرية .
نعم , لا أنكر , إنني بدأت مرحلة التقمص , كنت أتخيله أمامي , وهو يلقي الكلمات , رابط الجأش , متماسك يخلو وجهه من أي تعبير يدل على الفرح أو الحزن , هو أشبه بمذيع نشرة أخبار , يبدو محايدا , وتلعب الكلمات دورها المؤثر , عكس ما نسمعه كثيرا من كلمات حماسية نارية . كنت أشعر بالتميز , إنني أحفظ الكلمات قبل أن تصل إليه , وإلى الناس , وتمنيت في هذه المرة لو وقفت في الملتقى الطاريء بدلا عنه , ففي هذا الموقف , لن استخدم الكلمات , بل سأرتجل .. وسأقولها على الملأ … دون أي حذف , وربما بعد إجراء إضافات .
الخطاب السادس :
السيدات والسادة , رؤساء وفود المؤتمر الاقتصادي الدولي ..
خارج هذه القاعة الفخمة , يقف آلاف الشباب من العاطلين عن العمل , يتظاهرون , يطالبون السادة المجتمعين أن يكفوا عن التعامل مع المشاكل الاقتصادية , بمنطق الملكة ماري أنطوانيت , ليس الشباب وحدهم , بل هناك عاطلين عن العمل من جميع الأعمار .. وهم يمثلون دولا غنية حقيقية , تمنحهم إعانات بطالة تكفيهم أن يعيشوا لبعض الوقت دون الحاجة إلى مد اليد ,
وأنا قادم من بلد , من العالم الثالث , عدد العاطلين عن العمل فيه , يصل على الثمانية ملايين , وليس في إمكان الحكومة أن تمنح أيا منهم شهريا , ما يعادل الثلاثين دولارا , كي تطفيء بعضا من نيران الإرهاب والتطرف , والخراب الذي يهددنا ويهددكم معا , فنحن هنا في المؤتمر الثالث للعولمة , جئنا من بلادنا , نعلن أن شركاتكم قد شكلت تهديدا ملحوظا على منتجاتنا المحلية , وبعد أن طبقنا اتفاقية الجات , ارتفعت الأسعار بشكل حاد , دون زيادة في الدخول , ولم تعد منتجاتنا قادرة على المنافسة , فخسرت المؤسسات المنتجة , وخاف رجال الأعمال الحقيقيين من شبح الخسارة المؤكد , فغيروا أنشطتهم إلى الخدمات , وبدت بلادنا أشبه بالكيان المجوف , يزداد السكان يوميا , مع اعتقاد سائد أن الزيادة قوة وبركة , وازدحمت المدارس , والجامعات , كما انتشر التسرب من التعليم , وفي الوقت الذي أقامت الكيانات الغنية تكتلات اقتصادية ناجحة , زادت الهوة بين بلادنا , عاد العاملون من الخارج لتزداد البطالة , والتكدس السكاني , في الوقت الذي سدت أبواب الدخول إلى بلادكم , وعدلتم القوانين لطرد المتطرفين , فعادوا إلى مساقط رؤوسهم , وكأنهم رؤوس نووية تنتحر في وجوهنا ,
السيدات والسادة الأجلاء
هذه الكلمات ليست اعترافا بضعف , بل تقرير حالة , والبند الأول من بين أهداف هذا المؤتمر منذ دورته الأولى هو الشفافية , وقد جئت إليكم بورقتي , أعرض عليكم ما تعرفونه جميعا , ويغمض عليه البعض عيونه , ليس معي الحل , ولا أبحث عن معونة على طريقة السمكة والشبكة . إذا كان هذا هو مؤتمر للعولمة , وأن قريتنا الأرضية صارت صغيرة للغاية , فإن أي انفجار في الوطن الذي جئت منه , سيمس أطراف القرية , التي رحنا نسمع تفجيرات الإرهاب في كافة أطرافها , ودفعنا الثمن غاليا في بلادنا , وبلادكم ,
لقد جئت بكلمتي هذه إليكم , مؤمنا أن المؤتمرات الدولية , ليشت نزها للمسئولية , بل هي فرصة للحوار والبحث عن الحلول الطويلة الأمد , فأنا لا أومن بالبحث عن سمكة تمنح لي , أتناولها في الغذاء , وعند العشاء ينتابني الجوع , وأقول أن بلادنا لم تشارك في صنع العولمة , لكن هذه السيدة المبجلة تسللت إلى ثقافتنا , وحياتنا متسربة عبر نوافذكم وأبوابكم .. وقد تقبلناها , ولن نتمكن من إخراجها , ولن نتمرد ضدها , لكن نسلم فقط أن تعالجوا معنا إيجابيتها , وسلبياتها
( تصفيق حاد للسيد الزعيم الذي بدأ في أحسن حالاته , وهو يقرأ الخطاب المعد له باعتناء شديد )
توابع :
شنت صحف المعارضة على خطاب الزعيم حملة هجوم منظمة استمرت عدة أسابيع , وصوره الكاريكاتير أشبه باوليفر توست تحمل قصعته بين يديه , ويمدها إلى العالم الثري يتسول منه , أغاظتني هذه الرسوم لدرجة دفعتني أن أكتب مقالا أنشره في إحدى الجرائد الكبرى , لكن التعليمات كانت محددة : دورك لا يخرج عن صياغة أفكار الزعيم بأسلوب رصين مفهوم , وبسيط . انتابتني الأفكار إنني شريك حقيقي في هذا الخطاب وإنه ينتمي إلي كما ينتمي إلى من ألقاه في المؤتمر الاقتصادي , وإنني مسئول عن ما جاء به , إلا أن عزيز تحدث معي بحدة , كعادته أحيانا , كي يذكرني بكنيتي الحقيقية . وبحجمي الذي يجب ألا انتفش عنه .
وتصاعدت الحملة ضد الزعيم وحزبه , وارتفعت الأصوات التي تطالب بحكومة جديدة تحافظ على كرامة الوطن من مهانة التسول . وتضع الخطط الفعالة للاستفادة من القوى الخاملة في الوطن , وتزعم السيد عبد السميع وهدان الحملة لمهاجمة الزعيم , ونشر في جريدة حزبه الخطاب الذي توعد فيه الزعيم بعمل مشاريع قومية , دون أن يتمكن من تحقيقها , وكتب تحت عنوان ” الأحلام لا تشبع البطون ” مقالا هاجم فيه خطاب المؤتمر الاقتصادي … بضراوة , وطالب بتقديم موعد الانتخابات…
واحتدمت المواجهة بين الأحزاب الثلاثة الرئيسية , وتكاتف الحزبان ضد حزب الزعيم , وكانت فترة عمل دءوب بالنسبة لي , فقد كان يجد ما عليه أن يقوله جاهزا في الوقت المناسب , وهو يتحدث إلى المؤسسات العمالية وإلى رجال الأعمال , وإلى ممثلي النقابات , وأكد في كلماته أنه كان واضحا في كلمته إلى المؤتمر الاقتصادي الدولي , وأنه كان أشبه بالجراح , عليه أن يعمل بكل قوة , ليخلص الجسم من أمراضه , وآلامه ,
وكانت النتيجة متوقعة …
نزول الزعيم من مكانته وصعود نجم عبد السميع وهدان , وتحول فتحي الوزان الزعيم الأسبق للحزب إلى زعيم معارضة شرس , يعرف كيف يتكلم , ويعد كلمته بنفسه , ويفتش عن خطايا خصمه , وأخطاءه , كي يكشف زيفه , وكذباته التي يطلقها في مؤتمراته الرسمية .
لم تتوقف المواجهة بين الأطراف , والأصوات الزاعقة تعلو , وعند تقديم موعد الانتخابات للمرة السابعة في تاريخ الوطن , استخدم كل طرف قضية العمالة الباطلة , والشباب المكتئب في البيوت قضية حيوية .. للوصول إلى هدف منشود …
قال عزيز : لقد أخذت حقوقك كاملة عن كتابة هذه الخطابات …
يعرف أن لدي الرغبة في نشرها باسمي , وأن أكتب مقدمة أتحدث فيها عن ظروف كتابة سبعة وسبعين خطابا , وكلمة رسمية ألقاها الزعيم الأسبق في مناسبات مختلفة , قلت :
– ماذا لو فعلت .. سوف أعيد صياغتها ..
– إنها ليست ملكا لك , ولا لأحد , إنها تاريخ الوطن …
– هل من حقي .. أن أؤلف كتابا عنها دون أن أنشرها ..
– أرى بداخلك رغبة في التربح ..
– بل أبحث عن حقيقة .
– حسنا , ابحث عن الحقيقة كما تشاء .. عندي اقتراح حاسم .. سوف نعيد إليك ما كتبت , مقابل أن تعيد إلينا المكافآت المجزية التي حصلت عليها .
– مستحيل …
– والمستحيل أيضا ما تفكر فيه
***
أجمل ما في اللعبة أنك تمارس ذلك الفعل بنفسك , وأن لا أحد يمارسه نيابة عن الآخرين , فيصير واحدا من الحقائق القليلة المؤكدة مثل الميلاد والموت , كل ما على المرء أن يفعله إذا كان رجلا مثلي , أن يخرجه من مكمنه الذاتي , ثم ” يفعل ” في المكان المؤهل لذلك ..
كنت واثقا أنه مثلما يتحلل الجسد بعد الوفاة , فإن هذه المياه المصفرة , المؤيدة ( أي المليئة باليود ) سوف تتصرف مع مكعبات المياه المندفعة نحو محطات الصرف الصحي , أو إنها سوف تجف بعد أن تبتلعها مياه الصحراء حيث فعلناها تكرارا , أو في الحدائق , متى حلا لي أن أفعل , ورأسي تلتف يمينا وشمالا متمنيا لو رآني أحد ..
انسابت الحقيقة الجديدة هنا , أفعلها بنفسي , دون نيابة عن أحد , أركض فوقها , وفوق ما فعله آخرون مثلي في معسكر إشارة الجبل الأحمر , الثانية صباحا , حاملا بندقيتي على كتفي , وخوذتي فوق رأسي , أحرس سور الكتيبة وأخرجه كي أنفث عنه , وأجعله يتخلص من عبقه , وأشمه عبق الحرية لدقائق .. في ليتوانيا , حين رحت أعد المرات التي يفعلها ” باريس ” الكلب الشاب المتدفق حيوية ونشاط , تطلق صديقته اوشر بين الأشجار , كلما حلا له مكان تشممه , فيطلق ” بولته ” أحصيت ثلاثين مرة في إحدى الأمسيات , وخمسين مرة , الأبولة , في السادسة صباحا حين اصطحبتها لمرافقة شابها الذكر , الذي دربته ألا يفعلها قط في شقتها الصغيرة , وأن يحتفظ بها بداخله حتى إذا انطلق في الصباح إلى الغابة المجاورة , صار له أن يفعل ما يحلو له , سابقا , ولاحقا , لم ترق المداعبة لرفيقتي وأنا أعد وراء الفعلات الخمسين , لا أكف عن الضحك , في كل مرة , في المصعد إلى شقتي , كادت المياه أن تندفع عبر البنطال , غير قادر على أن أحبس رغبتي , فأكاد أخنق نفسي , وأنا أتعجل المصعد أن يبلغ الدور الخامس , فإذا فتحت لي زوجتي الباب وجدتني أجري , وأنا ألهث , ثم أتنهد , والمياه الصفراء تجد طريقها إلى مثواها الأخير , في معمل فحص الانكلستوما , تملأ الأنبوبة بسهولة , ونسلمها إلى الممرضة التي أوصت ألا نملأها حتى أطرافها , في الوقت الذي يتعذر علينا إخراج قطعة براز واحدة للتحليل , في معمل تحليل السكر , نحمد الله إنهم لا يطلبون سوى عينة سهلة الإنتاج , لتقدير كمية السكري فيها . من البول , والدم , انتابتني الرغبة أن أفعل ذلك في غابة مدينة بسكاني السلوفاكية . وأنا جالس فوق مقعد في المدينة الكبرى , لكنني رأيتها قادمة نحوي , تجرأت , وناديت عليها , قمت إليها , وقدمت إليها اسمي , وشخصي , عندما جلست فوق المقعد , نسيت تماما الرغبة التي انتابتني , ولم أفعلها طيلة النهار , إنها حالة خاصة ونادرة , وجدت فراشي مبللا في اليوم الأخير مع اوشر , قبل أن أعود إلى مدينتي , راحت المرآة تمسح كل بقعة خلفتها أسفلي دون أن تجعلني أشعر بجرمي الذي تسلل مني دون أن أرى , وأنا نائم , تراني مندهشا دون أن أعترف إنني تبولت رغم إرادتي فوق فراشها , بكل مهارة نقلت الأغطية الملاءات إلى الغسالة , دون أي بادرة على وجهها أن ما فعلته متعود على أختا ما دون الخامسة , وربما أقل من ذلك . في رحلتي أنا واوشر من العاصمة فيلزس إلى المدينة السياحية المطلة على بحر بلطيق , منحتني المرآة نصف , كي أرفعها إلى المرآة ثمنا للممارسة الفعل , شعرت بأنه من الخسارة أن أدفع ثمن شيء , هو فعل مجاني في كل مكان , فلماذا ندفع حتى ولو مبلغا صغيرا . في ميدان باليه بوسط جنيف , وودت مشاركة المطر في أن أبلل المدينة , في الساعة الثالثة صباحا , تبدو القطرات الكثيفة , كأنها تزيد من نظافة المدينة , فأخذت السماء تبرق , وتهطل المطر طوال أكثر من ساعة , وأنا أقف وراء زجاج نافذة غرفتي بالفندق , خرجت إلى الحاجز الحديدي للشرفة , وامتزجت أمطاري التي تندفع من الدور الرابع حيث أقف عاريا لا تراني سوى السحب الممطرة التي سدت أبواب السماء , وأنا أشاركها في وظيفتها غير شاعرا بأي مراجعة , فكلها مياه سوف تمتزج معا , وسوف تجف فور توقف المياه عن غسل المدينة في ميدان الكونكورد بباريس , صار علي أن أبحث عن مكان أتخلص من حمولتي المائية , لا توجد مقاهي في الشارع الذي قذفني منه الميدان , قررت أن أجرب هوايتي في أن أفعلها أسفل ذلك الممر المجهول , نزلت السلم , رفعت الباب الحديدي , وتأكدت أن أحدا لم يراني . وأن الشارع الذي ابتلعني كان خاليا من المقاهي , ومليئا بالمكتبات التي تفرغت لمطالعة أغلفتها اللامتناهية , قررت أن أفعلها مع شجرة الصبار الطويلة في أطراف شرفتي , عندما لاحظت بطء نموها في أشهر الصيف , عما كان يحدث في الأعوام السابقة , شخصت حالة الشجرة إنها في حاجة إلى يوديا طبيعيا , بدلا من أطلب سمادا من البواب , قررت أن أروي شجرتي التي انتقلت معي إلى أكثر من شقة , وأن أعطيها ما تستحق من يوديا , ولم أعبأ أن يشاهدني أي من الجيران المنشغلين في بيوتاتهم بمباراة القمة بين الأهلي والزمالك , لم ألتفت خلفي , لأرى إن كان أحدهم قد رأى الشجرة ترتوي , وشعرات بارتياح حقيقي , في قطار الترحيلات , تعمد علاء أن يفتح النافذة , وأن يفعلها لاعنا كل من جعله يرتدي الزي الأصفر , وأنا عائد إلى مدينتي , اختبأنا نحن الستة جنود من المحصل الذي أخذ يطرق الباب علينا , دون أن يتمكن من فتح الباب , دون أن تنتاب أحدنا الرغبة في أن يفعلها , في الطائرة العائدة بي من براغ , بعد أن فعلتها بلون السائل الأزرق الذي انساب يغسل مياهي التي تناثرت في الجو عقب قذفها , في أتوبيس الطريق الصحراوي , يجب أن نفعلها في مكان قام فيه النادل بتخزين الأطعمة والمشروبات , دون أن ينتاب الشارميون أي نوع من الشعور بالقرف , في التوربيني المتجه شمالا وجنوب الإسكندرية إلى القاهرة , أو العكس , أن أتعمد أن أرش المقعد بمياهي الصفراء , قبل أن أمسحها بمنديلي الورق , لأترك المكان نظيفا لمن سيأتي , أو ستأتي بعدي , وفي بعض الأحيان أتعمد ألا أفعل ذلك , بعد أن تعمد من سبقني أن يرش دون مراعاة إنني سوف أدخل بعده . أول مكان هرولت إليه في الطريق بين زلق وبراغ حين وقفت السيارة التي تنقلنا , هو دورة المياه التي ازدحمت بالباحثين عن ثقب مثلي , يتسرب منه مياهنا الزائدة عن الحاجة , في باريس من السهل أن نفعلها في أي مطعم , وذلك بهدف تنشيط السياحة , فلا أحد يمكن أن يعترضك ويخبرك أن المكان مخصص فقط لزبائن المطعم , في فيلم ” سيداتي وسادتي ” طرق الابن باب المرحاض , فأجاب الابن بكل رصانة ” مشغول ” كأنه بإنهاء فعلي , لكنني لم أشعر بالراحة إلا بعد أن انتقلت إلى مكان مقابل لأتخلص مما هو زائد , ابلغني صادق أن ما شربته من بيرة هو السبب الذي جعلني اذهب لأن أفعلها أكثر من مرة أجزم وأعترف أن كل البشر عبر كافة التواريخ التي انصرمت ، لا يعرف عدد المرات التي فعلها رغم أنها حاجة ملحة ولم يستطع شخص أن يرصد عدد ألاف الجالونات التي استهلكها شربا وإخراجا ، لا أعرف لماذا صرت أفعلها أكثر خاصة أثناء الليل ، بعد أن ارتفعت نسبة السكري في الجسد ، كما أن مرات فعلها تزداد في الشتاء أكثر من الصيف ، أخبرني أحد الأصدقاء بأن السبب هو قلة العرق شتاء ، نسبة إلي استخراج الماء عن طريق العرق في الصيف ، أصابني الرعب حين انطلقت المياه شديدة الصفرة وهي تقذف نفسها في مكانها النهائي بالنسبة لي قلت لزميلي في هلع :
– يبدو أن الصفراء أصابتني …
ل كثيرا ، وأنا أصف له الحالة وكأن الأمر لا يعنيه بينما هو بالنسبة لي إنذار لأمراض كبدية . تحتاج إلى علاج طويل ، في نهاية اليوم اكتشفت السبب إنها حبة الفيتامين التي تناولتها مع حبوب تخفيض نسبة السكري في الجسد تحركت المياه في طرقه الأتوبيس العائد من مرسي مطروح إلي الإسكندرية بينما استراح الشاعر العجوز الذي فعلها ولم يستطيع أن يقاوم دفقها ، فاستراح ، وغاص في النوم . لازلت أركض وراء تلك المياه في كل مكان تدفعني الحاجة أن أفعلها ، لو كنت أدرك أهمية الأمر منذ البداية ، لأحصيت عدد المرات التي فعلتها ، عدد الأمتار المكعبة التي صرفتها عن جسدي .. لازلت أركض فوقها إلى ..
محمود قاسم
كُتبت هذه الرواية بين القاهرة ، وبراج ، وبيشتاني (سلوفاكيا) طوال ثلاثة أعوام، وعندما ضاعت بعض أصولها على الكومبيوتر أعدت كتابتها .
15/10/2005