الجسر

استيقظت لتصلي صلاة الفجر, ما زال في خاطرها يجول, بقايا حلم شاءت قص ما رأته في المنام لزوجها , لكن أسراعها للحاق بموعدها مع جاراتها ,جعلها تؤجل كلامها ,فلا وقت لها لتخبره

ارتدت ثيابا سوداء, شدت رأسها بعصابة. حاولت  المغادرة دون أصطحا ب أحد من أطفالها…حين

همت بالخروج  , تناهى  لسمعها صوتا يأتي من زاوية الغرفة , يطلب منها انتظاره .. أفاق ولدها (مهدي)

لما أحس بحركتها . سمعت صوتا زوجها يقول: –

–          خذيه معك..

–          الطريق طويل, و لايقوى على المسير

قفز الطفل من الفراش صائحا :-

–          أستطيع المشي لأبعد مكان , لا تفوتي علي الفرصة يا أماه..

قبل أن ترد عليه, سمع طرقا على الباب, فقالت:-

–          لقد حضرن..

أسرع (مهدي), فتح الباب الخارجي ظل واقفا, بين النسوة المتجمهرات, أمام الباب الموارب ,  كن جلبن أطفالهن المتوارين خلف العباءات بوجل

أطمأن, لم تعد لآمه حجة لإبقائه في الدار, مع بقية أخوته, خرجت الوالدة تجره من معصمه.

الفجر يمد خيوطه, نحو المدينة, الغارقة في الظلام , لانقطاع التيار الكهربائي , لم تكن العتمة دامسة فضجيج مولدات الانارة أضاءت مصابيح  خافتة  أمام وقع زحف الناس, الماضين  سيرا على الأقدام الى المرقد..

مشت وهي تضغط بشدة على يد ولدها, سارت جوارها, جارتها (أم عباس ) تجر طفليها

خلفها , كلما تقدمتا في السير , كانت الحشود, تزداد لتبدو مثل زحف جيش كبير..أقتربت الساعة من السادسة حين بزغت الشمس كان المنظر مؤثرا و الرايات الملونة تخفق مع نسمات طفت على الوجوه

والاجساد المتوثبة مع  اللافتات السوداء التي  ملأت ألأفق.  

أختطت (أم مهدي )ورفيقتها, لنفسيهما مكاناعلى حافة الشوارع, بعيدا عن وسط الطريق, حيث المواكب

تسير صادحة  بإلحان حزينة, هتافات تعلن الولاء لمذهب أهل البيت…

ما زال هاجس الحلم, يشغل بال السيدة أم (مهدي ) صارحت جارتها:-

–          لقد حلمت البارحة…

-إنشاء الله خير..                                                        أجابت ( أم عباس )

– حلما عجيبا, ما يزال في مخيلتي, لم يفارقني                                                           تقدمت بقوة وثبات على الأرض الإسفلتية, تسحب ابنها بقوة, ليعبروا نحو الجهة اليمنى من الشارع..

عادت الجارة  تسأل:-

–          ماهو حلمك ؟

–       حلمت كأن جموعا غفيرة تسير و رؤوسهم معصوبة  بخرق خضراء, بعدها رأيت جسرا, ازدحم الناس عليه, في المنتصف, وقف رجل ضخم الجثة, كريه المنظر, يلقي بأفواج الزائرين في النهر.

تقدمت بثبات لم تفصلني عنه سوى خطوات مد قبضته ليسحبني ليلقيني معهم , تحولت بين يديه طيرا يخفق بجناحيه وهربت محلقة في السماء, مثل الطيور..

استمرت بحديثها تسأل رفيقتها

–          ما يعني هذا الحلم ؟

 

أجابتها  قائلة:-

–       خير.. أنشاء الله خير… نحن ماضون لزيارة ولي من أولياء الله.. و له مع الجسر حكاية..,حين  ألقيت جنازته على الجسر ينادى عليها..   وأردفت :   عسى الله أن يرزقنا الشهادة

تساءلت (أم مهدي) مع نفسها قائلة:-

–          هل الجسر الذي سنعبر عليه, يحمل لنا حكاية ؟!  وأضافت  تقول لصاحبتها:-

–          أني خائفة, يا اخيتي (أم عباس )

قالت رفيقتها, تهون ألأمر عليها:-

–          هل نسيت, الى أين نسير؟!

استمرت بحديثها المفعم بالأيمان قائلة:-

–          أننا ذاهبتان لزيارة (موسى بن جعفر ), باب الحوائج, وراهب أهل بيت النبوة.

كلام جارتها هز وجدانها, فكرت داخلها ( صحيح أنها المرة ألأولى التي أذهب فيها مشيا على الأقدام

لزيارة الضريح, في ذكرى أستشهاده, لكنني أبدا لم أنقطع عنها ..)

تذكرت عندما عقد قرانها على زوجها, جا ءت مع , أمها للمرقد. استدارة نحو جارتها البدينة ملتفعة بعبائتها لاهثة من الجهد الذي تبذله للحاق بجموع النساء المتقدمات بخطى متسارعة

وما فتأت تقبض بيدها على طفلها قائلة:-

–    أذكر حينما حضرنا لعقد القران, كنت لاأرتدي عباءة, بحثت والدتي عن دكان, يؤجر عباءات للزائرات, وعندما عثرنا عليه, كانت أول مرة أضع فيها عباءة على رأسي..تملكتني رهبة مفجعة  حين دخلناالروضة الكاظمية , مشاعر متضاربة هزت جسدي النحيل

قالت جارتها والعرق ينز بوضوح على وجهها المستدير لنسرع.. إذا تأخرنا سوف يزداد الزحام, ولا نستطيع الوصول لمبتغانا..

مضتا معا و ربطت كل واحدة منهما حزاما من القماش على خصرها. امتلأت الشوارع  بالمحتفلين, فيما قام البعض بتوز يع الماء  البارد بأواني معدنية , رشت الروائح الطيبة والعطور, على المسيرات الضخمة, التي اكتظت بها الطرق المؤدية الى المرقد المقدس..

تملكت (أم مهدي ) الغبطة, ما جعلها تسرع في سيرها وهي ترى المشاهد الجليلة, وشعورها المتنامي بجذل يدفعها  لتؤدي طقوس محببة الى نفسها…

راودها أحساس آخر من الخوف بغلالة  حزن مبهم , سببه هاجس الحلم الذي يستلبها , تردد مضني لم يصادفها من قبل وإزاء الحيرة

شاهدت الجسرمن بعيد يلوح بارتفاع   منحني , نحو الضفة الأخرى, عاجا بالزائرين المتشحين بملابس الحداد .

ترددت كثيرا, قبل العبور, الرغبة والهلع يتنازعان داخلها, شوق عارم شدها بقوة للتقدم  والوصول لقبر الأمام, حسمت أمرها أخيرا  أمسكت يد ولدها, مضت وسط الجموع الوافدة ,داخلها يسري نبض أيمان يتوهج  تقرأ الشهادتين, وتردد في سرها:-

–          لا أله ألا الله

عند منتصف الجسر, تراءت المنارةشعرت بوجيب قلبها, ينتفض بعنف عند رؤية القباب الذهبية.. في لحظة  حدث هيجان مربك , تدافعت الجموع , لم تدرك ما يحدث , لشدة الصدمة , أنسل أبنها من يدها غامت نظراتها لم ترى جارتها, شعرت بيقين راسخ إن نبؤة الحلم تتحقق, أنها تطير بلا أجنحة.

عن صالح جبار محمد

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *