قراءة أسلوبية في نص مسرحية البطل
لمحمد سيف:
البطل الذي فكر أخيرا
د. حسن السوداني
النص يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه
جوليا كريستيفا في علم لنص
نعم.. الجريمة تبقى جريمة.. حتى وإن كانت أمرا مأمورا
حوار لتالتبيوس في مسرحية البطل
أن عملية الوصول إلى تحديدات معيارية للمنجز الأدبي أيا كان جنسه تتطلب جملة من الدلالات المعرفية لفهم ذلك المنجز, فإذا كان البنيويون يرون أن المعاني المتعددة التي يكتسبها النص الواحد ناتجة من الأعراف الخاصة بالقراءة وهذا يتم عبر مرجعيات محددة وهو ما أشار أليه (موكاروفسكي) بالقول(أن القيمة الجمالية للعمل الأدبي هي قضية اجتماعية) وبالتالي فأن القراءة البنيوية تتجه إلى النص مباشرة في حين تعمل القراءات الأخرى ومنها نظرية التلقي على الاتجاه المباشر في عملتي الفهم والبنية للعمل الأدبي نفسه وهو ما أكد عليه رولان بارت( الكتابة هي علم متع اللغة) وإذا كنت قد ابتدأت الموضوع بنص جوليا كريستيفا التي تناولت فيه مفهوم الاندماج وهو مصطلح مسرحي بحت تتنازع عليه النظريات المسرحية بين القبول التام والرفض التام وهو المصطلح الذي وضع حدا فاصلا بين المسرح(تأريخا) وبين المرحلة البرختية التي دعت إلى نبذ الاندماج لدى الممثل في تلبس الشخصية ولدى المتلقي في مشاهدة العمل المسرحي, فأننا إزاء عمل أدبي( البطل) حاول المؤلف(محمد سيف) فيه النفاذ إلى مشاكلنا العصرية من بوابة التاريخ مستخدما عوالم السرد والحكي لعقد الصلة ما بين المستعمل اليومي والمخزون المتراكم, ما بين الحاضر المفجع والماضي المغرق بالفجاعة عبر صياغة تراجيديا معاصرة بطلها جندي بسيط (تالتبيوس) وضعته الأقدار مراسلا للملك اجاممنون وهو{ مغاير لمفهوم البطل الإغريقي, نصف إله ونصف بشر}وناطقا رسميا له, تبدأ حكايته ساعة عودته إلى مكان الجريمة, من أجل أن يعيش تفاصيل المأساة التي تسبب بها عن غير قصد, فهو ناطق رسمي لقرار ليس هو صاحبه, كانت تنفذ عبر لسانه أبشع الجرائم من قتل ونهب وموت وانتهاك دون أن يفكر ولو للحظة واحدة بما كان يحدث. أن لحظة العودة هذه في النص لم تكن عودة مكانية لواقع الجريمة وإنما عودة للوعي الغائب عن عقل البطل المغيب وهو ما أرتكز عليه النص برمته, هي وقفة لمحاسبة الذات ونفض الوحل عن الضمير ….
(دودة كنت.. ذليلا ومتعجرفا.. ذليلا.. نعم.. كنت جد ذليل)
هكذا يخاطب تالتبيوس نفسه ويضيف…
( إنني من قبل لم أكن أفكر أبدا,إنني لم افعل شيئا غير تنفيذ الأوامر)
وإذا كان المؤلف قد أستند للمنهج الكلاسيكي في بناء متن النص فهو بذلك قد جنح إلى ضفة التناص لا بصفته النقلية بل كونه أجراء لفتح النص على نصوص أخرى وهو بالتالي يقوم بعملية تحويل لدخول النص الأخر في بنية النص الحالي مما جعل استخدام الإلياذة ومسرحية الطرواديات ليوربيدس وسينكا كخلفية للمشهد العام لمتن النص مناسبا لخلق البطل الجديد المغاير بالضرورة لأبطال يوربديس وسينكا, وهذا البطل المنسي هو واحد من الجماهير التي تقدم كقرابين لاستمرار الطغاة السارقين وهج البطولة من جموع المحكومين وإذا كنا نقترب هنا من المفهوم اليساري للبطولة(الجماهير) فأن الكاتب قد دخل في دائرة المنهج السبتزري الذي يعتمد جملة من المعايير أو الشروط لفهم النص وهي:
ـ معالجة النص تكشف عن شخصية مؤلفه.
ـ الأسلوب انعطاف شخصي عن الاستعمال المألوف للغة.
ـ فكر الكاتب لحمة في تماسك النص.
ـ التعاطف مع النص ضروري للدخول إلى عالمه الحميم.
فكم من هذه الشروط يمكن أن تنطبق على نص البطل هذا؟ من خلال العودة لقراءة مقدمة المؤلف لنصه نجده يقول( في البداية كان يحوم شبح حرب الخليج التي لم تنته حتى الآن مثلما كان يحوم شبح راوندا الأفريقية وحرب مخيمات التطهير البوسنية.. كل هذا كان جاثما على الصدر, يعيش في اللاشعور الذي كثيرا ما يترجم نفس في مواقع كثيرة من حياتنا اليومية) وهذا المدخل قد انعكس في مجمله بين ثنايا النص فالمكان الذي دارت به أحداث النص ما هو إلا مخيم تطهير إغريقي يتم فيه اغتصاب الفتيات الطرواديات ….
(عندما اقتحمت جيوشكم الهائجة مدينتي, عندما انتهوا من قتل جميع الرجال الأصحاء, توجهوا نحونا, نحن الطرواديات,….. من شناعة هذه الجريمة بقي في داخلي أثر.. نعم .. أني أحمل في أحشائي طفلا من واحد من الذي ارتكبوا بحقي هذه الوحشية!!)
هذا الحوار يكشف عن فكر المؤلف إزاء الأحداث المعاصرة له وهي لا تختلف بالضرورة عن أحداث الماضي البشعة أي أن المؤلف يحقق المعيار الثالث لأسلوبية سبتزر من خلال جملة الأفكار التي حملها النص, وإذا كانت هذه الأفكار تقودنا حتما للتعاطف مع النص كشرط رابع لسبتزر فإنها في ذات الوقت تقودنا للدخول في عالمه الحميم وتتطابق مع رأي جوليا كريستيفا الذي ابتدأنا به الموضوع ( النص يدمج متلقيه في تركيبة ملامحه) ولكن هل أراد المؤلف أن يوظف التاريخ كونه جزء من الحاضر المعاش؟ هذا التساؤل تناولته الفلسفة المعاصرة بكثرة فقد كتب غادامير في هذا المفهوم قائلا( التاريخ شئ نعانيه دائما من الداخل بما هو كذلك من حيث أننا نقف فيه) فإذا توافق هذا التفسير مع قصديات المؤلف فأنه سوف يظهر على شكل إصدار أحكام قاطعة….
( نعم.. الجريمة تبقى جريمة.. حتى وإن كانت أمرا مأمورا)
ولكن هذا الحكم يكتسب صفته الإنسانية وليست العقابية من خلال قدرة البطل الحقيقي على العودة للتفكير, العودة للوعي المغيب واتخاذ القرار المناسب …
( بما أنني قد خسرت كل شيء, لا.. هذا ليس صحيحا.. لقد بقي لي صوتي)
ويكتسب الإرث الديكارتي بحق البقاء, بحق الوجود, فالتفكير يمنح الإنسان بقاءه ووجوده( أنا أفكر. إذا.. أنا موجود) وهو بذلك يضع يده على إحدى الحلول لواحدة من المشكلات التي تعاني منها الكثير من المجتمعات التي عانت من ويلات الحروب والدمار واختلاط الأحكام حول مصير أبنائها.