ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أُغْنِيَةٌ إِلَى النَّهَارْ
مسرحية شعرية
السمَّاح عبد الله
Alsammah63@yahoo.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إِهْدَاءَةْ
إلى ليلى القيروانية
الظامئةُ أبدا .
اَلْمَنْظَرْ
مكانٌ مُتّسِعٌ ، خاوٍ تماما ، ليس فيه أي شيءٍ ، صخرةٌ هنا ، وحَجَرٌ هناك ، الحوائط ترابيةٌ متهالكة ، وثمة كوَّةٌ لمعرفة الوقت ، المكان تغلفه ظلمةٌ ما ، رمادية ، ليست سوداء ولا داكنة ، وإنما تسمح برؤيةِ تفاصيل المكان ، وملامح الشخوص .
اَلزَّمَانْ
زمانٌ ما .
ليلٌ دائمْ .
اَلشَّخْصِيَّاتْ
المرأة – الرجل – الأب
بلا ملامح تقريبا ، بلا عمر ، منكوشو الشعر ، يرتدون ملابس مهلهلة من الجلد البدائي لستر العورات فقط ، الرجل والأب يغطي وجهيهما الشَّعرُ ، ولحيتاهما طويلتان وقذرتان ، من الواضح أن شخصيات المكان معزولةٌ تماما عن الواقع .
اَلْمَشْهَدُ الْأَوَّلْ
ينفتح الستار على المرأةِ والرجل ، منزَويَيْن ، كل في ركن في مواجهة الآخر ، من الواضح أنهما في حالة هزال وضعف كاملة .
( تقف المرأةُ ، تروح وتجيءُ ،
تلتفت إلى الرجل ، الذي يبدو وكأنه نائم
في قعدته ، تهز كتفيه ، فينتبه )
المرأة :
هل حان موعدُنا ؟
الرجل :
أظنه اقترب
المرأة :
أنظر من الكُوَّةِ حتى
، نعرفَ الوقتَ
( يتسند الرجل على الحائط ، ويشب
برأسه حتى يصل إلى الكوة ،
من الملاحظ أنه يبذل مجهودا كبيرا )
الرجل :
، الغبارُ صار عاليًا
، ويمنعُ الرؤية
لعله أصبح عشرين ذراعَا
المرأة :
هيا
، لنبدأ الغناء
( يمسك الرجل خشبةً مجوّفةً ومثقوبة ، كأنها آلة نفخ ، ينفخ فيها ، فتصدر ألحانا شجيةً ، تتكيءُ المرأةُ بظهرها على أحد الحوائط ، ممددةً ساقها اليمنى ، وعاقدةً يديها على ركبة ساقها اليسرى المنثنية ، على إيقاع الألحان تغني المرأة )
يا أيها النهارْ
يا سيدَ الشمسِ وصاحبَ الأمطارْ
يا أجملَ الذكورِ
، يا ربيب الفرَحِ
حُطَّ على حيطانِ هذا المطرَحِ
هذا المكانُ منذ أعوامٍ
، يلفه الغبارْ
وخاصمتنا الشمسُ والأنهارْ
وجسمُنا مع الظلامِ صار يابسا
ووجهُنا
، أصبح عابسا
وأكل الجوعُ الكبارَ والصغارْ
وطوّف الجفافُ حولنا
وسكن الخرابُ دُورَنا
وطال الانتظارْ
وطال الانتظارْ
يا أيها النهار
الرجل :
( يلقي بخشبتِه المجوفة في يأس )
قد جفَّ حلقي
، لم أعدْ أقدر أن أواصِلَ العزفَ
، وذلك النهارُ لن يجيءَ بالغناء
المرأة :
ليس لدينا غيره
الرجل :
، جرّبتِهِ سبعةَ أعوامٍ
، ولم يجدِ
المرأة :
لابد أن يجدي
، فقد سمعتُ أمي ذات مرةٍ تقول
إن النهارَ طيبٌ
، ويعشقُ الأغاني
والشمسُ لا تزور أي قطعةٍ
، ليس بها لحنٌ
، ولا صوتٌ شجيّ
كانت تقول إن قطرات المطرْ
لكي تجيئنا
لابد أن تهطلَ في إيقاع دقة الأغاني
الرجل :
دعي الغناء الآن
، حلقي صار جافّا
، شرِّبيني قطرتيّ
المرأة :
ميعاد شربنا لم يأتِ بعدُ
، فلنعُد إلى غنائنا
، لتنفخِ الآن
، ولكن في حنينٍ
وأنا سوف أرقرقُ الصوتَ
، خفيفا
، ونديا
، وطريا
، سأغيّر الكلامَ بعض الشيءِ
، سأقول للنهار كلماتٍ أخرياتٍ
، غير ما اعتدنا عليه
، مثلا
، أعطيه وصفَ أحدِ الفرسانْ
يشق ذلك الغبار
حاملا في جيبه الشمسَ
، وفي كفيه غيمتين
وحينما يدنو من المكان
، سوف يرمي غيمتَيْه في الفضَا
، وقبل أن تلامسَا الأرضَ
، سيخرجُ السيفَ
، يشقّ الغيمتين في بطنهما
، فتهطلان
لابأس لو أضفيتُ لمحةً جنسيةً على
، تلامسِ السيف
، ببطن الغيمتين
، لن يكونَ ذلك التلميحُ واضحًا
، وإنما
، سأُخْفِضُ الصوتَ
، وأُغمضُ العينين
، معْ تنهيدةٍ
، وبُحَّةٍ خفيفةٍ
، وحركات راحتيّ
، والنهارُ مثلما كانت تقولُ أمي
يفهمُ قصدَنا
، من غير أن نبوح
الرجل:
لكنني لا أستطيع أن أنفخَ
، مرّةً أخرى
، لنُرْجِيءَ الأمرَ إلى ميعادنا التالي
حينئذٍ
، أكون قد أعددتُ نفسي للحنينِ في
، الألحانِ
، مثلما يجدر بالنهار
المرأة :
إذن
، أنظر من الكوَّةِ حتى نعرف الوقتَ
( بلهفة يتسند على الحائط ، ويشب
برأسه حتى يصل إلى الكوة )
الرجل :
، لقد حان
، وأصبح الغبارُ عاليا
، على ارتفاع خمسين ذراعا
المرأة :
حقا
، أنا ظامئةٌ أيضا
، لنشربِ الآن
( تخرج من جيب جلدتها الأيسر قارورة الماء، ترفعها وتنزل قطرة في فمها ، تبتلعها ، وتنزل قطرة أخرى ، تبتلعها ، وتتجشأ ، يقترب الرجل منها ، يجلس على مقعدته ، ويرفع رأسه في اتجاهها ، فاتحا فمه ، فتقطرله قطرة قطرة، يمرر يده على معدته ، يقوم ، ويتجول في أرجاء المكان،ثم يلتفت إليها متسائلا )
الرجل :
وبعد أن ينفد ماءُ هذه القارورة
ما الذي سيحدث ؟
المرأة :
سيقبل النهارْ
وقبل أن ينفد ماؤنا
، ستهطل الأمطارْ
الرجل :
( منتبها )
أين أبونا ؟
، علَّه لم ينتبه إلى موعد قطرتَيْه
المرأة :
، قد سئمت منه
، لا يريد أن يموت
لذا
علّقتُه منذ الصباح فوق الشجْرةالعجوز
ربطتُ رجليه بفرعها
، وكان يضرب الجذع براحتيه
، مثل قطةٍ
، ويبكي
وها هو الآن مُدَلَّى
الرجل :
، هل صارحتِه بأنني حفرتُ حفرةً
، على مقاسه
، لأجله
، وأنها جوارَ أمّنا ؟
المرأة :
لقد فعلتُ
، بل زيَّنتُ في عينيه أن أمي عندما فاتحتُها
، بفكرة الموتِ
، ارتضَتْ
وها سبعةُ أعوامٍ على رحيلها
، مرّتْ
، ولم نزل نذكرُها
الرجل :
وهل تظنين بأن صلبه يمكن أن يقنعه
، بالوت ؟
المرأة :
، إن لم يقتنع
منعتُ عنه التمرتين في الغداءِ
، والقرقوشةَ التي يبلُّها بقطرةِ المياهِ
، في العشاء
وهكذا
حتى يموتَ من تلقاءِ نفسِهِ
الرجل :
( بفرحٍ غامر )
ساعتها
، تزيدُ حصَّتانا في الغداء والعشاء
المرأة :
( ناظرةً إليه بتذمر )
، بل تزيدُ حِصَّتي وحدي
الرجل :
( متلعثما ، والرعب بادٍ في عينيه )
نعم
وانما قصدتُ أن أقول
( بصوتٍ أكثر انخفاضا )
، إن تمرتيَّ ليستا كبيرتين
، مثل تمرتيكِ
، دائما
، تكونان كحبّتي حصى
المرأة :
( تكون قد اقتربت منه ، تشده
من شعره ، رافعةً رأسَه إليها )
كلامُك الثرثارُ لا يروقني
، ووجهُك القبيحُ لم أعد قادِرةً
، على احتمالِه
( تسحب يدها من شعر رأسِه ،
فيسقطُ على الأرضِ ، تواصل حديثها بصوتٍ جهوريّ )
قرار
من هذه اللحظة يا صديقي
، تمرتاك سوف تصبحان تمرةً واحدةً
( يشهق الرجل مرتعبا ، فتواصل
المرأةُ تلاوةَ قرارها )
ولا عشاء حين يأتي موعد العشاء لك
فترة صمت
( تتجول خلالها المرأةُ في أرجاء
المكان ، بينما ينهار الرجل في
أحد الأركان ، واضعا يديه على
ركبتيه ، يبدو كأنه يتضاءل ، تلتفت المرأةُ للرجل مستفسرةً )
هل حان موعدُ العشاء ؟
الرجل :
أظنه اقترب
المرأة :
أنظر من الكُوَّةِ حتى نعرفَ الوقتَ
الرجل :
( ينهض خاملا ، كأنه لا يقوى على الحركة ، ينظر من الكوة الضيقة في الجدار ، يقول بصوت عالٍ )
ما كل ذلك الغبار
لقد علا
، وصار بارتفاع سبعين ذراعًا
( يجلس في إعياء )
المرأة :
( ترفع حجرا معقوفا ، وتخرج من
تحته قرقوشةً صغيرةً ، بحجم ورقة الكوتشينة وترش عليها قطرة من قارورة الماء ، ثم تنفخ فيها وتبدأ في قضمها ومضغها بنهم ، ثم بتأنٍ ، ثم بتلذذ ، بينما الرجل ينظر إليها في جوع كبير ، وحرمان طاغٍ ، بعد أن تزدرد القطعةَ
الأخيرة من القرقوشة ،تتمتم )
، هذه قرقوشتي
صغيرةٌ
، ولا تسد جوعتي
( تخرج من تحت الحجر المعقوف القرقوشة الثانية ، وتكرر ما فعلته بالأولى ، وتبدأ في مضغها بهدوء ، واستمتاع ، يبدأ الرجل يزحف إليها على يديه وركبتيه ، في مذلةٍ واضحة ، تنتهي من القرقوشة الثانية ، وتقول )
وهذه قرقوشتك
صغيرةٌ أيضا
، وما أزال جائعة
( تخرج القرقوشة الثالثة ، تكرر الطقوس ، وتمضغها ، ولكن هذه المرّة بتلذذ بطيء ، واستطعام هاديء ، الرجل يدور حولها في وضعه الزاحف منتظرا أن تلقي إليه بقطعة ، مع آخر قطعة تمضغها من القرقوشة ، تتمتم باستمتاع وكأنها تخاطب نفسها )
ما أجمل القرقوشة التي كانت نصيب أبي
حقا
، لقد شبعت
( تنظر ناحية الرجل ، فإذا به مكومٌ في أحد الأركان ، بعد أن فقد الأمل نهائيا في أية قطعة ، تخاطبه بصوت منخفض )
في مثل هذه الليلة من عامين
أتيتَني
، وقلتَ لي :
، أحبك
لمستَ ناهِديَ في رفقٍ
، وقَبَّلتَ فمي
، وعنُقِي
، وسُرَّتي
، وفخِذيّ
، قَلَبْتَنِي على بطني
، مشتْ شفتاك في كتِفَيَّ
، في سلسلةِ الظهرِ
، وفي رِدْفَيَّ
، في باطن رجليَّ
، عدلتَني
، أغمضتُ عينيَّ
، وفتَّحتُ مسامي
أعطيتني
، كنتَ كقصَّابٍ وكنتُ كالذبيحة
أعطيتني
كنتَ كحطَّابٍ وكنتُ شجرة
أعطيتَني
، كنتَ كمطرٍ نازلٍ
، وكنتُ تربةً شقَّقها انتظارُ البَلّ
، لا الجفافْ
( ما زال الرجل في ركنه مكوما ، يستمع إليها ، فيتضاءل ويزداد تكوُّرا ، يبدو في حالة خوف ، تواصل المرأة بعد فترة صمت )
من هذه الليلة يا رفيقي
، وأنا
، ذبيحةٌ
، وشجْرةٌ
، وتربةٌ شقَّقها انتظارُ البلّ
، لا الجفاف
( تسترخي في وضعٍ أنثويّ مثير ،
وتقول له )
ألم تعدْني منذ عامٍ
، أنني أنا وأنتَ سوف نقضي ليلةً دافئةً ؟
الرجل :
( في إنهاك تام )
نعم
، أذكر أنني وعدتُ
المرأة :
( بدلال )
هيا إذن
، فإنني أكاد أحترق
الرجل :
( برهبة ورعب باديين )
لا أستطيع
المرأة :
(ناظرة إليه بتذمرٍ، ولمن في رجاء )
لا تستطيع
، كل مرة لا تستطيع
الرجل :
، صدّقِيني
، كل مرّةٍ أظن أنني سأستطيع
، غير أن جسدي يعوقني
، أحسّ أنه من الورق
وليس من لحم ودم
المرأة :
( بحرمان لا نهائي )
إذن تعال
، قَبّلني فقط
الرجل :
وهل ترضيك قبلةٌ ؟
المرأة :
( بصوت يكاد لا يخرج من فمها ،
وباحتياج فائض )
، تعالَ قَبّلني
، أو المسني
، أو انفخْ في فمي
، أو سَوّ شعرَ رأسيَ الهائجٍ
، قل كلاما ما
، ولا تفعلُه
( يبدأ الرجل في الزحف ناحيتها على يديه وركبتيه ، وقبل أن يصل إليها ، يكون قد سقط من الإعياء )
ستار
اَلْمَشْهَدُ الثَّانِي
المكان نفسه .
في المنتصف تجلس المرأة ، وأمامها الرجل ، وعلى مسافة منهما يجلس الأب الرجل والأب في حالة إعياء وانهاك تامة ، غير أن الأب يكاد يشرف على الموت
الأب :
( بصوت يكاد لا يخرج منه )
أريدُ قطرةً واحدةً فقط
أبُلُّ شفتيَّ
، لي يومان لم آكلْ ولم أشربْ
لِتَرْحَمِينِي يا بُنَيّتي
المرأة :
( تضربه بفرع الشجرة على رأسه )
منذ جلستَ معنا
، وأنتَ لا تملّ من تكرار ذلك الهُراءِ
، ليتني ما جئتُ بك
ليتني تركتُ جسمك العجوزَ في الغبار
لكي تموتَ مصلوبا
، وحيدًا
، ناشِفًا
، على فروع الشجْرة الناشِفة العجوز
( تعاود ضربه مرّة أخرى )
إن لم تكن مللتَ من تكراره
، فقد مللتُ من سماعه
ماذا تريد أن تفعل بعد كل ما فعلت ؟
عشتَ كثيرًا
، وتزوّجتَ
، وأنجبتَ
كنتَ في هذا المكان
عندما كان به عشرون رجلا وامرأةً
، وكان كل رجلٍ
، يأكل وحده أربعَ تمراتٍ
، ويستمتع بالنهار
كان النهار يملأ المكان
وكنتَ تستطيعُ أن تجلسَ في الشمسِ
تمدّ رجليك
، لتشربا منها
، وتمنحاك خَدَرًا حلوًا لذيذًا
، يتمشَّى في حناياكَ
، فتسترخي
أما اكتفيت ؟
أما شبعت ؟
الرجل :
( متهالكا )
أريدُ تمرةً أخرى
، وقطرةً واحدةً
، كي أستطيعَ أن أقبلك
المرأة :
( باستهزاء وهي تقلده )
كي أستطيع أن أقبلك !
( تواصل حديثها كالحالمة )
إني أريدُ أن تفي بوعدك القديم
أريدُ ليلةً دافئةً كاملةً
تبدأها بالقبلاتِ
، وتضُمُّني بكفَّتيكَ
، ناهداي لم يمسّا منذ أعوامٍ بعيدةٍ
، أريد أن تجوسَ راحتاك في بطني
، وفي فخْذيْ
أريدُ أن تفعلَ فيَّ ما سمعناه من الجدود
، عندما كان هنا في ذلك المكانِ
، عشرون امرأة
وحفنةٌ من الرجال
وكان كل رجلٍ وامرأةٍ
، يُمَضّيَانِ ليلةً دافئةً كاملةً
على الأقلِ مرّتين في السنة
( تنظر للرجل وكأنها تذكرتْ شيئا )
هل أنتَ خالي أم أخي ؟
الأب :
( بصوت شديد الانهاك )
أريدُ قطرةً واحدةً فقط
الرجل :
أظنني أخوكِ
، كانت أمنا تحملنا على ذراعيها معا
كنتُ أنا أطولَ منكِ
، كنتِ تَحْبِينَ ولا تمشِين مثلي
المرأة :
لا
، أظن أن أمي ولدتك من أبيها
الأب :
، قطرةً واحدةً
المرأة :
( تواصل حديثها )
، سمعتُها تقول مرةً
، إن أباها وأبي قد منحاها ليلةً دافئةً
ذات يوم
وبعدها حملتْ
وكنتَ أنت
الرجل :
من تستطيعُ أن تقولَ إن رجلا بعينه
، أبو ابنِها ؟
إن النساءَ يضطجِعْنَ للرجالِ
، مثلما يأكلنَ أو يشربْنَ
، أو يمشِينَ أو يقعُدْنَ
، أو يبكِينَ أو يضحَكن
وفجأةً
، تمتليءُ البطونُ بالأبناء
المرأة :
هذا زمانٌ مرّ
عندما كان الرجالُ يملأون ذلك المكان
وعندما كان الرجالُ قادرينَ
الأب :
، قطرةً
المرأة :
، وعندما كان لدينا شجرٌ
، ومطرٌ
، وخشبٌ
، ونارْ
وعندما كان يجيئنا النهارْ
( تنظر لأبيها باشمئزازٍ ،وتخاطبه )
إذا وافقتَ أن تموت
أعطيك تمرةً
، وقطرتيْ ماءٍ
، وقرقوشة
الأب :
( في إنهاك تام )
موافقٌ موافقْ
المرأة :
وإن عاندتَ
الأب :
، كلا سأموتُ
( تخرج من جيب جلدتها الأيمن تمرةً،
تدقق النظر فيها مليا ، وتقول )
، تمرةٌ كبيرةٌ
، وأنتَ هكذا أو هكذا ميّت
( تعيدها ، وتخرج غيرها ، أقل حجما ، ينهض الرجل مستندا على الحائط ، ويبدأ في الاقتراب منهما ، ترمي المرأةُ التمرة على الأرض ، فينقض الرجل ليخطفها ، فتضربه المرأة بفرع الشجرة على مؤخرته ، فتقع التمرة بجوار الأب ، الذي يمد يده بسرعة ، ويلتقطها يضعها في فمه بلهفة ، ويلتهمها ، يستمد بعض القوة ليسند جسمه على الحائط ، وبعد أن يمضغها يقول )
الأب :
وعدتِني بقطرتيْ ماءٍ
، وقرقوشة
المرأة :
نعم وأنت
وافقتَ أن تموت
الأب :
نعم نعم
المرأة :
( تخرج من جيب جلدتها الأيسر قارورة الماء ، يبدأ الرجل في الدوران حول المرأة والأب ، بينما ينبطح الأب على ظهره ، رافعا يديه الاثنتين في لهفة ، وفاتحا فمه على آخره ، تسقط المرأة قطرة في فيه ، وتقول )
ألقطرةُ الأولى
الأب :
إلىَّ بالأخرى
إلىَّ بالأخرى
المرأة :
( تسقط القطرة الثانية ، مازال الرجل
يدور حولهما ، تقول )
ألقطرةُ الأخرى
( تعيد القارورة لجيب جلدتها )
الأب :
( ينهض ، وكأنه استعاد بعض قدرته
على الحركة ، يمد يده إليها كالمتسول)
وعدتِني أيضا بقرقوشة
المرأة :
( ترفع الحجر المعقوف ، وتخرج قرقوشة ، وترميها إليه ، يهم الرجل بالتقاطها ، فيسبقه الأب )
وها أنا وفيتُ بالوعد
منحتُك التمرةَ
، والقرقوشة
وقطرتيْ ماءٍ
الأب :
( يقول مستجديا ، وهو ممسكٌ بالقرقوشة )
أريد قطرةً واحدةً فقط
أبُلُها بها
المرأة :
ليس لدىّ أيّ شيءٍ آخرٍ لأجلك
الأب :
لا بأس
، فلأفتتها بإصبعيَّ
، ثم أزدردها كأنها تمرة
( يقسم القرقوشة إلى نصفين ، والنصف إلى نصفين ، وهكذا حتى تصبح قطعا صغيرة ، فيفركها كلها بيديه ، ثم يلقي بها في فمه . بعدها يتسمر مكانه )
المرأة :
( بحسم )
آن أوانُ الموت
الأب :
( مرتجفا ، ومرتعبا )
، أمهليني لغدٍ
، أريد أن أكمل هذا اليوم
، لن أحتاجَ تمرةً
، ولا ماءَ
فقط
، أريدُ أن أعيش بعضَ الوقت
المرأة :
( تتقدم إليه ، تغير لهجتها ، وتخاطبه
، كالحالمة )
ألموتُ ليس سيئا كما تظن
فعندما تنام في الحفرة
ويلفك الترابُ
، سوف تأتيك عصافيرٌ ملوّنة
تدور حول كتفيك
وتنفض الترابَ عن عينيك
وتطلق الزقزقة الجميلة
فتفيق
وعلى مرمى البصر
ستبصر الجبل
ألجبلُ الذي تأوي إليه
، هذه العصافيرُ الملوّنة
انهض
وسِرْ وراءها
وكلما خطوتَ خطوةً إليه
ستحسّ أن الشمسَ من ورائه
، تبدأ في الشروق
الأب
تبدأ في الشروقْ ؟
المرأة :
وكلما اقتربتَ منه
، يبدأ النهارُ
الأب :
، يبدأ النهارُ ؟
المرأة :
، فاصعد الجبل
فثَمّ رجلٌ يستقبل الموتى
، بهيٌّ
، رائعٌ
، وطيّبُ الكلام
يمدّ كفه اليمنى إليك
مملوءة تمرا
الأب :
مملوءة تمرا
المرأة :
وكفّه اليسرى
، بها خبزٌ طريٌّ لا تبلّه بالماء
الأب :
خبزٌ طريٌّ لا أبله بالماء ؟
المرأة :
وبعدها
، سيهطل المطر
تشرب منه ملء راحتيكَ
، سيكون حولك الماءُ
، ولا تشربه
، ويكون حولك التمرُ
، ولا تأكلُه
الأب :
( يبدأ في السير وهو يردد كلامها
وراءها كالمأخوذ )
، حوليَ التمرُ ولا آكله
المرأة :
وبعدها
سيحضر الرجلُ البهيُّ
، امرأةً مغسولةً
، يدعوكما للاضطجاعِ
، فوق فرشةٍ من القشّ
، وسقفٍ من مطر
الأب :
فرشة من القشّ
، وسقف من مطر ؟
المرأة :
نعم نعم
وسقف من مطر
( تنظر للناحية الأخرى ، وتوجه
حديثها للرجل )
إذهب به
، وعد من غيره
الرجل :
هيا بنا يا أبتي
( يشده من يده ، ويمشيان معا )
ستار
اَلْمَشْهَدُ الثَّالِثْ
المكان نفسه .
الرجل والمرأة يجلسان متواجهين ، الإعياء متمكن منهما .
لا كلام .
( كل فترة ينهض الرجل وينظر من الكوة ، ويعود ليجلس مرة أخرى )
الرجل :
ما زال موعدُ الشرابِ لم يَحِنْ
المرأة :
( تخاطبه وهي غير ملتفة إليه )
لم يبقَ غير تمرةٍ وحيدةٍ
ولا عشاء لي أو لك
الرجل :
( مصعوقا )
والماء ؟
المرأة :
، قطرتان تعلقان في القارورة
الرجل :
وما العمل ؟
المرأة :
ليس أمامنا سوى أن ننتظر
الرجل :
ننتظر النهار ؟
المرأة :
نعم
، ننتظر النهار
لأنه لابد أن يجيء
الرجل :
(يضم ركبتيه إلى صدره ، عاقدا يديه عليهما )
فترة صمت
( يرفع عينيه إليها ، وكأنه
تذكر شيئا )
هل العصافيرُ ستوقظُ الموتى ؟
المرأة :
نعم
تنقر في أكتافهم
، فينهضون
، كي يسيروا خلفها إلى الجبل
الرجل ؟
والرجلُ البهيّ ؟
المرأة :
هناك لن تجوعَ
، أو تعطشَ
، أو تصدأ روحُك الظمأى إلى الجنس
ألرجل البهيُّ
، والتمورُ
( تمدد جسمها في استرخاءةٍ انثويةٍ ،
وتمرر يدها على بطنها ، تواصل
حديثها هامسة )
وفرشةُ القشّ
، وسقفُ المطرِ
( تنظر إليه )
وعدتَني بحضنٍ دافيءٍ
، وقُبلتين
الرجل :
( متلعثما )
نعم وعدت
لكنني لا أستطيع أن أرفع راحتيَّ
، لو قاسمتِني تمرتك الأخيرة
سأستطيع
المرأة :
( تخرج من جيب جلدتها الأيمن
آخر تمرة ، ترميها له وتقول )
كُلْها كلَّها وحدك
وبعدها تعال
( تمدد جسمها على الأرض في وضع جنسيّ ، وتغمض عينيها ، تواصل حديثها هامسة )
هيا تعال
الرجل :
( يخطف التمرة ، يلتهمها ، يمضغ ، يمضغ ، يمضغ ، وعندما ينتهي يخاطب نفسه )
، ليست كافية
لكنها شهيةٌ جدا
وآخرُ التمرات
المرأة :
( ما زالت تواصل نداءها الظاميء)
تعال
تعال
( يقترب الرجل من المرأة خطوة ، ثم يبتعد
خطوتين ، يدور حولها ، ثم يدنو منها ، يقعي بجوارها ، يتحسس جسمها ، وفجأة ينتفض ويجري ، ممسكا بالقارورة ، تنتبه المرأة لسرقته ، تنهض خلفه ، يجري من أمامها تلاحقه ، تمسك به ، تشد القارورة منه ، يتشبث بها ، يدوران حول بعضهما وهما ممسكان بالقارورة،تقع القارورة على الأرض متكسرة ، ينبطحان على بطنهما ، يحاولان أن يمصَّا قطرتي الماء السائلتين على الأرض ، لا يفلحان ، يستلقيان على ظهرهما مجهدين )
فترة صمت
( تقف المرأة ، ترفسه برجلها عدة مرات ، يئن متوجعا وهو يتراجع ، حتى يتكوم في الركن ، تقف المرأة في مواجهته مواصلة لومه وتأنيبه )
أفسدتَ كل شيء
أفسدتَ حتى لحظة الحلم الجميلة
الرجل :
كنتُ ظامئا جدا
، وكان حلقي يرتجف
المرأة :
أنا أيضا شعرت بارتجافة الروح
، وبرد البدَنِ
الرجل :
وكنتُ قد قدّرتُ أن قطرةً واحدةَ تكفي لبلّ الحلقِ
المرأة :
، صار جسمي مثل ريشةٍ خفيفةٍ
، تصعد
، حتى آخر الفرحِ
، وتهوِي
، لقرار الجرح
لا تبتغي منك سوى مسّ الأصابع
الرجل :
انتويتُ أخذ قطرةٍ واحدةٍ فقط
كي لا أموت
المرأة :
كنتُ أبغي قُبلةً واحدةً فقط
كي لا أموت
أفسدتَ كل شيء
أفسدتَ كل شيء
الرجل :
( مهتاجا وثائرا )
لِتَضْرِبِيني
، لم يعد يهمّني
، ولم يعد يوجعني ضربك لي
، ولم يعد يخيفني زعيقُكِ الهادرُ
مِمَّ أخاف ؟
، لم يعد لديكِ تمرةٌ
، ولا قرقوشةٌ
، ولا قطرةُ ماء
المرأة :
( تغير لهجتها القاسية )
ما زال في يديَّ حلمٌ
، سوف نحياه معا
ما زال في جيبيَّ فرحٌ
، سأرشّه على المكان
ما زال في عينيَّ حبٌّ
، سوف يحبو حولنا
، وينشر الأمان
الرجل :
( بيأس لا نهائي )
ما زلتِ تحلمين ؟
، لم يعد ينفعنا الحلمُ
، ولا الفرحُ
، ولا الحبُّ
، ولا الأمان
المرأة :
سيقبل النهار
الرجل :
( يقف من قعدته )
لن يقبل النهار
من هذه اللحظة فلنجلس معا
ننتظر الموت
المرأة :
اسكت
الرجل :
، وحتى الانتظار لا يفيدُ
، فلأذهب أنا للموت
، قد حفرتُ حفرتين بجوار حفرتيْ أبي
، وأمي
، لي ولك
المرأة :
( بلهفة ورعب )
لا يا أخي
، لا يا حبيبي
، لا تدعني
، لم يعد في ذلك المكان غيرنا
، هيا نغني للنهارِ
، فالنهارُ طيّبٌ
، ويعشقُ الأغاني
اعزف
، وها أنا أغني
( تتجه ببصرها للسماء ، وتبدا في الغناء ، في نفس اللحظة التي يبدأ الرجل فيها السير ، بطيئا ، متهالكا ، يائسا ، في اتجاه الحفرة )
يا أيها النهارْ
هذا المكان منذ أعوامٍ يلفه الغبارْ
يا سيدَ الشمسِ
، وصاحبَ الأمطارْ
يا أجملَ الذكورِ
، يا ربيبَ الفرَحِ
حُطَّ
، على حيطانِ هذا المطرَحِ
( تنتبه إلى أنها تغني وحدها ،
تنظر إليه يكون قد غادر المكان
نهائيا ، تجري خلفه ، تصل إلى حافة المكان ، يبدو أنها تراه وهو يهبط الحفرة ، تصرخ )
لا
لا يا أخي
لا يا حبيبي
( في إنهاكٍ تام تسقط على الأرض ، تواصل غناءها بصوتٍ يكاد لا يخرج منها )
هذا المكانُ منذ أعوامٍ
، يلفه الغبارْ
وخاصمتنا الشمسُ والأمطارْ
وجسمنا مع الظلامِ
، صار يابسَا
ووجهنا
، أصبح عابسَا
وطال الانتظارْ
وطال الانتظارْ
( يخفت صوتها تدريجيا ، حتى
لا نكاد نسمعه ، إلى أن تسكت تماما ، كأنها مغشيٌّ عليها )
فترة صمت
( ثمة أصواتٌ تصل إلى أسماعنا ، يبدأ النور يتسلل للمكان ، وشيئا فشيئا يغمر المكان كله ، تنتبه المرأةُ للتحول الفجائيّ ، تكون في حالة إعياء تامة ، تغلق عينيها وتفتحهما غير مصدقة ، تصرخ بصوت نحيل ، مبحوح ، مقتول )
جاء النهار
وها هي الأمطار
وها هي الأمطار
( تفتح فمها لتلتقط قطرات المطر ،
وقبل أن تتزوقها ، تسقط ميتة )
ستار
النهــــــــــــاية
السمّاح عبد الله