الرئيسية / كتب وأصدارات / “سيجيء الموت وستكون له عيناك” لجمانة حداد

“سيجيء الموت وستكون له عيناك” لجمانة حداد

“سيجيء الموت وستكون له عيناك” لجمانة حداد

يوم أصبح للشعراء المنتحرين أنطولوجيا و… منزل

زينب عساف

من الخيط الخفي الذي يربط بين الانتحار في وصفه فعلاً شعرياً، والشعر في وصفه فعلاً انتحارياً، يولد كتاب “سيجيء الموت وستكون له عيناك” للشاعرة والمترجمة جمانة حداد، الصادر حديثاً لدى دار “النهار” و”الدار العربية للعلوم”، في 656 صفحة من القطع الوسط، في مجلّد فخم صممت غلافه الفنانة عبر حامد.

بين حرفَي السين، سين فعل يجيء وسين فعل تكون، يُحشَر الموت. بين سينَين مستقبليين يصبح للموت مستقبل ومعجم يضمّ أسماء الذين من خلال فجوة الموت والشعر وضعوا عينهم على المجهول.

الخيانة مبتدأً

“مئة وخمسون شاعراً وشاعرة انتحروا في القرن العشرين. مئة وخمسون صرخوا (أو همسوا): “كفى”، وسبقونا إلى الضفة الأخرى”. “كيف بدأ ذلك؟”، تسأل الشاعرة نفسها، ثم تجيب: “لا أعرف… جلّ ما أعرفه هو أننا نحن الشعراء محاطون بأشباح يخاطبوننا سرّاً”. هؤلاء الأشباح هم أنفسهم الشعراء المئة والخمسون. ثمة “أمومة” ما إذاً في اعتبار الكاتبة هؤلاء الشعراء المنتحرين أشباحها وأطفالها. ثمة أمومة تنبش قبور أبنائها الذين قضوا وباتوا تراباً تحت التراب، وتجبرهم على “تمثيل” جرائمهم الرائعة مرة أخرى. لكن نبش قبر مَن كان شاعراً ومنتحراً، هو أشبه بالعبث بمصباح علاء الدين السحري. ليس من وعد تضربه في عبث مماثل إلا مع المجهول واللامتوقع والسري، لكن المخيف أيضاً. هذا ما تشير إليه جمانة حداد في بحثها عن العلاقة بين تيمتَي الكتاب، أي الانتحار والشعر، معترفةً بأنها أُصيبت بالصدمة حين رأت صور الجثث المتفحّمة أو المشوّهة ولم تعثر فيها على أي شاعرية. نحن نتحدّث إذاً عن “البلاد المجهولة التي لا يعود منها أي مسافر”، كما يقول شكسبير الذي تستشهد به حداد، أو “النزل الذي يظهر فجأة أمام عيني المسافر”، على ما يقول الشاعر المنتحر جورج تراكل في إحدى قصائده المتضمنة في الكتاب.

المشروع الذي بدأ لأربعة أعوام خلت بـ33 شاعراً، كما تروي حداد، وصار يتوسع تدريجاً، انطلق من سؤال عن صحة الزعم بأن يهوذا الإسخريوطي كان أول المنتحرين في العالم الحديث. سؤال له شِباك. سؤال مغوٍ. سؤال صيّاد. هكذا، وقعت حداد في حبّ أول المنتحرين هذا. بالطبع ثمة تلميح في جعل يهوذا الخائن والمنتحر مبتدأً (هل لاحظتم كيف تحاكي صفة “الشاعر المنتحر” صفة “الخائن المنتحر”؟). فالشعر في معنى ما من معانيه الكثيرة هو خيانة أيضاً. والانتحار خيانة. والترجمة خيانة. خيانة يهوذا تجمع ولا تفرّق، إذاً، بين شعر فلاديمير ماياكوفسكي وانتحاره، بين شعر تشيزاري بافيزي وانتحاره، بين شعر سيلفيا بلاث وانتحارها…الخ.

في اكتمال الدائرة

تقول المعاجم عن الانتحار إنه الفعل الإرادي الذي يؤدي إلى أن يضع الشخص حدّاً لحياته الخاصة. ويتحدّث الطبّ عن  الدمار الذاتي أو الـautolyse  (عن اليونانية: auto أي نفسه، و lyse أي تدمير). ويضيف القانون أنه من أجل اعتبار حالة ما انتحاراً، يجب أن يكون الموت هو الهدف الرئيسي للفعل وليس أحد نتائجه. البحث لا يدور هنا حول هذه الأبعاد اللغوية أو الطبية أو القانونية، بل يتمحور حول تلك الـ”لماذا؟” الوجودية العملاقة التي لا تنفكّ تتضخّم كلما تابعنا توغّلنا داخل هذه الأنطولوجيا التي تطلبّت ابحاثاً هائلة. لا تزعم جمانة حداد أنها كشفت أسرار المنتحرين كلهم بعدما نفضت يديها من تراب قبورهم، وهي لا تريد ذلك أصلاً، بل إنها تحاول أن تعاين عن قرب تلك الحقيقة التي لخّصتها في جملة لجان أميري يقول فيها: “أنا أموت، إذاً أنا موجود”؛ الجملة التي نطقها مئة وخمسون شاعراً وشاعرة بأكثر من عشرين لغة وبمئة وخمسين طريقة مختلفة. هذه المعاينة تتمّ من خلال رسم شجرة عائلة أو تتبّع خيط ما بين هؤلاء المنتحرين جميعاً. تقول حداد إنها جمعت هذه الأسماء بين دفّتي كتاب لا لأنها تشكّل “نوعاً” أو “جنساً” أو “تياراً” أو “عائلة” شعرية متجانسة، بل من أجل خلق “جوّ” شعري متناغم، إذ اكتشفت بعد انحنائها على حيوات هؤلاء المنتحرين أن ثمة ما يربط الواحد منهم بالآخر في المعنى الوجداني والقدري، وليس الشعري كما تشرح، ملاحِظةً إن نيلغون مارمارا وأميليا روسيللي مثلاً كانتا تعشقان سيلفيا بلاث. أما ألفونسو كوستافريدا فقد ألّف كتاباً عن الانتحار، وأسس جاك ريغو “الجمعية العامة للانتحار”… إلخ. على هذا النحو تواصل جمانة حداد الحفر في أرض القربى الغريبة التي تجمع بين هؤلاء، لتكتشف أن الخيط هو في النهاية دائرة. الدائرة التي قد نكون جميعاً عالقين فيها.

150 شاعراً… 47 دولة

هالة الانتحار لم توقع جمانة حداد في حبائلها. فالكاتبة لم تقتنع بأن الموت وحده كفيل أن يجعل شاعراً ما شاعراً عظيماً، فإذا بها تعتمد في معايير الاختيار على الشعرية أولاً، أي على استحقاق تجربة كل شاعر. من هنا جاء التقسيم بين أنطولوجيا كبرى وأنطولوجيا صغرى، مع وجود بعض الاستثناءات كاستحالة الحصول على نصوص لبعض الشعراء المستحقين التصنيف ضمن الأنطولوجيا الكبرى، ما اضطرّها إلى ضمّهم إلى الصغرى.

وتشدد الشاعرة على أن الهمّ الأساسي في عملية التبويب لم يكن الفرز المرتكز على عامل مشترك، قدر ما كان “شرعية التجربة الشعرية”، أي جودة النصّ الشعري، من دون وجود “أولوية للأسماء والنصوص الإدهاشية على حساب أسماء ونصوص أخرى أكثر استحقاقاً”. وتضرب حداد مثلاً على ذلك، الكاتب الأميركي الشهير إرنست همنغواي الذي كتب الشعر، لكنها لم تدرجه في لائحة الشعراء لأنها لم تعتبره مستحقاً كشاعر.

ولم يفت حداد القيام بالنقد الذاتي، تصويباً لمسار الأنطولوجيا وقطعاً للطريق أمام المشككين، فهي تفترض أن عدد الشعراء المنتحرين في القرن العشرين لا بد أن يكون أكثر من مئة وخمسين، لأن ثمة شعراء كتبوا بلغات غير منتشرة على نطاق واسع، وتالياً كان من المستحيل الاطلاع على تجاربهم أو الحصول على نبذة عن حيواتهم. وهي إذ تشير إلى النواقص التي لا بدّ أن تعتري عملاً كهذا، نظراً الى ضخامته، تعلن أن الطبعات اللاحقة ستكون مناسبة للتنقيح وسدّ الثغر، لا سيما أن “مسعى هذا المجلّد ليس أنطولوجياً فحسب، بل هو موسوعي كذلك، ويرمي، بقدر الإمكان، إلى أوسع مسح متاح لموضوعه”.

اختارت حداد تقسيم الكتاب أجزاء ثلاثة: الأنطولوجيا الكبرى، وهو القسم الأضخم في الكتاب ويشمل خمسين شاعراً (34 شاعراً و16 شاعرة) من 35 دولة، أفردت لكل منهم مساحة كبيرة بين التقديم لهم وترجمة قصائدهم. الاعتبار “الكمّي” كما سبق وأشرت، خضع لمزاج شعري وترجمي خاص، أي لمدى تفاعل المترجمة مع النصوص التي استفزّتها، لكن المعدّل العام لكل شاعر راوح بين ست وعشر صفحات.

القسم الثاني أو الأنطولوجيا الصغرى، عبارة عن مختارات مصغّرة تشمل خمسين شاعراً (40 شاعراً و10 شاعرات) من 27 دولة، مع تقديم موجز وقصيدة واحدة مترجمة لكل شاعر. أما القسم الثالث فيضمّ خمسين شاعراً أيضاً (48 شاعراً وشاعرتان). يرد ذكر هؤلاء الشعراء جميعاً في الأقسام المختلفة بحسب الترتيب الكرونولوجي، من الأقدم إلى الأحدث، وهم ينتمون إلى 47 بلداً مختلفاً: بلغاريا، الولايات المتحدة، النمسا، الأرجنتين، روسيا، اليونان، أسوج، مدغشقر، المكسيك، المجر، اليابان، إيطاليا، الدانمارك، لبنان، مصر، كولومبيا، فرنسا، سوريا، الأردن، السودان، كوبا، الجزائر، العراق، أرمينيا، البرازيل، النروج، الصين، تركيا، الهند، المغرب، اسكتلندا، بريطانيا، سويسرا، البرتغال، لاتفيا، رومانيا، البيرو، إسبانيا، كندا، جنوب إفريقيا، بولونيا، استونيا، بلجيكا، ألمانيا، فنلندا، تشيكيا، وفنزويلا.

وتلخّص الكاتبة أسباب هذا الفرز في ثلاثة: أولاً، غالبية الشعراء في القسم الثاني أقلّ أهمية من شعراء القسم الأول، وقد يكون بعضهم أكثر بروزاً كروائيين أو مفكرين.

ثانياً، ثمة عدد من الشعراء المنتحرين يحتلون موقعاً جوهرياً في آداب بلادهم، لكنّ الكاتبة قررت رغم ذلك أن توردهم في القسم الثاني لا الأول، لأن شعريتهم ليست على مستوى شهرتهم. على هذا الأساس، ضمّت الشاعر الأميركي جون بيريمان الذي يُعتبر ركناً أساسياً في بانوراما شعر القرن العشرين في الولايات المتحدة إلى القسم الثاني، بينما تكبّدت عناء كبيراً في الحصول على إحدى مجموعات الشاعر المدغشقري جان جوزف رابياريفولو من دار نشر فرنسية مغمورة، وضمّته الى القسم الأول لأنه مستحق.

ثالثاً، كانت هناك مشكلة في عدم توافر النصوص لبعض شعراء القسم الثاني، بما يكفي لإدراجهم في القسم الأول. أيضاً، بعضهم كتب القليل ولم يكن هذا القليل مصنّفاً في خانة الشعر رسمياً.

في العودة إلى القسم الثالث الذي يحمل عنوان “إحصاء الظلال”، اكتفت الكاتبة في هذا القسم بتعداد الشعراء ووضع شذرة لكل منهم “لأني إما لم أعتبرهم جديرين بالانتماء إلى القسمين الأولين، وإما واجهت صعوبة كبرى في العثور على قصائد لهم، ومعلومات موسّعة ودقيقة عن غالبيتهم، سوى الجنسية وسنة الولادة والانتحار”. عدم التوسّع كثيراً في الثبت البيبليوغرافي جاء هنا لمصلحة إفساح المجال للشعر كي يقول كلمته ويروي قصة الشاعر: “فما أهمية وقائع الحياة أمام “وقائع” القصيدة؟”.

ليس ذلك فحسب، بل يضمّ الكتاب أيضاً جداول إحصائية عديدة ومعلومات إضافية عن الشعراء المنتحرين، من بينها طرق انتحارهم وأسبابها والتوقيت الذي قرروا فيه ترك هذه الدنيا وجنسياتهم وأبراجهم الفلكية وغيرها، إضافة إلى ملحق خاص، قد يصلح خميرة لأنطولوجيات أخرى، يضم أبرز الشعراء الذين انتحروا قبل القرن العشرين، فضلا عن لائحتين ببعض أبرز الروائيين والفنانين المنتحرين في العالم. أيضاً تطرّقت حداد، في أخلاقية أدبية ومهنية علمية عاليتين، الى المراجع الأجنبية المختلفة التي تناولت موضوع انتحار الكتّاب من قبل، وعدّدت تلك التي تمكّنت من الحصول عليها والاستناد إليها، في مقدّمتها وفي لائحة المصادر والمراجع على السواء.

تحسس التضاريس

للكتاب الصاعق الذي بين أيدينا خطة بالطبع، ولهذه الخطة مقدّمة أدبية/ علمية/ أكاديمية/ بحثية ذات هندسة دائرية (كدائرة الموت والحياة)، تطرح فيها حداد (القارئة والشاعرة والباحثة والمترجمة) كل ما يمكن أن يخطر في بال الآخر (وبالها) من أسئلة، ثم تجيب عنها: متى بدأ ذلك؟ كيف وقعتُ في حبّهم؟ لماذا كتاب للشعراء المنتحرين؟ أيّ شعر لأي شاعر؟ لماذا شعراء القرن العشرين تحديداً؟… هذا السؤال الأخير تجيب عنه الكاتبة بجواب ذي شقّين: الأول موضوعي، وهو الطموح إلى عكس تحوّلات بانوراما الشعر العالمي وتموّجاته وتنويعاته على مدى القرن الماضي، والثاني ذاتي، وهو انتماء جمانة حداد الشعري إلى هذا القرن. إذاً، نحن أمام محاولة استقراء وتحسس لتضاريس الشعر بوجهة نظر لا تخلو من “لوثة” سيكولوجية، برزت أكثر ما برزت من خلال التركيز، في انتخاب المختارات الشعرية، على النصوص التي تتمتّع بقدرة تنبوئية: “في الغد سيطلع الضوء على شاعر ميت”، “تلك الخطى الهادئة ورائي خطاك أيها الموت”… إلخ. أما الشعراء الذين انتحروا ولم يكتبوا شيئاً عن الموت فقد رجّحت حداد في اختياراتها كفّة النصوص الأكثر جمالية ودلالة على تجربة الشاعر ومسيرته ورؤيته الشعريتين. وتعترف حداد بـ”تحيّزها” العربي في هذا العمل، في معنى عدم إخضاعها الشعراء العرب المنتحرين (15 شاعراً) للتقويم الذي قام عليه التقسيم الثلاثي للكتاب. ربما انتصاراً لهذه الفئة القليلة و”الضالة” في بلاد فاق فيها عدد “الانتحاريين” عدد المنتحرين.

قبور حيّة

تكمن أهمية هذا الكتاب ايضاً في أن جمانة حداد ترجمت القصائد مباشرة عن الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية والبرتغالية، موضحة بدقّة “ضميرية” ونزاهة علمية ندرت في أيامنا هذه أنها استفتت مراجع ثنائية اللغة في ما يتعلق باللغتين الأخيرتين. والملاحظ أيضاً أنها حرصت على إيراد نصوص القصائد بلغاتها الأصلية زيادةً في الدقّة، شارحةً في “استطراد” طريقة عملها ومفهومها للترجمة. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نستعير لغة الشاعر هولدرلين لنقول إن حداد كانت “وفيّة في قلب اللاوفاء”.

من جهة أخرى، تفتح لنا الشاعرة نافذة في مقدّمتها على مجموعتها الشعرية المقبلة، “مرايا العابرات في المنام”، التي تصدر في مرحلة لاحقة، والتي “تنتقم” فيها شعرياً من معاناتها مع الشعراء المنتحرين طوال الأعوام الأربعة التي استغرقها إنجاز هذه الأنطولوجيا، من خلال ارتمائها الشعري في أحضان اثنتي عشرة شاعرة من المنتحرات في العالم.

في حديثه عن الحلاج يقول جان جينه إنه “يدفن اللغة وهو يبدعها”، في معنى دفن الدلالة المتداولة ثم إحيائها دلالةً جديدة مدهشة. وقد علّق الشاعر والناقد ممدوح عدوان على ذلك في كتاب “هوامش الشعر” بالقول: “الشاعر يدفن اللغة المتداولة، ويستخرج لغته الخاصة به. ثم يأتي المترجم فيعود إلى القاموس بحثاً عن المعاني. أي أنه يعود إلى القبر الذي كان الشاعر قد دفن اللغة فيه، ليستخرج الجثة ويعيد التعامل معها”. في كتاب جمانة حداد ثمة نبش لقبور كثيرة بالطبع، لكنها قبور شعرية ساخنة لها نبض ومزاج وفتنة. قبور لها دورة شعرية ولغوية ودموية على السواء… وأكثر: قبور حيّة.

(عن “النهار”)

◄ لقراءة حوار مع الشاعرة جمانة حداد حول الكتاب نفسه:

http://www.jehat.com/Jehaat/ar/Ghareeb/JoumanaHadad.htm

◄ موقعا الشاعرة جمانة حداد:

www.joumanahaddad.org

www.joumanahadad.com

عن زينب عساف

شاهد أيضاً

” هجر و حنين ” للكاتبة رضا الباز

رضا ابراهيم الباز موهبة شابة صاعدة طُبعَت على حسابها الشَّخصي،كتاب (هجر و حنين ) يقعُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *