الرئيسية / كتب وأصدارات / صورة العراقي في الرواية العربية

صورة العراقي في الرواية العربية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صورة العراقي في الرواية العربية

 

 

 

 

 

 

 

 

زهير إلهيتي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان اليوم الذي حصلت به على جنسية أجنبية,يوما حاسما في حياتي..أحسست فيه أولا بالفراغ الذي يلفه الصمت المطبق..حافي القدمين أدوس أرضا جديدة من الكلمات!

منها الوعر المؤذي ومنها الناعم..ومنها ما شيبه مستنقع الرمال المتحركة..منها الندي كمياه الأنهار البكر التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة.

ما معنى أن أكون شخصا آخر..ليس أنا؟

في صباح اليوم التالي نظرت إلى وجهي في المرآة..شيء ما مفقود!..أم أني أتخيل؟.. أستغوتني فكرة الغوص إلى أعماقي والبحث عن الشيء المفقود أو جذوري,وللإجابة على سؤال لم يكن يعنيني قبل الأمس..من كنت؟ وبالتالي من سأكون؟..الحاضر بالنسبة لي لم يكن موجودا..صعب العثور عليه أن وجد أصلا.

صور قديمة مشوشة من الماضي مع كم كبير من الذكريات النائية وأخرى بلا ملامح مجهولة..من المستقبل!

نظرت إلى مكتبتي المتواضعة محاولا الاستنجاد بعناوين الكتب فيها لاستحضار الماضي..لم تكن العناوين عربية خالصة,كان فيها الكثير من العناوين التي كتبت باللغتين الانكليزية والألمانية وهذه كانت تدفع بي بقوة وحيوية نحو المجهول!

لم تسعفني المحاولة.

عاودت البحث في أعماقي عن بقية هوية ممزقة,تساعدني للعثور على جواب لسؤالي..من كنت؟

بابلي..عربي..أم عراقي!..لاشك أن أخر هوية كنت احملها تقول لي باني كنت

1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عراقي..لكن السؤال الصعب..هل كنت كذلك حقا؟..وان كنت فعلا..فمن هو العراقي!

أنا لم أكن اعرف هذا المعنى من قبل..لم اعرف ما هو أن أكون عراقيا فقط!

هل يعني هذا..حب الأرض..الأهل,الجيران,الطبيعة ,المدينة!؟..كل هذه أشياء عمومية تعني شيء ,وان أكون عراقيا شيء أخر تماما ولابد.

عدت بتكاسل ثانية إلى مكتبتي..هل أواصل البحث عن المعنى الذي بات يقلقني بين دفاتر رسائل أخوان الصفا أم في رحلة كلكامش الأسطورية والتي ما تزال تشدني نحو أوروك!..في مؤلفات الطبري أم في شعر السياب..شيء محير فعلا!

لم اكتشف عمق مأزق الهوية – التي كنت احملها- ألا بعد التخلي عنها.

أن الغرب الذي انتمي أليه ألان لا يستطيع أن يحدد لي هويتي التي كانت,لكنه يحدد لي هويتي القادمة..أو هكذا أتخيل ألان. أما الماضي فالصورة عائمة تماما,يمكن لها أن تتمدد من باكستان إلى المغرب ومن الممكن أن تتقلص وتتحدد بمدينة بغداد فقط!..

لكن ماذا عن العرب!..كيف كانوا يحددون هويتي كعراقي ويعكسون ذلك التصور على أدبهم مثلا؟

قررت أولا أن ابحث عن صورتي في أدبهم..ابحث فيها عن كل ما هو عراقي علي أرى صورة لهويتي الغائمة,لعل الغيوم تزول واراها  بوضوح..ممكن..مجرد محاولة ممتعة في النهاية!

برلين        6.2.05

2

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واسيني الأعرج..

كان الكتاب الأول الذي استللته من المكتبة هو-وقع الأحذية الخشبية- للكاتب الجزائري واسيني الأعرج.والصادر عن ( دار منشورات الفضاء الحر) في طبعته الأولى ببيروت عام 1981 والذي يقع من 385 صفحة من القطع المتوسط

أنها قصة حب,أو قصص حب متداخلة بين شخوص متعددي الجنسيات  والأديان

كلهم عرب..والأحداث تدور في سوريا.الكثير من النقاد ارتأوا بان هذا العمل هو رواية للسيرة الذاتية للكاتب الجزائري,لكن المؤلف رفض هذا التفسير وأنكره..

ما يهمني في هذا العمل الروائي,هو الحضور العراقي,الذي كان هامشيا بشكل كبير وممثلا بشخص واحد وبلا اسم!

انه اقرب إلى الديكور (اليساري) في عمل يضج بالرفض الثوري للواقع العربي السيئ كما يرى المؤلف..وهي أفكار كانت سائدة في منتصف القرن الماضي في العالم كله ومنه العالم العربي الذي يقع على حدود المركز الأوربي,وذات التوجه الاشتراكي المتأثرة بثورة أكتوبر الروسية,كما النتائج التي تلت الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين..اشتراكي ورأسمالي.

الجزائر مثلا من البلدان العربية التي تأثرت كثيرا بهذه الأفكار الاشتراكية وخلفيتها حرب التحرير الضارية التي خاضتها مع المستعمر الفرنسي,كما حداها أمل وإحساس كبير بالعدالة الذي استحوذ على جيل الثوار الأوائل..وجميع الكتاب الجزائريين وخصوصا منهم الذي كتب باللغة العربية,كانوا الأشد التصاقا بهذه الأفكار..أردنا بهذه الخلفية السريعة أن نسهل عملية أدراك طبيعة تفكير الكاتب

3

 

 

 

 

 

أذا من الطبيعي أن يكون العراقي الوحيد الممثل في الكتاب..وان كان بلا اسم.

يساريا..شيوعي مثلا..انه شاعر,وهذه صفة التصقت بالعراقيين الهاربين من بطش السلطة العراقية,خصوصا بعد انهيار الجبهة الوطنية وهروب نخب المثقفين العراقيين إلى دول الجوار قبل انتقالهم إلى المنافي البعيدة في أوربا وغيرها,لعدم إحساسهم بالأمان,خصوصا وهم يدركون قبل غيرهم هشاشة الأنظمة العربية التي (تحميهم) وعدم وجود المؤسسات الشرعية التي تمنحهم حقوق اللجوء المتعارف عليها في العالم الغربي,فهم يدركون بأنهم قد يذهبون قربانا لأول باردة  تقارب سياسي مع النظام العراقي!

العراقي يعمل في محل صياغة بأحد الأسواق الشعبية بدمشق (كان يوما جميلا حين نزلنا إلى السوق الشعبية للصناعات الحرفية وطلبنا من صديقنا الشاعر العراقي أن يختار أجمل صفيحة ويضع اسمك عليها بإتقان-381) هنا العراقي شخصية مبهمة..شاعر يعمل في محل صياغة..هارب من بطش السلطة في بلده (تنام بهدوء صفيحة فضية كتب عليها,اسمك بخط كوفي جميل:مريم.نحتها شاعر عراقي صديق لنا يعمل مع صائغ في الحميدية,هو لا يعلم أن كان وطنه قد فشل في حبه أم انه من كثرة اندفاعه نحوه بدا أنانيا أكثر من ألازم ومشاكسا أو انه الوحيد الذي يعرف كيف يحبه؟..وجد نفسه ذات ليلة يقطع الصحارى والاهوار بحثا عن مخرج من المقتلة وهو لا يعلم بالضبط لماذا يريدون قتله.يحدث لنا من كثرة حبنا أن نتحول إلى دكتاتوريين صغار في أشواقنا ونعمى عن التصديق بان للآخرين كذلك قلبا مثلنا-55)

4

 

 

 

 

هنا يشير الكاتب إلى المأزق الخطير الذي مزق العراق السياسي,اثر انهيار الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي الحاكم,وتنكيل الثاني بالأول..(مخرج من المقتلة).لكنه لم ينجح في أعطاء هذا الحدث المهم لضرب أقوى واكبر الحركات اليسارية في العالم العربي حقه من الأهمية..بل مر عليه مرور الكرام..وكأنه حدث يجب علينا استيعابه بشيء من الامتعاض والقدرية السلبية!

(شيء ما في المدن العربية يجعلها حزينة دوما حتى وهي في أقصى لحظات الفرح-111). أن أعطاء الكاتب لشخصه العراقي,الهش وغير المسمى,صفة الشاعرية,هي في الحقيقة لإعطائه صفة أخرى يتميز بها الشعراء,القلق,بل أحيانا عدم الجدية!..(( والشعراء يتبعهم الغاوون-قرآن كريم))..عدم الاستقرار وتقلب المزاج,كما انه(أناني أكثر من اللازم)..و(مشاكسا) هارب من (المقتلة) وأخيرا منفي وذليل,فهو شاعر يعمل في دكان صياغة بسوق شعبية!..وبالرغم من انه هارب ومنفي ومطلوب للقتل في بلده,لكنه لا يعرف (بالضبط لماذا يريدون قتله)

ثم يحاول الكاتب أن يحدث مقارنة بين الضحية والجلاد,فيتحول الأول إلى دكتاتور يدافع عن بلاده بدافع خير(الحب الأعمى) والثاني في مركز الأول,

الشيوعي كالقومي!..يتبادلان ادوار الحب والقتل..الضحية والجلاد..لا توجد

حلول وسطية..وهنا يقترب بشكل كبير من صفة جوهرية في شخصية الفرد العراقي المتخيلة في الذهنية العربية..التطرف!

5

 

 

 

كما ويضفي صفة السلبية على العراقي والعربي عموما عندما يقول..(في بلداننا,كلما سقطت حجرة لا احد يرجعها..تبقى هناك في مكانها حتى تلحق بها أختها,وهكذا إلى أن يندثر المعلم نهائيا-113). وأخيرا صفة القدرية المقرونة بنظرية المؤامرة الشهيرة التي سيطرت على العقل العربي ردحا طويلا من الزمن ولا تزال..

( الإنسان العربي هكذا,يولد ويموت في الهم,وكلما رأى شعاعا صغيرا في الأفق,شعر بتخمة من السعادة,وعندما يقترب يصفعه السراب القاتل.الإنسان العربي لا يعرف انه كلما خطا خطوة إلى الأمام متحاشيا المزالق السابقة,وجد في طريقه من يأخذ بيده ويزج به نحو الحفر والمدافن-125)

وأنا اتسائل..ترى من اخذ بيد العراقي نحو الحفر والمدافن..الآخر الغريب..أم كما يقولون..هذا ما جنته يداي؟!

 

6

 

 

 

 

عبد الرحمن منيف

صدرت الطبعة الأولى من ثلاثية(ارض السواد) عام 1999 عن دارين للنشر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) و (المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع).

أن الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف,يقف في الصف الأول للروائيين العرب,وان كتابه هذا,هو في الحقيقة بحث مضني عن هوية العراقي المستلبة

بل نذهب ابعد ونقول بأنه ربما كان محاولة من الكاتب للبحث عن جذوره الممزقة والموزعة-جغرافيا- بين عدة مدن ولا نقول دول!..تصل مكان الولادة بالمنفى..أو المهجر كما يحلو للبعض تسميته!..فهو من أم عراقية وأب سعودي ولد في عمان ومات في دمشق..سحبت منه الجنسية السعودية,وعاش في مدن عديدة منها,بغداد والقاهرة وبيروت ولندن وباريس..فالاضطهاد الذي لاحقه بسبب اعتناقه لأفكار سياسية معينة وآمن بها,جعلت منه شخص ممزق الانتماء ومعدوم الهوية..لهذا اختار الهم العربي خيارا نهائيا وبدا سلسلة من الكتب الروائية التي تتناول هذا الهم,حتى يمكن لأي قارئ عربي في أي بلد,أن يقرا روايات منيف ولا يتطرق أليه الشك بأنها تتحدث عن بلده,ففي النهاية كلنا في الهم سواء..وربما هذه هي المنطقة الوحيدة التي نلتقي بها متساوين..صامتين.

أن رواية(ارض السواد) ذات النفس الطويل- 1394- صفحة وعلى ما فيها من هنات أدبية,وهذا شيء لسنا بصده,ألا أنها مكرسة للعراق والعراقيين,ويمكن تسمية هذا السفر بالمرثية..مرثية الأرض,الطبيعة,الناس..الرثاء بمفهومه

7

 

 

 

العام الذي يتحول في أقصى لحظات التأزم إلى سيمفونية وجع حزين.انه الرثاء بمفهومه الشامل الذي يكرس السلبية,فعلى هذه الصفحات الممتدة على الوجع العراقي لأكثر من ألف صفحة,نرى إنسان-عراقي-مغلوب على أمره,يرى ما يحب ينهار أمامه..يبكيه..ويعلن العجز التام وعدم القدرة أو ربما الرغبة في البناء ثانية..ولو ترك له الأمر لما عاود البناء ولفضل البقاء في الأطلال ملتصقا بالذكريات!

لكن هناك دائما..حاكم..رغبته على العكس من رغباتهم..قادم من وراء الحدود أو من الداخل..يحمل الطموح لبناء صرح جديد من المدن العراقية القديمة المتعبة ليخلد نفسه وينقش  على أنقاضها اسمه!

فهنا على –ارض السواد-كانت ملحمة الخليقة الأولى,وخلدت أسماء أوائل الآلهة والمغامرين والطامعين والمجانين,وبكثرة غير اعتيادية..الحكام الجبابرة!

تدور أحداث الرواية الثلاثية في العديد من المدن العراقية.لكن بغداد تبقى الساحة الأمامية والنهائية المؤثرة..كانت ولا تزال..فهي ساحة الصراع بين الحاكم والمحكوم,بين الحكام وناسها,بين ناسها وناسها!..تدور أحداث الرواية في بداية القرن التاسع عشر.في عام 1817 وفيه يتولى الحاكم الجو رجي داود باشا حكم البلد بتكليف من الأستانة العثمانية..

يحاول منيف في هذا العمل الغوص بعيدا في نفسية العراقي والبحث عن جذور هويته الممزقة والضائعة بين الانتماءات الكثيرة..التاريخية منها والقبائلية والعرقية,الدينية والمذهبية..مستعينا بنصفه العراقي من ناحية أمه للخوض

8

 

 

 

 

في هذه المغامرة الجريئة..فلقد حاول أن يلمس جذور هذه الشخصية القلقة..

المتلونة..المنغلقة,الصعبة على الباحثين!

خلال الحكم العثماني للعراق,كان فيه البلد مقسم ادريا إلى ثلاث دويلات

(وهي كذلك إلى يومنا هذا)..من هنا يبدأ منيف محاولة أمساك هذا الطرف وربطه بذلك في جهد والحق يقال خارق..لكن هذا لا يعني أن جهده الخارق هذا قد أصاب في محاولته!..فإذا أراد المؤلف مثلا الوصول إلى جذور الألم في نفسية العراقي والحزن الدائم المهمين عليه,فان عهد الاحتلال العثماني للعراق يبدو متأخرا جدا في محاولته العنيدة للغوص إلى عمق الأعماق..كان عليه مثلا أن يذهب إلى هناك..إلى أور مثلا..صحيح انه استشهد في بداية مؤلفه بالنصوص القديمة,وكان استشهادا موفقا,لكنه لم يفعل كما فعل نجيب محفوظ عندما غاص إلى أعماق الشخصية المصرية في(ارض طيبة)و(البعث).عموما هو اختار العصر المتأخر نسبيا من المأساة المستمرة لهذا البلد وتلك الشخصية,فكان الاحتلال العثماني,لكن السؤال,أي حقبة من هذا الاحتلال ألظلامي الطويل؟..لقد اختار زمن المحاولة المتنورة التي قام بها داود باشا الذي كانت تحدو به رغبة جامحة لبناء دولة عصرية في مفهوم ذاك الزمن,مقلدا فيها محاولة مدحت باشا في مصر..لكنه,داود باشا,يصاب بخيبة كبيرة لان الشعب الذي جاء ليحكمه على أجنحة أحلام العظمة,لم يكن على استعداد للاستجابة لكذا عملية تحديثية جريئة في معانيها وتفاصيلها..فهو لم يجد أمامه سوى ركام أنساني منهار..سلبي..

متشائم لم يكن يملك على الإطلاق الاستعداد الكافي للقيام بمهمة مساندة هكذا

9

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مشروع تحديثي صعب. لقد وجد أن العراقي لا زالت تتحكم فيه عقلية العبيد التي تمتد جذورها إلى هناك..إلى حيث الأبعد من تاريخه..بل من الممكن أن نقول أنها لا تزال تتحكم به إلى حد ألان!..بل انه من الشعوب الأكثر عراقة في إحداثيات نظرية الاستبداد الشرقي والمجسد لها بشكل تراجيدي في أحيان كثيرة وتفاصيل أكثر..والتي يكون هو فيها أول مفرداتها الحزينة والدموية.

أن الصراع الذي حدث في ذاك الوقت-القريب البعيد- كما أراد المؤلف أن يصوره,وهو كذلك,هو صراع طموح أجنبي على ارض عراقية,أهم مفرداتها الإنسان العراقي نفسه..فداود باشا الجو رجي الأصل,والمعين من قبل السلطان العثماني,يدير صراعه (الحضاري) أو مشروعه التحديثي في العراق ضد ريتش القنصل البريطاني الجالس في الباليوز,وهي مفردة ايطالية تعني القنصلية البريطانية,وهو شاب طموح متسلح بالعلم والتكنولوجيا والتطور الحضاري,والاهم من ذلك القوة العسكرية الساحقة حيث تقف خلفه الإمبراطورية البريطانية أقوى قوة في العالم آنذاك..أن داود باشا كان يحلم أن ينفرد بحكمه للعراق وبالتالي الاستقلال به عن المركز-اسطنبول-وتأسيس سلالة حاكمة في بلد لا تربطه به سوى هويته الدينية-الإسلام- لكنه يصطدم بقوة أجنبية –بريطانية- كانت تعد العدة أيضا لضم العراق إلى الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وبالتالي ربطه بمركز جديد هو لندن.العراقي هنا بالتأكيد هو المتفرج,ومساهم بقدر صغير,والسبب هو أن أي من أطراف النزاع لا يثق به ولا يستعين به ألا في حالات معينة مثل التجسس على الطرف الأخر!..لكنه بالتأكيد هو الضحية

10

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في كل الأحوال,فهو قدري التفكير والطابع..سلبي تماما..ينتظر والذباب يمشي على وجهه,مشروع من سينتصر في النهاية ليمارس هوايته الأزلية في التصفيق والانحناء للمنتصر والانقضاض على الخاسر لتمزيقه..بالرغم من أن هذه الصراعات كانت ولا تزال تدور على أرضه ومن اجلها وهو أول وأخر ضحاياها!

لقد كان المتخيل جميلا في رواية ارض السواد,عن حياة العراقي في تلك الحقبة التاريخية,والتي لم تتغير كثيرا لحد ألان!..بل أنها تكاد تكون تواصلا مملا قاتلا

وكأنها ظاهرة طبيعية لا ينالها التغيير كشروق الشمس وتبادل الأدوار بين الليل والنهار!..ففي الواقع لا يزال العراقيون يعيشون بنفس الطريقة التي وصفها منيف..وكما قلنا مستعينا بنصفه العراقي والمستمدة من الأحياء الشعبية في بغداد والتي من المؤكد أن المؤلف قد زارها وخالط سكانها..وإذا كانت العادات وأسلوب الحياة والتقاليد لم تتغير كثيرا,فهل من المتوقع أن ترى تغيرا في سلوكية الشخصية العراقية؟..وإذا كان الصراع الأجنبي الذي تدور رحاه منذ ذاك الزمن على أرضه قد أنهكه حد الموت,فما بقي لديه ليعطيه؟

العراقي لا يملك أكثر من الأمل بحياة أفضل,وهذه هي أقوى أسلحته,انه ليس املآ بتغيير يقوم هو بابتكار مفرداته,لكنه أمل سلبي بان يأتي التغيير على يد الآخرين,حتى ولو كانوا قادمين من وراء الحدود!..فمن يقرا تاريخ العراق بعد انهيار الإمبراطورية العباسية,يجد أن العراق قد تقلب طويلا على جمر الاحتلال الدوري للدولتين الأجنبيتين الكبيرتين المجاورتين له,ونعني بها تركيا وإيران..

11

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فبعد أن تخلص من حكم العرب الطويل له,جاء دور الصفويين الشيعة-إيران-

والعثمانيين السنة-تركيا- حتى بدأنا نألف رؤية صورة استنجاد العراقي السني بالعثمانيين لنجدته وإنقاذ مقدساته من حكم الصفويين..والعراقي الشيعي بالصوفيين لحمايته وإنقاذه من حكم السنة!..كل هذا الصراع الطائفي جاء على حساب جثة مفردة مهمة في قاموس البلدان الحية واندثارها بشكل شبه نهائي في العراق,وهي كلمة (وطن)!..فلم يعد العراقي يرى وطنه بحدود العراق الجغرافية,لكن بحدود هويته الدينية المذهبية,والعراق بالنسبة أليه,مكان يستقر به وينتظر فيه..خائف باستمرار من التغيير وغير قادر عليه,ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد,بل استمر إلى يومنا هذا!..فقد أدى الاعتقاد الخاطئ والراسخ في ذاكرة الشعب,بانتظار التغيير والنجدة من الخارج,إلى مساندة الانكليز خلال اجتياحهم لبلدهم لكي يخلصهم من الاحتلال العثماني الثقيل,وفي هذه المرة سجل الشعب ظاهرة غريبة هي الاستعانة بالآخر المغاير للهوية الدينية لأغلبية الشعب والمتعلقين بها!..فالآخر هذه المرة هو المسيحي القادم لهم من وراء البحار..ثم يعاد نفس السيناريو في بداية القرن الواحد والعشرين أي بعد مئة سنة,عندما جاءهم هذه المرة الأمريكان ,مصحوبين بنفس ذاك الدليل القديم ,الانكليز , ليخلصهم  من حاكم عراقي مستبد لم يقدروا أيضا على التخلص منه بأنفسهم..أي انه نفس ذلك الانتظار السلبي والأمل الكاذب بيوم أفضل اقل عنفا وخسارة..كما لم يلعب العراقي نفسه أي دور في التغيير الذي حصل.فدوره كما دائما محدد وهامشي وسلبي..هناك وهنا..لقد اثبت لنفسه أن إرادته معطلة تماما,وانه غير قادر على

12

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحديد مسار مستقبله ومستقبل أجياله,تاركا ذلك أبدا إلى الآخرين,وهو يدرك ذلك جيدا وان كان لا يجاهر به تكابرا!..لهذه الأسباب نراه يجيد تماما أصول لعبة الانتقام التي تمرس عليها طويلا..فبعد انهيار هذا الحاكم أو ذاك,تبدأ اللعبة المبهجة التي يتقنها..هي الانتقام من كل الآثار التي تذكره بماضيه الخانع,ولهذا السبب وبرغم تعدد الحضارات الكثيرة التي سادت ثم بادت في العراق,لا يوجد به آثار كبيرة كما في بقية الدول التي شهدت مثل هذا التنوع الحضاري كمصر أو المكسيك أو الهند!..بل لقد وصل الأمر أثناء الاجتياح الأمريكي الأخير للبلد أن لعبة الانتقام أخذت أبعادا جديدة في أصول اللعبة التي يجيدها,فاخذ يعتدي على الذاكرة الوطنية للبلد وتاريخه البعيد والقريب..امتدت حملته الهوجاء إلى المتاحف والمكتبات ونبش القبور لسرقة الآثار وقطع الحلي الذهبية المدفونة منذ آلاف السنين حول معاصم الأميرات البابليات ورقاب الملوك الأشوريين..ففي مشهد مؤثر بثته كافة وكالات الأخبار أثناء فوضى سقوط بغداد,لشاب عراقي في منتصف العمر وهو يحمل قطعة من الحديد يهشم بها احد التماثيل في متحف صدام للفنون وهو من أرقى المتاحف وأجملها بالرغم من بشاعة الاسم!.. وعندما سئل عن السبب صرخ في المذيع ووجه يندفع إلى وسط الشاشة(مالتنا..) أي انه لنا!..والسؤال أذا كان يدرك انه له,فلماذا يحطمه؟..أن الانهيار المريع والهستيريا الجماعية التي اجتاحت العراق بعد زوال نظام سلطة الخراب على يد الأمريكان مؤشر خطير وجديد في سلوكية الفرد العراقي لا تحمد عقباه..أن الخراب النفسي للشخصية العراقية أصبح شبه كامل ومتقن في تشويهه وأخيرا وهذا هو المهم..

13

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مخيف!..والسؤال الذي يحير جوابه..هل ثمة أمل في الإصلاح؟

أن ثقافة الفر هود موجودة بقوة وحضور لا يمكن التغاضي عنه..لها جذورها في النفسية العراقية,هي ميراث الصحراء وثقافة الغزو التي ادخلها العرب القادمين من الصحراء وأصبحت بالتالي جزء من تكوين التركيبة النفسية للعراقي..فان الغزو من تقاليد الصحراء وهي نفسها بمقاييس هذا الزمن من تقاليد اللصوص,فالبدوي الذي لا يغزو هو ليس بفارس نبيل وبالتالي فهو جبان!

بالمناسبة أن أكثر العراقيين يعتزون لحد ألان بجذورهم البدوية ويفخرون بألقابهم التي استمدوها من العرب القادمين أليهم قبل أكثر من ألف سنة!..والمفجع بالأمر أن هذه التقاليد الغير أخلاقية لا زالت تدرس إلى تلاميذ المدارس على أنها تراث يعتز به!..فمثلا أسطورة الفارس المغوار(عنترة ابن شداد)الذي أراد الزواج من ابنة عمه(عبلة) ورفض طلبه لكونه اسود اللون وابن غير شرعي,من قبل أبيها,

لهذا فرض عليه مهر تعجيزي(ألف من النوق العصافير)وهي نوع من أنواع الجمال الغالية الثمن من غيره لا يتحقق الزواج,وهنا قام الشاب الأسود بالإغارة على عدد من القبائل المجاورة ولكونه فارس مغوار,استطاع جمع هذا المهر ألتعجيزي وساقه إلى أبيها وتم الزواج!..المأساة تكمن من أن هذا السارق والقاتل يصبح مفخرة ليس لدى العراقيين وحدهم,بل عند امة العرب كلها!..كذلك يعتبر من أهم شعرائها!..أسطورته راسخة في الذاكرة والوجدان العراقيين,تبرران السرقة والعنف واللصوصية وعدم احترام القوانين فالقوة هي القانون الوحيد الجدير بالاحترام,وكذلك تمزيق الروابط الأخلاقية الإنسانية مع الآخر المخالف

14

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وإحلال بدلا عنها هذه الأمراض الصحراوية القاسية..ليس هذا وحسب,فعنترة بطل قومي تعاد قصته بأشكال مختلفة,عبر مجلات الأطفال وأفلام الكارتون والمسلسلات التلفزيونية والأفلام وتحفظ أشعاره وتغنى!

هذا مثل واحد من أشكال عديدة تعمم القيم الغير أخلاقية وتبثها في الذاكرة العراقية وأفقدتها الكثير من العقلانية والمنطق..أنها ثقافة مرعبة ساهمت وتساهم بشكل كبير في تدمير القيم الأخلاقية في الشخصية العراقية واستباحتها واغتصابها.لقد حاول الكثير من الكتاب القوميين أن يزوقوا هذه الثقافة المرعبة ونجحوا للأسف إلى حد بعيد في تسويقها ,كما يحاول اليوم أجيال مستنسخة من نفس اؤلئك –الكتاب القوميين- أن يوجهوا أصابع الاتهام إلى المحتل الأمريكي بعد استمرار مسلسل الفرهود العراقي ضد الدولة ومؤسساتها بعد الاجتياح,كون أن الأمريكان لم يهتموا كثيرا بحماية المتاحف والمكتبات بقدر اهتمامهم بحماية وزارة النفط مثلا!..وهناك من ذهب ابعد من هذا واتهم الأمريكان بأنهم قد تركوا عن قصد هذه الأماكن بدون حماية وشجعوا الرعاع والدهماء لاقتحام هذه الأماكن واستباحتها ومن ثم حرقها!..قد يكون هذا (صحيحا)!..لكن هل هذه هي كل الحقيقة؟..هل كان مطلوبا من الأمريكي القادم من وراء البحار أن يحمي الذاكرة العراقية من الدمار وممن؟..من العراقي نفسه!؟

من سرق المتاحف وحرق الكتب ورقص في الشوارع على أشلاء موجودات الدولة العراقية,التي هي في النهاية دولتهم,أو يفترض!..من سرق وحرق المدارس والبنوك والوزارات ومؤسسات الدولة العراقية..المساجد والكنائس..

15

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنهم هم أنفسهم الذين كانوا يجتاحون بغداد والمدن العراقية الكبرى بعد وفاة كل خليفة(حاكم)وتنصيب آخر إلى أن أصبح ذلك طقسا من طقوس التتويج,موت الحاكم-في الغالب مقتولا- يليه فراغ سياسي وامني قصير,تستباح فيه المدن الآمنة ويروع ناسها من قبل الرعاع,ينصب حاكم جديد-في الغالب القاتل- يعيد الآمن بالقوة إلى المدن المنهوبة المستباحة,حتى يعترف له الجميع بالولاء.. الم يفعل هذا صدام حسين حين قام بغزوته الشهيرة لضم الكويت بالقوة إلى العراق!

الم يسهل نقل نفس الرعاع إياهم وهيئ لهم كل المواصلات المتاحة من طائرات إلى سيارات الأجرة لمهاجمة المدن الكويتية الآمنة وتفريغها من محتوياتها؟..

واهتم رؤوس النظام بسرقة البنوك وبيوت الأمراء والمؤسسات الحكومية؟..الم يرقص الشعب وطبل وزمر,مثلما سجد اليهود ذات مرة إلى العجل الذهبي بعد غياب موسى,وهم يسرقون الكويت!..الم تنطلق السنة الشعراء الحاضرة في كل نكبات العراق,لتمجيد هذه الغزوة كما كان يفعل أسلافهم في الصحراء قبل أكثر من ألف عام؟..أن الذين سرقوا بيوت اليهود في فرهود عام 1941 وبيوت الكويتيين في فرهود 1991 هم أنفسهم الذين سرقوا العراق كله في الفرهود الأكبر الذي تعرضت له بغداد بعد الاجتياح الأمريكي عام 2003 !

صحيح أن الكثير من مسؤولية الفوضى والفراغ السياسي يتحمله الأمريكان,لكن هذا لا يكفي أبدا أن نلقي اللوم كله عليهم وتبرئة الفرد العراقي من بشاعة تصرفه وتبريرها,فنحن لم نشاهد الفرنسيين مثلا وهم يهشمون جدران متحف اللوفر لسرقة محتوياته وبيعها على الأرصفة في عواصم الدول المجاورة,بعد الاجتياح

16

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الألماني لهم واحتلالها وسقوط الدولة الفرنسية,أو قراءنا بأنهم هاجموا مكتباتهم واحرقوها أو يسرقون التماثيل الموزعة في شوارعها!..أن عملية الإعدام الهمجي الذي مورس على الذاكرة العراقية يتحمل جزئها الأكبر الفرد العراقي نفسه,حاكم ومحكوم,وذلك بسبب عدم توفر أساسيات الوعي وبسبب غياب الحس الوطني والدمار الأخلاقي الذي انتهى أليه.

طبعا هناك الكثير من الشخصيات الرجالية والنسائية في هذا العمل الملحمي ومن مختلف الأعراق والأديان,ولقد حاول المؤلف إضافة نوع من التميز على كل شخصية..أحلام خاصة,تصرفات مختلفة ,طبقات متمايزة اجتماعيا,سلوكيات متناثرة من أقصى الشر إلى أقصى الخير,لكنه في النهاية كان مكبلا بالحدث التاريخي والالتزام بسياقاته,لهذا لم يستطع أن يخرج العراقي من محيطه المتخلف,حيث لم ترتقي شخوص منيف إلى مرتبة أعلى كما كان يحاول أو يريد.كإخراجه من محيطه المتخلف. ماعدا شخصية-بدري-لكنه اجبر في النهاية إلى قتل هذه الشخصية الايجابية لكي يخبرنا أن الشذوذ لا يخرج عن حدود القاعدة,أي لا مخرج للعراقي من عبوديته الأزلية.

هناك الكثير من الفعالية الايجابية في تكوين الشخصية العراقية في ثلاثية ارض السواد.فهو يبدو ذكي,متوقد,عارف بأصول اللعبة السياسية الدائرة في البلد,يقدر الخير ويكره الشر,راغبا في التغيير الايجابي..لكن!..كل هذا يبدو محاطا بدائرة وهمية محكمة الإغلاق,كأنها القدر الذي لا يستطيع منه فكاكا!..فالطباع السلبية التي تطبع عليها العراقي طوال عهود القهر السياسي والإنساني,ورسوخ عقلية

17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العبيد في تفكيره,منذ أن هربت الآلهة القديمة من الأرض إلى السماء وبداية ظهور أنصاف الآلهة من البشر,فالملوك والكهنة,ثم الخلفاء ورجال الدين,الذين كانوا وما يزالوا يفسرون الدين أو الأديان كل بحسب انتمائه العرقي أو الطائفي وحسب رغباتهم الدفينة,جعلت من العراقي متلقي غير عادي مكبل بقيود الطبع غير قادر على كسر الدائرة الجهنمية التي أحكمت طوقها من حوله..أي أن الصفات الايجابية التي أسبغها المؤلف على الكثير من شخوصه وهي صحيحة,لم تنجح في النهاية من تغيير المعادلة وإخراجه من الدائرة,فبقي مستسلم للحاكم الجائر,كما استسلم للفيضان الذي كان يكتسح كل منجزاته بلحظة واحدة ويتركه عند نقطة الصفر من جديد..وأبقته تابع سلبي لمنصب الحاكم ورجل الدين وكثيرا ما يتمازج الاثنان,ليصبح المتلقي والوسيلة في نفس الوقت. أن رجال الدين,الذين كانوا وما يزالوا على استعداد مخيف للي ذراع أي ديانة وتطويعها لرغبة الحاكم ثم جعل التعاليم الدينية كالاسواط الحديدية,تلهب ظهور الجموع العراقية منذ كانوا ولحد ألان,وجعلهم أناس غرائزيين وليسوا عقلانيين بعد أن حرم عليهم التفكير!..توقفوا عند مرحلة عمرية معينة من تاريخ النمو الطبيعي للأمم والشعوب,وحتى بعد انهيار سلطة الخراب الصدامية على يد الأمريكان,سارع رجال الدين إلى تطويق مرحلة يمكن أن يستشف منها بداية استرداد للوعي المفقود,وأعادوهم إلى تلك التبعية وحولوا الانتخابات الحرة الوحيدة في التاريخ العراقي القديم والحديث إلى بازار ديني طائفي,معلنين فيها للمرة ألاف عدم قدرتهم على النضوج الفكري وحاجتهم الماسة إلى مجتمع

18

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بطريكي لحين وصول الحاكم الجديد الذي سيبدأ معهم دورة جديدة من الدورات التي اعتادوا عليها ليلهب ظهورهم بسياط الظلم منتظرين لحظة سقوطه لتمزيقه,فهم أعلنوا في هذه الانتخابات عدم قدرتهم على تجريب طريق آخر للوصول إلى الحرية الإنسانية التي يستحقها كل البشر في كل مكان من الأرض.أنها دليل آخر وآخر على تبعية هذا الشعب وعدم نضوجه الفكري,وهي تبعية لا تعطي أي دليل عافية عما كونه لا يزال جسد ينبض بالحياة,انه كالراقد في الكوما,ينتمي إلى الحياة ولا يفعل!

استطاع منيف أن يرسم صورة جميلة للتنوع العراقي أو ما يعرف بالموزاييك العراقي,وفي النهاية هو تنوع مثير للدهشة,أديان مختلفة,أعراق متباينة,إشكال لا تتشابه,عادات كثيرة..تجانس وتنافر..وهذا التنوع المثير مهم في تكوين الشخصية العراقية,ولو لم يكن عبد الرحمن منيف ذا نصف عراقي وعاش في العراق سنوات طويلة لما استطاع أن يرسم هذه الصورة الدقيقة والجميلة لهذا التنوع, خصوصا منه الديني,فالحضور الديني يمتد في العراق إلى سنوات بعيدة جدا, استطاعت الأديان الثلاث الكبرى,اليهودية والمسيحية والإسلامية,بالإضافة إلى الملل والنحل المتفرعة عنها,أن تعيش بسلام مدهش في هذه البقعة الجغرافية,وكان العراقيون قد رسموا حدودا غير مرئية بمهارة فائقة,تجنب أي احتمال للاصطدام بين الأديان على أرضه.

كان صراع الإمبراطورية البريطانية مع العثمانيين وحاكمهم داود باشا للاستيلاء على ارض السواد,هو دورة جديدة من دورات العنف الذي تجتاحه بين الفترة

19

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والأخرى كنوبات مرض الصرع..لتتركه بعدها ممزقا خائر القوى,ويستطيع المتتبع للتاريخ العراقي أن يرصد بوضوح هذه الدورات العنيفة التي تجتاحه كالأعاصير,ولا يعرف العراقيين بأي وقت تضرب كيان البلد شبه المستقر وتهزه بقسوة لترميه أرضا يفرز الزبد والدم من فمه,والدموع في عينيه..

فمنذ البدء ولحد ألان يملك العراق تاريخ طويل ومنتظم من دورات العنف المدمرة هذه,,قد تتأخر قليلا,لكنها في النهاية تأتي ولا تخذل أحدا!..والعراقيين أصبحوا أشبه بالفئران التي تتنبأ بقدوم هذه الدورات ويشعرون بتجمع بوادرها في الأفق لكنهم لا يفعلون أي شيء لاتقائها!..فمن ألسنة الكبار,رجالا ونساء, نسمع على الدوام عندما كنا صغارا,بخطر وحتمية هذه الدورات العنيفة.. لا نصدق..نضحك من تخلف منطقهم,لكن..لا يمر عمر احدنا ألا ويرى بعينيه واحدة على الأقل من هذه الدورات الرهيبة وهي تعصف بنا وتتركنا عراة في مواجهة برودة التاريخ..ومعها تكبر حيرتنا ونعود لنبش الذاكرة,نبحث فيها عن آثار الأولين,نحاول أن نتجنب الدورة القبلة..نروي نبؤنا لأطفالنا,لكن من حيث ندري أو لا ندري.نحن نشارك بها ونمهد لها..فهل هذا هو ما يسمى بالقدر!

يبدو لي كذلك..حتمي ولا يقبل الإلغاء..نحن وقوده وموقديه..هل نحن بحاجة أولا إلى ميثاق وطني يحرم العنف. هل نحن قادرون على تجنبه؟..والسؤال الأهم,هل نحن راغبون في الشفاء؟؟

أن منيف قد صور ببراعة واحد من أقسى مشاهد العنف في بداية دورته,وهو المشهد المألوف في الذاكرة العراقية,انه مشهد قتل- سيد عليوي – رئيس

20

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الانكشارية ل –سعيد باشا – الحاكم السابق,وفصل رئسه عن جسده وهو يحتمي في حضن أمه!..أنها واقعة ليست من خيال المؤلف بل هي تاريخية مثبتة ومتفق عليها في كتب التاريخ,وهذا يستدعي بنا المقارنة مع تاريخ العراق الحديث القريب من المشهد السابق,انه مشهد قتل العائلة المالكة في العراق على يد(ثوار) عام 1958 الذين أسسوا أول جمهورية عراقية حديثة,على جثث هذه العائلة التي تناثرت هنا وهناك,وتلقفتها أيدي الجماهير وطافت بها شوارع بغداد كالضباع الجائعة لرائحة الدم..كانت أم سعيد باشا تبكي وتحتضن ابنها وتطلب له الرحمة التي لم تأتي,كذلك كانت الملكة عالية,لكن الرحمة لم تأتي أيضا..التشابه يصل إلى حد كبير من القسوة,وفي كل مرة يعيد نفسه بغير التواريخ وبغير الوجوه وبغير الأسماء!..لكنه..هو هو نفسه..العنف العراقي,والمدهش أن هؤلاء المشوهين الذين يطوفون بالجثث أثناء انفلات دورات العنف,هم أنفسهم الذين يقيمون المندب والمراثي ويرددون الأشعار لاستدرار بكاء الناس على المغدور ين..بكاء الأجيال,بعد أن يتضح لهم أن من نصبوه حاكما عليهم بصراخهم وتصفيقهم لا يختلف عن سلفه..وهكذا بكل سهولة ولا عقلانية,يتحول الجناة إلى أبرياء,والأبرياء إلى طغاة!..في النهاية يغيب هؤلاء ولا يبقى لهم سوى جلد الذات والبكاء المر,والاستعداد البطيء للجولة القادمة من العنف.. ثم يضفون على قتلاهم البعيدين والقريبين صفات ومزايا تصل بهؤلاء إلى مصاف الأنبياء والقديسين,لو وفروه لهم في حياتهم لتغير الكثير من تاريخ البلد,فلو وقف العراقيين مع الحسين بن الإمام علي في تلك الأيام السود,وما تخلوا عنه بكل

21

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خسة وذل وجبن,لتغير الشيء الكثير!..لو وقف نفس الشعب بعد أكثر من ألف سنة مع عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية العراقية الحديثة ضد مجموعة (الثوار) المغامرين,لو لم يتركوه محاصرا ووحيدا في وزارة الدفاع,ثم ليقتل ويبصق على وجهه أمامهم من على شاشة التلفزيون,وهم الذين كانوا قبل مقتله يرقصون له في الشوارع ليل نهار ويقسمون أغلظ الإيمان بأنهم قد شاهدوا صورة وجهه مرسومة على القمر,لتغير الكثير في البلد..أنهم أنفسهم الذين يبكون ألان على نوري السعيد,رئيس الوزراء في العهد الملكي,ويثنون على كفائتة السياسية ودهائه ووطنيته!..لكن بعد أن سحلوا جثته في شوارع بغداد إلى أن تحللت وشبع أسفلت المدينة من دمه ولحمه وبقايا عظامه!..وقبل أن يجتاحهم والبلد تيار فاشي أغرقهم بالدم وكدس جثثهم,وقبل أن يكشف عن وجهه الشيطاني,كان الشعب نفسه يرقص في الشوارع إلى حد الإعياء واجتراع آخر قطرات الذل,وفي النهاية انهالوا على صوره ضربا بالأحذية!

حاول عبد الرحمن منيف,متأثرا بأفكاره القومية,التي اعتنقها خلال حياته السياسية,أن يضفي صفة التضامن والتعاون على كل العراقيين,ويوحد مشاعرهم السياسية اتجاه الاحتلال الأجنبي الاستعماري والذي كان قد ابتدأ لتوه من قبل الدول الأوربية وتقسيم تركة-الرجل المريض- أي بقايا الإمبراطورية العثمانية

خصوصا في المشهد الأخير من العمل,عندما وجه داود باشا مدافعه نحو الباليوز أو مقر القنصلية البريطانية,فقد اظهر أن كل العراقيين بمعنى رمزي,أنهم ضد الاحتلال الأجنبي. لكن الواقع لم يكن كذلك,فالعراقيون متضامنين مع بعضهم

22

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البعض لكن إلى حدود معينة,وهي بالتأكيد ليست مطلقة. فعندما دخلت الجيوش البريطانية إلى العراق لاحتلاله بدايات القرن العشرين,انقسم العراقيون على أنفسهم..فالمسيحيين منهم والعرب السنة كانوا مع الاحتلال..الأكراد منهم والعرب الشيعة كانوا ضده,فكل مجموعة دينية أو عرقية قد أجرت حساباتها في الربح والخسارة لوحدها وكما يناسب وضعها,وعلى أساس هذه الحسابات كانت المواقف (الوطنية) ,ولقد تكرر هذا الأمر بشكل مدهش بعد قرن من الزمان, فبعد دخول الجيوش الأمريكية,وقف الأكراد والشيعة مع الاحتلال,أما السنة فقد رفعوا لواء المقاومة!..أنها بالتأكيد نفس تلك الحسابات القديمة في ميزان الربح والخسارة,وهذا يعطي دليلا آخر وقويا على أن أخلاقيات وأولويات العراقي –بكل موزاييكه- لم تتغير أبدا,فهم لم ينظروا إلى الاحتلال الأجنبي في المرتين على انه حدث يحتم عليهم فيه الارتقاء فوق حسابات الربح والخسارة البغيضة وينسيهم إياها للوصول إلى مصاف كلمة عليا وسامية وهي(مصلحة الوطن) فالمصالح النفعية لها الأولوية عند العراقي. وما حاوله عبد الرحمن منيف هو نوع من أنواع الأساطير القومية التي لا وجود لها..أو أمنية!

فهناك في الحالتين (مرحب) بالاحتلال و(آخر) مندد به,ولو وضعت دوافع الطرفين(العراقيين) على مشرحة المنطق,لظهرت النتائج بما لا يقبل الخروج عن حسابات(الربح والخسارة) وان كلمة (وطن)جوفاء ومطاطة بل غامضة,تماما كصفة (الخيانة العظمى) التي يتبادلها الطرفان,لكن خيانة من وكلاهما قد خان الوطن,تلك الكلمة التي لم يتحسس بها سوى قلة من النخبة

23

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المثقفة الواعية. أذا عدنا إلى الوراء أكثر لفهم هذه السلوكية الغريبة,نجد نفس الحسابات تتكرر ونفس الصفات تطلق مع كل احتلال دوري متبادل بين الإيرانيين والأتراك لهذا البلد!..وهذا السلوك يغيب تماما مسالة الولاء للبلد والتضامن من اجله عند تعرضه لخطر الاحتلال,بل أن (التضامن) يفرز في كل مرة سلوكية (الدليل) لتسهيل مهمة المحتل الأجنبي,الذي يشهد تاريخ العراق على أن أي من الجيوش المحتلة له قد صادفت مقاومة فعلية من قبل الشعب,فعادة الدولة التي تحتل العراق هي التي تقاوم بجيوشها المحتل الجديد,والعراقيون هم فقط ضحاياها بامتياز,وبهذه السلوكية التبعية والخانعة,مزقوا بأيديهم (الهوية) العراقية بشكل مخيف ومدهش..ونشروا بينهم ثقافة الموت الدوري والماوراء والأدعية عند كل أطياف(الموزاييك) الغريب والجميل!

أما السياسيون العراقيون فهم بنظر الشعب,عبارة عن أناس تجمعت فيهم كل أنواع الدناءة البشرية والخسة والانتهازية والقسوة,وهذا فيه الكثير من الصحة, أما الحكام فيبادلون الشعب الذي عادة باسمهم يحكمون,نظرة سلبية أخرى,فهم بنظرهم أن الشعب خامل متكاسل لا يمكن الركون إلى ثقته,غادر كمياه دجلة التي ضمت مياهه الكثير من جثث الحكام,يجب معاملته بقسوة حتى يرتقي إلى مصاف الأمم المتحضرة!..لم يفكر أي من الطرفين بأنهم كلهم ينتمون إلى نفس صحن الحساء!..نفس المزايا,نفس الرؤيا,لكنها تختلف باختلاف الموقع..يوعزون كل بؤسهم إلى الحاكم الجائر,حتى لا يواجهون حقيقة سلبيتهم ويعترفون بها ليتسنى لهم الوقوف على أول درجات سلم الشفاء..والحكام يلقون باللوم على الشعب

24

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النمرود وعدم استعداده لإبداء الاستجابة للطموحات التي سترتقي به والقبول بالتضحيات!..أنها في الواقع ثنائية موت خطيرة لا تقبل القسمة على اثنين, لهذا نجد أن اغلب الحكام في العراق ومنذ زمن بعيد جدا بلا قبور!..والعراقيون والحق يقال من الشعوب المتميزة جدا في إزالة آثار الماضي على الرغم من تعلقه الشديد في الذاكرة!

أن التاريخ المعين هنا في(ارض السواد) يصبح بلا دلالة محددة,عائم,كمياه دجلة التي من الممكن أن يصيبها الجنون وتكتسح كل شيء بلا رحمة..يغرق كل مساحة تاريخ هذا البلد ليصل إلى البدايات الأولى..وممكن أن يضيق مجراه تحت حرارة شمس تموز الحارقة ويتحول إلى جدول صغير يروي حكايات متعبة عن الاحتلالات ودورات العنف..

لقد حاول المؤلف أن يقارن بين طبيعة العراق وطبيعة بشره,حيث تتجمع في الاثنين كل المتناقضات,فمن أقصى الجمال إلى أقصى حدود القبح,والمعروف أن الإنسان يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها!..أي كانت واين كان!

 

 

 

 

 

 

25

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رشيد الضعيف

أن رواية (معبد ينجح في بغداد) هي للكاتب اللبناني رشيد الضعيف..صدرت الطبعة الأولى عام 2005 عن منشورات – رياض الريس- في بيروت.

الرواية تتألف من 222 صفحة القطع الكبير,تتحدث بكل بساطة عن مغني..هذا المغني المولود في الحجاز,يهاجر إلى بغداد.وبذلك يؤسس رشيد الضعيف خلفية العمل الروائي عن هذه المدينة التي اختارها لتكون ملعب أبطاله..صحيح أن هناك بعض المدن العربية الأخرى التي يرد ذكرها في هذا العمل,ألا أنها تبقى تكميلية وليست أساسية,وكما هو واضح من عنوان الرواية.

لكن أي بغداد؟

أنها بغداد الأمين والمأمون..قابيل وهابيل العصر العباسي الإسلامي..حيث الصراع الطموح على كرسي الخلافة المدمى دائما,والمشيد على صرح من الجماجم.منذ أن خرجت الخلافة الإسلامية من الحجاز,والذي ينتهي كما نعلم بنهاية مأساوية سوداء بعد أن يقتل الأخ أخاه!

أن البطل هو- معبد ابن رباح – الذي استلهم سيرته المؤلف من سيرة المغني الأسطوري في خلال العصر الأموي- معبد بن وهب – .وبذلك استطاع أن ينقل الحدث من العصر الأموي إلى العصر العباسي..أي من دمشق إلى بغداد!.. علما من أن الرواية قد كتبت أو صدرت بعد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي!

فهل كان يقصد المؤلف رسالة معينة من وراء ذلك؟

في لقاء مع رشيد الضعيف في صحيفة السفير اللبنانية,أجراه معه مسئول

26

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الثقافية الشاعر اللبناني,اسكندر حبش..ينكر فيه المؤلف أي صلة بين بغداد الأمين والمأمون وبين بغداد الحالية!

قد يكون هذا صحيحا..لكن يحق لنا بعد أن خرج الكتاب من أدراج المؤلف ووصل إلى الجمهور,أن لا نصدق ما قاله في اللقاء الصحفي وان ننبش في النص. أن النبش في النصوص ليس هو هدفنا في هذا الكتاب,بل ما يهم هو تكوين الشخص العراقي في داخل النص,وبما أن الخلفية المكانية هي العاصمة العراقية بغداد,وان كانت القديمة,أولا,وبرؤية مؤلف عربي-لبناني- ثانيا,فهذا هو ما نرصده في كتابات الآخرين..وهنا نقتطع بعض المقاطع من سيرة هذا المغني الذي هاجر إلى بغداد.

( ولطالما سمع عن بغداد!

ولطالما حلم ببغداد!

كان يتصور نفسه إلى مائدة بعض الوزراء وهم يأكلون:غلام إلى يمينهم وغلام إلى يسارهم,يتناولون ملعقة من غلام اليمين الحامل ثلاثين ملعقة من زجاج نادر,يأكلون بها مرة واحدة فقط,ثم يدفعونها إلى غلام اليسار,كل ملعقة لقمة,فهم من نظافتهم لا يعيدون الملعقة ذاتها مرة ثانية إلى فمهم.وكان يتصور نفسه ينشد قصيدة في عرس الخليفة,آو عرس ابن الخليفة,أو عرس احد أبناء الأشراف,فتنال قصيدته أعجاب الممدوح ,ويعطى مالا يقيه طوال حياته من العوز-13,14)

ويحضرني هنا بعد هذا الوصف الخيالي لحياة البغداديين في تلك الأزمان الغابرة

27

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صوت الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وهو يقول بألم:

ما مر عام والعراق ليس فيه جوع!

أن البذخ والترف اللامعقول,هو ما أراد أن يوصله لنا المؤلف في بغداد تلك العصور..فهناك الثراء الفاحش,وهذا ما لم يأتي به الضعيف من الفراغ,بل هو وصف تجده في اغلب كتب التراث العربي..بل وما أكثر ما قيل عن بغداد الرشيد مثلا.

( – اقتله؟

لا تقتل!قالت له.بل ارحل إلى بغداد أن استطعت,فهناك يغتني الناس من الغناء….

…. بغداد تلهب احلامه-28)

لكن الصورة الذهبية عن بغداد ليست هي كامل الحقيقة..وكما سنرى في متن هذا العمل الأدبي.بغداد التفاهة..بغداد العنف الدموي الأعمى..بغداد الفقراء والعيارين..بغداد ذات المزاج الحاد المتقلب..أما تفاهة الخلفاء واستهتارهم فلها من الأخبار ما يملئ بطون  الكتب التاريخية والتراثية وبلا حرج!..ففي هذه الكتب نقرأ عن حياة الجواري والنساء والغلمان الذين كانوا يحكمون من وراء عمامة الخليفة,ولا نعدم هنا أو هناك بأخبار تحدثنا عن عبقرية هذا الخليفة أو ذاك ونبوغهم,وهي أخبار تمثل ذر الرماد في العيون لموازنة أخبار التفاهة!

(وهكذا نزحت خليدة والغصة في قلبها,مع أنها كانت تحب بغداد,وتحب الإقامة فيها,بل أن هذا ما كانت تحلم به,كانت تحلم أن يشتريها سيد من هناك,حيث الحياة الراقية والعيش الهين,وحيث يفصل الجارية مثلها عن صقر الخليفة أغنية واحدة

28

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فقط,يبلغ خبرها الخليفة وتعجبه,لتصير سيدة الغناء,ومقصد عشاق الأغاني,من ارستقراطية الإمبراطورية الغنية الشاسعة,التي لا تغيب عن أطرافها الشمس -47). لكن اسم العراق وبالذات بغداد..يبقى مقرونا دائما بالحروب والكوارث وهذا هو الوجه الأبرز,خصوصا بغداد,هذه المدينة المنكوبة دائما بهجرة المتريفين والقرويين والبدو..

( اشتم رائحة الحرب تقترب:قال معبد لأبو زكار في حانة الشط.وسمعت أن كثيرا من الناس,وخاصة من الطبقات الميسورة,يرحلون خوفا من الانفجار الكبير.قتل علي بن عيسى بن هامان:قال له أبو زكار,لم ينتشر الخبر بعد في بغداد,لكن الأمين ومعاونيه علموا به قبلي بلا شك,وعلي بن عيسى بن هامان هذا من خيرة قواد الأمين.وهو الذي شجعه على عزل أخيه المأمون من ولاية العهد وعن خراسان,وقد جهزه الأمين بأربعين ألف رجل,وسار بهم لقتال طاهر بن الحسين,الذي أوفده المأمون على رأس جيش اقل عددا بكثير.لكنه مجهز بأحدث الأسلحة.والتقى الجيشان في منطقة الري,والتحما وانتصر جيش طاهر,ثم جيء له بجثته وقد شدت يداه ورجلاه,كما يفعل بالدواب أذا ماتت,فأمر بها طاهر فألقيت في بئر,ثم كتب بالخبر إلى خراسان ومما قال في كتابه:(..رأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في أصبعي,والحمد لله رب العالمين)) وكان إلى جانب المأمون حين وصلته الرسالة,مساعده الأول الفضل بن سهل الذي سلم عليه بالخلافة,فسر المأمون سرورا لا يوصف-67)

أنها القسوة الفالتة من عقالها والتي لا تحدها حدود أخلاقية أو دينية..بل الكذب

29

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والنفاق والعنف,هي المفردات التي سادت تلك العصور وتحلى بها العراقيون في تلك الأزمان,وهو التاريخ يعيد نفسه بألف صورة وصورة..

(ولم يكن معبد بن رياح قد تحقق بعد أن الأوضاع في بغداد على هذا المستوى الكارثي من الخطورة,كان يعلم فقط أن الأوضاع فيها(خطيرة) وان هناك خلافات بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون الذي كان حاكم خراسان في فارس,وان الجيش الجرار الذي أرسله الأمين نحو خراسان,والذي يتحدث عنه جميع الناس,سيعيد الأمور إلى نصابها بعد أسابيع أو أيام.لكنه لم يتصور أطلاقا أن الأمور خطيرة إلى حد أن بغداد مهددة بالتدمير الشامل,وبعشرات الألوف من القتلى وأكثر منها بكثير من الجرحى..وما يستتبع ذلك من أوبئة ومجاعات-68)

والعراقي هنا..قاتل ومقتول..جلاد وضحية..الشمس والقمر..الليل والنهار..الحر والبرد..الجنة والنار!

(وقالت له,ألا تدري أين أنت؟ أنت في بغداد عاصمة الإمبراطورية والدنيا.ماذا تقصدين؟ قال لها.قالت:اقصد انك أذا رددت الصوت بفمك,لتسمعه أذنيك,فقد يسرقه احد منك!هذه هي بغداد يا معبد-95)

ثم حدثت المجزرة..

(ثم استطاع احد قواد طاهر(وكان معروفا باسم داود سياه).أن يبلغ مع فرقته علي بن عيسى وان يشتبك معه,واستطاع أن يضربه ضربة قضت عليه فوقع عن فرسه,وانكب عليه الرجال يتابعون ضربه,وتسابقوا في قطع رأسه,وكذلك في قطع أصبعه التي فيها خاتمه.واقتلع احدهم خصلة من شعر لحيته,أما الرجل الذي

30

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذبحه فكان يعرف بطاهر بن الراجي.ثم سلم الرأس إلى احد وجوه القواد وهو احمد بن هاشم,وكان قد ظن انه قتل في المعركة,فحمله إلى طاهر.وقال له حين وصل أليه:البشرى!البشرى!جئتك برأس علي وهو مع غلامي في المخلاة,ثم طرحه أمامه,ثم أتى بجثته وقد شدت يداه ورجلاه كما يفعل بالدواب أذا ماتت,

فنظر طاهر في الرأس فابتسم,لكنه ارتاب قليلا لان الرأس كان مشوها بسبب الضرب عليه قبل قطعه.فاستدعى طاهر من يعرف علي بن عيسى جيدا,حتى اطمأن نهائيا إلى انه رأسه بالذات-96)

ما أشبه اليوم بالبارحة!..نقرا هنا بعض من تصرفات الأمين مع الذين خذلوه في مشروعه الطموح..( ولما علم الأمين بهرب اسحق.سال عمه ابن المهدي عن الأمر,ففوجئ بالسؤال لأنه لم يكن على علم بذلك,وكان اسحق قد هرب سرا مع أولاده وزوجاته وأمه,وخدمه وجواريه وغلمانه,وأعواده والآلات الموسيقية الأخرى التي كان يضرب عليها ويحبها,واخذ معه أكياس عظيمة من الدنانير والدراهم والذهب والأحجار الكريمة الأخرى,والكتب التي ألفها في الموسيقى وكذلك لائحة بأسماء الأغاني التي لحنها والده,وكلماتها وطريقة تلحينها,ولم يستطع الأمين شيئا,سوى أن أهدى بيوته التي أخلاها,إلى وجهاء العيارين,وفقراء بغداد وعامتها,ليقيموا فيها-100)

أليس هذا الذي حدث في ذلك الزمان ما زال يحدث لحد ألان في بغداد؟..فكيف يطلب منا المؤلف أن لا نقارن بين البغدادين؟.أنها في النهاية بغداد واحدة لم تتغير والبغداديون هم هم لم يتبدلوا!..الم يهرب الشعراء الذين تسابقوا في تمجيد

31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(القائد الضرورة) صدام حسين خلال أيام حكمه,وعندما أيقنوا بغريزة الفئران بحتمية غرق السفينة,هربوا تحت جنح الظلام إلى المنافي القريبة والبعيدة,

وعندما أفاق قائدهم الضرورة على هذه الخيانة بدا بمصادرة بيوتهم التي كانت أصلا  قد كان صادرها من معارضيه وأعدائه ومنحها أليهم كمكافئات على تهريجهم طوال عقود القهر في الزمن العراقي الحديث,وأعطاها إلى وجهاء

( العيارين)..والعهر!

هنا مقطع مؤثر,يدل بوضوح فج..مدى وكمية الأحقاد المتراكمة التي تغلي في صدور العراقيين منذ أزمان بعيدة حتى أنهم لم يعودا يعرفون لمن يوجهون مدافع أحقادهم ولا الزمن..فتعالوا نسمع ونقرا..(سيضحكون عليك أذن وعلى الأمويين جميعا,وربما ظنوا انك من مناصريهم,رغم أن أيام الأمويين انقضت من زمان,منذ عشرات السنين,وقد هدمت قصورهم وقتلوا,ومن لم يقتل منهم نفى نفسه إلى أقاصي الأرض,وادعى اسما آخر,وعمل كما يعمل الناس العاديون حتى يستطيع العيش,وقد نبشت قبورهم التي فيها دفنوا منذ عشرات السنين,واخرج ما تبقى منهم فيها إلى النور,فأهين واحرق وذر رماده في الهواء وماء الأنهر حتى لا يبقى منهم اثر.وكم كانت تكبر فرحة الباحثين عن بقايا الأمويين عندما كانوا يقعون على هيكل عظمي مازال متكاملا,فيعمدون إلى صلبه وجلده قبل أن يحرقوه ليحولوه إلى ذرات زائلة من غبار كوني-106)

أليس هذا سببا كافيا للمؤلف لكي يختار خلفية تاريخية ومكانية مثل بغداد؟..لو افترضنا انه أراد أن يروي سيرة المغني الأسطورة-معبد بن وهب- الذي عاش

32

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في دمشق..فأين يمكن له أن يجد خلفية مثالية مثل بغداد؟..وزمن مثالي مثل زمن الأمين والمأمون؟..المكان والزمان مثاليان جدا..فبهما كمية من العنف والدم المستباح,الحار,السائل في الشوارع,ما لا يوجد له مثيل!؟

كما لهذا السبب أيضا(العنف) لا يوجد في العراق كله أي قبر لأي خليفة أو حتى رئيس جمهورية!..أليس هذا بالشيء المذهل؟

يقول رشيد الضعيف في لقاءه الصحفي مع اسكندر حبش(لا علاقة بين بغداد اليوم وبغداد التي أتكلم عنها..)..لكن بغداد الحدث..وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن تاريخه حتى لو شاء..كذلك المدن..فلا يمكن أن تنسى بغداد..المدينة والذاكرة..كل جحافل القتلة الذين مروا بها وعبروا أليها..كذلك يقول في لقاءه ..

عن كتب التراث العربي القديم( يجعلون الحيوانات تتكلم أذا كان بناء الخبر وسياقه يحتاجان إلى ذلك,يجعلون الشجر يتكلم,يلوون عنق كل شيء من اجل أن يكتمل (الخبر) عندهم)..

ترى هل لوي رشيد الضعيف عنق روايته ليكتمل لديه ( الخبر)..والسؤال..

أي خبر؟..هذا علمه عند أصحاب الكهنوت.

أما شخصية العراقي في..( معبد ينجح في بغداد) .. فهي تتلخص في كلمة واحدة..بائس!

 

 

 

33

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هاديا سعيد

صدرت الطبعة الأولى من كتاب(سنوات من الخوف العراقي..) عن دار الساقي في عام 2004.وفيه تؤرخ المؤلفة لسنوات حاسمة من الخوف(العراقي) المتجذر في نفسية الفرد العراقي.

أن كتاب هاديا سعيد هذا ليس بالعمل الروائي أو القصصي,لكني مع هذا وجدت فيه الكثير مما كنت ابحث عنه..أنها حكاية البنت العربية(اللبنانية) التي كانت مؤمنة بقضايا(كبيرة) وطنها العربي الكبير..مرت بالعراق وشاءت الصدف التاريخية أن تمر فيه,في فترة هي من الأصعب أن لم تكن الأصعب على الإطلاق  واعقد فتراته السياسية والاجتماعية,بل وأخصبها عنفا وجنونا:أنها الفترة التي رافقت نضوج فكرة الجبهة الوطنية وتأسيسها والتي ضمت الحزب الشيوعي العراقي والحزب الحاكم,حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي, وفيها أصبحوا(شركاء)في السلطة أو هكذا تظاهر الاثنان!!

ما جذبني لهذا الكتاب,أن هاديا سعيد,لم تكتبه بشكل يوميات أو مذكرات مضجرة,بل كتبته بشكل هو اقرب إلى الحكاية الخفيفة,لموضوع يحمل الكثير من الألم والعنف..هذا بالإضافة إلى أن الكتاب العرب ,على كثرة ترددهم إلى العراق لم يوثق سوى القليل جدا منهم,لهذه المرحلة المهمة جدا من تاريخ العراق الحديث وما تركته من تأثير حاد وخطير في تكوين نفسية الفرد العراقي وسكنت ذاكرته بكثير من الدموية وكالعادة بالموت المجاني!.. فلقد تقاسمتهم الثنائية الحادة للتنافر بين هذين الحزبين اللذين لعبا الدور الأساسي والمهم من تاريخ البلد الحديث

34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فكانوا,أما مع هذا أو ضد ذاك..وبالعكس. وسكت أغلبيتهم عن التطرف الذي حصل وغيبوا هذا الفصل الحاد الدموي,أما خوفا أو تحقيقا لمصالح فردية.

فكما المؤلفة التي لم تستطع التخلص من بقايا خوفها ألا بعد أن شاهدت بأم عينيها كما شاهد العالم اجمع,سقوط صنم الطاغية على يد المحتلين الأمريكان!..عندها فقط قررت نشر هذه اليوميات المهمة,والتي من الممكن جدا إنها قد كتبت قبل السقوط بزمن طويل,والتي أخر نشرها هو الخوف العراقي.

في البداية تصف السعيد,مسالة الهرب الكبير,وتصف ما حدث بعد انهيار الجبهة الوطنية( كالزلزال الخفي)..إذ تقول (نعم,ينبغي القول أننا هربنا من العراق,هربنا من بغداد الجميلة التي كانت تهتز بآثار زلزال خفي في أواخر عام 1978 وعندما أقول هربنا,فانا اعني نحن:ذلك الخليط العجيب,المتقارب والمتناقض في آن واحد من الكتاب والصحفيين والمثقفين,مستقلين وشيوعيين وأنصار الشيوعيين وأكراد من بصمت أوراقهم الشخصية بعبارة(تبعية إيرانية) وعرفوا في بغداد باسم الأكراد الفيلية,وآخرون استشعروا الظلم خطرا قادما بشكل أو آخر-17)..

هل كان المسئولين عن السلطة (البعثيين) هم وحدهم من يتحمل المسؤولية الكاملة؟..أم أن الهروب الجماعي الذي مارسه المثقفين,كان أيضا خطاء قاتل,مهدوا به الطريق للبعثيين ليحكموا قبضتهم على البلد لسنوات عجاف طوال انتهت بتدميره عبر الحروب والحصار وأخيرا الاحتلال؟..الم يكن الشيوعيون يتباهون بأنهم يملكون الشارع كذبا! وهم الذين تركوا لحفنة من الأفاقين البعثيين اقتلاع السلطة عام 1963 من حليفهم عبد الكريم قاسم,والسماح لإقامة الموسم

35

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكبير لاصطياد الشيوعيين وقتلهم؟..ترى أين الحقيقة وسط هذا الكم الكبير من الأكاذيب والمبالغات الحزبية الضيقة والعنف المتبادل بين الطرفين!

هنا في هذا المقطع,تصف الكاتبة,حادثة حقيقية عاشتها ومارستها مع زوجها,أي الهروب من المواجهة,والفرار المذعور..وهي تصف بشي من السخرية اللاذعة,هرب هؤلاء المثقفين الثوريين,واستيقاظ حاسة الفئران المذعورة فيهم التي تتنبأ بالزلزال قبيل وقوعه..إذ تقول( في تلك الفترة في بداية ومنتصف عام 1978 تنبهت إلى أساليب الهروب:إجازات مرضية,إجازات بدون راتب,توسط للحصول على منحة دراسية في الخارج,سفر طارئ أو مفاجئ بسبب وفاة أو زفاف!كذب بريء أو مفضوح,حتى طارق عزيز عندما كان وزيرا للإعلام في تلك الفترة,وسئل في لقاءات صحفية عن أرتال المثقفين العراقيين الذين غادروا أو هربوا من العراق بعد بداية حركة التبعيث التي مزقت أخر فتات من حلم الجبهة الوطنية,قال”هؤلاء خرجوا بأنفسهم,لم يطردهم احد,ولم يغضبهم احد,هم اختاروا ترك جنة الوطن,فليخسروا أذن نعيم التمتع بالانتماء أليه”-18)..

هذا هو منطق الأحزاب القبيح..أن الانتماء الذي تحدث عنه طارق عزيز,هو انتماء الأحزاب وليس انتماء الوطن..فالوطن بعرفهم لا يكون صالحا للعيش فيه أذا كان الشيوعيين على رأس السلطة فيه وبالتالي تحوله إلى جحيم بالنسبة إلى الآخرين,وكما حدث عندما اقتربوا من السلطة في زمن عبد الكريم قاسم, فلقد أقاموا الجحيم للآخرين(كما في أحداث قطار السلام مثلا)..وعلى العكس من ذلك تماما,عندما تمكن البعثيون من الاستيلاء على السلطة في العراق,أصبح البلد

36

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جنة, والانتماء أليه فضيلة لا تنازعها أي فضيلة أخرى في العالم,كما أصبح جحيما للشيوعيين والمتعاطفين معهم وبدأت(أرتال المثقفين العراقيين) بالهروب!

لكنهم نسوا أنهم في النهاية عراقيون-البعثيين والشيوعيين- في خضم صراعهم الضيق على السلطة أضاعوا الهوية الوطنية العامة واغرقوا البلد في بحر من الدماء والأحقاد والكراهية..وهذا يعود بنا إلى  طرح سؤال يبدو في ظاهره طبيعيا..لماذا كان احدها لا يطيق وجود الآخر ويسعى بكل قواه لدماره وإلغاءه؟..

هل يمكن تفسير هذه الواقف العدوانية بين الطرفين بإيعازه إلى تجذر ظاهرة العنف في نفسية الفرد العراقي؟..أم أن الفترة القصيرة التي تلت موجة عنف 1963 والتي اعتقد اغلب العراقيين البسطاء أن سماء التسامح قد ظللت رؤوس المتحزبين منهم- شيوعيين وبعثيين- كانت زائفة وكما توصف في المثال الشعبي

(مطر صيف) وظاهرة غريبة على العراقيين؟

(منذ عام 1970 وما تلاها من سنوات قليلة شهدت الأيام,مشاهد تشبه الأحلام,تتكوم لتكريس حلم قيام جبهة وطنية تجمع لأول مرة في تاريخ العراق الحديث حزب البعث والحزب الشيوعي,وفي تلك الفترة نفض الشيوعيون عن ملابسهم دماء الماضي وتناسوا أيام التقاتل والاعتقال,واقترب البعثيون بوهم حب الوطن والمصالحة الوطنية القومية,فنشطت دعوة الجميع للتهليل لهذا الحلم أو الوهم-19)..إذا,وحسبما جرت وقائع التاريخ بعد هذه الفترة-الحلمية الوهمية- اكتشفنا أن هذه الفترة,هي فترة إعداد لمرحلة العنف القادم التي اجتاحت البلد وتركت الكثير من جثث أبناءه ملقاة على رصيف الطريق القديم,ولكن هذه المرة

37

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باسم الايدولوجيا الحزبية!

غريب كيف يبدل العراقيون عناوين اقتتالهم مع أن الهدف واحد وقديم!

لا شك أن هناك من حاول جديا,من الطرفين,أن يبدأ فعلا مرحلة تآخي وطني,غريب على ثقافة العنف السائدة في تاريخ العراق القديم منه والحديث, لكن في النهاية لم يشهد لهذه المحاولة أي نجاح,وكما لاحظت هاديا سعيد ونقلت لنا من أجواء تلك الأيام المشحونة برائحة الدم والعاصفة..( كان الإيقاع العام لكل ذلك منفتحا,علمانيا,يحاول أن يكون جريئا,وكان هناك حالمون كثيرون يؤكدون وهم هذه الرفقة الجديدة,وكنت الحظ ابتسامات الجانبين البريئة والمترفعة أو الملغومة,أرى الجميع في أروقة مؤتمرات وحفلات اتحاد الأدباء وجمعية التشكيليين,أحاول أن استشف ذلك الضغط النفسي الخفي الذي يحاول كل لحظة أن يبعد شبح ماض ملوث بالدماء-21)…وكما قلنا في النهاية,وكالعادة,انتصر المتمسكون بأبجدية العنف وسحقوا أول من سحقوا هؤلاء(الحالمين) من الطرفين فالوضع العام لم يكن ليخرج عن جملة قالتها..(بؤرة من ألغام سياسية وأكوام من الدماء-22)…لقد حاول الشيوعيون أو عموم المتضررين من قيادة حزب البعث وحكمه للبلد,وخصوصا منهم المثقفين,أن يحملوا الكثير من المواقف العامة أو الشخصية لهذا الفرد أو ذاك,أكثر بكثير مما تحتمل,وذلك لإضفاء شرعية المقاومة للنظام الفاشي ولو اسميا أو سلبيا..البعث هو الذي كان يحكم ,أي أن موارد البلد بيده,وعليه فانه كان ينفق الكثير على الأساليب الدعائية ومحاولاته المستمرة لكسب الرأيين العراقي والعربي,وهذا شيء مفهوم من منطلق الأحزاب

38

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التولتارية والدكتاتورية,وهذا ما كان الشيوعيين يعيبونه عليهم..لكن السؤال, لو كان الوضع عكس الصورة التي كانت,وكانوا هم الذين يقودون البلد,وبيدهم موارده,الم يكونوا ليفعلوا نفس الشيء؟..الجواب القاطع هو بالتأكيد,لكن هناك دائما من سيقولون عكس ذلك ويدعون المبدئية!..الم تكن كل الأحزاب الشيوعية التي كانت حاكمة في الكتلة الشرقية السابقة بقيادة الاتحاد السوفيتي وانتهاء بكوبا وكوريا الشمالية,تفعل نفس ما فعله البعث ذات مرة؟..

بل أن هاديا سعيد,باعتبارها غير عراقية-لبنانية- تنقل لنا عما شاهدته من(حسد) لدى المثقف العراقي من زميله العربي العامل في العراق,فعندما كانت الكاتبة تتولى مسؤولية احد الأقسام في مجلة(ألف باء) حدث لها كما يوشي الكلام,خلافا بينها وبين احد المحررين..إذ قال لها (نزل وتدبيج على السطح-23) وهو مثل شعبي عراقي,معناه,بالرغم من كونك غريبة-غير عراقية- ألا انك تفعلين كذا وكذا..وهي تدافع عن نفسها بالقول..(لكني من جانب آخر,وكما يراني آخرون,كنت ضيفة معقولة,لا احصل ألا على راتبي,عكس الكثيرون من المثقفين والكتاب والفنانين العرب الذين جاءوا ضيوفا أو متملقين أو كسابين كما تقول الهمسات في كواليس مبنى الدار أو سهرات النوادي وبارات ومطاعم باب الشرقي-مركز بغداد-23)..وفي مكان آخر..( ومنذ أن تحول المربد إلى شعر يتغنى بالقائد والقيادة,أصبحنا نسمع عن هدايا الساعات والمغلفات التي توضع في غرف الفنادق,والدعوات الخاصة لزيارة القصر الجمهوري,وكان على الجوقة العازفة أن تكتب عنهم,وتجري لهم الحوارات,فيتم العزف,ثم تضج في الكواليس

39

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهمسات:يقبضون أكثر من العراقيين,يكرمون,لا يأتون حسب الكفاءة والخبرة-26)..ماذا تريد أن تقول؟..هل أن العراقي عنصري؟..ويشعر بالغيرة والغضب أذا جاء(آخر) عربي وحل محله؟..لماذا لم يحدث هذا في بيروت,قبيل وحتى بعد الحرب الأهلية,عندما استوعبت الجميع على اختلاف عقائدهم,في حالة مدهشة,أثارت مواقع الظلام العربية فتأمروا على إغراق هذه الحالة في ظلام مشابه!..وهل هذا يعني أن المثقف العراقي,إذا أكرم من قبل القيادة ودفع له ما يناسب حجم(موهبته),يتحول إلى بوق إعلامي للحزب الحاكم,أي كان هذا الحزب!..وهذا ما حدث وشاهدناه وعاصرناه,والساحة الثقافية العراقية شهدت  بكثافة غير عادية تساقط الأسماء اللامعة التي (عاد إليها الوعي)وتنصلت من تاريخها النضالي مع الحزب الشيوعي وبالتالي تحولوا إلى أرقام في طابور المزمرين والقابضين الطويل!

أن العراقي(غشيم) يمكن أن يضحك عليه بسهولة!..حتى مثقفيه..أليس هذا ما تخبرنا به المؤلفة في الفقرة التالية من كتابها..( المحافظون والتقليديون كانوا يحسبون أنهم من جماعة (الأب القائد-احمد حسن البكر) لم يكن لهم بريق أو حماسة.أما جماعة (السيد النائب-صدام حسين) فهم الشباب,ومن فلقتي الجبهة,أي نحن المجددون الذين بدؤوا يرون في صدام حسين الشخصية اليسارية التي ستجفف عفونة البعث وتعصرنه,هو ترو تسكي جديد وكاسترو العراق,كما تراه الأمنيات التي تختلط بالأوهام-28)..أذا,حتى الشيوعيون وأصدقائهم كانوا يرنون بعيون الحب واللهفة إلى –السيد النائب-!..( الم يغني الشيوعيون نشيد الأممية

40

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويصفق صدام ويعانق الرفاق الكبار في حفل ضمهم بقاعة الاحتفالات بقصر المؤتمرات(قاعة الخلد)؟..في ذلك الاحتفال ,كان صديقنا الشاعر الراحل رشدي العامل الذي أمضى سنوات الاعتقال الطويلة في سجن قصر النهاية يثمل بين أيدينا,حتى حملناه إلى بيته الذي يجاور بيتنا.محتفلا ببكاء غريب,مصفقا ومغنيا لمن اضطهده وعذبه,ثم ضحك عليه وهم من جديد لإعادة تاريخ التعذيب والاعتقال لأبنائه بعد انتهاء العرس وظهور الأنياب-29)

أذا كان المثقف الايدولوجي,الذي من(المفروض)انه يقود شعبه..(غشيم) وانخدع بسهولة,برقة ولطافة-السيد النائب- فكيف حال المواطن البسيط الذي وضع ثقته بأناس على هذه الشاكلة من السذاجة! والذي وقف عاريا بين مطرقة البعث وسندان الشيوعية!..(ظن البعض من الشيوعيين أن بإمكانهم جذب السيد النائب إلى معسكرهم بما يتحلى به من شباب وتطلع”اشتراكي” جديد يتجاوز حدود القومية العربية المؤطرة ببيان القائد المؤسس ميشيل عفلق.ولعل السيد النائب بدوره كان يخطط بسرية-كما عرفنا عنه-لاستيعابهم ودمجهم في معسكره( كما فعل فيما بعد مع بعض الأسماء اللامعة من الكتاب والفنانين الذين حسبوا طويلا في لائحة الرفاق الشيوعيين أو الماركسيين بوجه عام)-31).

دخل الطرفان إلى وهم لعبة الاستغفال والاستحمار وجرا البلد ورائهما إلى الهلاك,مع أن كليهما يعرف تماما,أن الساحة العراقية لا تسع كليهما,وان على احد اللاعبين الاعتزال وإخلاء الساحة ولو بالقوة,فهم محكومين بقوانين اللعبة الأكبر..لعبة دورات العنف العراقية. الشيوعيون لم يؤخذوا على حين غرة كما

41

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يحلو للبعض منهم أن يتحدث ويصور,أن الإعداد للمعركة كان واضحا وسريعا,وعملية الاستقطاب الحاد والسريع,قد بدأت منذ لحظة تأسيس ما عرف بالجبهة الوطنية..كلاهما كان بحاجة إلى الوقت لينزل إلى ساحة المعركة المتجددة بينهما..كلاهما كان يعرف أن فترة الجبهة كانت فترة هدنة وليست نقاهة في نهاية الجولة وكما جرت الأحداث في العراق فاز البعثيين بهذه المعركة وطبعا وحسب التقليد العراقي الراسخ تحولت إلى مذبحة.واثبت البعثيين أنهم الأكفأ في لعبة الدم..( أن من حلم بعراق يتجدد ويتطور بدأ يواجه بأحداث وتحولات تحيره أو تفاجئه أو تفرض عليه السكوت أو الابتعاد.أصبحت الساحة تشبه حلبة تدريب وإعداد لفريق كرة قدم,سيخوضان المباراة الأخيرة في السنوات التالية,بل ستكون تصفية نهائية,تبدأ بالرؤوس الكبيرة وتنتهي بأصغر اللاعبين الذين لم يكونوا غير جيل حالم جديد لم يستوعب درس من سبقه.أو أن مد الموج الصاخب لم تترك له فرصة لاستيعاب الدرس وهضمه واستخلاص العبر-30).

ثم تصف هاديا سعيد الجو السياسي العام بدقة عندما تقول..(السياسة الآن,لم تعد لعبة أحزاب واقع قوى أو أدوات وأسلوب تختار منه فرق تسعى إلى الحكم أو تتولاه,ما يناسبها,بل هي ضحية صغيرة ضيقة تفرض عليك الانحناء لدخوله,ثم تحشرك لتظللك وترفع فوق راسك ظل سوط يلاحقك في صحوك ونومك,فتهرب منها حتى تدمن الهروب-33)..أنها بلا شك تصف بدقة دوامة العنف القادمة..وإدمان(ممارسة) الهروب التي لا تعني بالضرورة …النجاة!

ثم يصل الخلاف السياسي بين العراقيين حدا كما تراه هاديا سعيد,يكاد يصل إلى

42

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محل كل ما هو جميل وأصيل في حياتنا القصيرة,وكيف أن السياسي دائما كان متقدما على كل ما هو غيره,وخصوصا الثقافي في حياتنا..( يظل العراقيون في اعتقادي أبطال المكر النبيل في الدفاع عن ثقافتهم وإبداعهم,ولم أر شعبا أكثر قراءة وتعلقا بالأدب والفكر كالعراقيين,أن مرجعيتهم هي الورق والكتب وليس الحياة,وأبطالهم شخصيات روائية وقصائد شعر وشجن غناء شعبي,أكثر منها أشخاصا من لحم ودم أو تجارب مغمسة بالواقع ,فالواقع أكثر من مر,والسياسية تؤطر الاسم قبل النتاج,فمثلا أذا حدث أجماع(محلي) لأسماء كالجواهري والسياب أو ألبياتي ونازك الملائكة ومظفر النواب,فان السياسية تنشب أظفارها لتخدش انتماء كل فرد من هؤلاء,وقد تتكون فرق المنقضين بسرعة مذهلة تواجهها فرق المدافعين لتختلط النظرة السياسية بالإبداعية بالفكرية,وتطلق أحكاما قد تصل إلى الحكم بالإعدام(المعنوي)-37)

المعروف أن النظام السياسي العراقي قد سحب الجنسية العراقية من اثنين من أهم شعراءه(ألجواهري والبياتي),لأنهما كانا من المعرضين للنظام السياسي وشاركا في مهرجان(الجنادرية)في المملكة العربية السعودية!

أن إلغاء الآخر في العراق أسهل بكثير من النقاش والحوار والاختلاف الحضاري معه!..في مكان آخر من حكايتها مع الخوف العراقي,تنقل لنا صورة افتتان السياسي العراقي بالدم وبان يرى نفسه معمدا بالدم في سبيل قضية! وهي آخر صورة(مقدسة) يمكن أن يرتقي أليها العراقي السياسي وحتى يقبله مواطنوه الذين يعشقون رؤية أبطالهم وهم معذبون والدماء تسيل منهم كما المسيح على

43

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصليب!..وهذا مؤشر على تقديس الدم,سواء كان على يد الجلاد أو جسد الضحية..( في تلك الأيام-أيام الجبهة الوطنية-فكانت كأنها قيادة مشروخة.كل التفاصيل مغلفة بازدواجية.(الرفاق الشيوعيون)يبدوا أنهم تآلفوا مع العمل تحت الأرض,فقد ظلت نزعة التوجس والحنين إلى ذكريات الدم والتعذيب والتنكيل,كأنها قياس للبطولات واثبات الذات,بينما بدا(الرفاق البعثيون) وكأنهم يتفضلون بقبول زملاء وأعضاء جدد في النادي القومي-65)..أن تبادل الأدوار المحكم بين الظالم والمظلوم,بين السادي والمازوخي,السالب والموجب,ثنائية تفتن العقل السياسي العراقي لحد التطرف..الكل متربص بالكل..يتم ذلك بالطبع تحت يافطة اسم الوطن!..الذي هو عادة في الحقيقة غائم وغامض ومبهم وغير محدد المعالم في ذهنية العراقي,الموزعة بين الو لاءات العرقية والدينية والمذهبية. نقطة أخرى مهمة جدا وثقتها عين الصحفية الممتازة في الشخصية العراقية بعد أن انتقل هذا(المرض) إليها نفسها وهي الغريبة!..إذ أنها تصف محادثة جرت بينها وبين طارق عزيز..(كنت اشعر بالارتباك والخوف…….

كان كأنه يحادث إنسانة أخرى,فقد كانت الطفلة في داخلي مازالت مصعوقة بخوف غريب,ذلك الخوف الذي بدا يفهمني ويعلمني معنى أن  تكون في العراق,ومعنى وعمق العذاب والهلع الذي يعيشه أحبائي العراقيون-67)..( فلم تكن جولات وجلسات الإنتاجية ألا تفعيلة في مقدمة بناء(جمهورية الخوف) وسيضل خوفي مثل طفل مدلل أمام الهلع العراقي)..(غير أن المعقول يبدو وكأنه المستحيل في ذلك البلد المطعون.وفي ذلك الزمن الصعب,فكيف يمكن أن تكون

44

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حياتك عادية ومعقولة وفي كل بيت حكاية قتل أو تهديد أو اعتقال أو هروب؟..

لقد كنت احد الذين عاشوا نوعا(مخففا) من الخوف داخل الجمهورية وخارجها,مع إني لست عراقية,فهل هو الشعار الخفي بأنها امة عربية واحدة في الخوف والقهر؟..لقد عشت في أكثر من بلد عربي وعرفت ووعيت معنى الحدود والرقابة والتضييق,لكن عهود العراق دموية وفجة ومريعة,فليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس والذرية والإرث كما عاشته بيوت بغداد,وليس هناك بلد أبيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب والأوصال المقطوعة كما حدث في العراق,وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق-68)..

كيف تسلل الخوف إلى كل بيت كما تقول(قتل أو تهديد أو اعتقال أو هروب!)نحن أيضا نتساءل معها؟..كيف سمح العراقيون إلى كل هذا الكم المرعب من الخوف أن يتسلل إلى بيوتهم ويعاشرهم كما أرواحهم ويسكن في عقولهم دون أي فعل مقاومة؟..بل أنهم استسلموا كما النعاج إلى سكين الجلاد!..أين ذهبت طلائع الأحزاب المعارضة؟..أين كان ينام رجال الدين الذين انبثقوا كما نبات الفطر في الغابات بعد الاحتلال الأمريكي وتناثرت الفتوى وبدأنا نسمع أسماء لو عدد نصفها في ذلك الزمن الأسود لما حدث الذي حدث!..لماذا تفوقنا في تخزين كميات الخوف والدم والتفاصيل المرعبة في الذاكرة الجمعية للبلد على بقية(أقراننا) في الدول العربية؟..لماذا تجرعنا(ذل الصمت)حتى الثمالة و(قهر الخوف)بسلبية منقطعة النظير؟

اعتقد أن سبب نجاح سلطة الخراب ألبعثي في إذلال العراق كله,لأنهم في النهاية

45

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عراقيون ويعرفون تماما من أين تضرب الكتف وتقطع الرقبة.وتتساءل الكاتبة اللبنانية عن جذور خوفها..(متى عرفت هذه الكلمة بطبعتها العراقية؟..متى احتلت وسكنت أعماقي؟-73)..أنا اعتقد انه كان منذ اليوم الأول لدخولها العراق,وقبولها من الزواج بعراقي..اعتقد!

حتى في أعتا حالات الهذيان عند العراقي-وهنا نخص منهم المثقفين الشيوعيين وعموم اليسار والمستقلين المتعاطفين معهم,لان هاديا سعيد تزوجت احدهم وحسبت عليهم,بل أنها انتمت إلى الحزب الشيوعي ولو لفترة قصيرة-لم يستطع ذلك العراقي أن يتخلص من خوفه..من جبنه..(لقد اكتشفت أن العراقي يعرف كيف يتشبث بقناعه,ولم يكن هذا القناع يسقط أو يزاح ألا عندما تتوالى كؤوس الشراب ويتصالح الداخل مع الخارج,فيعبر الخوف عن حضوره ويتجلى بعراك أو سخرية عنيفة أو غناء أو شتائم يمكنها أن توجه حتى للآلهة,لكنها لا تستطيع لحظة واحدة-وبشكل مباشر وصريح- أن توجه إلى الحاكم أو القيادة-75)..

حتى للحظة واحدة معينة ومعروفة,تتوقف جيوش السكر الزاحفة في الدماء والعقول..عندما تصل إلى رؤية الضوء الأحمر الباهت المرعب..الحاكم!..عندها تشل الألسنة وتتهدل الوجوه وتنكس النظرات وترتخي الأكتاف..يرتعدون في(ذل الصمت) الجدير بهم!..مرة أخرى تضع هاديا سعيد أصبعها على موضع مؤلم وتضغط عليه,عندما تتهم الجميع بانعدام الضمير,ليس السياسيين العراقيين وحدهم,بل أكثر الناس..العاديين منهم..(أصبحت بعدئذ أفكر بهؤلاء الذين يصبحون حرسا ورجال امن صغار أو كتاب تقارير,من هم؟..وكيف يصلون إلى

46

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه الدوائر؟..ماذا يريدون؟كيف يشعرون؟كيف يفكرون؟ هل يكفي راتب مغر لتعمى العين عن تعذيب بريء أو اتهام مظلوم؟ كيف يتكون الضمير لدى أمثال هؤلاء؟ وكيف يتقزم ويضمحل؟ هل الدولة فقط هي المسئولة؟-96)..نعم,أنا احمل نفس التساؤلات  المحيرة..هل الدولة هي وحدها المسئولة عن كل هذا الانحطاط؟ الم يكن كل هؤلاء-ضحايا وجلادين-عراقيون في النهاية؟..لماذا هذه القسوة غير المنطقية على بعضهم البعض؟

بدون تعليق انقل هذه الفقرة..( رأيت العراق يتحول إلى علبة ضيقة تعج بحركة صاخبة لكنها صامتة,هناك ما يشبه الحراس الأشباح يقفون أمام كل باب,تمتد ظلالهم إلى كل غرفة وزاوية.تحصي النظرات والأنفاس,قبل أن تترجم الكلمات إلى معان خطيرة ومهددة-115)..ثم تقول المؤلفة شهادة في المرأة العراقية الغير سياسية..( اكتشفت في هذه المرأة,الصلابة والعناد والثقافة,وكذلك المقاومة بشتى السبل,وبأسلوب يختلف تماما عن أسلوب الرجل,اكتشفت ضمها للجروح,سواء جروح الذات أو الأهل أو الأحباء من الرجال,آباء وأزوج وإخوة وعشاقا,اكتشفت تمسكها بخزين الكبرياء,وهي سمة وسمت العراقيين عموما,كّان أم العراق الأولى أرضعتهم هذا العناد والكبرياء-135)..في مرحلة من مراحل حكم حزب البعث,رفع شعار سياسي حزبي(أول من يضحي وآخر من يستفيد) وكانوا يعنون به ألبعثي(الجيد) وهذا كذب وافتراء,لكني أجد أن هذا الشعار ينطبق بشكل كبير على المرأة العراقية.

أخيرا وصلت الكاتبة إلى القناعة الجوهرية..(فان تكون عراقيا,فان أمامك

47

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صراطين:أما(معنا),(أو ضدنا). الحياد كلمة ممنوعة,بل هي تهمة-259)..

أنها ثنائية الاستقطاب الحاد في قاموس العراق والعراقيين.في ختام الحكاية-المذكرات- الصادقة والجميلة,انقل إليكم هذه الفقرة المعبرة..( ذكرت,وما أزال اكرر أن خوفي ظل طفلا مدللا أمام خوف الأصدقاء والأحبة.ففي كل بيت ماضي يحمل توقيع هارب أو قتيل أو سجين.واليوم,عندما اقرأ وارى فضائع المقابر الجماعية وتروى أمامي حكايات الاعتقال الرهيبة,اشعر أن الزمن لا يعيد نفسه,بل كأنه أصبح مثل ثور هائج,انطلق منذ الستينات ولم يكفه نصف قرن أو أكثر,بل ناطح بقرنيه الألفية الثالثة-79)

ولعل التساؤل الأكثر رعبا..هو..هل من الممكن أن تصل قرنا الثور العراقي الهائج,إلى ابعد من بدايات الألفية الثالثة؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

48

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحلام مستغانمي

استوقفني الكتابين الثاني( فوضى الحواس,الصادر عن دار الآداب,الطبعة التاسعة 1999) والثالث ( عابر سرير,عن منشورات أحلام مستغانمي الطبعة الثانية,2003) من ثلاثيتها ( ذاكرة الجسد).

فمنذ البدء وبوضوح تام,تحمل الكاتبة الجزائرية,نظام البعث الحاكم في العراق وبالتالي العراقيين بصورة غير مباشرة,مسؤولية كل الكوارث التي أطبقت على النظام العربي,بكل تنوعاته!..ربما وللوهلة الأولى يبدو ما تقوله صحيحا نوعا ما..أو أكثر..لكن السؤال..هل هذه هي كل الحقيقة؟

الصحيح أيضا أنها لم تختار نموذج عراقي-حي- في عملها الجميل(ذاكرة الجسد) بأجزائه الثلاثة,ألا أنها تكاد لا تفوت فرصة عندما تريد توجيه سهام النقد الجارح للنظام العربي الشمولي والفاشل,ثقافيا وسياسيا وحضاريا,من إحلال العراق بموقع سلبي تماما,ولا فرق هنا بين العراقيين ونظامهم الحاكم!

( ألهذا لم يعد؟..أم ترى لأنه ذهب ليدفن أباه بنوايا انتحارية في ذلك البلد الذي يقتل الشعراء,ويكثر من المهرجانات الشعرية-35,فوضى الحواس)..أن السؤال المخيف المختبئ بين ثنايا هذه السطور..هو لمن كانت تقام هذه المهرجانات الشعرية ومن كان ضيوفها؟..وإذا ما كان النظام يقتل شعراءه,وهذا صحيح,فمن هم الشعراء المدعوون,ولمن كانوا يلقون معلقاتهم؟..بالطبع من غير المجدي هنا الدخول في جدلية عقيمة..لكن الخلل كان كبيرا,ونحن بدورنا نسال,لماذا لم ترتفع أصوات المثقفين العرب عندما كان إخوانهم العراقيين يقادون إلى الموت المبرمج

49

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في لوائح الحزب القومي الفاشي ولم ينتصروا أليه؟..خصوصا في أوج قوة النظام أبان الحرب العراقية الإيرانية؟..أن الإجابة على ما تحمله هذه السطور القليلة من معاني مرعبة,تقودنا حتما إلى الوصول إلى قاع الفشل المدوي للمشروع الثقافي العربي من المحيط إلى الخليج كما يقولون!

نبدأ ألان بعد أن تحول العراقي وليس النظام الذي يحكمه,إلى ما يثير الشفقة بأقصى درجاتها..(لقد قلت لها- إلى أمه- أن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لن تصدقني-128,فوضى الحواس)..

( هؤلاء الذين تكتبين من اجلهم..أنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية…ولا يملكون ثمن كتاب..أما الآخرون فماتوا..حتى الأحياء منهم ماتوا..فاصمتي حزنا عليهم-129,فوضى الحواس)..(كنت أرى القنوات الأمريكية,تتسابق لنقل مشاهد”حية”عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى,يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل,مرشوشين بقنابل الموت العبثي,دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا-135,فوضى الحواس)

عن أي عراقي تتحدث هذه الكاتبة؟..عن ذاك الذي يستحق أن يتبرع له بمال الحجة لأنها أكثر إحسانا من الحجة نفسها,والذي يبحث عمن يتبرع له بالدواء والكتاب..أم العراقي الجندي الذي انهزم بذل وانكسار أمام جحافل القوات الأجنبية؟..أليسوا هم في النهاية واحد؟..على من تعلن فجيعتها..على العراقي أم على الجيش العربي الذي انهزم؟..مرة تعلن عن شفقتها عليه ورغبتها في

50

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مساعدته على محنته,ومرة تعلن عن غضبها عليه لأنه انهزم أمام الآخر الذي شاهدته من على( القنوات الأمريكية):هل العراقي هنا ضحية أم جلاد؟..

(حتى الأحياء منهم ماتوا)..هل هي أدانه لأنهم استسلموا إلى الأمريكان أم إلى النظام العراقي نفسه؟..لا اعرف..المهم من أن العراقي قد تحول بسرعة من جلاد إلى ضحية إلى العدم..ألا شيء..الموت المعنوي ولقد كان كذلك!..حتى تساقطهم العبثي(كالذباب في خنادق الذل) تصوير فيه الكثير من القسوة,لكنه ملائم لدخول الحرب العبثية للنظام وملائم لأنه انهزم فيها!..انه في الحالتين يستحق الإدانة!!

( ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج.عند بدء الاجتياح العراقي كان يعيش مشتتا..مضطربا..ينام وهو من أنصار صدام حسين,ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت..ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق,حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب”أم المعارك”128, فوضى الحواس)..هنا تشبه الفعل العراقي- الاجتياح- بالحمى المرضية التي أصابت المواطن العربي,وإحساسه بالعجز التام والشلل الفكري في معالجة مشكلة العراقي الجامح,الذي اجتاح دولة صغيرة,ثم شعوره بالغضب من جراء التحالف الدولي الذي قادته أمريكا,والذي تولى إنهاء المهمة التي عجزوا عن حلها بنجاح تاقوا أليه لكنهم لم يملكوا أي من مقومات نجاحه. لقد فقدت البوصلة العربية تماما صوابها بفعل العبث(العراقي) بها..الشباب العربي المحبط من الوضع العربي العام المنهار,يمثل بشخصية(ناصر) والاسم ذو دلالة لا تخفى,والذي كان ينام على طيف ويصحو على آخر,إلى أن تنتهي به ألازمة إلى وضع نفسه تحت

51

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تصرف الأصوليين الإسلاميين وانتمائه النهائي إليهم..وينتقل العراق برمته ( قادة وشعبا) إلى موقع الضحية بفنتازيات لا يقدر عليها سوى العرب!..فبعد أن يبدأ الهجوم  لدول التحالف بقيادة أمريكا ينحاز شباب العرب إلى معسكر العراق في تأييد شبه مطلق,خصوصا خارج دول الخليج,ومن منطلق قبائلي شهير( أنا وابن عمي على الغريب)!..

( كان مثل الجميع يراهن على المستحيل,ويحلم بمعركة كبرى..نحرر بها فلسطين! ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على ارض قاحلة,طلبني ليلا ليقول لي”أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم..انه ليس أكثر من “تحميله” وضعتها إسرائيل في مؤخرتها-128,فوضى الحواس)..كان لفشل الصواريخ العراقية في أداء مهمتها التدميرية الدموية ومن منظر الجيش العراقي المنكسر والمتساقط”كالذباب” في رأي الكاتبة,وهي لا تجانب الصواب هنا,بحدوث تحول كبير في عقلية الشباب العربي..فانهيار الأكذوبة الكبرى التي روج لها النظام العراقي وبمساعدة(النخبة) المثقفة في العالم العربي,والتي أوهمت الجماهير بعد هزيمة(العدو الفارسي) في حرب ألثمان سنوات,والتي كان العراقي هو ضحيتها الأولى والأخيرة,بالانتقام من إسرائيل بالأسلحة النووية,بعد أن مرغت إسرائيل كرامتهم بالأرض!..فهي تقول عن أخيها( كان مثل الجميع يراهن على المستحيل) والمستحيل هنا يتحمل العراقي عبئه لوحده أيضا وأيضا!..وليكتفوا هم بمراقبة”أم المعارك” من على “القنوات الأمريكية”!..هنا يتحمل العراقي الجلد مرتين:أولا لكذبه على العرب

52

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ووعدهم بأشياء لم تحصل وثانية لأنه انهار أمام اكبر آلة عسكرية عرفها العالم حتى هذا الوقت والتي أطلقتها أمريكا والعالم الغربي عليه..فهو لهذه الأسباب جبان,كذاب,مهزوم,مذلول..يستحق أكثر ما يستحق هو الشفقة!

كما أحدثت”أم الهزائم”اكبر رد فعل راديكالي عند شباب العرب,الذين بدوا يدخلون أفواجا إلى التنظيمات المتطرفة الأصولية من الخليج إلى المحيط,وكما يقولون أيضا..فانهيار الوهم النووي العراقي,دفع المتطرفين إلى البحث عن أسلحة لا تقل فتكا وشراسة عنها,إلى أن وصلوا إلى فكرة الأجساد المفخخة!..

التي كان لفضل هزيمة العراقي في حربه إلى ابتكارها,وهم يدركون,أنها ربما ستكون هذه هي آخر حروبهم بسبب شراستها ولكونها فعلا معركة بقاء.

( ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي..أو تنتحري..لقد تحولنا في بضعة أسابيع من امة كانت تمتلك ترسانة نووية..إلى امة لم يتركوا لها سوى السكاكين..وأنت تكتبين.وتحولنا من امة تملك اكبر احتياطي مالي في العالم,إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية..وأنت تكتبين-129,فوضى الحواس)..(سنتين كاملتين,تعلمت فيها أن احتقر كل أولئك الكتاب,الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل,أمام جثمان العروبة-130,فوضى الحواس).

بسبب الكارثة العراقية تحمل أحلام مستغانمي,كل أخطاء النظام العربي,إلى مجرد”بضعة أسابيع” التي كانت السبب الوحيد في كل الفشل المدوي الذي حصل وتحول العرب إلى قطيع من (قبائل متسولة في المحافل الدولية)!..ولكن كيف كان حال العرب قبيل الحروب العراقية؟..الم يلحظ عباقرة النظام العربي من

53

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مثقفين وسياسيين ورجال دين وعلماء وغيرهم,الزلزال العراقي وهو قادم لا محال؟..لقد وقف الأكثرية ,مصفقين ومشجعين وداعمين لهذا النظام عندما اجتاح الأراضي الإيرانية!..ثم أن أولئك الكتاب( الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل) هم أنفسهم الذين روجوا للمشروع العراقي الفالت من عقاله والدموي!..لو كان هؤلاء قد وقفوا إلى جانب مثقفي العراق الذين خرجوا إلى المنافي البعيدة والذين لم تفتح لهم دول(العروبة) أبوابها,هل كان ما حدث سيحدث؟..أن”جثمان العروبة” الذي تنعيه الكاتبة,قد مات منذ عام  1967!

عام الهزيمة الحقيقة التي أعلنت نتائجها العسكرية نهاية العقل الحر,الديمقراطي,

التنويري,وركز جيل العساكر أوضاعهم وتسلطوا على رقاب العباد في كل الدول العربية التي كانت معنية بالتنوير والتطور,وأفرزت تلك المجتمعات جيل من “مثقفي”السلطات التي احترفت التهريج على أعلى المستويات المخجلة..كان يكفي أحلام مستغانمي أن تسال أي عراقي في المهجر ,وكثير منهم كانوا في المهجر الجزائري,أن كان العراق قادرا حقا على صناعة- إبرة خياطة- عندها سيئتها الجواب قاطعا بلا!..بل نحن نستوردها من الهند أو الصين!..فكيف صدق العرب هذه الكذبة الجبارة من أن العراق قادرا على مجارة الدول الكبرى في صناعاته العسكرية!..أم أنهم كانوا يريدون أن يصدقوا هذا الوهم؟..أن ثقافة الجيوش وعسكرة المجتمعات هي ما يهم الأنظمة العربية ومثقفيها,وعلى قدر كبر هذه الجيوش يكون مقدار الاحترام وبالعكس,فالعرب احترموا أو خافوا من نظام العراق وجيشه الجرار الجائع,ولم يكترثوا للكويتيين لأنهم لا يملكون

54

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جيشا,وهي نفس العقلية القبائلية السائدة منذ عهد امرؤ ألقيس..لهذا كان استشهادها بالفرح الكويتي عندما حررت أراضيه ومقارنته بالعار!

(وارى قوافل البائسين هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر.تاركة كل شيء خلفها.بعد عمر من الشقاء..ودون أن نفهم لماذا.وارى الكويتيين يرقصون في الشوارع حاملين الإعلام الأمريكية مقبلي صور بوش,مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت,ولا افهم كيف وصلنا إلى هذا-130,فوضى الحواس)أما نحن العراقيين فنفهم..لأننا كنا وصلنا قبلكم بزمن إلى هذا الدرك من تلبد الحواس.أن هذه السطور تفضح النظام العربي,فالعراقي هو الذي فجر السطح البليد الذي كان يغطي هذا الفشل والعجز بفعلته الحمقاء..انه فشل اشد فداحة من فشل 1967 أو هو نتيجته..لقد انزاح العجز الخرافي,وفتح العراقي بابا أمام الخراب العربي..أو الفرصة الأخيرة لإنقاذه!..لا احد يمكن له التنبؤ بفداحة وحجم الزلزال العراقي,لكن الأكيد انه لم يعد من الممكن أن نقف في نفس المكان..هذا شيء قطعي. وحتى تخلص الكاتبة ضميرها من تهمة الجمع,كل ما  هو سيئ إلى العراق,تحاول هنا أن تدين رأس النظام..( وحده رجل غير مكترث بنا,لم يفقد قريبا في أي حرب من الحروب التي ارتجلها,ولا فقد في زمن المجاعة ولو شيئا من وزنه.كان يظهر على الشاشات,يمارس السباحة على مرأى من غرقانا واعدا إيانا بمزيد من”الانتصارات” -130,فوضى الحواس)..في النهاية أن هذا الرجل السابح على القرب من”غرقانا” قد كان يسبح ومنذ زمن طويل في دماء العراقيين,واعدا إياكم بمزيد من”الانتصارات”وإيانا بمزيد من

55

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموت والقحط!

كما تزيد الكاتبة في كتابها الآخر..(في الدكاكين السياسية التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية..باعونا”أم القضايا” وقضايا أخرى جديدة,معلبة حسب النظام العالمي الجديد,جاهزة للالتهام المحلي والقومي.فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثالي,ثم بتنا متسميمين بأوهامنا,لنكتشف بعد فوات الأوان,أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة,يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا… ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة-93,عابر سرير)

هنا تقوم الكاتبة بإلغاء الشعب العراقي من خارطة الوجود,فيصبح الملعب العربي بين سلطة العراق وعشاقها أو كارهيها من العرب!..وفي هذه الرؤية الكثير من الصحة..فالعراقي بات منهكا حد الموت”ماتوا جميعا” بحيث لم يعد ينقذه من همه السلطوي والمشروع العربي الفاشل,سوى معجزة إلهية..أو أمريكية!. أنها إشكالية خطيرة تركت العراقي الذي أفاق من موته ألسريري على صوت المدرعات الأمريكية وهي تدخل إلى مدنه وتفتحها كما تفتح العذراء في ليلة الدخلة..بين الرغبة والألم..بين الخوف والشبق. فهي تقول”انقضضنا”..لماذا انقض المثقفين العرب على جثة العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية؟.. لماذا صوروه بطلا وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من رقم بلا ملامح في قطيع كبير من الأرقام؟..

المرأة العراقية أيضا في “ذاكرة جسد” أحلام مستغانمي..ولكنها هنا العاهرة..

(حتى مومسات (بيغال)-حي العاهرات في باريس-المنتشرات على أرصفة الليل

56

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هيئة لا يصمد أمام غواية التلصص على عريهن رجل,لم استطع وأنا اعبر شارعهن إن أقيم مع أجسادهن العارية تحت معطف الفرو,أية علاقة فضول, فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلت تفاصيله الصحافة العالمية لمومسات البؤس العربي.مشهد لو رآه زوربا لأجهش راقصا,لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية.لا تخرج من حرب ألا لتبتكر لرجالها أخرى,وريثما يكبر الجيل الآتي من الشهداء.كانت تفرغ البيوت من رجالها ومن أثاثها,ومن لقمة عيشها,لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.لكن لا تهتم يا زوربا ..

يا صديق الأرامل لا تحزن..الجميلات الصغيرات لا يترملن,أنهن يزيّن قصور سادة الحروب العربية,وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلا لشرف الوطن..كما مات أزواجهن فداء له..وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات فاضلات يمثلن الاتحاد النسائي..بإمكانها أن تبقى معلقة على الأبواب يوما كاملا تأكيدا لطهارة اليد التي قطعتها,كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة (المتعة مقابل الغذاء)وتجرؤا تمني شيئا آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهن لتزيين كعكة عيد ميلاد القائد-29,عابر سرير)

هنا منتهى القسوة والوضوح في تجريد العراقي والعراقية من كل الصفات الكاذبة التي أغدقت عليه بشكل استثنائي أثناء حروبه دفاعا عن- شرف الأمة- ضد إيران..السلطة فاسدة,متوحشة,تسحق البنى التحتية للشخصية العراقية بلا رحمة,

العاهرات فيه فاضلات وبالعكس..إنسان مذلول,خانع..مجتمع لا يضم سوى القتلة والمقتولين. وما يحسب للكاتبة,أنها الأولى وربما الوحيدة التي تناولت ولو بشيء

57

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسيط لكنه جميل,وصف الحادث الشنيع التي أقدمت عليه سلطة الخراب ألبعثي في العراق ألا وهو إعدام العاهرات(أو هكذا اتهمن) بحد السيف العربي!

لكن العراق كان قد تحول بعد الحروب الكثيرة والحصار والانكسار النفسي والأخلاقي,إلى إفراز طبقة كبيرة من العاهرات والأرامل  والفقراء الأذلاء وهذه نتيجة طبيعية تحدث في أي مجتمع يخوض كل هذه التجارب المؤلمة من الحروب الخاسرة..بل لقد تحول ما سمي وقتها ,باتحاد العام لنساء العراق,إلى وكر كبير يمارس به العهر(الثوري)!..أن العراقيين الذين قبلوا بالذل والخنوع,مرتين,الأولى للنظام الوحشي والثانية لعقبات النفط مقابل الغذاء(المتعة مقابل الغذاء) كانوا مسئولين بشكل أو آخر عما جرى لهم..وهل يوجد إذلالا من هكذا وصف لرجال(جرءوا على التمني) وقبلوا برص جماجمهم بكل خضوع!

جدير بالذكر أن كتاب(عابر سرير) قد صدر عام 2003,فعندما حدثت منازلة(أم الهزائم) كان العربي في كتابات أحلام مستغانمي لا يزال يرجو (خيرا) من نظام أبدى استعداده الكاذب لرد كرامة الشارع العربي!..أما في كتابها الثاني,فقد انكشف كل شيء وعليه فان صب جام الغضب على النظام وبالتالي على العراقيين شيء منطقي!..لأنه المسئول عن كل هزائم العرب وهو الذي جسد (جثمان العروبة)..لكني اتسائل..أيضا..ماذا لو خرج العراق(منتصرا) في (أم الهزائم) وتحولت بالفعل إلى أم المعارك!؟..بالتأكيد كان المداحون العرب سيضفون عندها  كل صفات البطولة على العراقي الذي حارب وانتصر,وكل صفات الإلوهية على قيادته(الحكيمة) وذاب اسم الكويت في (أسيد) الذاكرة

58

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العربية المتعبة!..مجرد سؤال لا ارغب بسماع جوابه!

أخيرا نختار هذا المقطع الجميل من كتابها..( يحضرني دائما في مثل هذا الوقت,قول ساخر ليرناردشو معلقا على تمثال الحرية في أمريكا” أن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفتقدها أكثر” وهو ما يفسر وجود اكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مني بأكبر الخسائر والدمار-307,عابر سرير)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

59

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غالب هلسا..

الكتاب ( ثلاثة وجوه لبغداد ),هو عمل الروائي الأردني الرائع..غالب هلسا.

الصادر عن (آفاق للدراسات والنشر) في نيقوسيا-قبرص,في طبعته الأولى عام 1984 من القطع المتوسط ومن 224 صفحة.

اعتقد أن هذا العمل الروائي واحد من أهم ما كتب عن بغداد بصدق يصل أحيانا بنا إلى حدود ألامعقول..صدق جارح,بل دامي..ربما عن حب وعكس ما خرجت به من قراءتي الأولى للعمل من أن غالب هلسا يكره بغداد!..وربما البغداديون..( تحولت بغداد بالنسبة لي إلى ليل دائم-127)..الشخصيات عموما هي سلبية تماما!

لقد خرج غالب هلسا من السجن المصري وطار إلى بغداد..التي كانت تعد العدة للإطباق على كل اليساريين ورميهم بمصيدتها التي تعدها لهم..الطعم الذي تم جذب غالب هلسا به إلى بغداد مع كثير من يساريين العرب اسمه ( الجبهة الوطنية)..سار مع السائرين إلى المصيدة العراقية,في دلالة على بله سياسي أو انعدام البديل أو ربما الوعي..فما من احد استطاع بدقة أن يقرا تجربة عام 1963 في العراق من المثقفين العرب,وتحليل أسباب دمويتها المفرطة ومن كان المسئول عنها والمتسببين بها!..أن غالب هلسا يأتي إلى بغداد,وهو يحمل نظرة استشراقية وحنين هائل إلى الماضي..بغداد بشكلها الحالي لا تعجبه أبدا فيحاول جاهدا استبدالها بأخرى في خياله..كما انه لا يخفي مياه إلى بغداد التي تتوسط بطون التاريخ..تلك الجميلة,الثرية,المثقفة,الأنيقة..الخ,مما خلفته لنا قصص ألف ليلة وليلة. لا يريد هلسا الاعتراف أن بغداد قد أصابها القبح كما المرض الجذام

60

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولا أن يفهم غموضها..ولا أسباب تعبها من كثرة اغتصابها سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وعمرانيا من قبل أبنائها..ولماذا أدمنت على حكم العسس منذ زمن طويل واستسلمت له,تستبدلهم بين الحين والآخر ,لكن بنفس النوايا الشريرة, والوجوه الكالحة والأرواح الحاقدة..فما أشبه اليوم بالبارحة بالغد!

تبدأ رحلته داخل بغداد بشكل يثير في نفسه الأسئلة المريبة..( ولكن هذا الشارع صامت,والضوء شحيح,كأنه ضوء ساعة ما قبل الفجر.ما قبل خلق العالم بلحظة.الشارع خال من البشر.مشحون بتوقع غريب.يتراوح بين الخوف وتحقيق المستحيل,سار,وكان لوقع إقدامه صدى-15)…( كان قد تجاوز الجزء الأكبر من الشارع.ثم فجاءه رأى شجرة.شجرة كبيرة,مليئة بالأوراق,والأغصان.قدر أنها شجرة تين,كان تقع على يساره,وراء سور,وكان الضوء يتخللها من جميع الاتجاهات,بدت خارج سياقات الشارع.اللبص,المعتم,ولكنها تندرج في سياق بغداد.شجرة مرحة,هل يمكن قول ذلك؟ اعني كانت كأنها ضحكة,في وجه قاتم,ليس لها معنى,على أي حال.رأى شجرة فاتخذ القرار,سيعيش بين هؤلاء الناس-16,17)..انه القادم من القاهرة..تلك العاصمة الخرافية التي تستأثر بعقله وقلبه..يبقى متعلقا بها حتى في النوم..( ثم تذكر انه في بغداد.لقد كان يحتاج إلى قدر من الإرادة واليقظة ليتذكر انه في بغداد ,لم يكن سهلا.القاهرة تحتويه تماما فتظل بغداد عابرة-18)

لا يجد البطل اليساري القادم من المعتقل المصري بدا من الاندماج في الحياة الثقافية العراقية الملتهبة والتي هي جزءا مهما من أجزاء المصيدة السياسية التي

61

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعد لها السلطة..( وسارت الأمور في تتال متوقع,ومريح.انتهت بسيارة مرسيدس 2205 وقفت أمام الفندق البائس الذي يسكن,فحمل ملابسه القليلة,وسارت به السيارة إلى فندق فاخر ليصبح ضيفا على الحكومة العراقية-33)..لقد كان مثقفي العراق في تلك المرحلة( السبعينات) جزءا مهما من اللعبة السياسية(لعبة القط والفار) وكان طرفي النزاع,الشيوعي العراقي والعبثي العراقي,يشحذون سكاكينهم تأهبا للانقضاض والانتقام والغدر,والتي كانوا يخفونها خلف ابتسامات واسعة وأسنان بيضاء..وكلاهما قد ساهما وبشكل كبير في تدمير الحياة السياسية في البلد والقضاء على أي انجاز ديمقراطي فيه الحد الأدنى من احترام الخصم السياسي التي ورثها العراق الحديث عن فترة الملكية والتي نعم فيها العراقيون بنوع من السلام..فقد (اتفق) الشيوعي والعبثي,بدون اتفاق على اغتيال تلك الفترة أدبيا وسياسيا وتغييبها عن الذاكرة العراقية الجمعية,ولقد نجح كلاهما في ذلك ومن يريد الاطلاع على موقف الحزبين من الملكية عليه الرجوع إلى(أدبيات) كلا الحزبين. وربما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي ( اتفق) فيه الطرفان المتنازعان تاريخيا.عموما,يصف هلسا في هذا المقطع بعض من تفاهة ورتابة المشهد الثقافي في تلك الفترة,التي يعتبرها العراقيون,عصرا ذهبيا!! أي فترة الجبهة الوطنية..( شارك غالب في بعض النشاطات الثقافية,ولكنه لم يحقق المشروعات الكبيرة التي كان يحلم بانجازها,شرب البيرة في بارات شارع السعدون,والويسكي المغشوش في دار اتحاد الأدباء,والشاي صباح الجمعة في مقهى البرلمان.كان طرفا في بعض المؤامرات الأدبية,وتعرض لكثير منها,

62

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحدث عن المساواة بين المرأة والرجل,فنالت آراءه موافقة جماعية,ولكنها قللت من احترام الآخرين له.قال آراء في الحياة الاجتماعية واعتبرها السامعون نكاتا.

وقال نكاتا اعتبروها آراء.أزعجه هذا الخلط فحاول أن يشرح فاعتبروه ظريفا جدا,فانتهى الأمر به إلى اليأس-34)..يبقى هلسا في خياله يبحث عن بغداد أخرى..كما تلك التي يحملها في خياله الخصب..( حلم يقظة أعيش  فيه بغداد عباسية-128)..( أسير ألان في موازاة قلب الحي,لمحة من الشارع الضيق,النظيف,الذي يتخلل الحي,ويتوه في عمقه بغموض,وّلد في داخلي شوقا لبغداد أخرى:بغداد الخمسينات الملفعة بضباب عصر عباسي-115)..( المرأة؟ وتئن أحشائك شوقا.وتمتلئ بانفعالية مضى زمنها,إذ تراها-تلك المرأة-في إطار التاريخ-الأسطورة حلم اليقظة متجذر في التاريخ.في عراقة الماضي,وحكايات ألف ليلة وليلة,وكتاب الأغاني و…..هذه بغداد في النهاية,والذاكرة لا زمن لها.وهذا الشارع ذاكرة الأسطورة والتاريخ والحلم,وأنت في قلبها-37)

يستعين الكاتب باللجة العراقية الحادة..أعجابا أو سخرية!..لكن توظيفها في العمل جاء موفقا خصوصا للقارئ العراقي(على الرغم من هذه الرواية من الممنوعات في العراق!),فاللهجة العراقية تتمتع بخصوصية خاصة لا تشابهها أي لهجة عربية أخرى,كما أنها تعكس جانبا من فجاجة ومزاجية الفرد العراقي..( همس رقيق,حلقي,هنا,يستطيع غالب أن يلتقط عبارات,مثل”انه وداعتك ووداعة أبويا”

“هلا بالورد,هلا بيك عيوني”..”آني ممنون”..ثم يتساوى الإيقاع ويزداد علوا,

يترافق مع ضحكات قوية أو شتائم من نوع “قواد,قندرة,زمال”ويظل يتعالى,

63

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإيقاع-41). ولم تغب عن عين الكاتب الواعية لمفردات الشخصية العراقية, صفة الحزن الدفين والشرود الذي يسبق الانفجار العنيف الذي مارسه العراقيون كتقادم الفصول,والذي ينعكس بالتالي على مزاجية المدينة!..وبالعكس!

(-  ليلى!

لم ترفع رأسها,قدر أنها لم تسمعه أصلا.قال لنفسه,أن هذا الشرود الطويل,والحزن الذي صمد للزمان,بهما نستعيد تلك العراقة التي أخذت تزول.إنهما تعويضه وعزاؤها عن تلك الحركة الخرقاء,التي تجتاح شوارع المدينة-70)..أما حالة الرعب الملازمة لأختها صفة الحزن,فأنها هي الأخرى,

لم تخف عن عين المؤلف المدربة جيدا على رصد الإشارات وتحويلها إلى كلمات مؤثرة..ذلك الرعب الذي يطارد أصحابه حتى في الأحلام..( ويقول الصوت صامتا,باكيا,حزينا حتى الموت:تذكر – يا جنيني- عذوبة أماسي الصيف

ليالي الشتاء والقهوة المرة,والشاي….تذكر مذاق الحلوى- عندما كان لها مذاق يشيع في فمك وانفك,وإذنيك,يفتح مسارب صدرك- والحكايات المخيفة,يقودك رعبها للنوم مخدرا,خائفا من الهمسة,وتملأ أحلامك بموجودات صماء,تتحرك في قلبها حياة غامضة,فتتشكل,وتحاصرك,وإذا بها تلك الغولة التي تستعد لالتهامك,فتخبئ راسك في نحري,وتذوب بين نهدي..هل نسيت ذلك كله,حتى تلغيه وتدمره من اجل هوية واسم! ماذا استفدت من عالم الكبار برتابته,ومنطقيته وشعاراته ونظرياته..!-77)..العسس حاضرون بقوة,في كل مكان,فلا يمكن أن يكون الرعب المبرمج فعالا بدون عسس,مهنة العراقيين التي يحترمونها

64

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويمارسونها منذ أجيال بعيدة!..(على يسارنا وراء البيوت الواقعة في شارعنا,

غابة نخيل,تتناثر بين جذوعها أشجار اللارنج والليمون,بين آن وآخر يلتقط ضوء السيارة شبح امرأة ملفوفة بعباءتها السوداء تسير برفقة رجل,رأيت فتيات يهبطن من سيارة أجرة توقفت أمام احد البيوت برقت سيقانهن وهن يغادرن السيارة, رجال شرطة يجلسون داخل سيارة مظلمة,تماثيل سوداء,مصمتة-93)..(التقطت عيناي رجال الشرطة,جالسين على الدكك الخشبية,يشربون الشاي من استكانات صغيرة ويدخنون كانوا صامتين93).

أن غالب هلسا ذو قدرة كبيرة على تحويل العادي إلى شيء مبهر..ملفت للنظر والفكر..فها هو يلتقط حديث فلاحين في باص نقل عام للركاب,ليسلط النظر على عمق الهوة التي تفصل بين النخب الحاكمة والمعارضة لها والتي تنتظر دورها في الحكم,وبين بسطاء الشعب العراقي وعامتهم. فالحكومة..أي حكومة,هي فاقدة للمصداقية بنظر هؤلاء الذين عانوا أجيالا بعد أخرى من كذب واضطهاد الحكومات المتتالية,إلى أن أصبح الطرفان يمثلان طرفي المعادلة التي لا حل لها

(..كان الفلاحون يجلسون على الكراسي التي أمامي ويتحدثون بصوت مرتفع.

كان موضوع حديثهم إشاعة تقول أن الحكومة قررت أن تمنح كل راعي غنم قرضا طويل الآجل,ودون فوائد قدره عشرة آلاف دينار,وسيارة مرسيدس هدية,

واخذ الفلاحون يبدون دهشتهم ويتساءلون عن السبب الذي جعل للفلاحين كل هذا الشأن قال احد الفلاحين أن هذه أكاذيب تعودت الحكومات على ترديدها,تذكروا أيام عبد الكريم قاسم؟ لقد قالوا أن كريم سوف يزوج كل فلاح معلمة مدرسة.

65

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انتظرنا المعلمات فلم يحدث شيء,أكاذيب الحكومات نعرفها-95)..ثم ينتقل بنا البطل غالب(هلسا),في مشهد بانورامي حزين داخل بغداد..عندما استقل تاكسي في ظهيرة ذلك اليوم من أيام الصيف اللاهب..(شاهدت نساء بعباءات سوداء,

تغطي الجسد من قمة الرأس إلى القدم,وبوجوه بللها العرق,يحملن أكياس نايلون ملونة أرى وراء شفافيتها خبزا وخضار حمراء وخضراء ولحمة كان ذلك نتيجة للوقوف ساعات طويلة في طوابير الجمعيات الاستهلاكية والأفران والدكاكين الصغيرة.شاهدت رجالا يلبسون الكوفيات منقطة وعقل غليظة,لهم وجوه مكدودة ضامرة بدت لي كالأقنعة…….أصبحنا في شارع الجمهورية,الهواء القادم من شباك السيارة المفتوح يأتي لاسعا,عنيفا كلسان ناري يلعق الوجه بشراسة.أمام العيادة الشعبية تقف عشرات الوجوه المنتحبة بصمت,الضارعة بصمت,تنتظر.

نساء بعباءات سوداء,رجال بكوفيات وعقل,أطفال سمر معلقون على الصدور,أطفال دارجون بين الأقدام,أو واقفون في صمت كالتماثيل بعيون سوداء,واسعة,حزينة,إلى جوار أمهاتهم,كلهم ينتظر في جحيم بغداد الملتهب وأعيش للحظات- وأنا أكاد اختنق- كوابيس طوابير الانتظار:طابور يمتد من داخل الفرن إلى الرصيف,إلى الشارع,وأنا أتفسخ وأذوب بالحرارة المنبعثة من الفرن المشتعل,وعندما أصل إلى بائع الخبز يقول لي.

عيني,ماكو صمون!

فانصرف ملتاثا بالحر والخيبة,طوابير طويلة لشراء كيلو طماطم,أو خيار,اكتشف بعد شراءه انه لا يصلح للأكل,طوابير داخل الاورزدي باك لشراء علبة سجائر أو

66

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استكانات لشرب الشاي..طوابير..طوابير..لا تنتهي أبدا وكأنها تتولد.وتواصل السيارة اندفاعها في شارع عريض يمتد لما لا نهاية..ولما لا نهاية تتكرر” امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” مكتوبة بخط اخضر بارز فوق أرضية من الزجاج الصيني الأبيض,معلقة على شرفات وفوق بوابات دوائر حكومية,ومؤسسات غامضة,وعمارات سكنية.ومطاعم كباب ومحلات بيع الشربت,بداية الوزيرية  صورة كبيرة لرئيس الجمهورية يبتسم بأدب,مكتوب تحتها”الرئيس احمد حسن البكر مثال رائع للمناضل العبثي” – صورة أخرى لنائب رئيس الجمهورية وهو عابس يرتدي ملابس عسكرية.مزينة بنياشين كثيرة,صورة أخرى لرئيس الجمهورية ونائبه..الرئيس يبتسم برقة ونائبه يضحك……..نمرق تحت الجسر الحديدي” امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” “وحدة حرية اشتراكية” معلقتان فوق دار الجماهير,تزاحم السيارة وتناور,وهدفنا ساحة باب المعظم.زحام هائل,الآلف البشر يقفون بانتظار باصات تنقلهم إلى أماكن متفرقة في المدينة,تجئ الباصات وتمضي ويظل الزحام على حاله………أوقفت السيارة قبل استدارة الساحة,وواصلت مسيرتي مشيا.توقفت في انتظار إشارة عبور المشاة,ولم أشارك السائرين مناوراتهم الجسورة لعبور الشارع.وسط اصطكاك الفرامل وشتائم السائقين.انفتحت إشارة المرور ولكن سيارة فولفو مرقت مسرعة كالسهم بين العابرين.قوانين المرور يحترمها الضعفاء فقط.في الطرف الآخر من الساحة يجلس بائع السجائر الوقور المقطوع الساقين على الأرض أمام سجائره- 112,

113,114).

67

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثم ينتقل بنا الكاتب على جناح السخرية السوداء,إلى مشهد من أهم مشاهد العراق السياسية المطبوعة بروح(البلطجة)..مشهد اغتيال عبد الكريم قاسم,الذي يذكره العراقيون كلهم وعلى اختلاف أهوائهم من هذا الشخص. فعبد الكريم قاسم,هو أول رئيس لأول جمهورية في العراق الحديث..مشهد سريالي آخر من المشهد العراقي العام الشديد الغرابة..شخصية لم يتم الاتفاق- كالعادة – على تقويمها بشكل عام,فمرة يذكر قاسم على انه قاتل العائلة المالكة في العراق,ومرة يتم تصويره على انه ثائر على الاستعمار البريطاني الذي كان يحكم العراق من وراء العائلة المالكة,مرة أخرى كمشجع على أعمال الغوغاء التي قامت بتحريض من الحزب الشيوعي المتحالف معه,في مدينتي الموصل وكركوك,ومعها يتم استذكار حوادث قطار السلام وما رافقها من أعمال دموية,ومرة بأنه أول من وضع لبنة الصرح العراقي الحديث وبداية نهضته الوطنية..عفيف,نزيه,نظيف اليد..هذا ما يتفق عليه الجميع وأولهم أعدائه..قتل في عام 1963,في مشهد مريع وبعد محاكمة صورية من بعض المغامرين وشذاذ الآفاق,ولقد تم البصق على وجهه(بعد إعدامه) على مرأى من العراقيين ومن خلال شاشة التلفزيون!..ثم تحولت جثته إلى عبئ على قتلته,لهذا تم الاتفاق على رمي جثته في النهر!..وهنا يصف غالب(هلسا) مشهد لقاءه بأحد(أبطال) محاولة اغتيال قاسم الأولى التي باءت بالفشل..( في تلك اللحظة هاجمني الضحك فقاومته بصعوبة,إذ تذكرت ما قاله لي احد المسئولين,الذي يكن عداوة للمدير العام.أن كل أمجاد هذا المدير انه شارك في اغتيال عبد الكريم قاسم على النحو التالي:لقد صدر إليه الأمر أن يرتدي ملابس النساء,وان يقف قرب

68

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المكان المقرر للاغتيال.ثم عليه بعد إطلاق الرصاص على قاسم مباشرة أن يصرخ بصوت نسائي,عال وواضح:

– واويلاه!الشيوعيين كتلوا الزعيم..!

وقال لي ذلك المسئول,تصور,انه حتى هذا الدور لم يقم به,فلقد انصرف بعد إطلاق الرصاص بعباءته واقر اطه الذهبية دون أن يطلق ولولة واحدة-119).

ثم ينتقل هلسا إلى الانتقاد المباشر للسلطة الحاكمة ويصف كابوسها الطويل على بغداد في مقاطع مهمة تبرز جانب من جوانب الشخصية العراقية بنظر العربي..

( فاجأتني صفائح الكارتون السوداء,تمتد على ارتفاع متر عن الأرض,تغطي الحجرات التي يوجد فيها فتيات تابعة للمكتبة الوطنية.اعتقدت في البداية أنها موضوعة بمناسبة عيد ما.من تلك الأعياد التي لا تنتهي.يوم أو يومان وتزول.ولكن هذا الكابوس الأسود,ذلك الليل الأبدي,استمر على الأيام والسنين-120)..( المهم أن المدير العام اختفى من الدائرة وان مديرا آخر حل مكانه وان هذا الأخير جاء من احد الإدارات الغامضة,وقيل انه سوف يعود إليها.وقد علمت أن هذا المدير كان شيوعيا سابقا,ثم انظم إلى حزب البعث في السبعينات,وأصبح فجاءه من اشد المتعصبين لأفكار الحزب ومن المغالين في عدائهم للماركسية.يقال انه مرة قابل احد معارفه ولامه لأنه كتب مقالا في احد الصحف عن مدام كوري,قال له”لماذا لم تكتب مقالا عن الخنساء بدلا من الكتابة عن امرأة شيوعية” ولا اعلم ما انتهت أليه هذه المناقشة,ولكن قيل أن أستاذ الفيزياء الجامعي هذا قد تم نقله إلى معلم أطفال في قرية في جنوب العراق- 123)…( عندما خرجنا لم ينظر احد منا إلى الآخر,أو

69

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يعلق على الحديث الذي دار,لا احد منا اخذ ما قاله المدير مأخذ الجد,فما داعي الحديث والنقاش,خاصة ونحن نعلم أن ما يقال يصل إلى أسماع المسئولين من خلال مسارب يصعب تحديدها-124)

يحلل بعمق الوضع السياسي والاجتماعي العام وبدقة,يضع أصبعه على بدايات الخلل,وهو خلل مر به كل العراقيون وخصوصا منهم المهتمون بالشأن السياسي وعمله..( تلك الآلام التي تصاحب نهوضي من وراء المكتب,وانحنائي لالتقاط شيء ما من الأرض,الآم العنق التي اشعر بها حين استرخي في كرسي مريح لم تكن الآما جسدية,بل نتاج الخوف الكامن في عظامي,أدركت لحظتها بحدس فاجأني وأدهشني أنني شاركت في صناعة هذا الخوف عندما تجنبت الصدام والمواجهة,واخترت الانزواء والانصراف إلى القراءة والكتابة,وعندما قبلت بالأمر الواقع اعتمادا على من كانوا يرون أننا نعيش في أحسن العوالم الممكنة 133)..كما انه يقدم وصفا لأسباب هذا الخوف الذي استولى على العراقيين وبالتالي عليه..و مدى احتقاره لهؤلاء الذين يحمون هكذا دولة ونظام..( أنهم مجرد حثالات-مكبوتة جنسيا-يمتلكون قدرا من السلطة- 136)..لكن مع هذا يتحول الخوف إلى مرض عضوي في النهاية..( لم يكن هذا الحادث فريدا من نوعه,كل يوم,تقريبا يحدث شيء يؤكد هذا الخوف ويجعله يتحول إلى جزء عضوي من الجسد,يشتبك مع اللحم والعظم والأعصاب لقد توقفت عن جولاتي الليلية,وملأت الثلاجة بالأطعمة- فقد استولى علي هوس اكتناز الأطعمة حتى لا اضطر للخروج ليلا لتناول العشاء-138)..أنها سياسية مبرمجة ومدروسة,جرعات من الخوف إلى

70

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أن يتحول إلى كائن خرافي لا يقهر,مارستها السلطة العراقية في ذلك الوقت ضد الشعب العراقي بقدر كبير من الذكاء والخبث..وفي هذا المقطع ينقل لنا هلسا, مشهد سريالي آخر لم يحدث في أي بلد من بلدان العالم الواسع..انه مشهد صبغ سيقان الفتيات..( أما بالنسبة إلى المرأة فلقد كانت المسألة تثير الفزع حقا,فلم يتوقف إلا منذ وقت قريب ذلك المشهد الذي ينقلك إلى جو الكوابيس,مشهد رجال الشرطة يحملون جرادل مملئة بالصبغة السوداء,والفرشايات,يستوقفون النساء اللواتي يرتدين ملابس قصيرة,ويدهنون سيقانهن بالصبغة السوداء,تكون المرأة واقفة تطالع إحدى الفاترينات,فتفاجأ بالشرطي ينحني على ساقيها ليباشر تلك المهنة الغريبة:إحدى النساء جعلتها المفاجأة تقفز من الرصيف إلى الشارع,صدمتها سيارة مسرعة فماتت على الفور,وأخريات كن يصبن بحالة هستيرية ينقلن على أثرها إلى المستشفى,وأحداث أخرى اشد غرابة,فكل رجل يسير مع امرأة في الشارع معرض لاستجوابات رجال الأمن,الذين يقودونه إلى اقرب قسم للشرطة,وهناك يطالبونه أن يثبت أن صلة عائلية تربطه بالفتاة,وحين يعجز عن إثبات تلك الصلة ينال الاثنان نصيبهما الوافر من الضرب والاهانات,وتستدعي عائلة الفتاة لاستلامها.أما الشاب فيحلقون شعره,ويضعونه في سيارة مكشوفة, تسير في الشوارع ببطء وخلال ذلك يتناوب رجال الشرطة ضربه وتوجيه الاهانات له-138)…بعد أن ابتلع العراقيون جرعات الخوف بدون مقاومة, واستسلام منقطع النظير اقرب إلى الجبن الصريح,اكتملت أعود المصيدة وأطبقت عليهم بسهولة..تفرغ ألبعثي العراقي إلى الشيوعي العراقي,وأصبح الإفلات من

71

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه المصيدة شيء أشبه بالمستحيل..( بعد فترة قصيرة تقوم قوات الأمن باعتقال عضو الحزب الشيوعي المستعصي,وتمارس معه أنواعا من الحوارات,يقف على رأسها الحوار الجنسي,يتم هذا الحوار على النحو التالي:الاغتصاب الجنسي للرجال والنساء(من أين لأجهزة الأمن هذا العدد الكبير من الشاذين جنسيا والساديين؟ سؤال مشروع أليس كذلك؟) إرغام الشيوعي أو الشيوعية على الجلوس فوق زجاجة مهشمة العنق,وإدخالها كاملة في المؤخرة.الزجاجة المستعملة هي زجاجة بيبسي كولا,وهي ليست كبيرة الحجم( هل يعني اللجوء إلى الزجاجة أن أجهزة الأمن تعاني نقصا في عدد الشاذين جنسيا) لا.لان الزجاجة كانت تتحول إلى كائن آخر,شرير,ومشبع بالرعب- 161)

لم يكتفي غالب بنقل ما يحدث في جانب الحكومة والعاملين معها ولها,بل انه ينقل لنا ما يحدث في الجانب الآخر..الحزب الشيوعي العراقي,الذي تشرذم بدون مقاومة,وإبدائه الاستعداد المازوخي في تقبل الإبادة الجماعية التي مورست ضده, كيف كان الانهزاميون فيه يروجون بسذاجة وبلاهة تقربهم إلى صفوف تلامذة المدارس وليس إلى مستوى سياسيين يريدون قيادة البلد..عندما روجوا إلى أن السيد النائب(صدام حسين) يمثل التيار المتنور واليساري في صفوف حزب البعث القومي صاحب التجربة الدموية لعام 1963..( هناك صراع داخل السلطة بين مجموعة يسارية وأخرى يمينية,المجموعة الأولى يقودها ويجسد أهدافها السيد النائب,أما المجموعة اليمينية فتدور في فلك رئيس الجمهورية,ثم يصبحون بالغي

الرقة عندما يخبرونك عن طبيعة المجموعة اليسارية داخل السلطة( ما الداعي

72

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للالتفات حول الأمور الواضحة؟هذه المجموعة تمثل اتجاها ماركسيا لينينيا بالتحديد!) ويرى نائب رئيس الجمهورية ( يطلقون عليه تحببا اسم السيد النائب) أن سياسة الحوار هذه موجهة ضده بشكل أساسي. وهو يعمل بدهاء شديد لتغليب الاتجاه اليساري داخل الحزب الحاكم على الاتجاه اليميني,وانه سيتقدم في اللحظة المناسبة,ويضرب ضربته,رافعا راية الماركسية اللينينية.السيد النائب يعلن بصراحة ووضوح انه لا أساس لكل هذه التحليلات وان الحوار هو مشروعه وان كل ما يتم هو بأمره وتحت إشرافه,وقد تحدث مطولا عن هذا,وطلب من المحللين الحالمين ألا تستغرقهم أحلامهم.( دا تشوف؟ السيد النائب يناور-162)….( وأي شيء لم نكن نراه على شاشة التلفزيون.النائب يزور البيوت ويسال الناس عن مشاكلهم.ويأمر بتجديد الأثاث التالف,ويتبرع بمهر المقبلين على الزواج,ويزور معسكرات الطلبة,ويداعب شعر الفتيات ويمازحهن,ويبتسم,ويبتسم,ويبتسم, ويقهقه أحيانا,و تهتز كتفاه ,وفي أحيان أخرى بضحك مكتوم.لقد أصبح السيد النائب هو الممثل الرئيسي في التلفزيون.ها هي جماهير غفيرة تتزاحم حوله)…

( على شاشة التلفزيون كنا نرى النائب في كل مكان,وفي كل الأوقات.باستثناء الأماكن التي نوجد فيها,ولكننا نحلم ونأمل أن يزورنا في بيوتنا ويجدد أثاثنا التالف.كل شيء بدا باعثا على الاطمئنان,هو انحراف مؤقت,وسوف تتعدل الأمور سريعا.ولكننا فوجئنا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي يصدر بيانا داخليا( بعد موجة رهيبة وواسعة من الإعدامات والتصفيات والاعتقالات) كان البيان موجها إلى أعضاء الحزب يقول فيه:من استطاع الهرب منكم فليهرب.

73

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ومن أمكنه الاختفاء فليفعل,أن المجموعة اليمينية هي قيادة الحزب الحاكم كلها.

وليس مجرد جماعة صغيرة تلتف حول رئيس الجمهورية-163).

من أجواء السياسة الدامية,ينتقل بسلاسة إلى تفاصيل الحياة العراقية..التي اثبت لنا انه لم يستطع سبر غورها,وبقيت بالنسبة له لغز يحتاج ربما لعمر آخر يعيشه في بغداد,للوصول إلى قاعها البعيد..( حديثها-لم لا أقول ثرثرتها؟-قادني إلى حياة بغداد الداخلية.كان لها أسلوبها الخاص في الحديث,أسلوب تلقائي,طلق,تستطيع في عبارات قصيرة محايدة,خالية من الخلفيات والشروح.وكأنها تفترض فيّ معرفة كلية بموضوع حديثا,أن تخرج الشخصيات من نطاق المجتمع العراقي المجهول لدي,والغامض,إلى دائرة البشر,ذوي الدوافع والعلاقات والأهداف المفهومة,كانت تدع لي وضع خلفيات الموقف,فكنت استعير خلفيات أردنية ومصرية,هنا يبدو لي المجتمع العراقي أليفا.كانت سهام بأحاديثها هي الحبل السري الذي يربطني بمجتمع منطو على ذاته,وكان مجرد سؤالي عن بعض الخلفيات والتفاصيل يربكها,ويجعلها ترسم صورة لمجتمع غير مفهوم وشديد الغرابة,فكانت تهرب من هذا الإرباك بالجنس-166). أن بغداد قد استنفذت كل دهشته وغرابته..امتصته وهي تطلب منه المزيد من الدهشة,والصبر لاستيعاب غرائبية هذه المدينة..ورغم أنني لم اعد اندهش لشيء في هذه المدينة-216)

كانت عصية على الغريب,واعتقد بأنها ما تزال كذلك,فقط من نشاء فيها وترعرع يبدو منجذبا أليها بحب غريب فيه الكثير من القسوة!..حتى الآخرون من أبناء العراق,كانت بغداد تصدمهم وتصدهم وتدفعهم إلى كراهيتها حينما يهاجرون

74

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أليها,وربما تلفظهم ويبقون فيها غرباء..كما حدث إبان الهجرات السكانية الكثيفة لأبناء الجنوب العراقي نحوها,بدا من عام 1958 ولحد ألان,حيث تجمع هؤلاء بالملايين وشكلوا طوقا بشريا هائلا حولها,وأحياء مليونية على أطرافها..ألا أنهم بقوا بعيدا عن قلبها الذي ظل يرفضهم.

للمرأة العراقية بنظر غالب هلسا ثلاث وجوه..وهنا يندمج الجغرافي بالإنساني.. بغداد والمرأة..( ومن خلال سهام تعلمت أن ابحث عن وجوه المرأة العراقية الثلاث.الوجه الأول,أن أراها داخل إطارها الاجتماعي المتخلف,وهي في حالة خضوعها له,وقبولها به,أو تظاهرها بالقبول,وهو الوجه القبيح,الذي عرفت سهام في البداية من خلاله,بدت لي فتاة سمينة,عصابية,ثقيلة الظل,تتحاشى مجتمع الرجال,وتعيش في رعب دائم منهم,كنت أراها وهي تنتقل داخل حجرة الفتيات تسير محنية الرأس,تدب بقدمين متباعدتين وكأنها حبلى,والوجه عابس كأنه لا يعرف الابتسام.عبر هذا الوجه…تبدو ثقيلة الحركة,مفتقدة للرشاقة ولوح الأنثى,

وإذا حدثها رجل,فتتلخص ردود فعلها في حماية جسدها:تنحني لتخفي نهديها ولذلك يندر أن ترى الفتاة العراقية تسير منتصبة القامة,يرعبها أن يبد نهداها مشرعين للعيون.أن نظرات الرجال وأحاديثهم تتحول عندها إلى نوع من الملامسة,بل محاولة اغتصاب.وعندما تتعمق هذا المظهر تجد وراءه رغبة الفتاة أن يستباح جسدها.أن الخلوة بالنسبة لها,مع رجل تعني منحه جسدها,ما فعلته سهام في نفس اللحظة التي أغلقت فيها الباب الخارجي.الوجه الثاني,هو الذي ينكشف أمامك حين تشعر المرأة بغياب الرجل العراقي,هنا تحس أن الفتاة تعيش

75

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حالة انتعاش,حالة يقظة وكأنها تستيقظ من خدر كان يلازمها,تنفتح روحها أمامك فتجد ذلك المزيج من خفة الظل,والذكاء والمرح,ترافق ذلك جراءة غريبة لا تتوقعها وتصبح الفتاة مستعدة لكل شيء,دون خوف,ودون شعور بالذنب,…….

الوجه الثالث,هو وجه الفتاة المتمردة على وضعها الذليل,والتي تملك القدرة أن تعلن تمردها أمام الجميع,وتجعل الضر وف الاجتماعية تخضع لشروطها,أنها التجاوز-167,168,169).

وأخيرا,أراد..ربما..غالب هلسا أن يصف لحظة دموية ومروعة في تاريخ بغداد..

المدينة..بعد أن انفرد الحزب الحاكم بالسلطة والمصيدة ( لم تكن غيوما تلك التي حجبت نور الشمس,بل لون اسود,كان مجرد لون اسود,انبثق من قلب النخيل الذي يشكل الجزء الأرضي من الأفق,واخذ ينتشر في السماء بسرعة مخيفة,

زحف السواد من كل جزء من محيط دائرة الأفق إلى المركز,احتجبت الشمس,

بعد دقيقة أو أكثر قليلا هبطت على المدينة ظلمة ككابوس خانق,كثيفة عدوانية,

شاملة,لا وجود لضوء من أي نوع في قلبها,عجزت حتى عن رؤية يدي, ظلمة كانت كالعمى المفاجئ218).

هل كانت فعلا( كالعمى المفاجئ) أم..كالعمى التدريجي؟!

 

 

 

 

76

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حنان الشيخ..

أن رواية اللبنانية حنان الشيخ..( أنها لندن يا عزيزي),الصادرة عن دار الآداب

بيروت,والتي تقع من 408 صفحة من القطع المتوسط..عمل جميل جدا..متناغم بالرغم من الانتقادات التي وجهت أليه من هنا وهناك.وأهمية هذا العمل تكمن في أن مؤلفته الروائية اللبنانية المميزة,حنان الشيخ.والتي انتشرت في الغرب أكثر بكثير من انتشارها العربي,وحققت ما لم يحققه الكثير من الأدباء العرب.

وإذا أردنا اختصار العمل في كلمة أو جملة,فلا يمكن أن يكون غير العنوان التالي(أزمة الحرية)..التي يعاني منها العرب المهاجرون إلى دول الغرب الأوربية.وما يهمنا طبعا هو كون البطلة الرئيسية في هذا العمل هي العراقية (لميس)..التي تلقي بظلها الخفيف على العمل كله.تلك العراقية القادمة من وطن ممزق,لا يملك حتى مقومات الوجود الأساسية التي يحتاجها أي وطن!

تبدأ أحداث الرواية داخل طائرة عائدة من دبي إلى لندن..وهنا تصور لنا الشيخ بطلتها –لميس- ومدى الهلع الذي امتلكها بسبب فقدان جواز سفرها البريطاني,وتصور لنا أهميته القصوى بالنسبة لها..( داخل لميس يغلي من الرعب..جواز سفرها الغالي ما زال مفقودا رغم أن المضيفة أعلنت فقدانه أكثر من مرة.بعد لحظات عاد نيكولاس يسلم لميس جواز سفرها بعد أن لمحه على الأرض تحت المقعد قبالته.تشكره وكأنه قد أعاد أليها حياتها-7). أن جواز سفرها ليس عراقيا,فالمعروف أن العراقيين ما أن يصلوا إلى ارض المهجر,حتى يمزقوا رمز الهوية- جواز السفر- حتى يتسنى لهم البقاء في دول المنافي..

77

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وما أكثر الجوازات والهويات الممزقة والمرمية في دورات المياه في تلك الدول!

ليس هذا وحسب,فالعراقية هنا تكن كل الحب والتقدير والعرفان لوطنها الجديد(بريطانيا)..يدل بوضوح مدى التنافر الذي يصل إلى حد الرعب بينها وبين وطنها القديم(العراق)…(فتبكي أكثر إلى أن تتوقف فجاءه وتنهض وكأنها انتهت من واجب ما.تخر على الأرض تريد أن تقبلها,كما أضمرت أن تفعل ما أن تصل إلى لندن,تماما كما يفعل العائدون المبعدون عن بيوتهم وعن بلادهم قسرا-15).

تبدو لميس في البداية خارجة للتو من محنة طلاقها..شخصية قلقة ومترددة,غير قادرة على اتخاذ قرار حاسم بشان مستقبلها..حياتها ما بعد الطلاق..أزمة الحرية الهابطة عليها فجاءه,الخارجة توا من أجواء البيت العراقي الحميم,الكثيف بتفاصيله,الحاد بحدوده,المقيد للحرية..انه السجن الذي حبست فيه لميس بمجرد قدومها إلى لندن للزواج من رجل عراقي ميسور الحال,ولمدة 13 سنة. وكانت حماتها هي حارسة بوابة بيت الزوجية والتي تقض مضجعها وخيالها لا يفارق لميس حتى بعد الطلاق!..هذا الموروث الثقيل يجعلها غير قادرة على التعامل الناضج والمفيد للحرية التي فتحت لها ذراعيها.فقد اعتادت لميس على الاتكالية,وهي صفة تكاد تكون ملازمة ومن مقومات الشخصية العراقية النسوية.

فالمرأة العراقية,يكون هاجسها الأول والأخير,هو البحث المحموم والهستيري عن ظل رجل تستند عليه-أب أو أخ أو زوج أو ابن)..وهي تجسد بشكل رائع المثل الشعبي المصري المعبر(ظل راجل ولا ظل حيطة!)..فبالرغم من طلاقها وبالرغم من أنها تعيش في مدينة تتنفس الحرية مع الهواء..وكون أن طلاقها

78

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ناتج عن رغبة منها..ألا أنها تظل قاصرة وتعاملها غير ناضج مع الحرية الهابطة عليها,ربما يكون من خلال الكبت الطويل الذي عاناه العراقيين عموما وخصوصا منهم النساء وحرمانهم من الحرية وكيفية التعامل الناضج معها..( تهرع إلى التلفون,تدير رقم بلقيس وتتوقف عن أدارة الرقم الأخير..ألا تزال بلقيس صديقة لها؟ أصدقاء الزوجين المطلقين يصبحون ككرة قدم لا تعرف في أي شباك فريق سوف تدخل وترسو.عليها أن تتصل بزوجها مباشرة لتخبره أنها ستعود إلى البيت..تدير رقم هاتفه النقال,ثم تتوقف قبل الضغط على الرقم الأخير-20). أنها تحاول أن تجلد ذاتها وتؤنبها على حريتها التي لا تعرف استغلالها, علما أن جلد الذات وتأنيبها ارث عراقي مميز منذ مقتل الأمام الحسين..( تذّكر نفسها بوجه حماتها المؤنب,المنتقد,وجملتها التي كانت لا تثير في نفس لميس سوى الصراخ”لا تكثري من المشاوير,لديك واجبات زوجية في الليل”-20).

تدرك تماما أن الماضي بكل أطيافه وعلاقاته وجذوره الضاربة عمقا في تكوينها النفسي,يكبلها ويبعد عنها ذراع الحرية التي تحلم بها..( لكن لميس تشعر أن تحقيق هذا الخاطر كبعد الشمس عن الأرض.بعد نيلها الطلاق لم تركض في البارك حافية ,لم تصح”أنا حرة,أنا حرة” كما كانت تعد نفسها,بل جلست في غرفة الفندق تواجه قنينة شمبانيا في السطل,تراقب الثلج وهو يذوب,ووجها على يدها,تفكر في صديق والدها الذي قبض عليه في مطار أثينا بسبب قطعة حشيش وحين أفرج عنه بعد أشهر تحسر على روتين السجن والجلوس مع احد المساجين تحت شجرة التين يلعبان الشطرنج-21).ليس هذا فحسب,فهناك نقطة ضعف

79

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كبيرة..ابنها!..الذي تركته في رعاية أبيه,ومن خلال هذه النقطة,يحاول أصدقائها وأقربائها,وخصوصا أمها,النفوذ من خلالها إلى عقلها ودفعها للعودة عن قرارها بشان الطلاق وبالتالي امتلاك حريتها..فالمرأة العراقية قدرها دائما أن تكون خاضعة لمزاجية الزوج,وعملية الزواج في العراق تتم في الأغلب الأعم على طريقة اختيار البطيخ الأحمر!..بمعنى أنت وحظك!..أما أن تكون حمراء وحلوة..أو تالفة!..وعندها لا تجد المرأة مهما تلفتت طلبا للنجدة,من اؤلئك الذين كانوا متحمسين لزواجها,سوى كلمة واحدة قدرية تتردد على جميع الألسن…

قسمة!

ها هي لميس تتلقى عبر خطوط الهاتف,صوت أمها وهي تحاول خلخلة وضعها النفسي,والضغط على نقطة ضعفها..( وماذا عن خالد,هل أنت بلا قلب؟.. أم انك نسيت انه كان يعيش في بطنك؟..على كل..كان عليك أن تحولي حياته إلى جحيم حتى يستجيرك ويطلب هو الطلاق..أو..تجعليه يقع في حب سواك,حتى لو وجدت له امرأة بنفسك.لماذا لا تلعبين الألاعيب هل تعرفين,يا بلهاء أن طلبك الطلاق قد سحب من بين يديك رغيف الخبز نفسه؟كأنك رميت كل أملاكه:البنايتين في لبنان,والشقتين في لندن,وكل الثراء في البالوعة.لكن اسمعيني جيدا.أنت الآن تملكين جواز سفر بريطانيا,هذا سيخولك أقامة دعوى عليه لدى المحاكم والمطالبة بنصف ثروته..ونيل حضانة ابنك-22).

ذكرياتها في العراق..زوجها..ابنها..أمها..حماتها..كل هؤلاء يشدون بها إلى الوراء..لكن ماذا عن الجانب الآخر..المجتمع البريطاني,هل كان فاتحا لها

80

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذراعيه,أم انه اكتفى بتوفير حرية اتخاذ قرار الحرية التي اتخذته لها؟.. ليس هذا فحسب,فها هي تشعر بالدونية وتشعر بالنقص لأنها لا تنتمي إلى العرق البريطاني بالرغم من حصولها على أوراق ثبوتية تعلن ذلك!..تلاحقها النظرة المسبقة السلبية التي يحملها البريطانيون اتجاه عموم المجتمعات الشرقية,والمرأة فيها بشكل خاص,وهي نظرة سلبية بالكامل. فها هي تتحدث عن معلمة ابنها البريطانية..( لكن المعلمة لم تمنحني فرصة واحدة لأظهر إني عكس ما كانت تتصورني:طفيلية,كسولة كالباقيات-23)..تقوم لميس بجرده حساب بسيطة,بعد سنين طويلة من العيش في لندن,تكتشف فحاءه,كم هي معزولة,أو منعزلة,عن مجتمعها البريطاني الجديد..,تصرخ..( من.من؟ هل معقول أننا لا نعرف انكليزا غير الأطباء؟-27)..وهذه مشكلة كبيرة تضع الكثير من الجاليات العربية عموما والعراقية منها,نفسها فيها في مجتمعاتهم الجديدة..أنهم يعملون مع بعضهم البعض,يجلسون في نفس المقاهي,يأكلون في نفس المطاعم ونفس الأكلات الشرقية,يقرؤون الصحف العربية ويشاهدون الفضائيات العربية..أطبائهم..

حلاقيهم..زيجاتهم..يتخاصمون بالعربية ويمارسون الجنس بنفس العقلية!.. لهذا نجد أن الكثيرون منهم بالرغم من عيشهم الطويل في بلدان الغربة,لا يستطيعون التأقلم معها أو على الأقل احترام طريقة عيش أهل البلد!..يعزلون أنفسهم في غيتوات خاصة بهم,يتجاهلون نداءات الطرف الآخر بالاندماج,بل يعتبرون تلك الدعوات( مؤامرات) لتذويب هويتهم الأصلية..وإذا سالت احدهم عن سبب هجرته أصلا أذا كان متمسكا لهذه الدرجة بهويته ولا يريد التفريط بها؟.. يحير

81

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجواب ويبدأ بالمراوغة..لكن لميس على العكس من ذلك,فهي كانت قد كفرت بمجتمعها القديم,راغبة غي الاندماج,لكنها تواجه مشكلة من نوع آخر..أو مشاكل

( الأطباء الانكليز هم وحدهم الذين تحتك أجسامنا بهم,وتكّون علاقة خاصة بيننا وبينهم-28)..لميس لا تيأس,تحاول نبش الذاكرة,فتجد فيها رغبة قديمة تواقة للانطلاق في عوالم أكثر رحابة من تلك التي عاشتها..( كان امتعاضها من حياتها يزداد كلما أخذت ذبذبات من عوالم أخرى تختارها وتلازمها,وهي عائدة من حضور الأفلام والأوبرا والمسرح,لتستأنس وان ببقية التذكرة المطمورة في جيب الجاكت أو شنطة يدها.هذه النشاطات كانت تجعلها تتحمل وجود حماتها وأصدقاء زوجها ورائحة السيكار ووقع ورق اللعب على الطاولة وبقايا الطعام أينما كان-30)..لكن الماضي يظل يخيفها بظلاله وشخوصه..( لم تجرؤ على الخروج من الشقة,فحماتها وزوجها السابق أغلقا باب لندن في وجهها-35).

ولمحاولة فهم شخصية البطلة العراقية المتذبذبة..نقرأ هذا الحوار البليغ بينها وبين المعلمة الانكليزية التي قصدتها لإتقان اللهجة الانكليزية..( – إذن,تريدين إتقان اللهجة الانكليزية.

– نعم.

– هل لي أن اسلك عن السبب؟

– أريد أن أعيش في لندن.

– متى قدمت؟

– منذ ثلاثة عشر عاما.لم أكن اشعر إني أعيش في لندن.كنت في بيئة عربية

82

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صرفة.

…………….

– لذلك أريد أن اعرف لماذا بعد 13 سنة قررت فجاءه اكتساب لهجة انكليزية صرفة؟ ولماذا اخترت انكلترا لتعيشي فيها,لا أي بلد آخر؟

– جئت إلى لندن لأتزوج من عراقي كان يعيش هنا,وأنا الآن مطلقة,ولي ولد منه.لقد قررت أن اندمج في هذا المجتمع وأصبح واحدة منه.اعتقد أن إجادتي للهجة انكليزية صرفة سوف تساعدني على ذلك.

– بمعنى آخر,لقد اتخذت انكلترا كبلد ثان لك.

– لا.كبلد أول,لقد تركت العراق وأنا في الثانية عشر من عمري.ولا اعتقد أني سأعود إلى العيش فيه-81)

أنها راغبة في الاندماج..لكن هل الرغبة وحدها كافية للقضاء على كل ما تحمله من خوف وعدم ثقة بالنفس وشعورها بالضآلة لتحقيق ذلك..( في النجف كان التلصص ضروريا عبر فتحات النوافذ المغلقة,ولذلك كانت طاقة الحمام عالية.كان التلصص في الاحتفالات الدينية يبلغ ذروته..عبر مناديل النساء السوداء,وعبر الدماء التي تملأ وجوه الشباب وهم يضربون بالسيوف رؤوسهم منادين:”حيدر,حيدر,حيدر,العباس,العباس”هل يخطر لهذه المرأة الأجنبية,التي ترتب ملابس طفلها الآن,أن هناك مدينة اسمها النجف؟-83)..هناك في تلك المدن التي تجهل الأجنبية أسمائها..هناك حيث المرأة لا قيمة لها..سلعة..هدف دائمي للمتعة..آلة أنجاب,وذبيحة على محراب الشرف الرفيع!

83

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان عليها أن تتخلص من كل هذا الإرث الدموي والثقيل..وهي التي اعتقدت أنها بمجرد طلاقها ستحصل على الحرية وما يترتب عليها من أحلام جميلة!

الماضي يحاول أن يوصد أبواب لندن أمامها ,ممثلا بزوجها وأمه..حتى بلقيس صديقتها,تحاول أن تعود بها إلى الماضي,الذي كرهته وتركته طوعا.فبلقيس لا تتخيل أن تعيش صديقتها لميس وحيدة في هذه المدينة الكبيرة,بدون رجل!فهذا شيء مرعب بكل القياسات العراقية..( وكانت بلقيس كالأخريات,دجاجة تنقر الأرض وهي تولول”حرام أن تطلقي حرام-88)..( كيف يهون على بلقيس انتظاري 45 دقيقة.أنها غاية في الوفاء,كريمة.هذا كل ما في الأمر,وأنا علي أن اخجل من تصرفي,علي أن أتقدم وأعانقها .لكن ها أنا اهرب.أنا خائفة من إني إذا نظرت إلى بلقيس رأيت زوجها يختبئ خلف تسريحة شعرها يؤنبها لأنها ما زالت تتحدث معي-89). كيف تقيم لميس زوجها؟..العراقي الذي يعيش في لندن,

المهاجر أو المنفي..أو الهارب..لا نعرف!..كل الذي يمكن جمعه من معلومات حوله,يتلخص في كلمة واحدة..التفاهة!..( لقد جربت كل شيء..وجمعت ثروة وها أنا في الخمسين من عمري..لم يعد هناك شيء افعله سوى امتهاني السياسة-89).

أما هي فقد اتخذت قرارها وأصرت عليه..الفراق,لهذا تبدو الآن أنها مستعدة لتحمل كل النتائج المترتبة على هذا القرار الخطير!..( تخرج لميس خفيفة.زال عنها تماما تأنيب الضمير إزاء بلقيس,لن تعود إلى حياتها الأولى ولو للحظة واحدة,تفرح لأنها مطلقة..تدخل المكتبة-93).

أن المؤلفة,حنان الشيخ,لم تشأ أن تترك بطلتها العراقية-لميس- في المتاهة كثيرا

84

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وراحت تنسج لها بكثير من العناية والتروي..قصة حب..مع الجانب الذي تتوق لميس أليه والذوبان فيه.انه المجتمع البريطاني,ومع رجل انكليزي..نيقولاس..

وحتى لا تبقى علاقتها بالانكليز محصورة فقط على الأطباء!..أن نيقولاس,تاجر وخبير تحف شرقية,العربية منها خصوصا,يعمل مع شريك من سلطنة عمان..( حيث كان نيقولاس يقود السيارة,راقبت لميس نفسها باستغراب متسائلة,كيف في لحظات معدودة انزاح عنها ضياعها ووحدتها؟..يبدو كل شيء بعيدا وغير مهم الطلاق,الصناديق المكومة في الشقة,اللهجة الانكليزية,الشقة المهجورة,البحث عن عمل,كأن كل ما أرادته هو رجل,يقبلها كما قبلها نيقولاس في ليل لندن-96)

تمتزج لندن المدينة بشخصية نيقولاس..يصبحان معنا واحدا في حياة لميس..( كانت لندن بعد السينما تنتظر أشارة من لميس حتى تفك أزرار فستانها وتقف أمامها عارية,ولميس تنتظر أشارة من نيقولاس حتى تفك سحاب بنطلونها وتقف أمامه عارية,الأشجار والبيوت والبنايات تصبح فجاءة لندن,هي مع انكليزي وكل ما حولها أليف ومصدر طمأنينة-142). تساعدها هذه العلاقة على تفكيك خيوط حياتها الماضية المعقدة,وتبدأ تنظر إلى الحياة والأمور المتعلقة بها من منظار جديد مدهش..( لقد أجبرت على الزواج من رجل بضعف عمري-147).. ليس على المستوى الشخصي فقط,بل حتى بما يتعلق بذاك الوطن البعيد الغامض المخيف الذي كان..( إذ العودة إلى العراق بدت مستحيلة,كالعودة إلى الموت نفسه-148)..بل مع كل ما هو عراقي..( تمر على العراقيين بنظرة فقط, تماما كما يفعل السائحون والانكليز قبل أن تحط أنظارهم على شيء آخر..كأنها لم تكن

85

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منهم-177)..كما يتشكل لديها وعي سياسي آخر,فهي لم تعد كما في السابق تكتفي بإلقاء نظرة على الحياة بدون أن تشارك فيها..لقد أزاحت علاقتها الجديدة بالانكليزي الكثير من الضباب الذي كان يغلف عقلها وروحها..تعود بها الذكريات إلى حياتها الزوجية,وتكتشف الآن كم هو تافه هذا الزواج وهذا الزوج,

كما تقر أيضا وضمنا بتفاهة المشهد السياسي العراقي المعارض في لندن..( كان صالون بيت لميس يتحول كل صباح إلى مركز لاستقبال الرجال,حيث تدار عليهم علب السكائر من خمسين صنفا,وهم يسبحون بمسابحهم التي كانت تصدر عنها طقطقة كضحكاتهم,يعيدون ما كتبته الجرائد عن الأخبار العراقية وقصص صدام حسين وأخبار الحركات السياسية,زوجها يبدو في أفضل بذلة,وأفضل كرفات,يجلس فوق الكنبة الوثيرة فيغوص فيها,ساعة معصمه تلمع كالتماع بعض أسنان الزائرين الذهبية,يجلسون جميعا ولسانهم هو المقارنة..( هذا مليونير ,هذا كان مليونير,هذا ابن وزير سابق,هذه عائلة السفراء,هم أبناء العائلات العريقة,هم أبناء العائلات الثرية,يريدون سحب العراق من صدام حسين-179).

حتى علاقتها بأمها خضعت للمراجعة,والتي كانت تقول لها..( كانت أمها توصيها”على زوجك أن يرى الفراش أمامه كلما رآك-197)..أنها لم تعد ببساطة ذاك الفراش البليد المغري!. لكن حنان الشيخ لم تترك لميس بهدوء لذيذ مستسلمة لهذه العلاقة الجميلة الطارئة على حياتها,فهي تنقل لنا بذكاء,صدام ثقافتين.. شرق وغرب..فأحيانا النيات الطيبة وحدها لا تكفي لبناء حوار ناضج وموحد بين النقيضين,وهذا ما تكتشفه لميس,حتى بعد أن قطعت شوطا كبيرا باتجاه الآخر

86

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأوربي..( اخذ أصدقاء نيقولاس ومعارفه في القدوم,تشعر بأنها تدب على الأرض بدلا من أن تسير,تصدر منها أصوات كالأطفال..تستجمع حضورها. تصاب بالفشل,أحاديثهم تدور في فلك لا تعرفه..فلك انكليزي محض,لا تستطيع أن تجامل به أو تنافق أو تخترع.يدور حول السياسة المحلية والقوانين……وجدت نفسها تلوم نيقولاس. كانت كدودة القز التي غزلت شرنقتها بكل تأن وسعادة,تعد نفسها للطيران,لكن نيقولاس أخرجها قبل أوانها-224)….(وجدت نفسها تتمنى فجاءة لو أنها أوربية-232). لكن رحلتها التي بدأتها بقرار شجاع لا مجال فيه للتراجع أو العودة,حتى بعد اختفاء نيقولاس,لم تتوقف وقررت أن تعيش في لندن!..( رأت نفسها تجمع كل شجاعتها وتدخل دكان بيع الأزهار وتسال عن وظيفة-395)..( ما كان يهم لميس هو الشعور بالانتماء إلى انكلترا,وبعده سياسة من تنتخبه-390).

مرة أخرى صورة العراقي أو العراقية في المنفى..يبدو أنها صورة أثيرة لدى الكتاب العرب عن العراقيين!..لكن لميس في النهاية لم تكن شخصية رومانسية أو خبيثة..أو معقدة..أنها ببساطة امرأة باحثة عن حريتها,وبالتالي سعادتها, تبدو خائفة ومترددة,لكنها تحمل قدرا كبيرا من الإصرار,يساعدها على انجاز ما أرادت هي وليس ما يقرره لها الآخرون,أو ليس ما تريده الذاكرة العراقية أن تراه!

 

 

87

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زهدي الداوودي..

أن ثنائية( أطول عام وزمن الهروب) هي للروائي العراقي الكردي,زهدي الداوودي.( أطول عام) طبعت عام 1994 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – أما (زمن الهروب) فالطبعة الأولى صدرت عام 1998 وأيضا عن نفس الدار.مجموع صفحات الروايتين,830 صفحة,وهو بكل القياسات عمل ضخم وجميل..وما جذبني لاختيار هذا العمل الضخم,أولا لان المؤلف كردي, ولابد باعتقادي أن من المهم التعرف على رأي الآخر-الكردي- المقيم معنا في نفس البلد أو لنسمها البقعة الجغرافية المسماة بالعراق!..فهذا البلد وكما لا يخفى على الكل,مبتلى بالحروب والكوارث وموعود بالتمزق العرقي والطائفي.والأكراد دائما يعتبرون أنفسهم خارج المعادلة العراقية-العربية, ويمكن تعريفهم ببساطة أذا جاز لي (أكراد يعيشون في العراق ويأملون بالانفصال!) ولا اعرف لماذا لم يتحقق حلمهم أو يحقق لهم بالانفصال؟..بل لعلهم لا يريدون ذلك بالفعل,فالحلم أجمل بكثير من تحويله إلى واقع!..واستكمالا لإنضاج صورة العراقي ونموذجها في الأدب العربي,اعتقد أن من المهم أيضا أن نأخذ مثالا من شركائنا في الوطن المفترض!..فمنذ مئات السنين ونحن نتجاور ونحمل نفس الهويات الشخصية ونتخرج من نفس الجامعات ونأكل في نفس المطاعم,ونعبد نفس الإله..نخضع لنفس القوانين..ونهرب إلى نفس المنافي,لكننا في النهاية عالمان منفصلان لم يعرفا الاندماج والانصهار..فالآمال مختلفة والآلام هي غيرها,وطرق تحقيق الأهداف مختلفة,ناهيك عن اللغة..شعبان مختلفان

88

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يجمعهما وطن واحد وحدوده واحدة!..هكذا شاء الانكليز والفرنسيين عندما اقتسموا تركة الإمبراطورية العثمانية(تركيا). وربما شاء الأمريكان في حال قيامهم بتقسيم جديد في المنطقة,وإعادة تنظيم أحجار الدومينو!

اعتقادي الشخصي أن الأكراد يسعون بكل ما يملكون من قوة للانفصال,لكن ينقصهم تنظيم أنفسهم وان طال الزمن. لهذا رأيت أن من المهم أن نأخذ نموذج(روائي) لكاتب كردي(عراقي),خصوصا وان الجزء الثاني من العمل (زمن الهروب) قد تم تدوين عبارة صغيرة على الكتاب لتعريفه وبخط صغير (رواية عربية)!..لا اعرف لماذا تم تدوين هذه العبارة ولا فكرة من كانت!..لكن من الواضح جدا أن الرواية لا علاقة لها بالعرب إطلاقا,صحيح أنها كتبت بالعربية,لكنها تتحدث عن شيء آخر غير العرب..أنها تتحدث عن شعب منسي,أو مدفوع بقوة نحو النسيان,على هذه الخارطة الهلامية التي يطلق عليها الوطن العربي..عن شعب ليس عربيا,متهم دائما بالتأمر والانفصالية والتحالف مع أعداء الأمة!..وهذه كما لا يخفى شعارات من بقايا التيار القومي الذي اجتاح العراق كما الكثير من الدول العربية..فعبارة(رواية عربية) الصغيرة الخجولة,أشبه بتعريف مضحك لكل من يفرغ من قراءتها.

الحقيقة إنها رواية جميلة تتحدث عن عادات وتقاليد وطريقة تفكير هؤلاء الناس وطرق عيشهم,والذين أقاموا عالمهم الخاص بهم,فيها الكثير من المفردات والأسماء والمناطق بما لا تمت إلى أي صلة بالعرب,سوى اشتراكهم معا في ديانة توحيدية كبرى هي الإسلام.هناك الكثير من الأدب الكردي,لكنه أما باللغة

89

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكردية التي لا أتقنها,وإما أنها لا ترتقي لما يسمى بالعمل الأدبي المتوازن..أما هذه الرواية الملحمية بجزأيها,فهي شيء آخر..جميل,سلس,ناضح بالحيوية, كما أنها تخلو من اللغة العنصرية الشوفينية وإنكار الآخر. بالرغم من المؤلف قد أنكر وجود الآخر العربي وأرادها رواية كردية خالصة وليست عراقية أو عربية كما في تلك العبارة الغريبة,لكن بلغة أدبية رفيعة تسمو فوق الحزازات العرقية.

الأكراد لم يمنحوا ولائهم لأي دولة أو سلطة,سواء كانوا تراك أو فرس أو انكليز أو عرب..والسلطة وان كانت تمثل لهم ولحد الآن,الغرباء الأعداء!..وهذا المقطع من الرواية يصف انعزالية الأكراد وخوفهم وعدائهم للآخر أي كان!..( بابا, ثلاثة فرسان غرباء يتجهون إلى القرية..اثنان منهم يرتديان ملابس الجند رمة “قال رمضان وقد ارتسمت على وجهه علائم الوجل”لا أهلا بهم ولا مرحبا,علق ميرزا منفعلا وهو يقوم من مكانه”لن نتخلص منهم حتى لو ذهبنا إلى آخر الدنيا”-18,أطول عام)..صحيح أن الحديث يدور هنا أثناء احتلال العثمانيين للعراق وبضمنة المناطق الكردية,لكن وبعد رحيل هؤلاء بأعوام طويلة وتبدل الكثير من الحكومات في العراق,بقي نفس الهاجس العدائي اتجاه الدولة( الغير كردية)ولم يتبدل.فالدولة ,أي كانت بالنسبة لهم,تريد أمولا لطعامها,ثم رجالا لحروبها..( قال الشيخ زوراب وهو يهبط السلم بخفة”أن وجود اليوزباشي معهم علامة سيئة,لا شك أنهم جاءوا يريدون رجالا-10,أطول عام)..وفي مكان آخر ( يا ملانا العزيز,أن أبواب وادي كفران مفتوحة للجميع,سواء أكانوا غجرا أو دراويش أم عابري سبيل أو أصدقاء وحتى أعدائنا إذا طلبوا منا الصفح والتجاؤا

90

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ألينا,فعلى الرحب والسعة,وأما أن الكلام ضد السلطان هو كفر والحاد وان الاحاجيين هم الزنادقة.فهذه كلها أمور لا تهمني أنا,أنهم كلهم بالنسبة لي سلطة ودولة,وإذا كنت تعتقد أن اليوزباشي يستطيع إقناعنا بوضعنا في خانة الاحاجيين,فأنت متوهم,أن السلطة هي السلطة وسنظل إلى الأبد على طرفي نقيض منها,أنها أذا أعفتنا فعلا هذه السنة من الضرائب فأنها ستعوضها في السنوات القادمة,وألا كيف تستطيع أن تعيش؟-349,أطول عام).

وبقيت لعبة القط والفار بين الأكراد والسلطة,مستمرة لحد يومنا هذا(وحتى بعد أن أصبح رئيس الجمهورية العراقية كرديا!)..

عندما دخل العراق في حرب مدمرة مع إيران أبان الثمانينات من العقد المنصرم

(اختفى) رجال كردستان ولم يخدموا مع وحدات الجيش العراقي,أسوة بالعرب من رجال العراق,بل كانوا ضمن أفواج شكلتها الدولة خصيصا لهم,لا يخرجون فيها من مناطقهم وقراهم ,وارتبطوا اسميا بالجيش العراقي,حفاظا على هيبة الدولة وتجنبا لتمردهم أذا ما ساقتهم فعلا إلى الحرب المشتعلة على الحدود!.. لقد استمروا في أخفاء(الأموال والرجال) عن أعين الدولة المركزية,التي كانوا ينظرون أليهم بازدراء وعدم اعتراف بها..وكان قانونهم هو..( يا بني مر على القرى ولا تستعجل،فبينهم وبيننا مسافة غير قصيرة,فقط النساء والأطفال يبقون أما الرجال وكل الأولاد الذين تجاوزا الرابعة عشر فيتركون القرى,ولا يرجع احد إلى القرية ألا بعد أن يسود الظلام,هل فهمت؟-85,أطول عام)..أن هذه الوصية الصادرة عن الشيخ زوراب,رأس العشيرة,بقيت سارية المفعول لحد

91

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآن,في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. أتيحت لي الفرصة بان أتوغل إلى أقاصي الأماكن الكردية,والتجوال فيها,ولم أكن أرى سوى(النساء والأطفال)

تماما كوصايا الشيخ زوراب الأزلية!..أن صلة الوصل التي تربط الأكراد بالعالم هي عبارة عن عنف متبادل وأزمة ثقة كبيرة,ولا وجود نهائيا لشيء اسمه الحوار في قاموسهم,وأخيرا الحروب الدموية التي فرضوها على الآخرين أو تلك التي فرضت عليهم..ومن ضمنها الحرب التي خاضها العراق العربي ضد العراق الكردي,ثم الكراهية التي تجاوزت حدود المعقول ووصلت إلى حد تمني إبادة الآخر كليا ونهائيا!..وما أحداث حلبجة التي تصدرت الأخبار في العالم كله لتكون بدون جذور أبدا. ( لكن عندما نشر اليوزباشي على الأرض الأوراق التي أخرجها من حقيبته,توقف زوراب عن التفكير واعتراه خوف,إذ أن أبراز أي ورقة يعني مصادرة رجال وأموال العشيرة:قال بلا أرادة منه محاولا بذلك تأجيل هذا الموضوع”جناب اليوزباشي”اعتقد أن الأكل جاهز فلنترك وجع الرأس هذا إلى ما بعد الأكل-14,أطول عام).

وطبيعي أن يحاول الأكراد أن ينفوا أي علاقة بالعرب,ويبقوا صلة الوصل الوحيدة بينهم,والتي تحضي باحترامهم,هو الدين..فالعرب هم الذين ادخلوا الدين الإسلامي إلى مجاهل الجبال الكردية ونشروه بينهم,وهؤلاء تلقفوه بدون مقاومة,

بل أصبحوا من اشد المتحمسين أليه,فاقترن اسم الأكراد بالتكايا الصوفية وحلقات الذكر النبوي والدراويش..( يأتي عدد كبير من الدراويش ذوي الشعور واللحى الطويلة ويبدؤن بضرب الدفوف والرقص على أنغامها بحركات منتظمة ما تلبث

92

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أن تتحول إلى هستيريا وجنون وهم يلوحون بسيوفهم وخناجرهم في الهواء ويرددون بصوت واحد ومتناغم”لا اله ألا الله,لا اله ألا الله”..وعندما كانت الحركات تشتد أكثر فأكثر يقفون في أماكنهم فجاءة ويبدؤون بهز رؤوسهم يمنة ويسرة وهم يرددون بسرعة”الله حي,الله حي”وبعد ذلك تبدأ المعجزات الخارقة:

الجلوس بمؤخرة عارية على صاج حام,ضرب البطون بالخناجر,مسك الجمر باليد ووضعه في الفم-56,أطول عام)..وبفعل تمسك الأكراد الشديد ببيئتهم الوعرة والمنعزلة طبيعيا عن بقية الحضارات المحيطة بهم,تولد لديهم نوع الأدب الأسطوري المحكي غير الموثق والذي يعتمد أساسا على المبالغات وعالم الغيبيات وإقصاء العلمية..بل أن الدين الإسلامي بالنسبة لهم كان الغطاء الذي احكم على أساطيرهم بغطاء محكم بعد أن نجحوا بنقلها إلى جسد الفلسفة الإسلامية..وأصبحت عاداتهم القديمة الوثنية ترتدي حلة أسلامية,وعلاقتهم بالعرب تتم عن طريق واحد,هم رجال الدين الذين يحظون عندهم باحترام شديد وخصوصا اؤلئك المنحدرين من أصول النبي.

فعندما هرب ثلاثة من الأكراد من الخدمة العسكرية الإلزامية تحت لواء      الجندرمة العثمانية ومن ضمنهم الشيخ زوراب-رئيس العشيرة-..التقوا بأحد هؤلاء الشيوخ أو الدراويش الذين يرتبطون بأصول عرقية مقدسة إلى النبي العربي محمد,قال لهم خليفته..( انتم الثلاثة يا أولادي قد أثبتم خلال فترة وجودكم بيننا بأنكم مخلصين فعلا.فقد استوحى الشيخ من جده الرسول صلى الله عليه وسلم, أنكم تخلون من أي غش,وإنكم بهروبكم من الجيش قد قمتم بعمل يخدم

93

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدين والضمير.لان هذه الدولة قائمة على الظلم والطغيان-65,أطول عام)

وهنا تلتقي مصلحتين..التمرد الكردي الطبيعي ضد السلطة والتقدير العالي للإسلام,الذي يبرر عدم جهادهم في الجيش والذي يرى في السلطة رمز الظلم والانحلال,ويدعو إلى العودة إلى الجذور النقية للإسلام الأول. والعرب يعتبرون أو غيرهم من الأقوام غير الكردية,أن الحل الأخير لمشكلة الأكراد هو خروجهم من تلك العزلة الطبيعية التي فرضتها عليهم الطبيعة والتي يعتبرها الأكراد مقدسة!..فعندما ضربت الكارثة,عائلة الشيخ زوراب رئيس عشيرة وادي كفران,

وتعرض ابنه الأثير(كريم) إلى عارض صحي لم تنفع معه طرق علاجهم البدائية..( استغرب شيخو من أن أخوه كريم لم يتحرك من مكانه,بل كان شاردا.

مأخوذا ينظر في الفراغ,ويحرك رأسه بين حين وآخر بحركة عصبية,فعرف انه مصاب بالصرع نتيجة ضربة من الجن-95,أطول عام)..وهنا بعد أن تأكد لهم أن مرض ابنهم كريم اكبر من أن تعالجه الطرق الكردية المتبعة منذ مئات السنين,

بدوا ينتظرون النجدة من الخارج,خارج محيطهم التقليدي..( لكن الغجر لم يأتوا بعد,ولا يمكن انتظارهم فهم سيظهرون على الأقل بعد ثلاثة أشهر,فاما أن يذهبوا إلى شيخ البر زنجية أو يذهبوا إلى السيد جواد حفيد النبي,ودار النقاش الحاد حول أفضلية هذا أو ذاك……ثم راحوا يقارنون بين كل من الشيخ البر زنجي والسيد العربي,فاجمع الكل بان السيد له خوارق ومعجزات…….الذي شوهد أكثر من مرة وهو يطير في أعالي السماء وعباءته ترفرف ورائه-98,أطول عام).

حاول الأكراد دائما,ولكي يثبتوا بأنهم قادرين على تكوين دولتهم الخاصة بهم

94

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقارنين أنفسهم بالشعوب المجاورة,رصد النواقص والتشهير بها,وبالتالي نسب كل ما هو جيد من خصال أليهم,شيء واحد لم يستطيعوا الالتفاف حوله هو نسب النبي العربي..هنا يتوقفون عن التشهير والمقارنة..( بارك السيد- المقصود هنا السيد العربي- زواج كل من رمضان وميرزا واستبشر لهما ولكل وادي كفران الخير والبركة,وسر أليهم انه رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يمتطي صهوة براقه الذي نشر جناحيه فوق وادي كفران,وراح السيد يغمض عينيه وهو يردد”فال حسن,فال حسن”وفي ذلك اليوم تحولت القرية إلى ساحة للفرح الحقيقي-137,أطول عام)..( وكان أن اقر السيد بان سبب عدم تلبية الدعوة هو انه أذا حضر هناك فينبغي عليه أن يقبل يد الشيخ كأي فرد آخر.ولكن بما انه حفيد النبي,فلا يجوز له تقبيل يد احد,وعندما قال له مردان,بان الشيخ حفيد الرسول نفي السيد ذلك وقال بسخرية:كلا يا مردان,الشيخ كردي,والحفيد لا يجوز ألا أن يكون عربيا هاشميا-193,زمن الهروب)..وطبعا كان الكثير من العرب يعرفون نقطة الضعف هذه في الدفاعات الكردية المحصنة,ويستغلونها لصالحهم واختراقهم سواء بالخرافات أو بالحقائق!..لكن هذا لا يمنح العربي الحق في استفزاز انعزاليتهم وشكوكهم المرضية بالآخرين.فبالرغم من أن حمل السلاح  مثلا,من مقومات الرجولة الناضجة في بلد عشائري قبلي مثل العراق بشقيه العربي والكردي..ألا أن العربي يرفض بلياقة مغلفة بهالة دينية دعوة كردية له بحمل السلاح,حتى ولو كان هذا العرض من قبل كبار رجالات العشيرة,ألا انه يفضل أن لا يخرج من أطار هذه الصورة التي تمثل العربي

95

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غريب..فيبقى بلا سلاح أفضل له بكثير من حمله..( وحين أكد الحارس بان القادمين الثلاثة هم من عشيرة البابائيين,مدوا أيديهم بصورة لا إرادية إلى بنادقهم هارعين إلى خارج الخيمة للتأكد بأنفسهم من الأمر,وكان السيد هو الوحيد الذي لا يحمل السلاح في القرية,رغم أنهم عرضوا عليه بندقية,فرفضها شاكرا,وقائلا بان سلاحه هو إيمانه وان حفيد الرسول لا يجوز أن يحمل السلاح-211,أطول عام)..

عموما يبقى العراقي العربي في هذا العمل الروائي الطويل والجميل,هامشي تماما..غريب..مشكوك بوجوده في مناطق كردستان الجبلية,ألا أذا كان ضيفا, لأسباب دينية أو اقتصادية,انه لا يلعب أي دور أساسي في تقرير مصير أي شيء, وانه في العمل الروائي هذا كان مسئولا عن أعمال الغيب التي يخشاها الأكراد, لأنهم لا يملكون الصلاحية لهكذا عمل والتي احتكرها العرب بحكم أن النبي عربي!..بل حتى في بغداد..العاصمة..أو ما يفترض بأنها عاصمتهم أيضا,والتي تبدو بعيدة جدا وضبابية,وعامرة بدور الدعارة,يبقى الأكراد لا يفرقون بين الغرباء..كل الغرباء..( حمة غريب يريد أن يعرف ما أذا كان الانكليز هم عرب أو أتراك؟-54,زمن الهروب).

 

 

 

 

96

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حيدر حيدر..

( وليمة لأعشاب البحر أو نشيد الموت) للكاتب السوري حيدر حيدر. العمل يقع من 378 صفحة من القطع المتوسط.انتهى الكاتب من عمله هذا عام 1983 وتحت يدنا الطبعة الرابعة والصادرة عام 1992 عن ( دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع).

لقد نالت هذه الرواية – فجاءة – شهرة كبيرة طارت في الآفاق بعد أن تم تحريمها من قبل الإسلاميين في مصر واتهامها بالترويج للإلحاد!..مع العلم أنها تعتبر من أهم الأعمال الروائية العربية التي تناولت الوضع الدقيق للعراق والعراقيين,بعد صعود التيار القومي بزعامة حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي,أن لم تكن من أهمها على الإطلاق!. حيث جمعت هذه الرواية بتناسق جميل ومؤلم بين التوثيق السياسي والجمالية السردية, ويمكن تسميتها بالعمل الأهم الذي وثق نشيد الموت العراقي المترف!كما لم يفعل أي كاتب عراقي!!

بطل العمل هو (مهدي جواد),عراقي خارج من جحيم الموت الايدولوجي إلى المنفى الجزائري.أما كيف ينظر كاتب سوري لهذا البطل,ومن خلفه كورس أصوات نشيد الموت العراقي,فهذا ما سنحاول تلخيصه بجملة..انه صراع الموت البشع الدموي الذي لا يعرف الرحمة,بين الشيوعيين البعثيين العراقيين!..والذين

_كلاهما اقصد- أودى بحياة بلدهم العراق.كان صراعهما السياسي الدموي البربري,بداية النهاية لبلد لم ولن يتعافى من نتيجة هذا الصراع,أنهما يمثلان قطبي الصراع لحلقة جديدة من الموت المجاني..يقول البطل الشيوعي..

97

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( – أما أن نبادر سريعا أو تفوتنا الفرصة.النظام هش,والجيش يغلي,البعثيون يجهزون قواتهم فأما نحن أو هم.ومن يسبق بالضربة الأولى سيفوز-264)..

بهذه العقلية الدموية كانت ولا تزال تدار الحياة السياسية في العراق..بلا أي حلول وسطية,قاد(سياسيو) العراق البلد ومن خلفهم(مثقفيه) إلى التهلكة,أنها سياسة الإبادة الجماعية وعقلية(الضربة الأولى) التي تعكس مزاجية عراقية هائلة تنحى نحو العنف المفرط الذي لا تحده أي حدود أخلاقية أو إنسانية أو حتى دينية!

كون الكاتب-حيدر حيدر- متعاطف مع الحزب الشيوعي العراقي,وبنفس الوقت ناقد له,فقد اختار عبر أبطاله العراقيين,أن يورد تفاصيل توثيقية لانهيار الحزب الشيوعي بعد الضربات الشديدة والمميتة التي وجهها لهم البعثيون..انه يبحث في كمية الدم السائل وأشلاء الجثث عن سبب الانهيار من خلال شخصيات متعبة وممزقة!.انه يتكلم هنا عن مرحلة ما بعد انهيار الجبهة واندلاع المواجهات,وليس خلالها,كما قراءنا في كتاب هاديا سعيد ( سنوات مع الخوف العراقي).أنها المرحلة الأكثر دموية في تاريخ العراق الحديث..في هذا المقطع يتحدث عن ( مهيار الباهلي) وهو شيوعي عراقي من أنصار الكفاح المسلح,الذي يؤمن بان الإصلاح ينشئ على جثث الخصوم..( وكان رجلا مصابا بلوثة الحروب, مثقف مسحور ببلانكي ومجد الكومونة والإغارة على سانتا كلارا.السلاح.السلاح. من يملكه يملك كلمة الله على الأرض……ويوم خاض مع خالد احمد زكي ومجموعة الأهوار حرب العصابات الخاسرة.كان يتوهم انه يواصل ميراث الخسارات الدامية والامثولات التي تتراكم لتشكل ذات صباح أو مساء الصرخة التي

98

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تختزنها القرون القديمة لتدوي في القرن العشرين أو الثلاثين أو الخمسين.هادمة جدران زمن الاستبداد والجوع والإبادة الجماعية لشعوب قهرت أو استذلت ثم ما لبثت أن دفنت تحت السطوة الوحشية للخلفاء والأمراء الخلعاء والجنرالات الدمى والأحزاب المستذلة والراكعة-21)..من يملك السلاح يملك كلمة الله على الأرض

لماذا الكل يحاولون أن يلعبوا دور(الله) في العراق!..الأقوى هو الأجدر باعتلاء كرسي(العرش) في العراق,الذي لا يسمح بالجلوس عليه ألا القتلة والمغامرين والمعتوهين!..قاتل أو مقتول..أما أن تكون حاكما أو من بقية أفراد الشعب.. ثنائية لا تقبل الجدل في بلد مثل العراق..أن الشعب العراقي هو صانع قاتليه بامتياز.. رائحة الدم تصيب الجميع بالنشوة القصوى,وبمجرد انبعاثها,تتلاشى كل قيم الأرض من عقولهم..انه صراع بين أنصار مملكة الدم الأممية وبين أنصار مملكة الدم القومية!

كانت الضربة موجعة ومفاجئة..استفاق الحزب الشيوعي عليها وهو يتحسس جسده المغطى بالدم وينظر برعب إلى بقايا أشلاءه المتناثرة..بدأت الانقسامات, تلتها الخيانات,الاعترافات..البراءة..والمقاومة المسلحة..أخيرا كان الفرار الكبير.

الاتهامات تطال الكل وتتطاير في جميع الاتجاهات..بداَ من عبد الكريم قاسم رئيس أول جمهورية في العراق,الذي تحالف مع الشيوعيين وانتهاء بالقيادة الهاربة إلى الخارج تاركة القاعدة تتمزق تحت الضربات الوحشية,وانتهاء بالشعب المتخاذل المتعب الذي يفقد الأبناء المتحاربين أن قتلا أو سجنا أو نفيا

( سيتذكر وهو يخرج من منزلها عابرا الأرصفة والمتاجر والمقاهي والبيوت

99

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحت أشجار الدر دار الرطبة أن ذلك الأصيل كان مكربا للنفس لشدة اختلاطا ته من تداخل الحب الروحي مع الجنس مع الوضع السياسي المزري من كل جوانبه

بدءا من وحشية الجنرالات وهمود الشعب,وانتهاء بتخاذل القيادات الثورية وقطاراتها المتأخرة على سكة خط اللاراسمالي المخربة-194)..أن الانتقادات والإدانة تطال الكل..عندما تحالف الحزب مع(الجنرال)عبد الكريم قاسم,لم يجد عندها ضيرا في هذا التحالف المشبوه,وعندما ارتكب غوغاء الشعب باسم الحزب الشيوعي العراقي جرائم(قطار السلام) في الموصل وكركوك,والتي لا تجد لها أثرا في هذا الكتاب!..لم يكلف الحزب الشيوعي نفسه حق الاعتذار عن الوحشية المتمثلة بسحل الجثث في الشوارع بالحبال الشهيرة وتعليقها بعد ذلك على أعمدة الكهرباء!..أما عندما حدثت نفس كمية العنف ضدهم فكان الأمر عنده مختلف وطفت(الأخلاق) فجاءة على السطح السياسي العراقي,والذي هو أصلا بلا أي أخلاق كان وما يزال…( كان التأنيب العميق ينحو إلى التبرئة.فالهجوم على المحور الرئيسي كان يشير إلى قيادة الحزب اليمينية والمتواطئة والتي راهنت على انقلاب 14 تموز والزعيم الأوحد والتطور الرأسمالي.غير أن الأمر كان يتجاوز ذلك.وعلى مدى عام كانت محصلة الحوار أكثر خطورة,وأعمق دلالة من هذا الذي طفا أخيرا على السطح.فأطاح بحزب كان يحرك مئات الآلاف في اللحظات الحرجة.والذي تأبى أكثر من مرة من خلال النزوع الأخلاقي للسياسة.أن يستولي على السلطة,النزوع الأخلاقي:أوه يا للكلمة الرءوفة والساخرة!أبدا.بل بقسوة:هو الجبن وشلل الإرادة الذاتية والخط الأعرج.ويوم

100

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان الانقسام على أشده والحزب يعبر شتاته:موته أو حياته,كان الباهلي مع رهان السلاح وكان مهدي جواد يدعو للتنسيق بين حرب المدن والأرياف.لكن كل شيء كان يبدو وكأنه يأتي بعد فوات الأوان.ذلك أن اللحظات التي يختطف فيها التاريخ لصالح القوى الجديرة بالحياة كانت قد مضت إلى غير رجعة-24)..واضح أن ( القوى الجديرة بالحياة) التي وصفها الكاتب,هي الجهة التي تمتلك( السلاح) والقادرة على استعماله في الوقت المناسب بالاتجاه المناسب,لم يكن في النهاية هو الحزب الشيوعي بل خصمه اللدود!..كل الأحزاب في العراق نصبت نفسها بنفسها,على إنها القادرة الوحيدة على قيادة قطيع الشعب بالاتجاه الصحيح..لم يفكر أي من هذه الأحزاب نفسه بسؤال هذا القطيع أن كان يرغب أن يسير بالاتجاه(الصحيح).

( في الاجتماع السري بحي الكاظمية,تحدث مهدي جواد لخليته عن الوضع الراهن.حدد بنقاط واضحة الخطين المختلفين للحزب,خط جبهة الكفاح الشعبي المسلح وهو خط”ظافر”والخط ألتحريفي الملحق والتابع للبورجوازية الحاكمة وهو خط آب التصفوي.الخط الأول ممثل بالقواعد المؤمنة بخوض نضال مسلح في الريف والمدينة لإسقاط سلطة البورجوازية وإقامة حكم الديمقراطية الشعبية,

والخط الثاني ممثل بقيادة اللجنة المركزية المتواطئة مع حكم البورجوازية, والتي ما زالت تؤمن بالعمل السياسي السلمي وتراهن على الانقلاب العسكري الثوري.

……هذه القواعد الآن ملقى على عاتقها مهمة هدم العالم القديم وبناء عالم جديد للبروليتاريا العراقية قائدة المستقبل.ثم شرح مسألة عزل القيادة الانتهازية

101

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التحريفية,وانبثاق قيادة جديدة على مستوى المناطق.وأكد على ضرورة السرية والاختفاء والسلاح الذي سيوزع على الخلية قريبا:قواعد الحزب ما تزال متماسكة رغم المحنة ورغم تواطؤ القيادة.خلايانا في الجيش سليمة.في الديوانية هناك فصيل مسلح,الرفيق ظافر ومجموعته يحضرون لكفاح شعبي في الأرياف القتال لإسقاط  السلطة الفاشية هو المهمة المركزية الآن……واصل مهدي جواد شحن خليته:أن حزبنا الذي تمرس بالكفاح منذ تأسيسه على يد الرفيق المناضل”فهد”هو الآن أمل ملايين الشعب العراقي_43,44)..لكن السؤال,من أين جاء هذا اليقين الذي لا يقبل الجدل للحزب الشيوعي أو غيره من الأحزاب من أنهم يمثلون طموحات (ملايين) الشعب العراقي؟..وفي هذه الحالة الخاصة بالحزب الشيوعي,لماذا انقلب عليهم(ملايين) الشعب العراقي وشارك بتصفيتهم وان كان على مستوى اضعف الإيمان واكتفى بالتفرج على مذبحتهم؟..هكذا الحال في العراق دائما..توزع الألقاب المجانية الفارغة من أي مدلول عقلاني على قادة الأحزاب,فمن “فهد”الرفيق المناضل إلى عبد الكريم قاسم”الزعيم الأوحد”إلى احمد حسن البكر”الأب القائد”وأخيرا كل الألقاب إلى صدام حسين!

انه ابتذال رخيص للغة واستهلاك حد تفريغ الكلمات من معانيها واستخفاف مذهل بوعي الشعب!..مبالغات وكذب ودجل..الكل يصفق..الكل يرقص..الكل يغني..

الكل خائف!

ثم يصف مهدي جواد,قيادته..( وشرح مهدي جواد المشحون ضد انتهازية القيادة بان قيادة الحزب,رغم وجود تيار ثوري يطالب باستلام السلطة,لم تتخذ قرارا

102

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باستلام الحزب للسلطة السياسية,كانت قيادة جبانة وذيليه للبورجوازية والدكتاتورية.أن قيادة حزب شيوعي تتخلى عن تعاليم لينين في استلام السلطة بالعنف,وتنتهج النضال السلمي-الديمقراطي ليست أكثر من قيادة بيروقراطية,

تحريفية,جبانة تقدم حزبها بطواعية لسكين الرجعية-45)..نحن الآن في عام 2005 ,لقد شاهدنا بأم أعيننا انهيار الإمبراطورية الأممية بقيادة الاتحاد السوفيتي ومنظومة دول حلف وارشو,حيث في النهاية لم تنفعها مقولات لينين كثيرا, واتجهت بملء اختيارها نحو النظام الديمقراطي,وحققت بسنوات عديدة ما لم تفلح بعمله طوال عقود طويلة تحت قيادة الأحزاب الشيوعية!..وسؤالنا,ماذا لو نجح فعلا الحزب الشيوعي العراقي في استلام السلطة؟..هل كانوا سيكونون أفضل فعلا من حزب البعث القومي؟..أم إنهما في النهاية وجهان لعملة العنف الواحدة؟..

ولا يكتفي مهدي جواد بذلك..فهو هنا يدين عبد الكريم قاسم,الذي حكموا البلد من وراء ظهره..( وسال احد الرفاق عن التحالف مع الدكتاتورية العسكرية,وهل كان الزعيم يثق بالحزب وخطنا الاشتراكي:وقال مهدي جواد:فيما بعد ثبت عكس ذلك,في البدء ناور بنا,بعصا الحزب صفى خصومه,أعطانا بعض المراكز والمؤسسات الإدارية,وبعد أن شل خصومه شعر بخطر الحزب فانقلب عليه, كان الزعيم يلعب كأي عسكري معزول شعبيا,لعبة التوازن ليبقى هو-45)..

إذا الشيوعي العراقي مهدي جواد,يعترف بأنه وحزبه كانوا عبارة عن عصا بيد الجنرال,ينزل العقاب بهم على خصومه السياسيين!..أنهم لم يكونوا مجرد عصا

بيد جنرال,بل أداة قتل.ثم أي حزب هذا يدعي الثورية الحزبية وله مؤسساته

103

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقيادته وقواعده ومثقفيه والمتعاطفين من أبناء الشعب معه,أن يلعب بهم شخص واحد ويناور؟..أين يكمن السخف في المشهد السياسي العراقي..وحجم التفاهة!!

أن الأحزاب..كلها..بدون أي استثناء,هي في النهاية أحزاب تعتمد العنف لتصفية خصومها لتنصيب دكتاتورية مطلقة وتفتقر لأبسط قواعد الديمقراطية والإنسانية.

أما القواعد الحزبية,فما هي في النهاية أيضا سوى أدوات تنفيذية,لا دور لها سوى التهريج والتصفيق في حالة السلم,وأداة قتل في حالة اقتتال العشائر الحزبية

( قال الرفيق العمالي:يا رفيق مهدي.عفوا,أردت أن أصل إلى نقطة أسكتني بطرفها.أريد أن أقول,لماذا استيقظنا فجاءة على أخطاء القيادة وبدأنا تهشيمها!لماذا لم تتضح هذه الأخطاء سابقا؟العفو.أريد أن اسأل أين الصوت الذي ارتفع ضد هذه القيادة سابقا؟الحقيقة أن سؤالي يتجه نحو الديمقراطية الحزبية.

– ماذا تريد أن تقول بالتحديد؟

تلعثم الرفيق العامل.وضع يديه على ركبته،ثم ما لبث أن هرش شعره الأشعث:

نحن في بيت الحزب.وهذا اجتماع مصيري.موت أو حياة كما قلت.ليكن موقفك وموقف الرفاق مني ما يكون.سأجهر بما اعتقد.سأقول أن الديمقراطية كانت مفقودة وان قواعد الحزب ما كانت سوى أدوات تنفيذية,والآن نحن نذهب إلى المذبحة وليس إلى استلام السلطة.الخطأ قديم.لعله كان في صلب الحزب,اعني كان في البنية التنظيمية والسياسية,لم تكن القيادة هي المخطئة وحسب,الخطأ محصلة تراكم تاريخي ونحن جميعا مسئولون عنه ,هذا ما أحسه كعامل بسيط في خلية شيوعية,أقول ذلك بألم وأنا ذاهب إلى الموت أنا مع حزبي حتى النهاية

104

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 46)…أن قيادة الحزب في تلك المرحلة,كانت مسئولة بشكل كبير عن إبادة قواعد الحزب والمتعاطفين عموما مع اليسار,من أمثال هذا العامل البسيط الذي آمن بغد أفضل له ولأطفاله وشعبه..فكم من البسطاء الذين آمنوا بكذب الأحزاب العراقية وراحوا ضحايا بلا معنى ولا ذنب؟!

أما من الجانب الآخر,الأكثر دموية..الحزب الحاكم,فقد كان عبارة عن مجموعة من المغامرين الذين استولوا على السلطة وتربعوا على عرش الدم,فلم يكن لهم أي خيار..وكما الشيوعي,كان ألبعثي..موت أو حياة..أن الحياة لا تستوعبهم معنا, مع أن الموت أستوعبهم جميعا!..لقد انهالوا بسياط جهنمية على أجساد خصومهم وفتحوا أبواب الجحيم على مصراعيها,لقد صمموا على إبادة الشيوعيين والى الأبد,ولم يكن بوارد حساباتهم قطع الذنب فقط,بل سحق الرأس..وكان لهم!

( وسمع أصوات تصيح وتئن بينما الرصاص يخطفها,الجوع والمطاردة والتشرد والفرار من وكر إلى آخر تحت رعب الموت.اغتيالات بغداد والموصل والبصرة والحلة,ثم فاجعة الأهوار.

– اسمك,خليتك,أماكن الاجتماعات,الأوكار,نوع الأسلحة ومصادرها.قيادتكم خانتكم.أنها في قبضتنا.أتريد الأسماء.استمع:عامر عبد الله.عبد القادر إسماعيل. زكي خيري.العبللي.صلاح احمد.جميران.عبد الأمير عباس.السباهي.كلهم اعترفوا.كتبوا براءتهم.لقد سمعها ورآها الشعب على شاشة التلفزيون وعلى صفحات الجرائد.كالفئران سقطوا وكشفوا الجهاز كاملا.

الضرب.الضرب.الضرب.

105

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدم.الدم.الدم.

وإذا لم تعترف على القيادة الجديدة ستعدم ككلب.ابن القحبة,ماكو شيوعية بعد اليوم في العراق.شنو هاي الشيوعية.صار مأواها المجاري والبواليع.انتم شنو؟

حفنة جواسيس,عملاء لموسكو,سيدتكم باعتكم.مصالحها معنا.أنت مو عارف انو السوفيت تجار.قواد.ولد القحبة.شنو هاي القيادة الجديدة؟

كالإخطبوط كلما قصصت له ذراعا ظهرت أخرى.هيا اكتب كل ما تعرفه عن حسن ألعبيدي,والياس ديمتري,والعلاوي,والأحمدي,وخليل كرم.أعطوه الأوراق.اسمع أذا كذبت تعرف نهاية الصامدين في قصر النهاية .

الصمت يدوي,والرأس مختلج ومختل,والعالم مظلم ومضاء بنور مبهر.أصوات المعذبين والطلقات والصرخات.

آه.يا لهذا الجنون الدموي.دوي جبل شامخ,صلب,ينهار,يتداعى وينهار-75,76).

لا يبقى في النهاية سوى طعم الفجيعة,والحزن الذي يتراكم كجبل أسطوري على صدور العراقيين,يصنعونه بإتقان وينقلون حجارته من كل بقاع الأرض..الحزن

ذلك الجبل المقدس!…( خصوبة الحياة ثم عمق المفاجأة التي تأتي كصفعة الموت

وهما ألان يخطوان فوق الغبار,غبار المدينة التي كان اسمها بابل.المدينة المرممة والتي تبدو الآن كمومياء.تمثال الثور الهاجم والمرأة المضطجعة يشير إلى انتصار بابل على آشور التي تغتصب.تشير الفتاة إلى تمثال البازلت الأسود إشارة جنسية عابرة وينحدران بين الغبار.لم يبقى من بابل غير الأنقاض وهذا الغبار والصلصال المرمم,هما يعبران الأنقاض يسمعان صوت حمام ينوح.

106

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقول الفتاة :اليمامة تنوح حبيبها المفقود.ثم تروي قصة عاشقين من بابل القديمة,

العاشق الذي أخذته الحرب والعاشقة التي تموت حزنا وحنينا بانتظار الفارس الذي لا يعود,يستلقيان على العشب تحت شجرة نخيل,الوقت أصيل,والظلال تسيل على وجه في لون العسل.شعر اسود كثيف كدغله,وعينان تلمعان بوميض غريب,خاطف للقلب,وهي تتكلم تتكثف,من وجهها يشع بريق يضيء:تاريخ العراق هو تاريخ الفقدان.تقول المرأة-128)

كلما ازدادت شراسة طرف ما في المقاومة,يقابلها تصعيد غير مسبوق من الطرف الآخر..أقصى حالات العنف والبربرية..أقصى الجنون والهوس..

الأوكسجين قليل في هواء العراق..لا بد من الإبادة..( الحي- الميت الذي دفن قبل أعوام في سجن الحلة بين خمسمائة سجين ضربوا وأهينوا وعذبوا.بدءا من تحطيم الإضلاع والرأس بالأحذية العسكرية عبورا بالصدمات الكهربائية على أعضاء التناسل,قلع الأظافر بالكلابات وإدخال زجاجات البيبسي في الإست وممارسة اللواط إلى حرق الجسد بأعقاب السكائر.طقوس عذبة للجلادين. احتفاءات جنسية لآلهة الليل.الضعفاء ماتوا تحت التعذيب.وآخرون فتحوا نفقا بمفك براغي ومدية مطبخ خلال شهر من الإصرار وتوهج الروح فخرجوا إلى حرب المدن وحرب الأهوار وبقية الحروب الخاسرة.آخرون امضوا عقوبتهم أو جزءا منها ليخرجوا حطاما أو خونة.تهم واعترافات وشتات وانشقاقات ومحاولات لتأسيس جديد مناقض لما مضى.الذي تأسس ترسخ بعد الانهيار, وصراخ عواصف الدم والموت:العودة إلى الموال القديم,التحاق ذيلي بعربة

107

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كاليغولا عبيد الله الكلبي الحاكم بأمر الله وأمر السيف.الحجاج الثقفي المقعي على العرش.رب السموات والارضين الذي يقول للشيء كن فيكون.وما كان يمكن أن يكون في ذلك الزمن سوى الخيار بين المقبرة أو الانصياع.الهلاك أو المنفى,فأما من خضع وخاف وانصاع فقد ابتلع الموسى وأما من خرج صارخا في براري الروح الناهضة هائما لا يدري تحت أي سماء أو في أي ارض يموت,فقد اختار الزمان الغامض.الزمان الأقسى.

يوتوبيا.يوتوبيا.

القيامة.القيامة.-312,313)..لم يكن الشيوعيون وحدهم يدعون تمثيل الشعب العراقي-وأمله – بغد أفضل..البعثيون كانوا يعتبرون أنفسهم كذلك!!

( بعصبية سحق مسئول البعثة سيجارته تحت قدمه.نظر إلى مهيار بعينين تقدحان شررا:اسمع عيني مهيار,مهدي جواد وأنت وسائر الحاقدين لا هم لكم سوى التشنيع على بلادكم هنا.الشعب في العراق عارفكم زين.زمرة منبوذين معادية تشوه المسيرة القومية بالكلمات الحاقدة اللامجدية.شنو هاي عيني الماركسية المستوردة التحكون عنها! أصلا انتم في واد والشعب في واد,انتم غرباء في بلادكم.من اجل ذلك لفظكم الشعب لفظ النواة……..لقد بدأت الأمور تأخذ اتجاها آخر.عندما اتهم مهيار عضوين من أعضاء البعثة بتقديم تقارير أمنية للسلطة الجزائرية وإرسال نسخ منها إلى العراق:هل هناك ما هو أكثر خزيا من هذا؟ لماذا هذه النذالة؟-317,318)..هكذا كان الحال وهكذا سيبقى ( لا يغير الله نفسا- صدق الله العظيم)..الاتهامات ستبقى تتطاير بين العراقيين..الكل لا يرغب في

108

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحوار مع الآخر,وان اجبر على ذلك,فسيحمل الخنجر بيد وقارورة السم باليد الأخرى!

هجرة أو هروب..سيان..كثير من شباب العراق ,فجاءة لم يجدوا أمامهم مخرج آخر من هذه المقتلة التي وجدوا أنفسهم في وسطها.والعراق يعاني منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ,من موجات هروب أو هجرة,بشكل متواصل كل بضعة سنين..الأوكسجين في العراق يقل!!

( انه يخرج الآن من البصرة.متسللا يخرج مع غروب الشمس المنحدرة نحو الخليج.يتناول جواز سفر مزور ويغيب-97)..الآلف مؤلفة خرجوا بهذه الطريقة أو اخرجوا..لكن إلى متى؟..طعم الخيانة يبقى مرا المذاق إلى نهاية العمر..وفي حالة مهدي جواد..( ما الذي يبقى من الزمن السعيد عندما ينشق الشيوعي على الشيوعي ويسلمه إلى سكين الجزار؟-259)..أن الزمن السعيد هو أكذوبة الأكاذيب في العراق..لم يكن كذلك ولن يكون,فالذي سلمت رقبته إلى الجزار هو في النهاية عراقي,والذي سلمها هو عراقي آخر,والذي حزها عراقي كذلك..ما الذي بقى في شعب يكره نفسه!..بقايا بشر!

( كتب مهدي جواد في ذلك المساء” المنفى اغتراب جديد يضعك وجها لوجه أمام نفسك.انه يضعك أمام المرآة,وها أنت تراجع هيروغليفيا الزمن في استراحة الحرب.ثمة عطب داخل الإنسان وداخل الكتلة يرى ألان بوضوح اشد في هذا المنفى.التجربة قالت ذلك بمرارة وفاجعية الدم,ربما.لكن الأشياء ما تزال هلامية سابحة كقناديل البحر-42)….( وهذا الرجل لا يعدو كونه صدفة فارغة ألا من

109

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأصداء طرحها البحر,حملته الريح ذات غسق لعين فوصل شاطئ بونة”مدينة في الجزائر”البعيدة وهو حطام-36)….( يحس الرجل بأنه مطارد,وان شخصا ما يتعقبه,رجل لا يعرف ملامحه بدقة.كان ينتظر المفاجأة في المنعطف القادم…….

انه يخطو مسرعا.متوجسا أبدا.متأهبا أبدا.كان الخوف يسري هناك,في الفقرات التي ستتلقى الضربة من يد تتأهب لتطعنه من الخلف-10)…..( عندما خرج من العراق لم يكن حزينا.فقط أحس بانقباض غامض وهو يغادر,ورأى الفجر رماديا فوق دجلة,وكانت الأشعة الأولى للشمس تشع كالماس فوق الماء…….وكما يحدث في حفل تراجيدي غامر بالرهبة والجنون والحب تنطلق الزغردات مع النحيب.أصوات الأمهات والعمات والأخوات والصديقات النادبات في احتفال خروج مهدي جواد مع أصدقاءه الهاربين تلك الليلة التي امحق قمرها ثم انغمر صداها في عمق الليل الغارق في مهرجان من الفزع ورائحة القتل العميم………

انه يفر الآن من ارض الجحيم.جواز سفره مزور,ورأسه مليء بشظايا حلم تبدد.والأصوات:زمانك انتهى بين فراراتك واختباءاتك في أوكار بغداد والبصرة والعمارة والحلة والناصرية,وبين مقبرة الهور التي كفنت أطفالها بطحالب الماء

………أخيرا,هو ذا مهدي جواد ينجو بجلده من طقوس المذبحة-15,16).

ليس كل الهاربين أو المنفيين بالضرورة من السياسيين,بل أن الكثير منهم خرج أو هرب لأنه مل رائحة الدم وعفونة الأفكار المتطرفة..فها هو احدهم يتذكر..

( – الآن أنا لست حزبيا.صدقني أخي مهدي أنني لا اكره الشيوعيين ولا القوميين

لكنني رأيت ما حل بالعراق من المآسي………عشت وشفت المرارات والدمار

110

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحزاب الماركسية والقومية وضيق أفق الأخوان ولا عقلانيتهم. اقتتال طوائف.هذا ما رأيت.قلت الكل باطل وقبض الريح.كما قلت:الجميع أوصلونا إلى حطام الوطن-258)..

في النهاية يتساءل حيدر حيدر بلسان بطله,وهو السؤال الأهم الذي يبقى بدون إجابة…( ليكن السؤال هكذا:الإنسان أولا أم المجتمع؟ وهل بالإمكان بناء عالم جديد بإنسان قديم؟-43).

لقد قدم حيدر حيدر ,الشخص العراقي في وجوه عديدة..فهو مناضل يحارب الظلم والرجعية والأفكار المتطرفة..كما هو جبان ينهار تحت الترغيب أو التهديد ثم خائن يسلم رؤوس رفاقه إلى سكين الجزار..لكن أهم من كل هذه هو التطرف في ممارسة العنف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

111

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إسماعيل فهد إسماعيل

( إحداثيات زمن العزلة) سباعية روائية للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل الصادرة عن ( دار الوطن) ( طبع بدعم من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت) في عام 1996 وهي بمجموع أجزاءها السبعة تتألف من – 2423 – صفحة من القطع الكبير..أما تسلسل الأجزاء فكالآتي:

1- الشمس في برج الحوت.

2- الحياة وجه آخر.

3 – قيد الأشياء.

4 – دائرة الاستحالة.

5 – ذاكرة الحضور.

6 – الابابيليون.

7 – العصف.

توفر لنا هذه (الملحمة!) الروائية,فرصة ألقاء الضوء على رؤية كاتب كويتي عانى من احتلال العراق لبلده وبالتالي فالسلبية المطلقة,هي التي تلقي بظلالها الكثيفة على الشخصية العراقية في هذا العمل من البداية وحتى النهاية, وتبرزه (من وجهة نظر الآخر) بشكل سلبي سافر,فاضح,عاري..ومخجل!..كما يصور العراقي على انه شخص غريب الأطوار,بدائي اقرب إلى الهمجية والبربرية منها إلى الصورة الإنسانية المتعمقة في مأساة هذا الإنسان.وعلى عكس كل الكتاب العرب الذين تناولوا بعض الجوانب الايجابية في الشخصية العراقية

112

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بهذا الشكل أو ذاك..يبقى هنا في عمل الروائي إسماعيل فهد إسماعيل شيء آخر..ربما لان مجال الرؤية يختلف..فهنا تكون الرؤية من الداخل..داخل الحدث..الاحتلال الذي يصل إلى حدود الاستباحة,ويجسد موروث البدو..الغزو,

ولكن ليس شعريا أو رومانسيا كما في أشعار العرب..بل بشكل دموي,مخيف,

وكإرثي بكل معنى الكلمة. العمل أيضا يتحدث عن المقاومة الكويتية للاحتلال العراقي..ويبدو أن المؤلف قد قرأ الكثير عن أدب المقاومة وحرب الأنصار خلال الاحتلال الألماني النازي للعديد من الدول الأوربية,بالإضافة إلى غيرها من أدبيات المقاومة الشعبية..فهو يصور لنا الكويتي وكأنه مخلوق آخر غير المتعارف عليه والواقع,انه هنا(سوبرمان!)..طبعا لا ضير في ذلك عندما يبقى الأمر في حدود المعقول,لكن عندما يخرج عن المألوف يصبح الأمر شيئا مضحكا..لهذا اعترف أني قد عانيت بشدة حتى أتمكن من إكمال قراءة هذا العمل,

حيث التكرار والمبالغة التي تصل إلى حدود السخرية!

لكن ما يهمني هنا هو كيف ينظر الكويتي الذي احتل بلده من قبل العراق إلى العراقي!..وسأختار في البداية جملة وردت في الجزء الثاني..تلخص كل العمل الطويل وتختزله بدقة..( مطلوب من كل الكويتيين في الداخل أن يختفوا من كل مكان حتى لا تنالهم يد البطش,ويتحتم عليهم تواجدهم في كل مكان بغية تدبير أمور حياتهم,يواصلون بقائهم في زمن عراقي مطلق-ج2-77).

كان احتلال الكويت عملا وحشيا بكل القياسات على الرغم من الاختلاف السياسي أو الاقتصادي,وكان الأجراء العراقي أكثر بكثير مما هو غير عقلاني

113

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجرت البلدين إلى كوارث عديدة ما تزال المنطقة تعاني منها,وخصوصا الفاعل العراقي..كما تم إلصاق صفات- أو أعيد اكتشافها- في الشخصية العراقية من قبل الكويتي.فها هو إسماعيل فهد إسماعيل يصور العراقي..( – الجيوش العراقية..

– اجتحت الكويت..

– ماذا قلت؟!

تساؤلها يتضمن رفضها تصدق.وجهها قبالته.عيناها هاجس الفجيعة.اكتفى أكد خبره بهزة من رأسه.لم يفاجئه رد فعلها:

– مجرمون جبناء!!-ج1-17)

( -..الاحتلال لم يفرض سيطرته الكاملة على الكويت!

استغرب منها استخدامها كلمة(احتلال) أدبياته السياسية تفيده أن الاحتلال يجئ استعماريا غربيا بالدرجة الأولى,أما والحالة عراقية..فوضى الذهن باختلاط المفاهيم وتبادل مواقع القيم-ج1-26)

( الجنود العراقيون

إجابة الحاج محمد بعد ما فهم السؤال على طريقته,اكمل

– ينتشرون كالجراد.يملئون الشوارع والساحات والمباني-ج1-35)

( – يقال أن القوات العراقية لجأت إلى أسلوب المخادعة كي تغرر بالكويتيين.. تغلغل داخلا دون مقاومة..ذلك من خلال رفع أعلام كويتية-ج1-39)

( ردت بحزن محاصر,واستطردت بدافع من حقد عارم:

– لو لا اؤلئك الكلاب

114

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فضول سليمان يأخذ عليه وجهه,يتساءل باستفزاز برئ:

– كلاب؟!

حقد سهى يتدافع في صدرها لدى إجابتها موضحة:

– العراقيون –ج1-50)

( – إضراب عام عن العمل..مفتوح..

………..

– ومن لا يلتزم؟

عيسى يجيب على الفور:

– يعامل معاملة العدو – ج1-111,112)

( ضغط شعور الكارثة,واشد منه إدراكك أن الكارثة قائمة الآن..وان استمرارها.

نظام بغداد,أساليبه,قتل جماعي..أم حكم بإبادة عامة؟!-ج1-114)

( -“هويتك”

نقاط السيطرة ومفارز التفتيش التي خص بها الاحتلال العراقي الكويت تتوالد على بعضها,لتتواجد عند كل مفرق وزاوية.

– أن كانت عندك علبة سجائر!

…………

– من أين اشتريت ساعة اليد هذه؟

– الكويت.

مفارز التفتيش..وحدات دورية محمولة.بلدك تعج بهم

115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“مسألة دفع الثمن..كيف؟!-ج1-134)

( قالها صالح,قبل أن يستطرد باشتراط لا يخلو من مرارة ساخرة:

– أما إذا تنبه مختصو النهب من العسكر المتواجدين في منطقة الشويخ إلى مخازننا هناك-ج1-242)

( إلى جانب العديد من قصص بدأ الناس يتداولونها حول إقدام جنود عراقيين على اغتصاب نساء عدة من جنسيات مختلفة,عدا أعمال السلب والنهب والقتل في حالة التصدي-ج1-253)

(-…..الفرق المتخصصة بأعمال السلب والنهب من جيش النشامى..صوته ينضح سخرية مريرة..

– ….أنهت واجبها تجاه المحلات التجارية في شارع فهد السالم,مجمع المثنى.

سوق الكويت الكبير..سوق الوطية-ج1-277)

( السيارة, تواصل سيرها.مجمع الأوقاف يمينا.موقف سيارات المجمع يزدحم بشاحنات عسكرية,وبضع سيارات تاكسي عراقية بألوانها المميزة,وعشرات من الجنود في حركة دائبة,يعملون على نقل أكياس بلاستيكية سوداء منتفخة.

– ينهبون محلات المجمع!

أشار محمد صالح,اكمل مبديا حقدا:

– حولوا الجيش العراقي إلى عصابات لصوص وقطاع طرق!

-…….حطام سيارات.هياكل.أبنية خاوية.شوارع مقفرة.عدا زمر من الجنود يتحركون بخفة في ظلال الأبنية حاملين أكياسهم البلاستيكية السوداء.. يظهرون

116

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فجاءة..يختفون بأسرع-ج1-249)

( النشامى حولوا مدينة الكويت إلى مقبرة أخرى,كل السيارات التي اضطر أصحابها أن يتركوها يوم الغزو..مر عليها جراد نظام بغداد..عراها من كل ما يمت لإمكانية الاستفادة بصلة-ج1-138)…( تفشي ظاهرة سلب الكويتيين من جانب جنود الاحتلال.

مصطفى يضيف:

– الكثير من حالات السلب كان مصحوبا بعمليات قتل-ج1-310)

( – من أين لك ثقتك بخروجهم؟!

– لأنهم يسرقون كل شيء-ج2-239)..( عسكر الاحتلال..سيارات شاحنة عملاقة

أعمال السلب والنهب على قدم وساق..أملاك عامة..أو خاصة-ج2-315)

( – يتفننون باستثارة كراهية الجميع ضدهم!!

قالتها الأم مبدية وجهة نظر.

– هم لم يكسبوا حربهم مع العالم بعد..

قالت إيمان,ختمت:

– لكنهم كسبوا احتقاره-ج3-38)…( سأله ابنه بخوف غريزي لا حد له:

– هل سيقتلك العراقيون؟-ج3-63)…( الخطاب أوضح أسبابا,وكشف جريمة العصر..النازية كانت في أوربا,والنظام العراقي. الدوافع محيرة,الاستباحة, التقتيل,الأسر,الاعتقال,التعذيب,السلب,النهب,طمس الهوية.شحنات هائلة من حقد أعمى لا تفسير له-ج3-320)….( ثلاثمائة شاحنة عملاقة يصار إلى تحميلها

117

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

على مدار الساعة,تمهيدا لسوقها بعد ذلك,قوافل محددة,خاضعة لحراسة عسكرية مشددة.مغبة تعرضها للنهب من جانب عصابات منظمة,تنشط-ليلا خاصة- على طول الطريق الدولية الواصلة بين محافظة البصرة وبغداد العاصمة-ج5-109)

( كانت سلطات الاحتلال-تأكيدا للهوية العراقية-استبدلت مسمى شارع فهد السالم بشارع (فاو) الاسم والمسمى,عصف ريح ومرتع كلاب ضالة.حطام واجهات محلات.بدت وكأنها لفضت ما بداخلها خارجها,على الأرصفة وفي عرض الشارع.بعدما تعرضت لعمليات نهب عشوائية متوالية-ج6-76)……

طبعا ما اخترته هو غيض من فيض,فالكتاب بأجزائه السبعة تقريبا يقسم إلى قسمين,أولهما هو تعداد المزايا السلبية للشخص العراقي,صحيح انه يتكلم أكثر عن الجيش العراقي,لكن هؤلاء لم يأتوا من الفراغ أو من دولة أخرى,وبالتالي فالتورية كانت غير منطقية ,أن الجيش العراقي هو هو الشعب العراقي.أما القسم الثاني فيتحدث عن المقاومة الكويتية,وهذا الجزء لا يهمنا. أن الصفات التي أسبغها الكاتب على الشخصية العراقية في كتابه تراوحت ما بين السلبي وما هو أكثر!..ولا ادري هل أن هذا التحول في رأي الكويتيين بالعراقيين وليد لحظة الاحتلال أم هو ابعد من هذا؟..اعني الم يكن الكويتيين هم اقرب العرب وأكثرهم معرفة بالعراق والعراقيين!..كيف لم يتسنى لهم اكتشاف هذا الكم الكبير من السلبية في الشخصية العراقية قبل الاحتلال؟

أن إسماعيل فهد إسماعيل يذكر في المقاطع التالية(حقائق) عن العراقي وكأنها بديهيات مسلم بها,وإذا آمنا سلفا برأيه,فلماذا لم يذكرها قبل- الغزو- والكويت

118

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كما هو معروف من أكثر الدول العربية التي ساندت العراق في حربه على إيران وكانت قريبة جدا من النظام الذي افترسها فيما بعد؟

( مع النظام العراقي لا يمكنك استبعاد ما هو مستبعد-ج1-13)…( العراق أول بلد في العالم من حيث تعداد النخيل,وعدد المشردين لأسباب سياسية.في طهران ومدن إيرانية أخرى أحياء خاصة بهم,في دمشق أيضا-ج1-68)..

( – استشهد الشيخ فهد الأحمد..

قالت شيرين.كانت هبطت من الطابق العلوي.عيناها المحتقنتان تؤكدان مشاركتها ابنتها فجيعتها,أتمت:

– سيكون وصمة عار في جبين نظام بغداد!

ندت عن إيمان ضحكة صغيرة دالة:

– لدى نظام بغداد من الوصمات ما يكفيه وزيادة!-ج1-120)…( النظام العراقي من اخطر الأنظمة القمعية التي عرفت في التاريخ,وأشدها دموية وبطشا-ج1-187)…( ويعرف عن الاحتلال الفاشي وردود أفعاله المسعورة إزاء الاجهار بمعارضته-ج1-237)…( النظام العراقي..ارخص ما عليه هو الحياة البشرية- ج1-314)…( نظام بغداد محكوم بالحرب.استعدى بعضه على أكراده,واستعدى العرب على إيران,وها هو يستعدي العرب فيهم-ج2-56)…( نظام بغداد. طبيعته الدموية.مقومات استمراره باستمرار حروبه العدوانية,افتعاله حربه مع جارته إيران.الحال السجال…الخسائر البشرية-أيا كانت- بغض النظر-ج2-253)….

يبدو أن إسماعيل فهد إسماعيل لديه معلومات جيدة جدا عن حالة النظام العراقي

119

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وعدوانيته,ولا ادري لماذا لم نسمع هذه الآراء القيمة والحقيقية عن النظام الفاشي قبل الاحتلال مثلا؟..في حين على ما اذكر أن كل المثقفين الكويتيين كانوا ضيوفا دائمين على مهرجانات النظام العراقي التي لا تنتهي!

نعود لنرصد مع المؤلف بعض من الأفعال المشينة التي تسبب بها العراقيون أثناء احتلال الكويت,ونتعرف على جانب آخر من جوانب الشخصية العراقية بنظر كاتب كويتي خائف ومذعور..ومندهش ..

( قتلوا ثلاثة شبان كويتيين رميا بالرصاص تحت جسر محول بيان-ج1-56)..

( أعداد لا حصر لها من سيارات الأجرة بألوانها الفاقعة تجوب مناطق الكويت محملو بأنماط بشر…نظرات شرهة لا تخفي اندهاشها الحاقد-ج2-34)..( الاحتلاليون يهدفون إلى إيجاد نوع من الاستعمار الاستيطاني!

صوت عبد المحسن لا يخلو من غضبه.واصل:

-وألا..ما معنى توافد العوائل العراقية..احتلالهم مساكن الكويتيين عنوة……..

– سلوك لصوص-ج2-35)….( فجاءة أضيئت إحدى نوافذ الطابق الأول من المبنى.حيث دخل الرجلان”سرقة استيطانية بوضع اليد”……………….

المرأتان بقيتا ملازمتين مقعد سيارتهم الخلفي ريثما برز الرجلان خارجين من مدخل المبنى.لحظتها تولت كل من المرأتين فتح بابها قامتا مجللتان سوادا.الأربعة يتوجهون إلى صندوق سيارتهم.يتخاطفون حقائب خفيفة “حدود الخسة”-ج2-44,45)…..( في الوقت الذي قامت أسواق عديدة في بغداد ومحافظات أخرى لبيع المسروقات الكويتية قامت في شبرة خضار الشويخ

120

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سوق تخصصت في بيع منتجات عراقية لها دلالاتها الصلفة-ج2-13)..( جنود الاحتلال تنبهوا إلى مكيفات الهواء في الشقق السكنية الخالية من أصحابها,وكذا مكيفات هواء المساجد والدوائر الحكومية..تنبهوا بعدها إلى المراوح السقفية..

الأرضيات الرخامية..السجاد..مفاتيح التيار الكهربائي..خزانات المياه..أغطية المجاري”الفرع ينتقل إلى الأصل”-ج3-148)…( صاروا يكسرون أبواب المنازل الخالية من سكانها.شاحنة عملاقة جاهزة عند الباب.تحميل كل شيء.. أي شيء..ومن ثم شمالا باتجاه حدود كانت قائمة-ج3-227)…( في المقابل ازداد توطن المظاهر العراقية.باعة المحلات والأسواق الطارئة والباعة الجوالون.الرجال.سحناتهم.النسوة,الوشم الأخضر والرائحة..أشغال البيوت الخالية من مناطق الأطراف,وتزايد عمليات النهب بوضع اليد لتشمل مناطق الكويت كلها.صاحب ذلك حضور لم يسبق له مثيل للذباب والبعوض,وتزايد الحيوانات الضالة والسائبة,وكذا قطعان الفئران”الفرع يشبه الأصل”.تلال القمامة حيثما وليت وجهك ,فيضان مياه المجاري بسبب انعدام الصيانة,توقف وحدات الصرف.اعتيادك الرائحة..الزنخة”الفرع يشبه”-ج4-140,141)..

لو كنت قرأت هذا الكتاب قبل انهيار بغداد,لراودني الكثير من الشك..لكن بعد سقوط بغداد على يد الأمريكان,وما صاحب هذا الحدث من أعمال نهب مشابهة لوصف الكاتب الكويتي عن نهب العراقيين للكويت وتخريبها يبدو الأمر المخيف الذي كنا دائما كعراقيين ننكره!..فلقد شاهدنا ومعنا العالم كله,العراقيين وهم ينهبون أنفسهم..دوائرهم,أماكن عباداتهم,متاحفهم,جامعاتهم ومدارسهم..أن

121

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العالم كله شاهدنا في هذا الموقف المخزي واللاأخلاقي ثلاث مرات وخلال سنوات قليلة..في الكويت وأثناء الانتفاضة ثم بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

في الحقيقة نحن بارعون جدا في إضفاء أسماء رنانة على أعمال النهب والفرهود  هذه,والفاجعة أننا الوحيدين الذين نصدق هذا الدجل!

أن عنف العراقيين لم يتوقف على الكويتيين,بل انه تجاوزه نحو العراقيين المقيمين في الكويت ثم الجاليات العربية والأجنبية.حيث عقلية الإبادة والإجهاز على الخصم وعدم إتاحة أي فرصة لالتقاط أنفاسه..

( – الاستخبارات العراقية شنت-بدءا من هذا الصباح- حملة اعتقالات واسعة شملت العراقيين المقيمين من المعارضين للنظام-ج1-85).

هذا وتناول إسماعيل فهد إسماعيل جانب مهم من سلوكية العراقي(التهريجية) واستعداده العالي للتصفيق والتهليل إلى من يرهبه أكثر أو يكسب إعجابه الدموي الطابع..فكل من يتولى أمر حكم العراق,حتى وان لم يكونوا  راضين عنه في أعماقهم,هم على استعداد للخروج إلى الشارع والهتاف الأبله له ولعشيرته وسلالته..أي كان..حتى وان كان ليس عراقيا!!. وتاريخ العراق مليء بالشواهد.

فبعد انهيار بغداد على يد الأمريكان,ارتفعت في شوارعها صور لآية الله الخميني,علما أن هذا الشعب نفسه قد حارب النظام الإيراني لمدة ثمان سنوات عجاف,وحينها كان الإمام هو الذي يحكم إيران!..وأي تبرير معقول لهذه السريالية يبقى غير قابل للاستيعاب!

( وما استغرب الكويتيون وقتها أن يعجز الاحتلال العراقي يجد كويتيا واحدا

122

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يعرف يتعاون معه,كي يضعه في واجهة الأحداث-ج1-146).

وهذا صحيح جدا وعلى العكس من العراقيين,فكل محتل للعراق على امتداد المشهد السياسي العراقي,يحير في اختيار( رجالاته!) لكثرة العروض والاستعداد العالي للتعاون مع هذا المحتل..وتاريخ تبادل حكم العراق من قبل العثمانيين ( الأتراك) الصفويين ( إيران) شاهد على ذلك..وأما في التاريخ الحديث وحتى لا نغرق في تفاصيل التاريخ,فقد شاهدنا استعداد السنة العالي للتعاون مع المحتل البريطاني في بدايات القرن العشرين بعد احتلالهم للعراق,ونفس الشيء بالنسبة للشيعة مع المحتل الأمريكي في بدايات القرن الواحد والعشرين!

وكون أن المحتل العراقي لم يجد كويتيا واحدا يتعاون معه,هي حقيقة تحسب لصالح البناء النفسي للمواطن الكويتي المخلص لبلده المحتل.

( الجميع يلتفون حول التلفزيون,الشاشة تعرض شريطا لآليات عسكرية متحركة

دبابات مدرعات,حاملات جند,زاوية الكادر شاهد عددا من نسوة متلفعات بعباءات سوداء يحملن دفوفا ويرددن أغنية,أريد لها أن تكون وطنية عراقية,وغير بعيد عنهن وقف عدد من الأطفال نصف حفاة يشاركون بالتصفيق.

شعور غامر بالدهشة يأخذ على سلطان حواسه-ج1-216).

كما ولا يخلو المشهد العراقي على امتداد أزمانه من منظر المهرجين(المثقفين) الذين هم على أتم الاستعداد للوصول ب(أنا) الحاكم أي كان,إلى السماء السابعة ومقبل لا شيء!

( تلفزيون بغداد يفسح ساحة شاشته لشعراء لا حصر..يلقون قصائد عصماء

123

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تتغنى بخصال السيد الرئيس القائد..يحيون فيه روحه العبقرية التي حققت معجزة عودة الفرع إلى الأصل.حشد هائل من برقيات التهنئة والتأييد للخطوة الجبارة-ج2-34)….( مارشات أخرى,وإفساح مساحة وقت لشعراء يتبادر ون يتدفقون قصائد تتحدث عن رؤية مستقبلية-ج2-111)…( النظام العراقي يتصدى – بأعلامه الذي يدور في فلك الرئيس القائد- بثقة لا مثيل لها,ويؤكد بدلائل دامغة انه منتصر لا مفر-ج2-242).

ينتقد المؤلف سلبية العراقيين,بل خنوعهم المرضي للحاكم..ثم يبرر ذلك بقوله..

( الشعوب على دين ملوكهم-ج2-148)…( المحافظة التاسعة عشر تستعصي على مروضيها مقارنة مع محافظات أخرى قيد السيطرة-ج2-165).

في حين كان العراقي مستسلما بخنوع-لأي- نظام حكم,كان الكويتي برفضه السلبي,يمثل أرادة التمرد على الواقع الذي فرض عليه!

( لهاث المذيع يكاد يقطع عليه أنفاسه:

“الآن أيها الأخوة..ننتقل بكم إلى شوارع بغداد العروبة..لكي تتوافر لكم فرصة مشاهدة جماهيرنا الشعبية وقد خرجت عن بكرة أبيها لتؤكد بتظاهراتها العارمة تأييدها المطلق للسيد الرئيس القائد حفظه الله..وتندد وتشجب خطاب بوش المزعوم”…انتقال إلى إحدى الساحات المخصصة للاستعراضات.الجماهير حالة احتشاد قصوى والهتاف: “النصر المؤزر لقائد الأمة وباعث مجدها السيد الرئيس”. جانب آخر من الساحة.احتشاد مماثل.الهتاف يأخذ طابع السجع المعد للإنشاد:”بوش بوش شيل أيدك..هذا ألحكي ما يفيدك” اللازمة تتردد صاخبة..

124

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مجموعة من المتظاهرين تشعل النار بدمية تمثل الرئيس الأمريكي.الكاميرا ترينا لافتة قماش عريض كتب عليها بحروف كبيرة”يسقط المدعي الكاذب الجبان” –ج3-211.212).

استعداد عالي وغير طبيعي ل(جماهيرنا الشعبية) للرقص تحت راية أي سفاح أو محتل,وانقيادهم غير المنطقي للحتف المعد لهم..وبدرايتهم !!

( بشرهم- من المحسوبين عليهم-هل هو مؤقت أيضا؟!..يزرعون رجالهم في الأرض وعلى مفارق الطرق,فان قتلوا استبدلوهم بغيرهم,فان قتلوا استبدلوهم..فان قتلوا..-ج3-328).

في الأخير نختار هذا المقطع الذي بثه التلفزيون العراقي في خطاب موجه إلى الكويتيين,بعد أن تم أنزال قوات التحالف التي طردت العراق من الكويت..

( المذيع بأهمية”متميزة.وحده-كما هو مفترض- يبدد أنماط الحيرة كافة, ليؤكد جسرا من المعرفة بواقع الأحداث”أيها الشعب الكويتي الأبي..” حواس سلطان تستفز تصغي..” حان الآن وقت التضحية والفداء.دافع عن وطنك ووجودك. أشهر سلاحك في وجه الغزاة البرابرة-ج1-19).

السؤال هو..من كان يقصد المذيع العراقي بالغزاة البرابرة!!

 

 

 

 

125

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة..

في فترة ما..منتصف الستينيات وبداية السبعينيات,انتشر شعار بين الشباب والمثقفين..( انظر وراءك بغضب!)..هكذا قال لنا –مثقفو- تلك المرحلة..

متأثرين تماما بكل ما هو دائر هناك..وراء الحدود..

فالماركسيين قالوا لنا انتم جزء من البشرية..الإسلاميين قالوا لنا انتم جزء من امة الإسلام..أما القوميين فقد قالوا لنا بل انتم جزء من امة عربية واحدة!

ازدادت الحيرة وانتشر الارتباك وتطايرت الرؤوس بسبب الحروب التي دارت بين كل من هذه -القبائل- الفكرية,وانطبق علينا المثل العامي العراقي..( طلع هذا الحمار من هذا الوحل!..).

وما جاء في سياق متن هذا الكتاب,هي محاولة بسيطة لفهم الذات ومواجهتها بالحقيقة التي تأبى أحيانا كرامتنا واعتزازنا بهويتنا أن نعترف بالأخطاء التي ارتكبناها وإنكارها..هي محاولة لمحاصرة الذات بالأسئلة المزعجة غير المجاملة عن كينونتها..ووجدت أن رأي الآخرين الأقربين منا..الكتاب العرب ربما تصلح بداية للمكاشفة ونزع الأقنعة البطولية الزائفة التي أصبحت جزءا من وجوهنا!

لم اقصد أن أروج لآي كاتب أو كتاب أو حتى لفكرة محددة..بل القصد هو جدلية البحث المضني عن جذور تشعبت وتشابكت مع أفكار وايدولوجيا وأشخاص!..

وان كانت هذه الجذور تبدو لي – كما اغلب العراقيين- واضحة,لكنها كسراب الصحراء,عصية على الإمساك بها ووضعها على مائدة البحث العلمي والنفسي,

لكني في النهاية- نهاية محاولتي- لم يبقى مترسبا في سوى الحب والنفور!..الحب

126

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لهذه الشخصية ذات الجذور الغارقة في القدم..والنفور الذي يسببه الخوف منها!

شخصية قريبة الشبه بآلهات تلك العصور السحيقة,التي تتراءى للبعض,كما ورد في الألواح الطينية,حنونة وحانية..وللبعض الآخر,قاسية وجبارة في ظلمها..أنها شخصية ارض السواد..العراق..الغارقة في الحزن الأبدي حتى النخاع والتضحية المجانية,القسوة المفرطة ومزيج غريب من آلهة غير معروفة الواجبات!

ولعل الأقرب إليها- الشخصية العراقية- هي شخصية الإله آيا..اله الماء..فهو من جهة خان مجمع الآلهة البابلي-الاوناناكي- وسرب قرارهم الرهيب بإبادة الجنس البشري وتدمير الإنسان بتسليط الطوفان الكبير عليهم وإغراقهم,إلى الورع التقي

-اوتونبشتم- لينقذ ما يستطيع إنقاذه قبل حلول الكارثة سواء من بشر أو حيوانات..لكنه- أي الإله آيا- كان في نفس الوقت أداة تنفيذ الغضب الإلهي ومدمر القرى والمدن..الزرع والضرع..مدن العراق وحضارته..شيء محير!!

خليط متوازن من الخير والشر,ولعل هذه هي جدلية الإنسان منذ خلق ولحدالآن

ليس في العراق وحده بل في كل مكان..الرحمة والقسوة!

هذا عن الماضي البعيد,الذي خلف لنا إشكالية كبرى,بل مشكلة مستعصية,هي غياب القضية..أو هموم الوطن؟

فالمواطن العراقي ينظر إلى الوطن من خلال المنظور الديني أو العرقي أو حتى المذهبي..وحتى لا نوغل في التاريخ البعيد,ولو أن دراسته ضرورية لفهم التقلبات الحادة في مزاجية الفرد العراقي,نأخذ تاريخا محددا من مسيرة العراق الحديث.. أي منذ عام 1958,في الحقيقة أن تجذر ظاهرة العنف السياسي والعرقي

127

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والطائفي ابعد من هذا التاريخ..لكن منذ هذا التاريخ اخذ العنف بعدا تنظيميا ومنهجيا يشبه الإبادة الجماعية كافتراس الإنسان لأعضاء جسمه!

ففي صبيحة 14 تموز من ذلك العام قامت(ثورة) حيث انتفض عدد من قادة ضباط الجيش العراقي على الحكم الملكي الذي كان قائما لغاية هذا التاريخ وصاحب تلك الأيام المشئومة عمليات اغتيال وقتل وتقطيع أوصال جثث العائلة المالكة وبعض رموز العهد الملكي من السياسيين وسحلهم أو ما تبقى من أجسادهم بواسطة الحبال في الشوارع العامة للعاصمة بغداد في مهرجان شعبي  جهنمي لم يشهد له العراق مثيل من قبل..أما القتلة فقد نصبوا أنفسهم قادة وأولياء على أمور البلد,وسط سكوت جزء مرعوب من الشعب وخروج الأغلبية راقصة في الشوارع على خلفية رائحة الدماء والأشلاء الممزقة تماما كما تجذب رائحة الدماء الذئاب الجائعة..لقد كان صباح ذلك اليوم الشؤم هو بداية الانحدار السريع نحو عمق هاوية العنف الذي لا رجعة عنه..فلم نسمع أو نقرأ أو نشاهد,أن عقوبات قد اتخذت بحق القائمين على تلك الأعمال البربرية أو إحالتهم إلى المحاكمة!..حتى ولو كانت عقوبات معنوية أو استهلاكية,بل لقد تم نسيان الأمر بكل(بساطة) واغفل الملف في زوايا النسيان.ولقد كان ذاك البعض من الشعب العراقي الذي لم يشارك في مهرجان الرقص الدموي على أشلاء المغدورين أو يرضى عن حفلات الدم,يرغب في أعماقه بإنزال العقاب الإلهي أو أن تحل العدالة السماوية محل العدالة الأرضية المفقودة,لهذا بداء بترويج الكثير من الإشاعات أو أنصاف الحقائق عن أخبار القتلة وعلى شكل(قيل أن فلانا..)

128

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أي أن محاكمة العهد الدموي قد تمت في محكمة ضمير الشعب وعلى شكل فيه الكثير من الأسطورة التي يعشقها العراقيون عامة,والتي تبقى هي الملاذ الأخير لشعب مسلوب الإرادة بشكل كامل وتام..وشعب ضعيف متعب وخائف!

كان من الممكن أن يتوقف مهرجان الدم عند هذا الحد,وان يبقى محصورا بين الراغبين في الحصول على السلطة والمتكالبين عليها والمنتفعين بها..لكن الإشارة الثانية لم تتأخر طويلا,ووقعت الأحداث البربرية في مدينتي الموصل وكركوك,اقصد هنا أحداث ما بات متعارف عليه باسم قطار السلام السيئ الصيت.والتي تمت خلال نفس فترة الحكم التي جاءت بعد الكريم قاسم إلى سدة الحكم التي أنشئت على أشلاء جثث العائلة المالكة ونصبته رئيسا لأول جمهورية في تاريخ العراق وقائدا(للثورة)..حيث تم حشد وتعبئة مجاميع من رعاع الشعب وزبالته ومن مختلف أنحاء العراق وشحنهم في القطار المذكور وإرسالهم إلى المدينتين المنكوبتين,بحجة أقامة مهرجان شعبي يدعو إلى (السلام!) ويشرف عليه الحزب الشيوعي العراقي..وهناك اتضحت النية من هذا الحشد المشبوه..حيث تم إلى افتعال حادث معين لتبدأ بعده أعمال القتل والسحل وتعليق جثث أعدائهم على أعمدة الكهرباء,بما فيها جثث النساء..في موجة جديدة من العنف الوحشي الذي لم يشهد له العراق الحديث أي مثيل,والتي لا يمكن مقارنتها ألا بالحكايات المكتوبة عن غزو المغول للعراق..وطبعا هنا لا نريد الدخول في تفاصيل الحكاية المعروفة..لكن السماح لهؤلاء الرعاع بارتكاب ما ارتكبوه من أثم وعدم محاكمتهم محاكمة حقيقية قد أسسوا لتقليد(ثوري!) جديد تمام الجدة في

129

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قاموس العنف العراقي,والمؤسف له,أن هذه الأعمال تمت تحت يافطة مباركة وتنظيم الحزب الشيوعي العراقي,وان هؤلاء الرعاع,هم إما من أعضاء الحزب أو المتعاطفين معه.

كان من الممكن تفهم عقلية ناس عسكر أنصاف مثقفين,مثل الحكم القائم برئاسة عبد الكريم قاسم التي تمت المذبحة تحت أبصارهم أن لم نقل مباركتهم,لكن من غير المفهوم تماما حينذاك-قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية وانتشار الفضائح- أن يقبل الأمر من حزب يدعي الأهداف النبيلة ويحمل رسالة التغيير نحو الأفضل!! وهكذا تجاوزت قيادة الحزب هذه (الهفوة) وسلمت ملفها إلى العزيز (نسيان)!..ولم نسمع أو نقرأ..أو نشاهد..أي عمليات تطهير حزبية أو استقالات أو عقوبات أو طرد لأي من أعضاء الحزب وخصوصا الذين ساهموا بشكل مباشر في تلك المذبحة أو حتى عقوبة الإيقاف!

بل في الحقيقة لقد تمت مباركة هذه المجزرة والتغاضي عنها,بل أراد الحزب الشيوعي استغلال هذه القوى الرعاعية في إرهاب خصومه السياسيين والعسكريين,مهددين بها أي شخص أو حزب أو مدينة!..وكأنهم امتلكوا سلاحا فتاكا لا يقدر على استعماله غيرهم- مع أن السنين حكت لنا فيما بعد كيف انقلب سلاحهم الفتاك هذا عليهم وفتك بهم فيما بعد- لم يكن صمت القيادة مفهوما..أما الذي يشكل علامة استفهام كبيرة ومحيرة هو صمت مثقفي هذا الحزب,ولم يكتفي البعض منهم بالتزام صمت قيادته والضحك في الخفاء,بل كانوا أكثر جراءة و(باركوا) هذه العملية الرعاعية وأطلقوا عليها صفة(الثورية) !..وكما يقال في

130

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهاية أن السحر ينقلب على الساحر..فقيادة الحزب والحاكم العسكري اللذان كانا يتنافسان على كسب ود وتحريك ( الجماهير) بإشارة من أصبع احديهما,لم يحسبا حساب أصبع ثالث كان قادرا على تحريك هذه(الجماهير).فكمية السم العنفوي الذي سقوه لهذه الجماهير كانت تفوق كل الحسابات,فانقلبت عليهم مع مجيء بعض المغامرين وشذاذ الآفاق والذي مع إطلالتهم الأولى قد وعدوا هذه الجموع من(الجماهير) بكميات اكبر من العنف ألترياقي الذي اعتاده الشعب.ففي عملية تافهة وسخيفة بكل القياسات والتفاصيل,استولى القادمون الجدد على السلطة ببساطة مذهلة وذلك في عام 1963..وكان انتماء هؤلاء حسبما يدعون إلى تيار القومية العربية..وبعد أن استولوا على الحكم في العراق..وهو في الحقيقة ليس سوى مبنى وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة !..وبعدها يسقط العراق كله في الظلام والصمت والترقب المتوتر,فهذين المبنيين هما قلب العراق النابض!

كان الترقب متوترا والأنظار تنتظر الكشف عن هوية الحكام الجدد وهذا شيء مهم جدا في الشارع العراقي الذي ينتظر أن يضبط إيقاعه على درجات العزف القادمة من الجوقة الجديدة,وعلى أول نغمة سيعزفها هؤلاء سترقص(الجماهير)  من زاخو إلى الفاو..وهكذا كان..وانقلبت (الجماهير الثورية) على الحاكم العسكري الذي حوصر وقتل على مرأى من الجميع في وزارة الدفاع..بل لقد تم نقل مشهد مقزز يعبر عن استهانة بكل محرمات الأرض والسماء,فعندما شوهد عبر الشاشات الزعيم عبد الكريم قاسم الذي مزق الرصاص جسده,جاء شخص ما ليرفع رأس الميت من شعره ويبصق بحقد في وجهه على مرأى من الشعب

131

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كله..! وكما في السابق ,فقد تم تنصيب القتلة الجدد حكاما جدد..وخرجت إلى الشارع(الجماهير) راقصة محتفلة بالعهد الجديد ولاعنة العهد البائد! وصاحب هذه الرقصة البدائية افتتاح موسم اصطياد الشيوعيين الذين كانوا قد تحالفوا مع النظام البائد وحيثما وجدوا..حيث تم قتل المئات منهم وتوزع الباقين بين السجون التي مورست فيها اشد أنواع التعذيب والاغتصاب,  مذكرة بمحاكم التفتيش السيئة الصيت والتي سادت في أوربا أثناء القرون الوسطى ضد الهراطقة..في عملية بشعة تخلو من أي رحمة أو إنسانية أو دينية.ووجد الحزب الشيوعي العراقي ذو القاعدة(الجماهيرية) الواسعة والتي كان الحزب يتبجح بتحريكها بأصبعه!..وحيدا في ساحة المواجهة الهمجية,وان هذه (الجماهير) تلاحقه بنفس  الأسلحة التي سلحها بها ذات مرة في الموصل وكركوك!..ودارت الدوائر عليهم

وأصبح اسم(شيوعي) يثير جنون هذه (الجماهير)المتعطشة لسفك الدماء,وأسلمت رقابهم بدم بارد إلى مجرمي ما سمي حينذاك ب(الحرس القومي),الذي أنشئ على نفس مبادئ الحرس النازي أو قوات العاصفة إبان الحكم النازي المقيت في ألمانيا.وبعد أن أثخن جسد الحزب بالجراح,تأمر واحد من القادة الجدد على رفاقه واستطاع أقصاهم ليتسلم القيادة وينفرد بها,لقد كان(عبد السلام عارف) الذي أراد التنصل من الأفعال الشائنة التي قام بها رفاقه في الثورة وأطلق على حرسهم اسم(الحرس اللاقومي)..لكنه وكما من سبقوه,لم يقد إلى المحاكم الحقيقة كل من أساء وقتل وعذب,بل لجئ إلى المحاكم ليتخلص من خصومه السياسيين واكتفى بالتنكيل برفاق انقلابه.كل هذا حدث في وتيرة متسارعة وغريبة الإيقاع,لكن

132

 

 

 

 

 

 

هذه الأحداث رسخت في ذهنية المواطن العراقي صورة العنف الدموي وشرعت هذه الانقلابات غير الشرعية كل ما يليها من اعمل بربرية,لان كل من يستولي على الحكم يمارسها ضد أعدائه وسلاحه المفضل هي هذه(الجماهير) التي اعتادت على لعق الدماء والأعتياش عليها.كذلك لم يبقى العنف محصورا على السياسيين المتكالبين على كرسيي وزارة الدفاع والإذاعة,بل تعداه إلى(الجماهير) التي أصبحت تتحفز لرؤية السياسيين- أي كانت ايدولوجيتهم-وهم معلقين على الحبال وجثثهم تسحل في الشوارع,وكذلك لما يصاحب هذه الأعمال(الثورية)من عمليات سرقة ونهب وهتك أعراض.

بعد أحداث عام 1963 أصبح المرض عضال واستمكن من رقبة(الجماهير) ولم ينجو حتى المثقفين العراقيين منه,وأصبح من النادر أن يرى مثقف عراقي يقف بنفسه بعيدا عن المشهد السياسي المتصارع بوحشية حيوانية,بل انغمسوا بهذه اللعبة الجهنمية وغرقوا فيها,وأصبحنا نرى مثقفين محسوبين على هذا التيار أو ذاك أو ذاك,كذلك فقدوا المبدئية وأصبحوا يتنقلون بين هذا الحزب أو ذاك كما يتنقل الشخص بين حجرات المبغى بدون أي وازع أخلاقي أو مبدئي,فمن كان في الأمس شيوعيا تراه بعد ذلك بعثيا وغدا سترونه إسلاميا أو ليبراليا جديدا وهكذا..كما أن الأثر السيئ الذي خلفه مثقفو تلك الفترات الحالكة من عمر العراق أصبح من الصعب محو أثره السيئ,فقد أسسوا ثقافة شعبوية ليست نخبوية قادرة على قيادة المجتمع نحو التطور الحضاري كما في المجتمعات السليمة,نقول ثقافة شعبوية وظيفتها دغدغة المشاعر الدونية(للجماهير)

133

 

 

 

 

وغرائزه,بل كانوا يتبارون بجنون في أثارة غرائز العنف الكامنة في ذاكرة الشعب,وخصوصا منهم الشعراء العراقيون,وأصبح السجال المثير في أحقية سبق البدء في الشعر الحر بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب أهم بكثير من أبراز جماليات الشاعرين وترسيخ قيم الجمال والحب والإنسانية عند الشعب.. والشعر كما هو معروف هو اقرب الفنون الجميلة إلى وجدانية الشعب العراقي,لهذا اندفع هؤلاء في المقدمة لأسعار(الجماهير) وتحفيزها على إسالة دماء السياسيين العراقيين على أسفلت المدن العراقية,كما كان يفعل تماما أجدادهم الجاهليين فعندما كان يولد في القبيلة العلانية شاعرا تحتفل به أكثر من احتفالها بالمقاتلين,وهكذا كان السجال بين شعراء القبليتين الشيوعية والبعثية والآن دخلت إلى الساحة القبلية العراقية قبيلة الإسلاميين الجدد!

في عام 1968..حلت بالبلد الطامة الكبرى بعودة التيار القومي ألبعثي إلى حكم البلد ,وطبعا عن طريق انقلاب وعملية مغامرة للاستيلاء على المبنيين الأهم, وزارة الدفاع والإذاعة,لكن هذه المرة جاءوا من أعماق القرى البدائية المتخلفة ويحملون معهم قسوة فريدة من نوعها,ومع أن جذور العنف السياسي قد أوغلت بعيدا و بسرعة مذهلة في المجتمع,بعد أن مهد له الطريق سياسيين وعسكريين وأحزاب ومثقفين,ألا أن العنف هذه المرة كان من نوعية أثقل عيارا أسلمت بعده البلد إلى مصير مجهول تماما.مع القادمين الجدد أصبحت حروب العراق لا تتوقف وخصوصا على الجبهة الشمالية وضد مواطنين عراقيين من الأكراد..

استنفار(الجماهير) وعسكرة المجتمع التي قامت على قدم وساق,وارتفاع

134

 

 

 

شعار(لا صوت يعلو على صوت المعركة) بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1967 أمام إسرائيل,التي أصبح لها طعم العلقم على كل فم..كان التحضير جاري لنوعية مختلفة من العنف التي لم يشهد لها العراق بعد من مثيل والتي أوصلته إلى نظام المقابر الجماعية..في تلك الفترة الحالكة من تاريخ العراق السياسي والمعاش,شهد البلد مهزلة جديدة من مهازله السياسية التي لا تنتهي أو لعبة جديدة اسمها(الجبهة الوطنية) بين الحزبين الكبيرين عندها,الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي,وكلاهما لم يجف دمه بعد مما واقعه بعضهما بالبعض..مهما قيل عن هذه المهزلة السياسية هو كذب مفضوح وتبرير سمج في وقت ضاع فيه العراق والى الأبد..كلاهما دخل هذه الجبهة المزعومة وهو يحمل نوايا الغدر بالطرف الثاني,كلاهما كان يعرفان والسؤال هو متى ستبدأ المواجهة وليس احتمالية وقوعها!..حتى (الجماهير) التي كانت هدف الحزبين وأملهما بتحويل هذا السلاح الفتاك لصالحه,كانت تعرف أن المواجهة قادمة وأنها في النهاية كانت ستلعق دماء احدهما وليس مهما من يكون!

كانت ( الجماهير) هو الوحش الرابض والمتربص والعارف أن الغدر هو من خصال الأحزاب العراقية وعليه كان يمني النفس برؤية أحداث ساخنة وعما قريب..وكان كلا الحزبين يعد نفسه للضربة الأولى,ولكن يبدو أن الحزب الشيوعي وعلى ما جبل عليه من رومانسية ثورية قد تسلل إلى أوصال جسده المثخن بالجراح بعض الخدر أما الطرف الآخر القادم من عمق الريف المتخلف المتوحش فقد كان اشد يقضه ويحمل كميات اكبر من نوايا الغدر,وهكذا كان

135

 

 

وانتهت المسرحية الهزلية الجبهوية بمجزرة هائلة أعدها البعثيون إلى رفاق الأمس وانهوا أسطورة الحزب الشيوعي العراقي بشكل نهائي وانفردوا بالحكم بدون أي منغصات إلى أن أسقطهم الأمريكان عام 2003.كما وانقض الوحش الرابض مع المنتصرين على المهزومين وكانت كمية الدم كبيرة هذه المرة, كما انقض الحكم الجديد على هذا الوحش المخيف(الجماهير) في محاولة لامتصاص إمكانياته بإشراكه في سلسلة حروب متواصلة أوصلت البلد في النهاية إلى الهلاك فقد أدرك الحكم الجديد أن عدوه الأول هو هذه(الجماهير)لهذا دخل معها في صراع وجودي مخيف تراوحت بين المكرمات والهبات إلى المقابر الجماعية..

وكلاهما أنهكت قواهما واستنزفت,ومع دخول الأمريكان إلى المدن العراقية خرج هذا الوحش ثانية ليمزق نفسه هذه المرة وتاريخه وذاكرته,فلم تسلم مدرسة أو جامعة أو مستشفى أو مكتبة أو متحف أو دائرة حكومية من أعمال السلب والنهب والتدمير..والإبادة!

وهنا بدا موسم اصطياد البعثيين,بعد أن أطلق هذا الحزب نفس الوحش (الجماهير) لاصطياد الشيوعيين.في النهاية لم تعد الأحزاب قادرة على العمل السياسي في ساحة ساهموا هم قبل غيرهم على تسميمها وجعلها غير صالحة لأي شيء وارض يباب..

الإسلاميين الذين انتظروا طويلا يحاولون بهمة الدخول إلى الأرض البور للمنافسة لكنهم يعرفون أن (الجماهير) لا يمكن أن تبقى (جماهير) وان من المهم جدا تفتيت وتحييد هذا الوحش,لهذا يدخلون بهمة وثقة إلى الساحة العراقية لأنهم

136

 

 

 

واثقون من سلاحهم الجديد..الطائفية..فهذا السلاح الفتاك لم تستعمله( الجماهير) من قبل,والإسلاميين يعتقدون من أن هذا السلاح الذي ينزلون به إلى الميدان قادر على ترويض وتفتيت هذا الشعب الذي لم تعد تفيد فيه أي أنواع من المسكنات أو المهدئات.فقد أثخن جسده بالجراح وتلبد.

 

 

 

 

137

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صورة العراقي في الرواية العربية

 

 

 

 

 

 

 

 

زهير إلهيتي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان اليوم الذي حصلت به على جنسية أجنبية,يوما حاسما في حياتي..أحسست فيه أولا بالفراغ الذي يلفه الصمت المطبق..حافي القدمين أدوس أرضا جديدة من الكلمات!

منها الوعر المؤذي ومنها الناعم..ومنها ما شيبه مستنقع الرمال المتحركة..منها الندي كمياه الأنهار البكر التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة.

ما معنى أن أكون شخصا آخر..ليس أنا؟

في صباح اليوم التالي نظرت إلى وجهي في المرآة..شيء ما مفقود!..أم أني أتخيل؟.. أستغوتني فكرة الغوص إلى أعماقي والبحث عن الشيء المفقود أو جذوري,وللإجابة على سؤال لم يكن يعنيني قبل الأمس..من كنت؟ وبالتالي من سأكون؟..الحاضر بالنسبة لي لم يكن موجودا..صعب العثور عليه أن وجد أصلا.

صور قديمة مشوشة من الماضي مع كم كبير من الذكريات النائية وأخرى بلا ملامح مجهولة..من المستقبل!

نظرت إلى مكتبتي المتواضعة محاولا الاستنجاد بعناوين الكتب فيها لاستحضار الماضي..لم تكن العناوين عربية خالصة,كان فيها الكثير من العناوين التي كتبت باللغتين الانكليزية والألمانية وهذه كانت تدفع بي بقوة وحيوية نحو المجهول!

لم تسعفني المحاولة.

عاودت البحث في أعماقي عن بقية هوية ممزقة,تساعدني للعثور على جواب لسؤالي..من كنت؟

بابلي..عربي..أم عراقي!..لاشك أن أخر هوية كنت احملها تقول لي باني كنت

1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عراقي..لكن السؤال الصعب..هل كنت كذلك حقا؟..وان كنت فعلا..فمن هو العراقي!

أنا لم أكن اعرف هذا المعنى من قبل..لم اعرف ما هو أن أكون عراقيا فقط!

هل يعني هذا..حب الأرض..الأهل,الجيران,الطبيعة ,المدينة!؟..كل هذه أشياء عمومية تعني شيء ,وان أكون عراقيا شيء أخر تماما ولابد.

عدت بتكاسل ثانية إلى مكتبتي..هل أواصل البحث عن المعنى الذي بات يقلقني بين دفاتر رسائل أخوان الصفا أم في رحلة كلكامش الأسطورية والتي ما تزال تشدني نحو أوروك!..في مؤلفات الطبري أم في شعر السياب..شيء محير فعلا!

لم اكتشف عمق مأزق الهوية – التي كنت احملها- ألا بعد التخلي عنها.

أن الغرب الذي انتمي أليه ألان لا يستطيع أن يحدد لي هويتي التي كانت,لكنه يحدد لي هويتي القادمة..أو هكذا أتخيل ألان. أما الماضي فالصورة عائمة تماما,يمكن لها أن تتمدد من باكستان إلى المغرب ومن الممكن أن تتقلص وتتحدد بمدينة بغداد فقط!..

لكن ماذا عن العرب!..كيف كانوا يحددون هويتي كعراقي ويعكسون ذلك التصور على أدبهم مثلا؟

قررت أولا أن ابحث عن صورتي في أدبهم..ابحث فيها عن كل ما هو عراقي علي أرى صورة لهويتي الغائمة,لعل الغيوم تزول واراها  بوضوح..ممكن..مجرد محاولة ممتعة في النهاية!

برلين        6.2.05

2

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واسيني الأعرج..

كان الكتاب الأول الذي استللته من المكتبة هو-وقع الأحذية الخشبية- للكاتب الجزائري واسيني الأعرج.والصادر عن ( دار منشورات الفضاء الحر) في طبعته الأولى ببيروت عام 1981 والذي يقع من 385 صفحة من القطع المتوسط

أنها قصة حب,أو قصص حب متداخلة بين شخوص متعددي الجنسيات  والأديان

كلهم عرب..والأحداث تدور في سوريا.الكثير من النقاد ارتأوا بان هذا العمل هو رواية للسيرة الذاتية للكاتب الجزائري,لكن المؤلف رفض هذا التفسير وأنكره..

ما يهمني في هذا العمل الروائي,هو الحضور العراقي,الذي كان هامشيا بشكل كبير وممثلا بشخص واحد وبلا اسم!

انه اقرب إلى الديكور (اليساري) في عمل يضج بالرفض الثوري للواقع العربي السيئ كما يرى المؤلف..وهي أفكار كانت سائدة في منتصف القرن الماضي في العالم كله ومنه العالم العربي الذي يقع على حدود المركز الأوربي,وذات التوجه الاشتراكي المتأثرة بثورة أكتوبر الروسية,كما النتائج التي تلت الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين..اشتراكي ورأسمالي.

الجزائر مثلا من البلدان العربية التي تأثرت كثيرا بهذه الأفكار الاشتراكية وخلفيتها حرب التحرير الضارية التي خاضتها مع المستعمر الفرنسي,كما حداها أمل وإحساس كبير بالعدالة الذي استحوذ على جيل الثوار الأوائل..وجميع الكتاب الجزائريين وخصوصا منهم الذي كتب باللغة العربية,كانوا الأشد التصاقا بهذه الأفكار..أردنا بهذه الخلفية السريعة أن نسهل عملية أدراك طبيعة تفكير الكاتب

3

 

 

 

 

 

أذا من الطبيعي أن يكون العراقي الوحيد الممثل في الكتاب..وان كان بلا اسم.

يساريا..شيوعي مثلا..انه شاعر,وهذه صفة التصقت بالعراقيين الهاربين من بطش السلطة العراقية,خصوصا بعد انهيار الجبهة الوطنية وهروب نخب المثقفين العراقيين إلى دول الجوار قبل انتقالهم إلى المنافي البعيدة في أوربا وغيرها,لعدم إحساسهم بالأمان,خصوصا وهم يدركون قبل غيرهم هشاشة الأنظمة العربية التي (تحميهم) وعدم وجود المؤسسات الشرعية التي تمنحهم حقوق اللجوء المتعارف عليها في العالم الغربي,فهم يدركون بأنهم قد يذهبون قربانا لأول باردة  تقارب سياسي مع النظام العراقي!

العراقي يعمل في محل صياغة بأحد الأسواق الشعبية بدمشق (كان يوما جميلا حين نزلنا إلى السوق الشعبية للصناعات الحرفية وطلبنا من صديقنا الشاعر العراقي أن يختار أجمل صفيحة ويضع اسمك عليها بإتقان-381) هنا العراقي شخصية مبهمة..شاعر يعمل في محل صياغة..هارب من بطش السلطة في بلده (تنام بهدوء صفيحة فضية كتب عليها,اسمك بخط كوفي جميل:مريم.نحتها شاعر عراقي صديق لنا يعمل مع صائغ في الحميدية,هو لا يعلم أن كان وطنه قد فشل في حبه أم انه من كثرة اندفاعه نحوه بدا أنانيا أكثر من ألازم ومشاكسا أو انه الوحيد الذي يعرف كيف يحبه؟..وجد نفسه ذات ليلة يقطع الصحارى والاهوار بحثا عن مخرج من المقتلة وهو لا يعلم بالضبط لماذا يريدون قتله.يحدث لنا من كثرة حبنا أن نتحول إلى دكتاتوريين صغار في أشواقنا ونعمى عن التصديق بان للآخرين كذلك قلبا مثلنا-55)

4

 

 

 

 

هنا يشير الكاتب إلى المأزق الخطير الذي مزق العراق السياسي,اثر انهيار الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العراقي الحاكم,وتنكيل الثاني بالأول..(مخرج من المقتلة).لكنه لم ينجح في أعطاء هذا الحدث المهم لضرب أقوى واكبر الحركات اليسارية في العالم العربي حقه من الأهمية..بل مر عليه مرور الكرام..وكأنه حدث يجب علينا استيعابه بشيء من الامتعاض والقدرية السلبية!

(شيء ما في المدن العربية يجعلها حزينة دوما حتى وهي في أقصى لحظات الفرح-111). أن أعطاء الكاتب لشخصه العراقي,الهش وغير المسمى,صفة الشاعرية,هي في الحقيقة لإعطائه صفة أخرى يتميز بها الشعراء,القلق,بل أحيانا عدم الجدية!..(( والشعراء يتبعهم الغاوون-قرآن كريم))..عدم الاستقرار وتقلب المزاج,كما انه(أناني أكثر من اللازم)..و(مشاكسا) هارب من (المقتلة) وأخيرا منفي وذليل,فهو شاعر يعمل في دكان صياغة بسوق شعبية!..وبالرغم من انه هارب ومنفي ومطلوب للقتل في بلده,لكنه لا يعرف (بالضبط لماذا يريدون قتله)

ثم يحاول الكاتب أن يحدث مقارنة بين الضحية والجلاد,فيتحول الأول إلى دكتاتور يدافع عن بلاده بدافع خير(الحب الأعمى) والثاني في مركز الأول,

الشيوعي كالقومي!..يتبادلان ادوار الحب والقتل..الضحية والجلاد..لا توجد

حلول وسطية..وهنا يقترب بشكل كبير من صفة جوهرية في شخصية الفرد العراقي المتخيلة في الذهنية العربية..التطرف!

5

 

 

 

كما ويضفي صفة السلبية على العراقي والعربي عموما عندما يقول..(في بلداننا,كلما سقطت حجرة لا احد يرجعها..تبقى هناك في مكانها حتى تلحق بها أختها,وهكذا إلى أن يندثر المعلم نهائيا-113). وأخيرا صفة القدرية المقرونة بنظرية المؤامرة الشهيرة التي سيطرت على العقل العربي ردحا طويلا من الزمن ولا تزال..

( الإنسان العربي هكذا,يولد ويموت في الهم,وكلما رأى شعاعا صغيرا في الأفق,شعر بتخمة من السعادة,وعندما يقترب يصفعه السراب القاتل.الإنسان العربي لا يعرف انه كلما خطا خطوة إلى الأمام متحاشيا المزالق السابقة,وجد في طريقه من يأخذ بيده ويزج به نحو الحفر والمدافن-125)

وأنا اتسائل..ترى من اخذ بيد العراقي نحو الحفر والمدافن..الآخر الغريب..أم كما يقولون..هذا ما جنته يداي؟!

 

6

 

 

 

 

عبد الرحمن منيف

صدرت الطبعة الأولى من ثلاثية(ارض السواد) عام 1999 عن دارين للنشر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) و (المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع).

أن الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف,يقف في الصف الأول للروائيين العرب,وان كتابه هذا,هو في الحقيقة بحث مضني عن هوية العراقي المستلبة

بل نذهب ابعد ونقول بأنه ربما كان محاولة من الكاتب للبحث عن جذوره الممزقة والموزعة-جغرافيا- بين عدة مدن ولا نقول دول!..تصل مكان الولادة بالمنفى..أو المهجر كما يحلو للبعض تسميته!..فهو من أم عراقية وأب سعودي ولد في عمان ومات في دمشق..سحبت منه الجنسية السعودية,وعاش في مدن عديدة منها,بغداد والقاهرة وبيروت ولندن وباريس..فالاضطهاد الذي لاحقه بسبب اعتناقه لأفكار سياسية معينة وآمن بها,جعلت منه شخص ممزق الانتماء ومعدوم الهوية..لهذا اختار الهم العربي خيارا نهائيا وبدا سلسلة من الكتب الروائية التي تتناول هذا الهم,حتى يمكن لأي قارئ عربي في أي بلد,أن يقرا روايات منيف ولا يتطرق أليه الشك بأنها تتحدث عن بلده,ففي النهاية كلنا في الهم سواء..وربما هذه هي المنطقة الوحيدة التي نلتقي بها متساوين..صامتين.

أن رواية(ارض السواد) ذات النفس الطويل- 1394- صفحة وعلى ما فيها من هنات أدبية,وهذا شيء لسنا بصده,ألا أنها مكرسة للعراق والعراقيين,ويمكن تسمية هذا السفر بالمرثية..مرثية الأرض,الطبيعة,الناس..الرثاء بمفهومه

7

 

 

 

العام الذي يتحول في أقصى لحظات التأزم إلى سيمفونية وجع حزين.انه الرثاء بمفهومه الشامل الذي يكرس السلبية,فعلى هذه الصفحات الممتدة على الوجع العراقي لأكثر من ألف صفحة,نرى إنسان-عراقي-مغلوب على أمره,يرى ما يحب ينهار أمامه..يبكيه..ويعلن العجز التام وعدم القدرة أو ربما الرغبة في البناء ثانية..ولو ترك له الأمر لما عاود البناء ولفضل البقاء في الأطلال ملتصقا بالذكريات!

لكن هناك دائما..حاكم..رغبته على العكس من رغباتهم..قادم من وراء الحدود أو من الداخل..يحمل الطموح لبناء صرح جديد من المدن العراقية القديمة المتعبة ليخلد نفسه وينقش  على أنقاضها اسمه!

فهنا على –ارض السواد-كانت ملحمة الخليقة الأولى,وخلدت أسماء أوائل الآلهة والمغامرين والطامعين والمجانين,وبكثرة غير اعتيادية..الحكام الجبابرة!

تدور أحداث الرواية الثلاثية في العديد من المدن العراقية.لكن بغداد تبقى الساحة الأمامية والنهائية المؤثرة..كانت ولا تزال..فهي ساحة الصراع بين الحاكم والمحكوم,بين الحكام وناسها,بين ناسها وناسها!..تدور أحداث الرواية في بداية القرن التاسع عشر.في عام 1817 وفيه يتولى الحاكم الجو رجي داود باشا حكم البلد بتكليف من الأستانة العثمانية..

يحاول منيف في هذا العمل الغوص بعيدا في نفسية العراقي والبحث عن جذور هويته الممزقة والضائعة بين الانتماءات الكثيرة..التاريخية منها والقبائلية والعرقية,الدينية والمذهبية..مستعينا بنصفه العراقي من ناحية أمه للخوض

8

 

 

 

 

في هذه المغامرة الجريئة..فلقد حاول أن يلمس جذور هذه الشخصية القلقة..

المتلونة..المنغلقة,الصعبة على الباحثين!

خلال الحكم العثماني للعراق,كان فيه البلد مقسم ادريا إلى ثلاث دويلات

(وهي كذلك إلى يومنا هذا)..من هنا يبدأ منيف محاولة أمساك هذا الطرف وربطه بذلك في جهد والحق يقال خارق..لكن هذا لا يعني أن جهده الخارق هذا قد أصاب في محاولته!..فإذا أراد المؤلف مثلا الوصول إلى جذور الألم في نفسية العراقي والحزن الدائم المهمين عليه,فان عهد الاحتلال العثماني للعراق يبدو متأخرا جدا في محاولته العنيدة للغوص إلى عمق الأعماق..كان عليه مثلا أن يذهب إلى هناك..إلى أور مثلا..صحيح انه استشهد في بداية مؤلفه بالنصوص القديمة,وكان استشهادا موفقا,لكنه لم يفعل كما فعل نجيب محفوظ عندما غاص إلى أعماق الشخصية المصرية في(ارض طيبة)و(البعث).عموما هو اختار العصر المتأخر نسبيا من المأساة المستمرة لهذا البلد وتلك الشخصية,فكان الاحتلال العثماني,لكن السؤال,أي حقبة من هذا الاحتلال ألظلامي الطويل؟..لقد اختار زمن المحاولة المتنورة التي قام بها داود باشا الذي كانت تحدو به رغبة جامحة لبناء دولة عصرية في مفهوم ذاك الزمن,مقلدا فيها محاولة مدحت باشا في مصر..لكنه,داود باشا,يصاب بخيبة كبيرة لان الشعب الذي جاء ليحكمه على أجنحة أحلام العظمة,لم يكن على استعداد للاستجابة لكذا عملية تحديثية جريئة في معانيها وتفاصيلها..فهو لم يجد أمامه سوى ركام أنساني منهار..سلبي..

متشائم لم يكن يملك على الإطلاق الاستعداد الكافي للقيام بمهمة مساندة هكذا

9

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مشروع تحديثي صعب. لقد وجد أن العراقي لا زالت تتحكم فيه عقلية العبيد التي تمتد جذورها إلى هناك..إلى حيث الأبعد من تاريخه..بل من الممكن أن نقول أنها لا تزال تتحكم به إلى حد ألان!..بل انه من الشعوب الأكثر عراقة في إحداثيات نظرية الاستبداد الشرقي والمجسد لها بشكل تراجيدي في أحيان كثيرة وتفاصيل أكثر..والتي يكون هو فيها أول مفرداتها الحزينة والدموية.

أن الصراع الذي حدث في ذاك الوقت-القريب البعيد- كما أراد المؤلف أن يصوره,وهو كذلك,هو صراع طموح أجنبي على ارض عراقية,أهم مفرداتها الإنسان العراقي نفسه..فداود باشا الجو رجي الأصل,والمعين من قبل السلطان العثماني,يدير صراعه (الحضاري) أو مشروعه التحديثي في العراق ضد ريتش القنصل البريطاني الجالس في الباليوز,وهي مفردة ايطالية تعني القنصلية البريطانية,وهو شاب طموح متسلح بالعلم والتكنولوجيا والتطور الحضاري,والاهم من ذلك القوة العسكرية الساحقة حيث تقف خلفه الإمبراطورية البريطانية أقوى قوة في العالم آنذاك..أن داود باشا كان يحلم أن ينفرد بحكمه للعراق وبالتالي الاستقلال به عن المركز-اسطنبول-وتأسيس سلالة حاكمة في بلد لا تربطه به سوى هويته الدينية-الإسلام- لكنه يصطدم بقوة أجنبية –بريطانية- كانت تعد العدة أيضا لضم العراق إلى الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وبالتالي ربطه بمركز جديد هو لندن.العراقي هنا بالتأكيد هو المتفرج,ومساهم بقدر صغير,والسبب هو أن أي من أطراف النزاع لا يثق به ولا يستعين به ألا في حالات معينة مثل التجسس على الطرف الأخر!..لكنه بالتأكيد هو الضحية

10

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في كل الأحوال,فهو قدري التفكير والطابع..سلبي تماما..ينتظر والذباب يمشي على وجهه,مشروع من سينتصر في النهاية ليمارس هوايته الأزلية في التصفيق والانحناء للمنتصر والانقضاض على الخاسر لتمزيقه..بالرغم من أن هذه الصراعات كانت ولا تزال تدور على أرضه ومن اجلها وهو أول وأخر ضحاياها!

لقد كان المتخيل جميلا في رواية ارض السواد,عن حياة العراقي في تلك الحقبة التاريخية,والتي لم تتغير كثيرا لحد ألان!..بل أنها تكاد تكون تواصلا مملا قاتلا

وكأنها ظاهرة طبيعية لا ينالها التغيير كشروق الشمس وتبادل الأدوار بين الليل والنهار!..ففي الواقع لا يزال العراقيون يعيشون بنفس الطريقة التي وصفها منيف..وكما قلنا مستعينا بنصفه العراقي والمستمدة من الأحياء الشعبية في بغداد والتي من المؤكد أن المؤلف قد زارها وخالط سكانها..وإذا كانت العادات وأسلوب الحياة والتقاليد لم تتغير كثيرا,فهل من المتوقع أن ترى تغيرا في سلوكية الشخصية العراقية؟..وإذا كان الصراع الأجنبي الذي تدور رحاه منذ ذاك الزمن على أرضه قد أنهكه حد الموت,فما بقي لديه ليعطيه؟

العراقي لا يملك أكثر من الأمل بحياة أفضل,وهذه هي أقوى أسلحته,انه ليس املآ بتغيير يقوم هو بابتكار مفرداته,لكنه أمل سلبي بان يأتي التغيير على يد الآخرين,حتى ولو كانوا قادمين من وراء الحدود!..فمن يقرا تاريخ العراق بعد انهيار الإمبراطورية العباسية,يجد أن العراق قد تقلب طويلا على جمر الاحتلال الدوري للدولتين الأجنبيتين الكبيرتين المجاورتين له,ونعني بها تركيا وإيران..

11

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فبعد أن تخلص من حكم العرب الطويل له,جاء دور الصفويين الشيعة-إيران-

والعثمانيين السنة-تركيا- حتى بدأنا نألف رؤية صورة استنجاد العراقي السني بالعثمانيين لنجدته وإنقاذ مقدساته من حكم الصفويين..والعراقي الشيعي بالصوفيين لحمايته وإنقاذه من حكم السنة!..كل هذا الصراع الطائفي جاء على حساب جثة مفردة مهمة في قاموس البلدان الحية واندثارها بشكل شبه نهائي في العراق,وهي كلمة (وطن)!..فلم يعد العراقي يرى وطنه بحدود العراق الجغرافية,لكن بحدود هويته الدينية المذهبية,والعراق بالنسبة أليه,مكان يستقر به وينتظر فيه..خائف باستمرار من التغيير وغير قادر عليه,ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد,بل استمر إلى يومنا هذا!..فقد أدى الاعتقاد الخاطئ والراسخ في ذاكرة الشعب,بانتظار التغيير والنجدة من الخارج,إلى مساندة الانكليز خلال اجتياحهم لبلدهم لكي يخلصهم من الاحتلال العثماني الثقيل,وفي هذه المرة سجل الشعب ظاهرة غريبة هي الاستعانة بالآخر المغاير للهوية الدينية لأغلبية الشعب والمتعلقين بها!..فالآخر هذه المرة هو المسيحي القادم لهم من وراء البحار..ثم يعاد نفس السيناريو في بداية القرن الواحد والعشرين أي بعد مئة سنة,عندما جاءهم هذه المرة الأمريكان ,مصحوبين بنفس ذاك الدليل القديم ,الانكليز , ليخلصهم  من حاكم عراقي مستبد لم يقدروا أيضا على التخلص منه بأنفسهم..أي انه نفس ذلك الانتظار السلبي والأمل الكاذب بيوم أفضل اقل عنفا وخسارة..كما لم يلعب العراقي نفسه أي دور في التغيير الذي حصل.فدوره كما دائما محدد وهامشي وسلبي..هناك وهنا..لقد اثبت لنفسه أن إرادته معطلة تماما,وانه غير قادر على

12

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحديد مسار مستقبله ومستقبل أجياله,تاركا ذلك أبدا إلى الآخرين,وهو يدرك ذلك جيدا وان كان لا يجاهر به تكابرا!..لهذه الأسباب نراه يجيد تماما أصول لعبة الانتقام التي تمرس عليها طويلا..فبعد انهيار هذا الحاكم أو ذاك,تبدأ اللعبة المبهجة التي يتقنها..هي الانتقام من كل الآثار التي تذكره بماضيه الخانع,ولهذا السبب وبرغم تعدد الحضارات الكثيرة التي سادت ثم بادت في العراق,لا يوجد به آثار كبيرة كما في بقية الدول التي شهدت مثل هذا التنوع الحضاري كمصر أو المكسيك أو الهند!..بل لقد وصل الأمر أثناء الاجتياح الأمريكي الأخير للبلد أن لعبة الانتقام أخذت أبعادا جديدة في أصول اللعبة التي يجيدها,فاخذ يعتدي على الذاكرة الوطنية للبلد وتاريخه البعيد والقريب..امتدت حملته الهوجاء إلى المتاحف والمكتبات ونبش القبور لسرقة الآثار وقطع الحلي الذهبية المدفونة منذ آلاف السنين حول معاصم الأميرات البابليات ورقاب الملوك الأشوريين..ففي مشهد مؤثر بثته كافة وكالات الأخبار أثناء فوضى سقوط بغداد,لشاب عراقي في منتصف العمر وهو يحمل قطعة من الحديد يهشم بها احد التماثيل في متحف صدام للفنون وهو من أرقى المتاحف وأجملها بالرغم من بشاعة الاسم!.. وعندما سئل عن السبب صرخ في المذيع ووجه يندفع إلى وسط الشاشة(مالتنا..) أي انه لنا!..والسؤال أذا كان يدرك انه له,فلماذا يحطمه؟..أن الانهيار المريع والهستيريا الجماعية التي اجتاحت العراق بعد زوال نظام سلطة الخراب على يد الأمريكان مؤشر خطير وجديد في سلوكية الفرد العراقي لا تحمد عقباه..أن الخراب النفسي للشخصية العراقية أصبح شبه كامل ومتقن في تشويهه وأخيرا وهذا هو المهم..

13

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مخيف!..والسؤال الذي يحير جوابه..هل ثمة أمل في الإصلاح؟

أن ثقافة الفر هود موجودة بقوة وحضور لا يمكن التغاضي عنه..لها جذورها في النفسية العراقية,هي ميراث الصحراء وثقافة الغزو التي ادخلها العرب القادمين من الصحراء وأصبحت بالتالي جزء من تكوين التركيبة النفسية للعراقي..فان الغزو من تقاليد الصحراء وهي نفسها بمقاييس هذا الزمن من تقاليد اللصوص,فالبدوي الذي لا يغزو هو ليس بفارس نبيل وبالتالي فهو جبان!

بالمناسبة أن أكثر العراقيين يعتزون لحد ألان بجذورهم البدوية ويفخرون بألقابهم التي استمدوها من العرب القادمين أليهم قبل أكثر من ألف سنة!..والمفجع بالأمر أن هذه التقاليد الغير أخلاقية لا زالت تدرس إلى تلاميذ المدارس على أنها تراث يعتز به!..فمثلا أسطورة الفارس المغوار(عنترة ابن شداد)الذي أراد الزواج من ابنة عمه(عبلة) ورفض طلبه لكونه اسود اللون وابن غير شرعي,من قبل أبيها,

لهذا فرض عليه مهر تعجيزي(ألف من النوق العصافير)وهي نوع من أنواع الجمال الغالية الثمن من غيره لا يتحقق الزواج,وهنا قام الشاب الأسود بالإغارة على عدد من القبائل المجاورة ولكونه فارس مغوار,استطاع جمع هذا المهر ألتعجيزي وساقه إلى أبيها وتم الزواج!..المأساة تكمن من أن هذا السارق والقاتل يصبح مفخرة ليس لدى العراقيين وحدهم,بل عند امة العرب كلها!..كذلك يعتبر من أهم شعرائها!..أسطورته راسخة في الذاكرة والوجدان العراقيين,تبرران السرقة والعنف واللصوصية وعدم احترام القوانين فالقوة هي القانون الوحيد الجدير بالاحترام,وكذلك تمزيق الروابط الأخلاقية الإنسانية مع الآخر المخالف

14

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وإحلال بدلا عنها هذه الأمراض الصحراوية القاسية..ليس هذا وحسب,فعنترة بطل قومي تعاد قصته بأشكال مختلفة,عبر مجلات الأطفال وأفلام الكارتون والمسلسلات التلفزيونية والأفلام وتحفظ أشعاره وتغنى!

هذا مثل واحد من أشكال عديدة تعمم القيم الغير أخلاقية وتبثها في الذاكرة العراقية وأفقدتها الكثير من العقلانية والمنطق..أنها ثقافة مرعبة ساهمت وتساهم بشكل كبير في تدمير القيم الأخلاقية في الشخصية العراقية واستباحتها واغتصابها.لقد حاول الكثير من الكتاب القوميين أن يزوقوا هذه الثقافة المرعبة ونجحوا للأسف إلى حد بعيد في تسويقها ,كما يحاول اليوم أجيال مستنسخة من نفس اؤلئك –الكتاب القوميين- أن يوجهوا أصابع الاتهام إلى المحتل الأمريكي بعد استمرار مسلسل الفرهود العراقي ضد الدولة ومؤسساتها بعد الاجتياح,كون أن الأمريكان لم يهتموا كثيرا بحماية المتاحف والمكتبات بقدر اهتمامهم بحماية وزارة النفط مثلا!..وهناك من ذهب ابعد من هذا واتهم الأمريكان بأنهم قد تركوا عن قصد هذه الأماكن بدون حماية وشجعوا الرعاع والدهماء لاقتحام هذه الأماكن واستباحتها ومن ثم حرقها!..قد يكون هذا (صحيحا)!..لكن هل هذه هي كل الحقيقة؟..هل كان مطلوبا من الأمريكي القادم من وراء البحار أن يحمي الذاكرة العراقية من الدمار وممن؟..من العراقي نفسه!؟

من سرق المتاحف وحرق الكتب ورقص في الشوارع على أشلاء موجودات الدولة العراقية,التي هي في النهاية دولتهم,أو يفترض!..من سرق وحرق المدارس والبنوك والوزارات ومؤسسات الدولة العراقية..المساجد والكنائس..

15

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أنهم هم أنفسهم الذين كانوا يجتاحون بغداد والمدن العراقية الكبرى بعد وفاة كل خليفة(حاكم)وتنصيب آخر إلى أن أصبح ذلك طقسا من طقوس التتويج,موت الحاكم-في الغالب مقتولا- يليه فراغ سياسي وامني قصير,تستباح فيه المدن الآمنة ويروع ناسها من قبل الرعاع,ينصب حاكم جديد-في الغالب القاتل- يعيد الآمن بالقوة إلى المدن المنهوبة المستباحة,حتى يعترف له الجميع بالولاء.. الم يفعل هذا صدام حسين حين قام بغزوته الشهيرة لضم الكويت بالقوة إلى العراق!

الم يسهل نقل نفس الرعاع إياهم وهيئ لهم كل المواصلات المتاحة من طائرات إلى سيارات الأجرة لمهاجمة المدن الكويتية الآمنة وتفريغها من محتوياتها؟..

واهتم رؤوس النظام بسرقة البنوك وبيوت الأمراء والمؤسسات الحكومية؟..الم يرقص الشعب وطبل وزمر,مثلما سجد اليهود ذات مرة إلى العجل الذهبي بعد غياب موسى,وهم يسرقون الكويت!..الم تنطلق السنة الشعراء الحاضرة في كل نكبات العراق,لتمجيد هذه الغزوة كما كان يفعل أسلافهم في الصحراء قبل أكثر من ألف عام؟..أن الذين سرقوا بيوت اليهود في فرهود عام 1941 وبيوت الكويتيين في فرهود 1991 هم أنفسهم الذين سرقوا العراق كله في الفرهود الأكبر الذي تعرضت له بغداد بعد الاجتياح الأمريكي عام 2003 !

صحيح أن الكثير من مسؤولية الفوضى والفراغ السياسي يتحمله الأمريكان,لكن هذا لا يكفي أبدا أن نلقي اللوم كله عليهم وتبرئة الفرد العراقي من بشاعة تصرفه وتبريرها,فنحن لم نشاهد الفرنسيين مثلا وهم يهشمون جدران متحف اللوفر لسرقة محتوياته وبيعها على الأرصفة في عواصم الدول المجاورة,بعد الاجتياح

16

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الألماني لهم واحتلالها وسقوط الدولة الفرنسية,أو قراءنا بأنهم هاجموا مكتباتهم واحرقوها أو يسرقون التماثيل الموزعة في شوارعها!..أن عملية الإعدام الهمجي الذي مورس على الذاكرة العراقية يتحمل جزئها الأكبر الفرد العراقي نفسه,حاكم ومحكوم,وذلك بسبب عدم توفر أساسيات الوعي وبسبب غياب الحس الوطني والدمار الأخلاقي الذي انتهى أليه.

طبعا هناك الكثير من الشخصيات الرجالية والنسائية في هذا العمل الملحمي ومن مختلف الأعراق والأديان,ولقد حاول المؤلف إضافة نوع من التميز على كل شخصية..أحلام خاصة,تصرفات مختلفة ,طبقات متمايزة اجتماعيا,سلوكيات متناثرة من أقصى الشر إلى أقصى الخير,لكنه في النهاية كان مكبلا بالحدث التاريخي والالتزام بسياقاته,لهذا لم يستطع أن يخرج العراقي من محيطه المتخلف,حيث لم ترتقي شخوص منيف إلى مرتبة أعلى كما كان يحاول أو يريد.كإخراجه من محيطه المتخلف. ماعدا شخصية-بدري-لكنه اجبر في النهاية إلى قتل هذه الشخصية الايجابية لكي يخبرنا أن الشذوذ لا يخرج عن حدود القاعدة,أي لا مخرج للعراقي من عبوديته الأزلية.

هناك الكثير من الفعالية الايجابية في تكوين الشخصية العراقية في ثلاثية ارض السواد.فهو يبدو ذكي,متوقد,عارف بأصول اللعبة السياسية الدائرة في البلد,يقدر الخير ويكره الشر,راغبا في التغيير الايجابي..لكن!..كل هذا يبدو محاطا بدائرة وهمية محكمة الإغلاق,كأنها القدر الذي لا يستطيع منه فكاكا!..فالطباع السلبية التي تطبع عليها العراقي طوال عهود القهر السياسي والإنساني,ورسوخ عقلية

17

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العبيد في تفكيره,منذ أن هربت الآلهة القديمة من الأرض إلى السماء وبداية ظهور أنصاف الآلهة من البشر,فالملوك والكهنة,ثم الخلفاء ورجال الدين,الذين كانوا وما يزالوا يفسرون الدين أو الأديان كل بحسب انتمائه العرقي أو الطائفي وحسب رغباتهم الدفينة,جعلت من العراقي متلقي غير عادي مكبل بقيود الطبع غير قادر على كسر الدائرة الجهنمية التي أحكمت طوقها من حوله..أي أن الصفات الايجابية التي أسبغها المؤلف على الكثير من شخوصه وهي صحيحة,لم تنجح في النهاية من تغيير المعادلة وإخراجه من الدائرة,فبقي مستسلم للحاكم الجائر,كما استسلم للفيضان الذي كان يكتسح كل منجزاته بلحظة واحدة ويتركه عند نقطة الصفر من جديد..وأبقته تابع سلبي لمنصب الحاكم ورجل الدين وكثيرا ما يتمازج الاثنان,ليصبح المتلقي والوسيلة في نفس الوقت. أن رجال الدين,الذين كانوا وما يزالوا على استعداد مخيف للي ذراع أي ديانة وتطويعها لرغبة الحاكم ثم جعل التعاليم الدينية كالاسواط الحديدية,تلهب ظهور الجموع العراقية منذ كانوا ولحد ألان,وجعلهم أناس غرائزيين وليسوا عقلانيين بعد أن حرم عليهم التفكير!..توقفوا عند مرحلة عمرية معينة من تاريخ النمو الطبيعي للأمم والشعوب,وحتى بعد انهيار سلطة الخراب الصدامية على يد الأمريكان,سارع رجال الدين إلى تطويق مرحلة يمكن أن يستشف منها بداية استرداد للوعي المفقود,وأعادوهم إلى تلك التبعية وحولوا الانتخابات الحرة الوحيدة في التاريخ العراقي القديم والحديث إلى بازار ديني طائفي,معلنين فيها للمرة ألاف عدم قدرتهم على النضوج الفكري وحاجتهم الماسة إلى مجتمع

18

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بطريكي لحين وصول الحاكم الجديد الذي سيبدأ معهم دورة جديدة من الدورات التي اعتادوا عليها ليلهب ظهورهم بسياط الظلم منتظرين لحظة سقوطه لتمزيقه,فهم أعلنوا في هذه الانتخابات عدم قدرتهم على تجريب طريق آخر للوصول إلى الحرية الإنسانية التي يستحقها كل البشر في كل مكان من الأرض.أنها دليل آخر وآخر على تبعية هذا الشعب وعدم نضوجه الفكري,وهي تبعية لا تعطي أي دليل عافية عما كونه لا يزال جسد ينبض بالحياة,انه كالراقد في الكوما,ينتمي إلى الحياة ولا يفعل!

استطاع منيف أن يرسم صورة جميلة للتنوع العراقي أو ما يعرف بالموزاييك العراقي,وفي النهاية هو تنوع مثير للدهشة,أديان مختلفة,أعراق متباينة,إشكال لا تتشابه,عادات كثيرة..تجانس وتنافر..وهذا التنوع المثير مهم في تكوين الشخصية العراقية,ولو لم يكن عبد الرحمن منيف ذا نصف عراقي وعاش في العراق سنوات طويلة لما استطاع أن يرسم هذه الصورة الدقيقة والجميلة لهذا التنوع, خصوصا منه الديني,فالحضور الديني يمتد في العراق إلى سنوات بعيدة جدا, استطاعت الأديان الثلاث الكبرى,اليهودية والمسيحية والإسلامية,بالإضافة إلى الملل والنحل المتفرعة عنها,أن تعيش بسلام مدهش في هذه البقعة الجغرافية,وكان العراقيون قد رسموا حدودا غير مرئية بمهارة فائقة,تجنب أي احتمال للاصطدام بين الأديان على أرضه.

كان صراع الإمبراطورية البريطانية مع العثمانيين وحاكمهم داود باشا للاستيلاء على ارض السواد,هو دورة جديدة من دورات العنف الذي تجتاحه بين الفترة

19

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والأخرى كنوبات مرض الصرع..لتتركه بعدها ممزقا خائر القوى,ويستطيع المتتبع للتاريخ العراقي أن يرصد بوضوح هذه الدورات العنيفة التي تجتاحه كالأعاصير,ولا يعرف العراقيين بأي وقت تضرب كيان البلد شبه المستقر وتهزه بقسوة لترميه أرضا يفرز الزبد والدم من فمه,والدموع في عينيه..

فمنذ البدء ولحد ألان يملك العراق تاريخ طويل ومنتظم من دورات العنف المدمرة هذه,,قد تتأخر قليلا,لكنها في النهاية تأتي ولا تخذل أحدا!..والعراقيين أصبحوا أشبه بالفئران التي تتنبأ بقدوم هذه الدورات ويشعرون بتجمع بوادرها في الأفق لكنهم لا يفعلون أي شيء لاتقائها!..فمن ألسنة الكبار,رجالا ونساء, نسمع على الدوام عندما كنا صغارا,بخطر وحتمية هذه الدورات العنيفة.. لا نصدق..نضحك من تخلف منطقهم,لكن..لا يمر عمر احدنا ألا ويرى بعينيه واحدة على الأقل من هذه الدورات الرهيبة وهي تعصف بنا وتتركنا عراة في مواجهة برودة التاريخ..ومعها تكبر حيرتنا ونعود لنبش الذاكرة,نبحث فيها عن آثار الأولين,نحاول أن نتجنب الدورة القبلة..نروي نبؤنا لأطفالنا,لكن من حيث ندري أو لا ندري.نحن نشارك بها ونمهد لها..فهل هذا هو ما يسمى بالقدر!

يبدو لي كذلك..حتمي ولا يقبل الإلغاء..نحن وقوده وموقديه..هل نحن بحاجة أولا إلى ميثاق وطني يحرم العنف. هل نحن قادرون على تجنبه؟..والسؤال الأهم,هل نحن راغبون في الشفاء؟؟

أن منيف قد صور ببراعة واحد من أقسى مشاهد العنف في بداية دورته,وهو المشهد المألوف في الذاكرة العراقية,انه مشهد قتل- سيد عليوي – رئيس

20

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الانكشارية ل –سعيد باشا – الحاكم السابق,وفصل رئسه عن جسده وهو يحتمي في حضن أمه!..أنها واقعة ليست من خيال المؤلف بل هي تاريخية مثبتة ومتفق عليها في كتب التاريخ,وهذا يستدعي بنا المقارنة مع تاريخ العراق الحديث القريب من المشهد السابق,انه مشهد قتل العائلة المالكة في العراق على يد(ثوار) عام 1958 الذين أسسوا أول جمهورية عراقية حديثة,على جثث هذه العائلة التي تناثرت هنا وهناك,وتلقفتها أيدي الجماهير وطافت بها شوارع بغداد كالضباع الجائعة لرائحة الدم..كانت أم سعيد باشا تبكي وتحتضن ابنها وتطلب له الرحمة التي لم تأتي,كذلك كانت الملكة عالية,لكن الرحمة لم تأتي أيضا..التشابه يصل إلى حد كبير من القسوة,وفي كل مرة يعيد نفسه بغير التواريخ وبغير الوجوه وبغير الأسماء!..لكنه..هو هو نفسه..العنف العراقي,والمدهش أن هؤلاء المشوهين الذين يطوفون بالجثث أثناء انفلات دورات العنف,هم أنفسهم الذين يقيمون المندب والمراثي ويرددون الأشعار لاستدرار بكاء الناس على المغدور ين..بكاء الأجيال,بعد أن يتضح لهم أن من نصبوه حاكما عليهم بصراخهم وتصفيقهم لا يختلف عن سلفه..وهكذا بكل سهولة ولا عقلانية,يتحول الجناة إلى أبرياء,والأبرياء إلى طغاة!..في النهاية يغيب هؤلاء ولا يبقى لهم سوى جلد الذات والبكاء المر,والاستعداد البطيء للجولة القادمة من العنف.. ثم يضفون على قتلاهم البعيدين والقريبين صفات ومزايا تصل بهؤلاء إلى مصاف الأنبياء والقديسين,لو وفروه لهم في حياتهم لتغير الكثير من تاريخ البلد,فلو وقف العراقيين مع الحسين بن الإمام علي في تلك الأيام السود,وما تخلوا عنه بكل

21

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خسة وذل وجبن,لتغير الشيء الكثير!..لو وقف نفس الشعب بعد أكثر من ألف سنة مع عبد الكريم قاسم مؤسس الجمهورية العراقية الحديثة ضد مجموعة (الثوار) المغامرين,لو لم يتركوه محاصرا ووحيدا في وزارة الدفاع,ثم ليقتل ويبصق على وجهه أمامهم من على شاشة التلفزيون,وهم الذين كانوا قبل مقتله يرقصون له في الشوارع ليل نهار ويقسمون أغلظ الإيمان بأنهم قد شاهدوا صورة وجهه مرسومة على القمر,لتغير الكثير في البلد..أنهم أنفسهم الذين يبكون ألان على نوري السعيد,رئيس الوزراء في العهد الملكي,ويثنون على كفائتة السياسية ودهائه ووطنيته!..لكن بعد أن سحلوا جثته في شوارع بغداد إلى أن تحللت وشبع أسفلت المدينة من دمه ولحمه وبقايا عظامه!..وقبل أن يجتاحهم والبلد تيار فاشي أغرقهم بالدم وكدس جثثهم,وقبل أن يكشف عن وجهه الشيطاني,كان الشعب نفسه يرقص في الشوارع إلى حد الإعياء واجتراع آخر قطرات الذل,وفي النهاية انهالوا على صوره ضربا بالأحذية!

حاول عبد الرحمن منيف,متأثرا بأفكاره القومية,التي اعتنقها خلال حياته السياسية,أن يضفي صفة التضامن والتعاون على كل العراقيين,ويوحد مشاعرهم السياسية اتجاه الاحتلال الأجنبي الاستعماري والذي كان قد ابتدأ لتوه من قبل الدول الأوربية وتقسيم تركة-الرجل المريض- أي بقايا الإمبراطورية العثمانية

خصوصا في المشهد الأخير من العمل,عندما وجه داود باشا مدافعه نحو الباليوز أو مقر القنصلية البريطانية,فقد اظهر أن كل العراقيين بمعنى رمزي,أنهم ضد الاحتلال الأجنبي. لكن الواقع لم يكن كذلك,فالعراقيون متضامنين مع بعضهم

22

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البعض لكن إلى حدود معينة,وهي بالتأكيد ليست مطلقة. فعندما دخلت الجيوش البريطانية إلى العراق لاحتلاله بدايات القرن العشرين,انقسم العراقيون على أنفسهم..فالمسيحيين منهم والعرب السنة كانوا مع الاحتلال..الأكراد منهم والعرب الشيعة كانوا ضده,فكل مجموعة دينية أو عرقية قد أجرت حساباتها في الربح والخسارة لوحدها وكما يناسب وضعها,وعلى أساس هذه الحسابات كانت المواقف (الوطنية) ,ولقد تكرر هذا الأمر بشكل مدهش بعد قرن من الزمان, فبعد دخول الجيوش الأمريكية,وقف الأكراد والشيعة مع الاحتلال,أما السنة فقد رفعوا لواء المقاومة!..أنها بالتأكيد نفس تلك الحسابات القديمة في ميزان الربح والخسارة,وهذا يعطي دليلا آخر وقويا على أن أخلاقيات وأولويات العراقي –بكل موزاييكه- لم تتغير أبدا,فهم لم ينظروا إلى الاحتلال الأجنبي في المرتين على انه حدث يحتم عليهم فيه الارتقاء فوق حسابات الربح والخسارة البغيضة وينسيهم إياها للوصول إلى مصاف كلمة عليا وسامية وهي(مصلحة الوطن) فالمصالح النفعية لها الأولوية عند العراقي. وما حاوله عبد الرحمن منيف هو نوع من أنواع الأساطير القومية التي لا وجود لها..أو أمنية!

فهناك في الحالتين (مرحب) بالاحتلال و(آخر) مندد به,ولو وضعت دوافع الطرفين(العراقيين) على مشرحة المنطق,لظهرت النتائج بما لا يقبل الخروج عن حسابات(الربح والخسارة) وان كلمة (وطن)جوفاء ومطاطة بل غامضة,تماما كصفة (الخيانة العظمى) التي يتبادلها الطرفان,لكن خيانة من وكلاهما قد خان الوطن,تلك الكلمة التي لم يتحسس بها سوى قلة من النخبة

23

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المثقفة الواعية. أذا عدنا إلى الوراء أكثر لفهم هذه السلوكية الغريبة,نجد نفس الحسابات تتكرر ونفس الصفات تطلق مع كل احتلال دوري متبادل بين الإيرانيين والأتراك لهذا البلد!..وهذا السلوك يغيب تماما مسالة الولاء للبلد والتضامن من اجله عند تعرضه لخطر الاحتلال,بل أن (التضامن) يفرز في كل مرة سلوكية (الدليل) لتسهيل مهمة المحتل الأجنبي,الذي يشهد تاريخ العراق على أن أي من الجيوش المحتلة له قد صادفت مقاومة فعلية من قبل الشعب,فعادة الدولة التي تحتل العراق هي التي تقاوم بجيوشها المحتل الجديد,والعراقيون هم فقط ضحاياها بامتياز,وبهذه السلوكية التبعية والخانعة,مزقوا بأيديهم (الهوية) العراقية بشكل مخيف ومدهش..ونشروا بينهم ثقافة الموت الدوري والماوراء والأدعية عند كل أطياف(الموزاييك) الغريب والجميل!

أما السياسيون العراقيون فهم بنظر الشعب,عبارة عن أناس تجمعت فيهم كل أنواع الدناءة البشرية والخسة والانتهازية والقسوة,وهذا فيه الكثير من الصحة, أما الحكام فيبادلون الشعب الذي عادة باسمهم يحكمون,نظرة سلبية أخرى,فهم بنظرهم أن الشعب خامل متكاسل لا يمكن الركون إلى ثقته,غادر كمياه دجلة التي ضمت مياهه الكثير من جثث الحكام,يجب معاملته بقسوة حتى يرتقي إلى مصاف الأمم المتحضرة!..لم يفكر أي من الطرفين بأنهم كلهم ينتمون إلى نفس صحن الحساء!..نفس المزايا,نفس الرؤيا,لكنها تختلف باختلاف الموقع..يوعزون كل بؤسهم إلى الحاكم الجائر,حتى لا يواجهون حقيقة سلبيتهم ويعترفون بها ليتسنى لهم الوقوف على أول درجات سلم الشفاء..والحكام يلقون باللوم على الشعب

24

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النمرود وعدم استعداده لإبداء الاستجابة للطموحات التي سترتقي به والقبول بالتضحيات!..أنها في الواقع ثنائية موت خطيرة لا تقبل القسمة على اثنين, لهذا نجد أن اغلب الحكام في العراق ومنذ زمن بعيد جدا بلا قبور!..والعراقيون والحق يقال من الشعوب المتميزة جدا في إزالة آثار الماضي على الرغم من تعلقه الشديد في الذاكرة!

أن التاريخ المعين هنا في(ارض السواد) يصبح بلا دلالة محددة,عائم,كمياه دجلة التي من الممكن أن يصيبها الجنون وتكتسح كل شيء بلا رحمة..يغرق كل مساحة تاريخ هذا البلد ليصل إلى البدايات الأولى..وممكن أن يضيق مجراه تحت حرارة شمس تموز الحارقة ويتحول إلى جدول صغير يروي حكايات متعبة عن الاحتلالات ودورات العنف..

لقد حاول المؤلف أن يقارن بين طبيعة العراق وطبيعة بشره,حيث تتجمع في الاثنين كل المتناقضات,فمن أقصى الجمال إلى أقصى حدود القبح,والمعروف أن الإنسان يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها!..أي كانت واين كان!

 

 

 

 

 

 

25

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رشيد الضعيف

أن رواية (معبد ينجح في بغداد) هي للكاتب اللبناني رشيد الضعيف..صدرت الطبعة الأولى عام 2005 عن منشورات – رياض الريس- في بيروت.

الرواية تتألف من 222 صفحة القطع الكبير,تتحدث بكل بساطة عن مغني..هذا المغني المولود في الحجاز,يهاجر إلى بغداد.وبذلك يؤسس رشيد الضعيف خلفية العمل الروائي عن هذه المدينة التي اختارها لتكون ملعب أبطاله..صحيح أن هناك بعض المدن العربية الأخرى التي يرد ذكرها في هذا العمل,ألا أنها تبقى تكميلية وليست أساسية,وكما هو واضح من عنوان الرواية.

لكن أي بغداد؟

أنها بغداد الأمين والمأمون..قابيل وهابيل العصر العباسي الإسلامي..حيث الصراع الطموح على كرسي الخلافة المدمى دائما,والمشيد على صرح من الجماجم.منذ أن خرجت الخلافة الإسلامية من الحجاز,والذي ينتهي كما نعلم بنهاية مأساوية سوداء بعد أن يقتل الأخ أخاه!

أن البطل هو- معبد ابن رباح – الذي استلهم سيرته المؤلف من سيرة المغني الأسطوري في خلال العصر الأموي- معبد بن وهب – .وبذلك استطاع أن ينقل الحدث من العصر الأموي إلى العصر العباسي..أي من دمشق إلى بغداد!.. علما من أن الرواية قد كتبت أو صدرت بعد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي!

فهل كان يقصد المؤلف رسالة معينة من وراء ذلك؟

في لقاء مع رشيد الضعيف في صحيفة السفير اللبنانية,أجراه معه مسئول

26

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الثقافية الشاعر اللبناني,اسكندر حبش..ينكر فيه المؤلف أي صلة بين بغداد الأمين والمأمون وبين بغداد الحالية!

قد يكون هذا صحيحا..لكن يحق لنا بعد أن خرج الكتاب من أدراج المؤلف ووصل إلى الجمهور,أن لا نصدق ما قاله في اللقاء الصحفي وان ننبش في النص. أن النبش في النصوص ليس هو هدفنا في هذا الكتاب,بل ما يهم هو تكوين الشخص العراقي في داخل النص,وبما أن الخلفية المكانية هي العاصمة العراقية بغداد,وان كانت القديمة,أولا,وبرؤية مؤلف عربي-لبناني- ثانيا,فهذا هو ما نرصده في كتابات الآخرين..وهنا نقتطع بعض المقاطع من سيرة هذا المغني الذي هاجر إلى بغداد.

( ولطالما سمع عن بغداد!

ولطالما حلم ببغداد!

كان يتصور نفسه إلى مائدة بعض الوزراء وهم يأكلون:غلام إلى يمينهم وغلام إلى يسارهم,يتناولون ملعقة من غلام اليمين الحامل ثلاثين ملعقة من زجاج نادر,يأكلون بها مرة واحدة فقط,ثم يدفعونها إلى غلام اليسار,كل ملعقة لقمة,فهم من نظافتهم لا يعيدون الملعقة ذاتها مرة ثانية إلى فمهم.وكان يتصور نفسه ينشد قصيدة في عرس الخليفة,آو عرس ابن الخليفة,أو عرس احد أبناء الأشراف,فتنال قصيدته أعجاب الممدوح ,ويعطى مالا يقيه طوال حياته من العوز-13,14)

ويحضرني هنا بعد هذا الوصف الخيالي لحياة البغداديين في تلك الأزمان الغابرة

27

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صوت الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وهو يقول بألم:

ما مر عام والعراق ليس فيه جوع!

أن البذخ والترف اللامعقول,هو ما أراد أن يوصله لنا المؤلف في بغداد تلك العصور..فهناك الثراء الفاحش,وهذا ما لم يأتي به الضعيف من الفراغ,بل هو وصف تجده في اغلب كتب التراث العربي..بل وما أكثر ما قيل عن بغداد الرشيد مثلا.

( – اقتله؟

لا تقتل!قالت له.بل ارحل إلى بغداد أن استطعت,فهناك يغتني الناس من الغناء….

…. بغداد تلهب احلامه-28)

لكن الصورة الذهبية عن بغداد ليست هي كامل الحقيقة..وكما سنرى في متن هذا العمل الأدبي.بغداد التفاهة..بغداد العنف الدموي الأعمى..بغداد الفقراء والعيارين..بغداد ذات المزاج الحاد المتقلب..أما تفاهة الخلفاء واستهتارهم فلها من الأخبار ما يملئ بطون  الكتب التاريخية والتراثية وبلا حرج!..ففي هذه الكتب نقرأ عن حياة الجواري والنساء والغلمان الذين كانوا يحكمون من وراء عمامة الخليفة,ولا نعدم هنا أو هناك بأخبار تحدثنا عن عبقرية هذا الخليفة أو ذاك ونبوغهم,وهي أخبار تمثل ذر الرماد في العيون لموازنة أخبار التفاهة!

(وهكذا نزحت خليدة والغصة في قلبها,مع أنها كانت تحب بغداد,وتحب الإقامة فيها,بل أن هذا ما كانت تحلم به,كانت تحلم أن يشتريها سيد من هناك,حيث الحياة الراقية والعيش الهين,وحيث يفصل الجارية مثلها عن صقر الخليفة أغنية واحدة

28

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فقط,يبلغ خبرها الخليفة وتعجبه,لتصير سيدة الغناء,ومقصد عشاق الأغاني,من ارستقراطية الإمبراطورية الغنية الشاسعة,التي لا تغيب عن أطرافها الشمس -47). لكن اسم العراق وبالذات بغداد..يبقى مقرونا دائما بالحروب والكوارث وهذا هو الوجه الأبرز,خصوصا بغداد,هذه المدينة المنكوبة دائما بهجرة المتريفين والقرويين والبدو..

( اشتم رائحة الحرب تقترب:قال معبد لأبو زكار في حانة الشط.وسمعت أن كثيرا من الناس,وخاصة من الطبقات الميسورة,يرحلون خوفا من الانفجار الكبير.قتل علي بن عيسى بن هامان:قال له أبو زكار,لم ينتشر الخبر بعد في بغداد,لكن الأمين ومعاونيه علموا به قبلي بلا شك,وعلي بن عيسى بن هامان هذا من خيرة قواد الأمين.وهو الذي شجعه على عزل أخيه المأمون من ولاية العهد وعن خراسان,وقد جهزه الأمين بأربعين ألف رجل,وسار بهم لقتال طاهر بن الحسين,الذي أوفده المأمون على رأس جيش اقل عددا بكثير.لكنه مجهز بأحدث الأسلحة.والتقى الجيشان في منطقة الري,والتحما وانتصر جيش طاهر,ثم جيء له بجثته وقد شدت يداه ورجلاه,كما يفعل بالدواب أذا ماتت,فأمر بها طاهر فألقيت في بئر,ثم كتب بالخبر إلى خراسان ومما قال في كتابه:(..رأس علي بن عيسى بين يدي وخاتمه في أصبعي,والحمد لله رب العالمين)) وكان إلى جانب المأمون حين وصلته الرسالة,مساعده الأول الفضل بن سهل الذي سلم عليه بالخلافة,فسر المأمون سرورا لا يوصف-67)

أنها القسوة الفالتة من عقالها والتي لا تحدها حدود أخلاقية أو دينية..بل الكذب

29

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والنفاق والعنف,هي المفردات التي سادت تلك العصور وتحلى بها العراقيون في تلك الأزمان,وهو التاريخ يعيد نفسه بألف صورة وصورة..

(ولم يكن معبد بن رياح قد تحقق بعد أن الأوضاع في بغداد على هذا المستوى الكارثي من الخطورة,كان يعلم فقط أن الأوضاع فيها(خطيرة) وان هناك خلافات بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون الذي كان حاكم خراسان في فارس,وان الجيش الجرار الذي أرسله الأمين نحو خراسان,والذي يتحدث عنه جميع الناس,سيعيد الأمور إلى نصابها بعد أسابيع أو أيام.لكنه لم يتصور أطلاقا أن الأمور خطيرة إلى حد أن بغداد مهددة بالتدمير الشامل,وبعشرات الألوف من القتلى وأكثر منها بكثير من الجرحى..وما يستتبع ذلك من أوبئة ومجاعات-68)

والعراقي هنا..قاتل ومقتول..جلاد وضحية..الشمس والقمر..الليل والنهار..الحر والبرد..الجنة والنار!

(وقالت له,ألا تدري أين أنت؟ أنت في بغداد عاصمة الإمبراطورية والدنيا.ماذا تقصدين؟ قال لها.قالت:اقصد انك أذا رددت الصوت بفمك,لتسمعه أذنيك,فقد يسرقه احد منك!هذه هي بغداد يا معبد-95)

ثم حدثت المجزرة..

(ثم استطاع احد قواد طاهر(وكان معروفا باسم داود سياه).أن يبلغ مع فرقته علي بن عيسى وان يشتبك معه,واستطاع أن يضربه ضربة قضت عليه فوقع عن فرسه,وانكب عليه الرجال يتابعون ضربه,وتسابقوا في قطع رأسه,وكذلك في قطع أصبعه التي فيها خاتمه.واقتلع احدهم خصلة من شعر لحيته,أما الرجل الذي

30

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذبحه فكان يعرف بطاهر بن الراجي.ثم سلم الرأس إلى احد وجوه القواد وهو احمد بن هاشم,وكان قد ظن انه قتل في المعركة,فحمله إلى طاهر.وقال له حين وصل أليه:البشرى!البشرى!جئتك برأس علي وهو مع غلامي في المخلاة,ثم طرحه أمامه,ثم أتى بجثته وقد شدت يداه ورجلاه كما يفعل بالدواب أذا ماتت,

فنظر طاهر في الرأس فابتسم,لكنه ارتاب قليلا لان الرأس كان مشوها بسبب الضرب عليه قبل قطعه.فاستدعى طاهر من يعرف علي بن عيسى جيدا,حتى اطمأن نهائيا إلى انه رأسه بالذات-96)

ما أشبه اليوم بالبارحة!..نقرا هنا بعض من تصرفات الأمين مع الذين خذلوه في مشروعه الطموح..( ولما علم الأمين بهرب اسحق.سال عمه ابن المهدي عن الأمر,ففوجئ بالسؤال لأنه لم يكن على علم بذلك,وكان اسحق قد هرب سرا مع أولاده وزوجاته وأمه,وخدمه وجواريه وغلمانه,وأعواده والآلات الموسيقية الأخرى التي كان يضرب عليها ويحبها,واخذ معه أكياس عظيمة من الدنانير والدراهم والذهب والأحجار الكريمة الأخرى,والكتب التي ألفها في الموسيقى وكذلك لائحة بأسماء الأغاني التي لحنها والده,وكلماتها وطريقة تلحينها,ولم يستطع الأمين شيئا,سوى أن أهدى بيوته التي أخلاها,إلى وجهاء العيارين,وفقراء بغداد وعامتها,ليقيموا فيها-100)

أليس هذا الذي حدث في ذلك الزمان ما زال يحدث لحد ألان في بغداد؟..فكيف يطلب منا المؤلف أن لا نقارن بين البغدادين؟.أنها في النهاية بغداد واحدة لم تتغير والبغداديون هم هم لم يتبدلوا!..الم يهرب الشعراء الذين تسابقوا في تمجيد

31

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(القائد الضرورة) صدام حسين خلال أيام حكمه,وعندما أيقنوا بغريزة الفئران بحتمية غرق السفينة,هربوا تحت جنح الظلام إلى المنافي القريبة والبعيدة,

وعندما أفاق قائدهم الضرورة على هذه الخيانة بدا بمصادرة بيوتهم التي كانت أصلا  قد كان صادرها من معارضيه وأعدائه ومنحها أليهم كمكافئات على تهريجهم طوال عقود القهر في الزمن العراقي الحديث,وأعطاها إلى وجهاء

( العيارين)..والعهر!

هنا مقطع مؤثر,يدل بوضوح فج..مدى وكمية الأحقاد المتراكمة التي تغلي في صدور العراقيين منذ أزمان بعيدة حتى أنهم لم يعودا يعرفون لمن يوجهون مدافع أحقادهم ولا الزمن..فتعالوا نسمع ونقرا..(سيضحكون عليك أذن وعلى الأمويين جميعا,وربما ظنوا انك من مناصريهم,رغم أن أيام الأمويين انقضت من زمان,منذ عشرات السنين,وقد هدمت قصورهم وقتلوا,ومن لم يقتل منهم نفى نفسه إلى أقاصي الأرض,وادعى اسما آخر,وعمل كما يعمل الناس العاديون حتى يستطيع العيش,وقد نبشت قبورهم التي فيها دفنوا منذ عشرات السنين,واخرج ما تبقى منهم فيها إلى النور,فأهين واحرق وذر رماده في الهواء وماء الأنهر حتى لا يبقى منهم اثر.وكم كانت تكبر فرحة الباحثين عن بقايا الأمويين عندما كانوا يقعون على هيكل عظمي مازال متكاملا,فيعمدون إلى صلبه وجلده قبل أن يحرقوه ليحولوه إلى ذرات زائلة من غبار كوني-106)

أليس هذا سببا كافيا للمؤلف لكي يختار خلفية تاريخية ومكانية مثل بغداد؟..لو افترضنا انه أراد أن يروي سيرة المغني الأسطورة-معبد بن وهب- الذي عاش

32

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في دمشق..فأين يمكن له أن يجد خلفية مثالية مثل بغداد؟..وزمن مثالي مثل زمن الأمين والمأمون؟..المكان والزمان مثاليان جدا..فبهما كمية من العنف والدم المستباح,الحار,السائل في الشوارع,ما لا يوجد له مثيل!؟

كما لهذا السبب أيضا(العنف) لا يوجد في العراق كله أي قبر لأي خليفة أو حتى رئيس جمهورية!..أليس هذا بالشيء المذهل؟

يقول رشيد الضعيف في لقاءه الصحفي مع اسكندر حبش(لا علاقة بين بغداد اليوم وبغداد التي أتكلم عنها..)..لكن بغداد الحدث..وكما أن الإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن تاريخه حتى لو شاء..كذلك المدن..فلا يمكن أن تنسى بغداد..المدينة والذاكرة..كل جحافل القتلة الذين مروا بها وعبروا أليها..كذلك يقول في لقاءه ..

عن كتب التراث العربي القديم( يجعلون الحيوانات تتكلم أذا كان بناء الخبر وسياقه يحتاجان إلى ذلك,يجعلون الشجر يتكلم,يلوون عنق كل شيء من اجل أن يكتمل (الخبر) عندهم)..

ترى هل لوي رشيد الضعيف عنق روايته ليكتمل لديه ( الخبر)..والسؤال..

أي خبر؟..هذا علمه عند أصحاب الكهنوت.

أما شخصية العراقي في..( معبد ينجح في بغداد) .. فهي تتلخص في كلمة واحدة..بائس!

 

 

 

33

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هاديا سعيد

صدرت الطبعة الأولى من كتاب(سنوات من الخوف العراقي..) عن دار الساقي في عام 2004.وفيه تؤرخ المؤلفة لسنوات حاسمة من الخوف(العراقي) المتجذر في نفسية الفرد العراقي.

أن كتاب هاديا سعيد هذا ليس بالعمل الروائي أو القصصي,لكني مع هذا وجدت فيه الكثير مما كنت ابحث عنه..أنها حكاية البنت العربية(اللبنانية) التي كانت مؤمنة بقضايا(كبيرة) وطنها العربي الكبير..مرت بالعراق وشاءت الصدف التاريخية أن تمر فيه,في فترة هي من الأصعب أن لم تكن الأصعب على الإطلاق  واعقد فتراته السياسية والاجتماعية,بل وأخصبها عنفا وجنونا:أنها الفترة التي رافقت نضوج فكرة الجبهة الوطنية وتأسيسها والتي ضمت الحزب الشيوعي العراقي والحزب الحاكم,حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي, وفيها أصبحوا(شركاء)في السلطة أو هكذا تظاهر الاثنان!!

ما جذبني لهذا الكتاب,أن هاديا سعيد,لم تكتبه بشكل يوميات أو مذكرات مضجرة,بل كتبته بشكل هو اقرب إلى الحكاية الخفيفة,لموضوع يحمل الكثير من الألم والعنف..هذا بالإضافة إلى أن الكتاب العرب ,على كثرة ترددهم إلى العراق لم يوثق سوى القليل جدا منهم,لهذه المرحلة المهمة جدا من تاريخ العراق الحديث وما تركته من تأثير حاد وخطير في تكوين نفسية الفرد العراقي وسكنت ذاكرته بكثير من الدموية وكالعادة بالموت المجاني!.. فلقد تقاسمتهم الثنائية الحادة للتنافر بين هذين الحزبين اللذين لعبا الدور الأساسي والمهم من تاريخ البلد الحديث

34

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فكانوا,أما مع هذا أو ضد ذاك..وبالعكس. وسكت أغلبيتهم عن التطرف الذي حصل وغيبوا هذا الفصل الحاد الدموي,أما خوفا أو تحقيقا لمصالح فردية.

فكما المؤلفة التي لم تستطع التخلص من بقايا خوفها ألا بعد أن شاهدت بأم عينيها كما شاهد العالم اجمع,سقوط صنم الطاغية على يد المحتلين الأمريكان!..عندها فقط قررت نشر هذه اليوميات المهمة,والتي من الممكن جدا إنها قد كتبت قبل السقوط بزمن طويل,والتي أخر نشرها هو الخوف العراقي.

في البداية تصف السعيد,مسالة الهرب الكبير,وتصف ما حدث بعد انهيار الجبهة الوطنية( كالزلزال الخفي)..إذ تقول (نعم,ينبغي القول أننا هربنا من العراق,هربنا من بغداد الجميلة التي كانت تهتز بآثار زلزال خفي في أواخر عام 1978 وعندما أقول هربنا,فانا اعني نحن:ذلك الخليط العجيب,المتقارب والمتناقض في آن واحد من الكتاب والصحفيين والمثقفين,مستقلين وشيوعيين وأنصار الشيوعيين وأكراد من بصمت أوراقهم الشخصية بعبارة(تبعية إيرانية) وعرفوا في بغداد باسم الأكراد الفيلية,وآخرون استشعروا الظلم خطرا قادما بشكل أو آخر-17)..

هل كان المسئولين عن السلطة (البعثيين) هم وحدهم من يتحمل المسؤولية الكاملة؟..أم أن الهروب الجماعي الذي مارسه المثقفين,كان أيضا خطاء قاتل,مهدوا به الطريق للبعثيين ليحكموا قبضتهم على البلد لسنوات عجاف طوال انتهت بتدميره عبر الحروب والحصار وأخيرا الاحتلال؟..الم يكن الشيوعيون يتباهون بأنهم يملكون الشارع كذبا! وهم الذين تركوا لحفنة من الأفاقين البعثيين اقتلاع السلطة عام 1963 من حليفهم عبد الكريم قاسم,والسماح لإقامة الموسم

35

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكبير لاصطياد الشيوعيين وقتلهم؟..ترى أين الحقيقة وسط هذا الكم الكبير من الأكاذيب والمبالغات الحزبية الضيقة والعنف المتبادل بين الطرفين!

هنا في هذا المقطع,تصف الكاتبة,حادثة حقيقية عاشتها ومارستها مع زوجها,أي الهروب من المواجهة,والفرار المذعور..وهي تصف بشي من السخرية اللاذعة,هرب هؤلاء المثقفين الثوريين,واستيقاظ حاسة الفئران المذعورة فيهم التي تتنبأ بالزلزال قبيل وقوعه..إذ تقول( في تلك الفترة في بداية ومنتصف عام 1978 تنبهت إلى أساليب الهروب:إجازات مرضية,إجازات بدون راتب,توسط للحصول على منحة دراسية في الخارج,سفر طارئ أو مفاجئ بسبب وفاة أو زفاف!كذب بريء أو مفضوح,حتى طارق عزيز عندما كان وزيرا للإعلام في تلك الفترة,وسئل في لقاءات صحفية عن أرتال المثقفين العراقيين الذين غادروا أو هربوا من العراق بعد بداية حركة التبعيث التي مزقت أخر فتات من حلم الجبهة الوطنية,قال”هؤلاء خرجوا بأنفسهم,لم يطردهم احد,ولم يغضبهم احد,هم اختاروا ترك جنة الوطن,فليخسروا أذن نعيم التمتع بالانتماء أليه”-18)..

هذا هو منطق الأحزاب القبيح..أن الانتماء الذي تحدث عنه طارق عزيز,هو انتماء الأحزاب وليس انتماء الوطن..فالوطن بعرفهم لا يكون صالحا للعيش فيه أذا كان الشيوعيين على رأس السلطة فيه وبالتالي تحوله إلى جحيم بالنسبة إلى الآخرين,وكما حدث عندما اقتربوا من السلطة في زمن عبد الكريم قاسم, فلقد أقاموا الجحيم للآخرين(كما في أحداث قطار السلام مثلا)..وعلى العكس من ذلك تماما,عندما تمكن البعثيون من الاستيلاء على السلطة في العراق,أصبح البلد

36

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جنة, والانتماء أليه فضيلة لا تنازعها أي فضيلة أخرى في العالم,كما أصبح جحيما للشيوعيين والمتعاطفين معهم وبدأت(أرتال المثقفين العراقيين) بالهروب!

لكنهم نسوا أنهم في النهاية عراقيون-البعثيين والشيوعيين- في خضم صراعهم الضيق على السلطة أضاعوا الهوية الوطنية العامة واغرقوا البلد في بحر من الدماء والأحقاد والكراهية..وهذا يعود بنا إلى  طرح سؤال يبدو في ظاهره طبيعيا..لماذا كان احدها لا يطيق وجود الآخر ويسعى بكل قواه لدماره وإلغاءه؟..

هل يمكن تفسير هذه الواقف العدوانية بين الطرفين بإيعازه إلى تجذر ظاهرة العنف في نفسية الفرد العراقي؟..أم أن الفترة القصيرة التي تلت موجة عنف 1963 والتي اعتقد اغلب العراقيين البسطاء أن سماء التسامح قد ظللت رؤوس المتحزبين منهم- شيوعيين وبعثيين- كانت زائفة وكما توصف في المثال الشعبي

(مطر صيف) وظاهرة غريبة على العراقيين؟

(منذ عام 1970 وما تلاها من سنوات قليلة شهدت الأيام,مشاهد تشبه الأحلام,تتكوم لتكريس حلم قيام جبهة وطنية تجمع لأول مرة في تاريخ العراق الحديث حزب البعث والحزب الشيوعي,وفي تلك الفترة نفض الشيوعيون عن ملابسهم دماء الماضي وتناسوا أيام التقاتل والاعتقال,واقترب البعثيون بوهم حب الوطن والمصالحة الوطنية القومية,فنشطت دعوة الجميع للتهليل لهذا الحلم أو الوهم-19)..إذا,وحسبما جرت وقائع التاريخ بعد هذه الفترة-الحلمية الوهمية- اكتشفنا أن هذه الفترة,هي فترة إعداد لمرحلة العنف القادم التي اجتاحت البلد وتركت الكثير من جثث أبناءه ملقاة على رصيف الطريق القديم,ولكن هذه المرة

37

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باسم الايدولوجيا الحزبية!

غريب كيف يبدل العراقيون عناوين اقتتالهم مع أن الهدف واحد وقديم!

لا شك أن هناك من حاول جديا,من الطرفين,أن يبدأ فعلا مرحلة تآخي وطني,غريب على ثقافة العنف السائدة في تاريخ العراق القديم منه والحديث, لكن في النهاية لم يشهد لهذه المحاولة أي نجاح,وكما لاحظت هاديا سعيد ونقلت لنا من أجواء تلك الأيام المشحونة برائحة الدم والعاصفة..( كان الإيقاع العام لكل ذلك منفتحا,علمانيا,يحاول أن يكون جريئا,وكان هناك حالمون كثيرون يؤكدون وهم هذه الرفقة الجديدة,وكنت الحظ ابتسامات الجانبين البريئة والمترفعة أو الملغومة,أرى الجميع في أروقة مؤتمرات وحفلات اتحاد الأدباء وجمعية التشكيليين,أحاول أن استشف ذلك الضغط النفسي الخفي الذي يحاول كل لحظة أن يبعد شبح ماض ملوث بالدماء-21)…وكما قلنا في النهاية,وكالعادة,انتصر المتمسكون بأبجدية العنف وسحقوا أول من سحقوا هؤلاء(الحالمين) من الطرفين فالوضع العام لم يكن ليخرج عن جملة قالتها..(بؤرة من ألغام سياسية وأكوام من الدماء-22)…لقد حاول الشيوعيون أو عموم المتضررين من قيادة حزب البعث وحكمه للبلد,وخصوصا منهم المثقفين,أن يحملوا الكثير من المواقف العامة أو الشخصية لهذا الفرد أو ذاك,أكثر بكثير مما تحتمل,وذلك لإضفاء شرعية المقاومة للنظام الفاشي ولو اسميا أو سلبيا..البعث هو الذي كان يحكم ,أي أن موارد البلد بيده,وعليه فانه كان ينفق الكثير على الأساليب الدعائية ومحاولاته المستمرة لكسب الرأيين العراقي والعربي,وهذا شيء مفهوم من منطلق الأحزاب

38

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التولتارية والدكتاتورية,وهذا ما كان الشيوعيين يعيبونه عليهم..لكن السؤال, لو كان الوضع عكس الصورة التي كانت,وكانوا هم الذين يقودون البلد,وبيدهم موارده,الم يكونوا ليفعلوا نفس الشيء؟..الجواب القاطع هو بالتأكيد,لكن هناك دائما من سيقولون عكس ذلك ويدعون المبدئية!..الم تكن كل الأحزاب الشيوعية التي كانت حاكمة في الكتلة الشرقية السابقة بقيادة الاتحاد السوفيتي وانتهاء بكوبا وكوريا الشمالية,تفعل نفس ما فعله البعث ذات مرة؟..

بل أن هاديا سعيد,باعتبارها غير عراقية-لبنانية- تنقل لنا عما شاهدته من(حسد) لدى المثقف العراقي من زميله العربي العامل في العراق,فعندما كانت الكاتبة تتولى مسؤولية احد الأقسام في مجلة(ألف باء) حدث لها كما يوشي الكلام,خلافا بينها وبين احد المحررين..إذ قال لها (نزل وتدبيج على السطح-23) وهو مثل شعبي عراقي,معناه,بالرغم من كونك غريبة-غير عراقية- ألا انك تفعلين كذا وكذا..وهي تدافع عن نفسها بالقول..(لكني من جانب آخر,وكما يراني آخرون,كنت ضيفة معقولة,لا احصل ألا على راتبي,عكس الكثيرون من المثقفين والكتاب والفنانين العرب الذين جاءوا ضيوفا أو متملقين أو كسابين كما تقول الهمسات في كواليس مبنى الدار أو سهرات النوادي وبارات ومطاعم باب الشرقي-مركز بغداد-23)..وفي مكان آخر..( ومنذ أن تحول المربد إلى شعر يتغنى بالقائد والقيادة,أصبحنا نسمع عن هدايا الساعات والمغلفات التي توضع في غرف الفنادق,والدعوات الخاصة لزيارة القصر الجمهوري,وكان على الجوقة العازفة أن تكتب عنهم,وتجري لهم الحوارات,فيتم العزف,ثم تضج في الكواليس

39

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهمسات:يقبضون أكثر من العراقيين,يكرمون,لا يأتون حسب الكفاءة والخبرة-26)..ماذا تريد أن تقول؟..هل أن العراقي عنصري؟..ويشعر بالغيرة والغضب أذا جاء(آخر) عربي وحل محله؟..لماذا لم يحدث هذا في بيروت,قبيل وحتى بعد الحرب الأهلية,عندما استوعبت الجميع على اختلاف عقائدهم,في حالة مدهشة,أثارت مواقع الظلام العربية فتأمروا على إغراق هذه الحالة في ظلام مشابه!..وهل هذا يعني أن المثقف العراقي,إذا أكرم من قبل القيادة ودفع له ما يناسب حجم(موهبته),يتحول إلى بوق إعلامي للحزب الحاكم,أي كان هذا الحزب!..وهذا ما حدث وشاهدناه وعاصرناه,والساحة الثقافية العراقية شهدت  بكثافة غير عادية تساقط الأسماء اللامعة التي (عاد إليها الوعي)وتنصلت من تاريخها النضالي مع الحزب الشيوعي وبالتالي تحولوا إلى أرقام في طابور المزمرين والقابضين الطويل!

أن العراقي(غشيم) يمكن أن يضحك عليه بسهولة!..حتى مثقفيه..أليس هذا ما تخبرنا به المؤلفة في الفقرة التالية من كتابها..( المحافظون والتقليديون كانوا يحسبون أنهم من جماعة (الأب القائد-احمد حسن البكر) لم يكن لهم بريق أو حماسة.أما جماعة (السيد النائب-صدام حسين) فهم الشباب,ومن فلقتي الجبهة,أي نحن المجددون الذين بدؤوا يرون في صدام حسين الشخصية اليسارية التي ستجفف عفونة البعث وتعصرنه,هو ترو تسكي جديد وكاسترو العراق,كما تراه الأمنيات التي تختلط بالأوهام-28)..أذا,حتى الشيوعيون وأصدقائهم كانوا يرنون بعيون الحب واللهفة إلى –السيد النائب-!..( الم يغني الشيوعيون نشيد الأممية

40

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويصفق صدام ويعانق الرفاق الكبار في حفل ضمهم بقاعة الاحتفالات بقصر المؤتمرات(قاعة الخلد)؟..في ذلك الاحتفال ,كان صديقنا الشاعر الراحل رشدي العامل الذي أمضى سنوات الاعتقال الطويلة في سجن قصر النهاية يثمل بين أيدينا,حتى حملناه إلى بيته الذي يجاور بيتنا.محتفلا ببكاء غريب,مصفقا ومغنيا لمن اضطهده وعذبه,ثم ضحك عليه وهم من جديد لإعادة تاريخ التعذيب والاعتقال لأبنائه بعد انتهاء العرس وظهور الأنياب-29)

أذا كان المثقف الايدولوجي,الذي من(المفروض)انه يقود شعبه..(غشيم) وانخدع بسهولة,برقة ولطافة-السيد النائب- فكيف حال المواطن البسيط الذي وضع ثقته بأناس على هذه الشاكلة من السذاجة! والذي وقف عاريا بين مطرقة البعث وسندان الشيوعية!..(ظن البعض من الشيوعيين أن بإمكانهم جذب السيد النائب إلى معسكرهم بما يتحلى به من شباب وتطلع”اشتراكي” جديد يتجاوز حدود القومية العربية المؤطرة ببيان القائد المؤسس ميشيل عفلق.ولعل السيد النائب بدوره كان يخطط بسرية-كما عرفنا عنه-لاستيعابهم ودمجهم في معسكره( كما فعل فيما بعد مع بعض الأسماء اللامعة من الكتاب والفنانين الذين حسبوا طويلا في لائحة الرفاق الشيوعيين أو الماركسيين بوجه عام)-31).

دخل الطرفان إلى وهم لعبة الاستغفال والاستحمار وجرا البلد ورائهما إلى الهلاك,مع أن كليهما يعرف تماما,أن الساحة العراقية لا تسع كليهما,وان على احد اللاعبين الاعتزال وإخلاء الساحة ولو بالقوة,فهم محكومين بقوانين اللعبة الأكبر..لعبة دورات العنف العراقية. الشيوعيون لم يؤخذوا على حين غرة كما

41

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يحلو للبعض منهم أن يتحدث ويصور,أن الإعداد للمعركة كان واضحا وسريعا,وعملية الاستقطاب الحاد والسريع,قد بدأت منذ لحظة تأسيس ما عرف بالجبهة الوطنية..كلاهما كان بحاجة إلى الوقت لينزل إلى ساحة المعركة المتجددة بينهما..كلاهما كان يعرف أن فترة الجبهة كانت فترة هدنة وليست نقاهة في نهاية الجولة وكما جرت الأحداث في العراق فاز البعثيين بهذه المعركة وطبعا وحسب التقليد العراقي الراسخ تحولت إلى مذبحة.واثبت البعثيين أنهم الأكفأ في لعبة الدم..( أن من حلم بعراق يتجدد ويتطور بدأ يواجه بأحداث وتحولات تحيره أو تفاجئه أو تفرض عليه السكوت أو الابتعاد.أصبحت الساحة تشبه حلبة تدريب وإعداد لفريق كرة قدم,سيخوضان المباراة الأخيرة في السنوات التالية,بل ستكون تصفية نهائية,تبدأ بالرؤوس الكبيرة وتنتهي بأصغر اللاعبين الذين لم يكونوا غير جيل حالم جديد لم يستوعب درس من سبقه.أو أن مد الموج الصاخب لم تترك له فرصة لاستيعاب الدرس وهضمه واستخلاص العبر-30).

ثم تصف هاديا سعيد الجو السياسي العام بدقة عندما تقول..(السياسة الآن,لم تعد لعبة أحزاب واقع قوى أو أدوات وأسلوب تختار منه فرق تسعى إلى الحكم أو تتولاه,ما يناسبها,بل هي ضحية صغيرة ضيقة تفرض عليك الانحناء لدخوله,ثم تحشرك لتظللك وترفع فوق راسك ظل سوط يلاحقك في صحوك ونومك,فتهرب منها حتى تدمن الهروب-33)..أنها بلا شك تصف بدقة دوامة العنف القادمة..وإدمان(ممارسة) الهروب التي لا تعني بالضرورة …النجاة!

ثم يصل الخلاف السياسي بين العراقيين حدا كما تراه هاديا سعيد,يكاد يصل إلى

42

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محل كل ما هو جميل وأصيل في حياتنا القصيرة,وكيف أن السياسي دائما كان متقدما على كل ما هو غيره,وخصوصا الثقافي في حياتنا..( يظل العراقيون في اعتقادي أبطال المكر النبيل في الدفاع عن ثقافتهم وإبداعهم,ولم أر شعبا أكثر قراءة وتعلقا بالأدب والفكر كالعراقيين,أن مرجعيتهم هي الورق والكتب وليس الحياة,وأبطالهم شخصيات روائية وقصائد شعر وشجن غناء شعبي,أكثر منها أشخاصا من لحم ودم أو تجارب مغمسة بالواقع ,فالواقع أكثر من مر,والسياسية تؤطر الاسم قبل النتاج,فمثلا أذا حدث أجماع(محلي) لأسماء كالجواهري والسياب أو ألبياتي ونازك الملائكة ومظفر النواب,فان السياسية تنشب أظفارها لتخدش انتماء كل فرد من هؤلاء,وقد تتكون فرق المنقضين بسرعة مذهلة تواجهها فرق المدافعين لتختلط النظرة السياسية بالإبداعية بالفكرية,وتطلق أحكاما قد تصل إلى الحكم بالإعدام(المعنوي)-37)

المعروف أن النظام السياسي العراقي قد سحب الجنسية العراقية من اثنين من أهم شعراءه(ألجواهري والبياتي),لأنهما كانا من المعرضين للنظام السياسي وشاركا في مهرجان(الجنادرية)في المملكة العربية السعودية!

أن إلغاء الآخر في العراق أسهل بكثير من النقاش والحوار والاختلاف الحضاري معه!..في مكان آخر من حكايتها مع الخوف العراقي,تنقل لنا صورة افتتان السياسي العراقي بالدم وبان يرى نفسه معمدا بالدم في سبيل قضية! وهي آخر صورة(مقدسة) يمكن أن يرتقي أليها العراقي السياسي وحتى يقبله مواطنوه الذين يعشقون رؤية أبطالهم وهم معذبون والدماء تسيل منهم كما المسيح على

43

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصليب!..وهذا مؤشر على تقديس الدم,سواء كان على يد الجلاد أو جسد الضحية..( في تلك الأيام-أيام الجبهة الوطنية-فكانت كأنها قيادة مشروخة.كل التفاصيل مغلفة بازدواجية.(الرفاق الشيوعيون)يبدوا أنهم تآلفوا مع العمل تحت الأرض,فقد ظلت نزعة التوجس والحنين إلى ذكريات الدم والتعذيب والتنكيل,كأنها قياس للبطولات واثبات الذات,بينما بدا(الرفاق البعثيون) وكأنهم يتفضلون بقبول زملاء وأعضاء جدد في النادي القومي-65)..أن تبادل الأدوار المحكم بين الظالم والمظلوم,بين السادي والمازوخي,السالب والموجب,ثنائية تفتن العقل السياسي العراقي لحد التطرف..الكل متربص بالكل..يتم ذلك بالطبع تحت يافطة اسم الوطن!..الذي هو عادة في الحقيقة غائم وغامض ومبهم وغير محدد المعالم في ذهنية العراقي,الموزعة بين الو لاءات العرقية والدينية والمذهبية. نقطة أخرى مهمة جدا وثقتها عين الصحفية الممتازة في الشخصية العراقية بعد أن انتقل هذا(المرض) إليها نفسها وهي الغريبة!..إذ أنها تصف محادثة جرت بينها وبين طارق عزيز..(كنت اشعر بالارتباك والخوف…….

كان كأنه يحادث إنسانة أخرى,فقد كانت الطفلة في داخلي مازالت مصعوقة بخوف غريب,ذلك الخوف الذي بدا يفهمني ويعلمني معنى أن  تكون في العراق,ومعنى وعمق العذاب والهلع الذي يعيشه أحبائي العراقيون-67)..( فلم تكن جولات وجلسات الإنتاجية ألا تفعيلة في مقدمة بناء(جمهورية الخوف) وسيضل خوفي مثل طفل مدلل أمام الهلع العراقي)..(غير أن المعقول يبدو وكأنه المستحيل في ذلك البلد المطعون.وفي ذلك الزمن الصعب,فكيف يمكن أن تكون

44

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حياتك عادية ومعقولة وفي كل بيت حكاية قتل أو تهديد أو اعتقال أو هروب؟..

لقد كنت احد الذين عاشوا نوعا(مخففا) من الخوف داخل الجمهورية وخارجها,مع إني لست عراقية,فهل هو الشعار الخفي بأنها امة عربية واحدة في الخوف والقهر؟..لقد عشت في أكثر من بلد عربي وعرفت ووعيت معنى الحدود والرقابة والتضييق,لكن عهود العراق دموية وفجة ومريعة,فليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس والذرية والإرث كما عاشته بيوت بغداد,وليس هناك بلد أبيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب والأوصال المقطوعة كما حدث في العراق,وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق-68)..

كيف تسلل الخوف إلى كل بيت كما تقول(قتل أو تهديد أو اعتقال أو هروب!)نحن أيضا نتساءل معها؟..كيف سمح العراقيون إلى كل هذا الكم المرعب من الخوف أن يتسلل إلى بيوتهم ويعاشرهم كما أرواحهم ويسكن في عقولهم دون أي فعل مقاومة؟..بل أنهم استسلموا كما النعاج إلى سكين الجلاد!..أين ذهبت طلائع الأحزاب المعارضة؟..أين كان ينام رجال الدين الذين انبثقوا كما نبات الفطر في الغابات بعد الاحتلال الأمريكي وتناثرت الفتوى وبدأنا نسمع أسماء لو عدد نصفها في ذلك الزمن الأسود لما حدث الذي حدث!..لماذا تفوقنا في تخزين كميات الخوف والدم والتفاصيل المرعبة في الذاكرة الجمعية للبلد على بقية(أقراننا) في الدول العربية؟..لماذا تجرعنا(ذل الصمت)حتى الثمالة و(قهر الخوف)بسلبية منقطعة النظير؟

اعتقد أن سبب نجاح سلطة الخراب ألبعثي في إذلال العراق كله,لأنهم في النهاية

45

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عراقيون ويعرفون تماما من أين تضرب الكتف وتقطع الرقبة.وتتساءل الكاتبة اللبنانية عن جذور خوفها..(متى عرفت هذه الكلمة بطبعتها العراقية؟..متى احتلت وسكنت أعماقي؟-73)..أنا اعتقد انه كان منذ اليوم الأول لدخولها العراق,وقبولها من الزواج بعراقي..اعتقد!

حتى في أعتا حالات الهذيان عند العراقي-وهنا نخص منهم المثقفين الشيوعيين وعموم اليسار والمستقلين المتعاطفين معهم,لان هاديا سعيد تزوجت احدهم وحسبت عليهم,بل أنها انتمت إلى الحزب الشيوعي ولو لفترة قصيرة-لم يستطع ذلك العراقي أن يتخلص من خوفه..من جبنه..(لقد اكتشفت أن العراقي يعرف كيف يتشبث بقناعه,ولم يكن هذا القناع يسقط أو يزاح ألا عندما تتوالى كؤوس الشراب ويتصالح الداخل مع الخارج,فيعبر الخوف عن حضوره ويتجلى بعراك أو سخرية عنيفة أو غناء أو شتائم يمكنها أن توجه حتى للآلهة,لكنها لا تستطيع لحظة واحدة-وبشكل مباشر وصريح- أن توجه إلى الحاكم أو القيادة-75)..

حتى للحظة واحدة معينة ومعروفة,تتوقف جيوش السكر الزاحفة في الدماء والعقول..عندما تصل إلى رؤية الضوء الأحمر الباهت المرعب..الحاكم!..عندها تشل الألسنة وتتهدل الوجوه وتنكس النظرات وترتخي الأكتاف..يرتعدون في(ذل الصمت) الجدير بهم!..مرة أخرى تضع هاديا سعيد أصبعها على موضع مؤلم وتضغط عليه,عندما تتهم الجميع بانعدام الضمير,ليس السياسيين العراقيين وحدهم,بل أكثر الناس..العاديين منهم..(أصبحت بعدئذ أفكر بهؤلاء الذين يصبحون حرسا ورجال امن صغار أو كتاب تقارير,من هم؟..وكيف يصلون إلى

46

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه الدوائر؟..ماذا يريدون؟كيف يشعرون؟كيف يفكرون؟ هل يكفي راتب مغر لتعمى العين عن تعذيب بريء أو اتهام مظلوم؟ كيف يتكون الضمير لدى أمثال هؤلاء؟ وكيف يتقزم ويضمحل؟ هل الدولة فقط هي المسئولة؟-96)..نعم,أنا احمل نفس التساؤلات  المحيرة..هل الدولة هي وحدها المسئولة عن كل هذا الانحطاط؟ الم يكن كل هؤلاء-ضحايا وجلادين-عراقيون في النهاية؟..لماذا هذه القسوة غير المنطقية على بعضهم البعض؟

بدون تعليق انقل هذه الفقرة..( رأيت العراق يتحول إلى علبة ضيقة تعج بحركة صاخبة لكنها صامتة,هناك ما يشبه الحراس الأشباح يقفون أمام كل باب,تمتد ظلالهم إلى كل غرفة وزاوية.تحصي النظرات والأنفاس,قبل أن تترجم الكلمات إلى معان خطيرة ومهددة-115)..ثم تقول المؤلفة شهادة في المرأة العراقية الغير سياسية..( اكتشفت في هذه المرأة,الصلابة والعناد والثقافة,وكذلك المقاومة بشتى السبل,وبأسلوب يختلف تماما عن أسلوب الرجل,اكتشفت ضمها للجروح,سواء جروح الذات أو الأهل أو الأحباء من الرجال,آباء وأزوج وإخوة وعشاقا,اكتشفت تمسكها بخزين الكبرياء,وهي سمة وسمت العراقيين عموما,كّان أم العراق الأولى أرضعتهم هذا العناد والكبرياء-135)..في مرحلة من مراحل حكم حزب البعث,رفع شعار سياسي حزبي(أول من يضحي وآخر من يستفيد) وكانوا يعنون به ألبعثي(الجيد) وهذا كذب وافتراء,لكني أجد أن هذا الشعار ينطبق بشكل كبير على المرأة العراقية.

أخيرا وصلت الكاتبة إلى القناعة الجوهرية..(فان تكون عراقيا,فان أمامك

47

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صراطين:أما(معنا),(أو ضدنا). الحياد كلمة ممنوعة,بل هي تهمة-259)..

أنها ثنائية الاستقطاب الحاد في قاموس العراق والعراقيين.في ختام الحكاية-المذكرات- الصادقة والجميلة,انقل إليكم هذه الفقرة المعبرة..( ذكرت,وما أزال اكرر أن خوفي ظل طفلا مدللا أمام خوف الأصدقاء والأحبة.ففي كل بيت ماضي يحمل توقيع هارب أو قتيل أو سجين.واليوم,عندما اقرأ وارى فضائع المقابر الجماعية وتروى أمامي حكايات الاعتقال الرهيبة,اشعر أن الزمن لا يعيد نفسه,بل كأنه أصبح مثل ثور هائج,انطلق منذ الستينات ولم يكفه نصف قرن أو أكثر,بل ناطح بقرنيه الألفية الثالثة-79)

ولعل التساؤل الأكثر رعبا..هو..هل من الممكن أن تصل قرنا الثور العراقي الهائج,إلى ابعد من بدايات الألفية الثالثة؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

48

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحلام مستغانمي

استوقفني الكتابين الثاني( فوضى الحواس,الصادر عن دار الآداب,الطبعة التاسعة 1999) والثالث ( عابر سرير,عن منشورات أحلام مستغانمي الطبعة الثانية,2003) من ثلاثيتها ( ذاكرة الجسد).

فمنذ البدء وبوضوح تام,تحمل الكاتبة الجزائرية,نظام البعث الحاكم في العراق وبالتالي العراقيين بصورة غير مباشرة,مسؤولية كل الكوارث التي أطبقت على النظام العربي,بكل تنوعاته!..ربما وللوهلة الأولى يبدو ما تقوله صحيحا نوعا ما..أو أكثر..لكن السؤال..هل هذه هي كل الحقيقة؟

الصحيح أيضا أنها لم تختار نموذج عراقي-حي- في عملها الجميل(ذاكرة الجسد) بأجزائه الثلاثة,ألا أنها تكاد لا تفوت فرصة عندما تريد توجيه سهام النقد الجارح للنظام العربي الشمولي والفاشل,ثقافيا وسياسيا وحضاريا,من إحلال العراق بموقع سلبي تماما,ولا فرق هنا بين العراقيين ونظامهم الحاكم!

( ألهذا لم يعد؟..أم ترى لأنه ذهب ليدفن أباه بنوايا انتحارية في ذلك البلد الذي يقتل الشعراء,ويكثر من المهرجانات الشعرية-35,فوضى الحواس)..أن السؤال المخيف المختبئ بين ثنايا هذه السطور..هو لمن كانت تقام هذه المهرجانات الشعرية ومن كان ضيوفها؟..وإذا ما كان النظام يقتل شعراءه,وهذا صحيح,فمن هم الشعراء المدعوون,ولمن كانوا يلقون معلقاتهم؟..بالطبع من غير المجدي هنا الدخول في جدلية عقيمة..لكن الخلل كان كبيرا,ونحن بدورنا نسال,لماذا لم ترتفع أصوات المثقفين العرب عندما كان إخوانهم العراقيين يقادون إلى الموت المبرمج

49

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في لوائح الحزب القومي الفاشي ولم ينتصروا أليه؟..خصوصا في أوج قوة النظام أبان الحرب العراقية الإيرانية؟..أن الإجابة على ما تحمله هذه السطور القليلة من معاني مرعبة,تقودنا حتما إلى الوصول إلى قاع الفشل المدوي للمشروع الثقافي العربي من المحيط إلى الخليج كما يقولون!

نبدأ ألان بعد أن تحول العراقي وليس النظام الذي يحكمه,إلى ما يثير الشفقة بأقصى درجاتها..(لقد قلت لها- إلى أمه- أن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لن تصدقني-128,فوضى الحواس)..

( هؤلاء الذين تكتبين من اجلهم..أنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية…ولا يملكون ثمن كتاب..أما الآخرون فماتوا..حتى الأحياء منهم ماتوا..فاصمتي حزنا عليهم-129,فوضى الحواس)..(كنت أرى القنوات الأمريكية,تتسابق لنقل مشاهد”حية”عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى,يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل,مرشوشين بقنابل الموت العبثي,دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا-135,فوضى الحواس)

عن أي عراقي تتحدث هذه الكاتبة؟..عن ذاك الذي يستحق أن يتبرع له بمال الحجة لأنها أكثر إحسانا من الحجة نفسها,والذي يبحث عمن يتبرع له بالدواء والكتاب..أم العراقي الجندي الذي انهزم بذل وانكسار أمام جحافل القوات الأجنبية؟..أليسوا هم في النهاية واحد؟..على من تعلن فجيعتها..على العراقي أم على الجيش العربي الذي انهزم؟..مرة تعلن عن شفقتها عليه ورغبتها في

50

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مساعدته على محنته,ومرة تعلن عن غضبها عليه لأنه انهزم أمام الآخر الذي شاهدته من على( القنوات الأمريكية):هل العراقي هنا ضحية أم جلاد؟..

(حتى الأحياء منهم ماتوا)..هل هي أدانه لأنهم استسلموا إلى الأمريكان أم إلى النظام العراقي نفسه؟..لا اعرف..المهم من أن العراقي قد تحول بسرعة من جلاد إلى ضحية إلى العدم..ألا شيء..الموت المعنوي ولقد كان كذلك!..حتى تساقطهم العبثي(كالذباب في خنادق الذل) تصوير فيه الكثير من القسوة,لكنه ملائم لدخول الحرب العبثية للنظام وملائم لأنه انهزم فيها!..انه في الحالتين يستحق الإدانة!!

( ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج.عند بدء الاجتياح العراقي كان يعيش مشتتا..مضطربا..ينام وهو من أنصار صدام حسين,ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت..ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق,حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب”أم المعارك”128, فوضى الحواس)..هنا تشبه الفعل العراقي- الاجتياح- بالحمى المرضية التي أصابت المواطن العربي,وإحساسه بالعجز التام والشلل الفكري في معالجة مشكلة العراقي الجامح,الذي اجتاح دولة صغيرة,ثم شعوره بالغضب من جراء التحالف الدولي الذي قادته أمريكا,والذي تولى إنهاء المهمة التي عجزوا عن حلها بنجاح تاقوا أليه لكنهم لم يملكوا أي من مقومات نجاحه. لقد فقدت البوصلة العربية تماما صوابها بفعل العبث(العراقي) بها..الشباب العربي المحبط من الوضع العربي العام المنهار,يمثل بشخصية(ناصر) والاسم ذو دلالة لا تخفى,والذي كان ينام على طيف ويصحو على آخر,إلى أن تنتهي به ألازمة إلى وضع نفسه تحت

51

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تصرف الأصوليين الإسلاميين وانتمائه النهائي إليهم..وينتقل العراق برمته ( قادة وشعبا) إلى موقع الضحية بفنتازيات لا يقدر عليها سوى العرب!..فبعد أن يبدأ الهجوم  لدول التحالف بقيادة أمريكا ينحاز شباب العرب إلى معسكر العراق في تأييد شبه مطلق,خصوصا خارج دول الخليج,ومن منطلق قبائلي شهير( أنا وابن عمي على الغريب)!..

( كان مثل الجميع يراهن على المستحيل,ويحلم بمعركة كبرى..نحرر بها فلسطين! ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على ارض قاحلة,طلبني ليلا ليقول لي”أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم..انه ليس أكثر من “تحميله” وضعتها إسرائيل في مؤخرتها-128,فوضى الحواس)..كان لفشل الصواريخ العراقية في أداء مهمتها التدميرية الدموية ومن منظر الجيش العراقي المنكسر والمتساقط”كالذباب” في رأي الكاتبة,وهي لا تجانب الصواب هنا,بحدوث تحول كبير في عقلية الشباب العربي..فانهيار الأكذوبة الكبرى التي روج لها النظام العراقي وبمساعدة(النخبة) المثقفة في العالم العربي,والتي أوهمت الجماهير بعد هزيمة(العدو الفارسي) في حرب ألثمان سنوات,والتي كان العراقي هو ضحيتها الأولى والأخيرة,بالانتقام من إسرائيل بالأسلحة النووية,بعد أن مرغت إسرائيل كرامتهم بالأرض!..فهي تقول عن أخيها( كان مثل الجميع يراهن على المستحيل) والمستحيل هنا يتحمل العراقي عبئه لوحده أيضا وأيضا!..وليكتفوا هم بمراقبة”أم المعارك” من على “القنوات الأمريكية”!..هنا يتحمل العراقي الجلد مرتين:أولا لكذبه على العرب

52

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ووعدهم بأشياء لم تحصل وثانية لأنه انهار أمام اكبر آلة عسكرية عرفها العالم حتى هذا الوقت والتي أطلقتها أمريكا والعالم الغربي عليه..فهو لهذه الأسباب جبان,كذاب,مهزوم,مذلول..يستحق أكثر ما يستحق هو الشفقة!

كما أحدثت”أم الهزائم”اكبر رد فعل راديكالي عند شباب العرب,الذين بدوا يدخلون أفواجا إلى التنظيمات المتطرفة الأصولية من الخليج إلى المحيط,وكما يقولون أيضا..فانهيار الوهم النووي العراقي,دفع المتطرفين إلى البحث عن أسلحة لا تقل فتكا وشراسة عنها,إلى أن وصلوا إلى فكرة الأجساد المفخخة!..

التي كان لفضل هزيمة العراقي في حربه إلى ابتكارها,وهم يدركون,أنها ربما ستكون هذه هي آخر حروبهم بسبب شراستها ولكونها فعلا معركة بقاء.

( ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي..أو تنتحري..لقد تحولنا في بضعة أسابيع من امة كانت تمتلك ترسانة نووية..إلى امة لم يتركوا لها سوى السكاكين..وأنت تكتبين.وتحولنا من امة تملك اكبر احتياطي مالي في العالم,إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية..وأنت تكتبين-129,فوضى الحواس)..(سنتين كاملتين,تعلمت فيها أن احتقر كل أولئك الكتاب,الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل,أمام جثمان العروبة-130,فوضى الحواس).

بسبب الكارثة العراقية تحمل أحلام مستغانمي,كل أخطاء النظام العربي,إلى مجرد”بضعة أسابيع” التي كانت السبب الوحيد في كل الفشل المدوي الذي حصل وتحول العرب إلى قطيع من (قبائل متسولة في المحافل الدولية)!..ولكن كيف كان حال العرب قبيل الحروب العراقية؟..الم يلحظ عباقرة النظام العربي من

53

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مثقفين وسياسيين ورجال دين وعلماء وغيرهم,الزلزال العراقي وهو قادم لا محال؟..لقد وقف الأكثرية ,مصفقين ومشجعين وداعمين لهذا النظام عندما اجتاح الأراضي الإيرانية!..ثم أن أولئك الكتاب( الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل) هم أنفسهم الذين روجوا للمشروع العراقي الفالت من عقاله والدموي!..لو كان هؤلاء قد وقفوا إلى جانب مثقفي العراق الذين خرجوا إلى المنافي البعيدة والذين لم تفتح لهم دول(العروبة) أبوابها,هل كان ما حدث سيحدث؟..أن”جثمان العروبة” الذي تنعيه الكاتبة,قد مات منذ عام  1967!

عام الهزيمة الحقيقة التي أعلنت نتائجها العسكرية نهاية العقل الحر,الديمقراطي,

التنويري,وركز جيل العساكر أوضاعهم وتسلطوا على رقاب العباد في كل الدول العربية التي كانت معنية بالتنوير والتطور,وأفرزت تلك المجتمعات جيل من “مثقفي”السلطات التي احترفت التهريج على أعلى المستويات المخجلة..كان يكفي أحلام مستغانمي أن تسال أي عراقي في المهجر ,وكثير منهم كانوا في المهجر الجزائري,أن كان العراق قادرا حقا على صناعة- إبرة خياطة- عندها سيئتها الجواب قاطعا بلا!..بل نحن نستوردها من الهند أو الصين!..فكيف صدق العرب هذه الكذبة الجبارة من أن العراق قادرا على مجارة الدول الكبرى في صناعاته العسكرية!..أم أنهم كانوا يريدون أن يصدقوا هذا الوهم؟..أن ثقافة الجيوش وعسكرة المجتمعات هي ما يهم الأنظمة العربية ومثقفيها,وعلى قدر كبر هذه الجيوش يكون مقدار الاحترام وبالعكس,فالعرب احترموا أو خافوا من نظام العراق وجيشه الجرار الجائع,ولم يكترثوا للكويتيين لأنهم لا يملكون

54

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جيشا,وهي نفس العقلية القبائلية السائدة منذ عهد امرؤ ألقيس..لهذا كان استشهادها بالفرح الكويتي عندما حررت أراضيه ومقارنته بالعار!

(وارى قوافل البائسين هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر.تاركة كل شيء خلفها.بعد عمر من الشقاء..ودون أن نفهم لماذا.وارى الكويتيين يرقصون في الشوارع حاملين الإعلام الأمريكية مقبلي صور بوش,مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت,ولا افهم كيف وصلنا إلى هذا-130,فوضى الحواس)أما نحن العراقيين فنفهم..لأننا كنا وصلنا قبلكم بزمن إلى هذا الدرك من تلبد الحواس.أن هذه السطور تفضح النظام العربي,فالعراقي هو الذي فجر السطح البليد الذي كان يغطي هذا الفشل والعجز بفعلته الحمقاء..انه فشل اشد فداحة من فشل 1967 أو هو نتيجته..لقد انزاح العجز الخرافي,وفتح العراقي بابا أمام الخراب العربي..أو الفرصة الأخيرة لإنقاذه!..لا احد يمكن له التنبؤ بفداحة وحجم الزلزال العراقي,لكن الأكيد انه لم يعد من الممكن أن نقف في نفس المكان..هذا شيء قطعي. وحتى تخلص الكاتبة ضميرها من تهمة الجمع,كل ما  هو سيئ إلى العراق,تحاول هنا أن تدين رأس النظام..( وحده رجل غير مكترث بنا,لم يفقد قريبا في أي حرب من الحروب التي ارتجلها,ولا فقد في زمن المجاعة ولو شيئا من وزنه.كان يظهر على الشاشات,يمارس السباحة على مرأى من غرقانا واعدا إيانا بمزيد من”الانتصارات” -130,فوضى الحواس)..في النهاية أن هذا الرجل السابح على القرب من”غرقانا” قد كان يسبح ومنذ زمن طويل في دماء العراقيين,واعدا إياكم بمزيد من”الانتصارات”وإيانا بمزيد من

55

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموت والقحط!

كما تزيد الكاتبة في كتابها الآخر..(في الدكاكين السياسية التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية..باعونا”أم القضايا” وقضايا أخرى جديدة,معلبة حسب النظام العالمي الجديد,جاهزة للالتهام المحلي والقومي.فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثالي,ثم بتنا متسميمين بأوهامنا,لنكتشف بعد فوات الأوان,أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة,يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا… ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة-93,عابر سرير)

هنا تقوم الكاتبة بإلغاء الشعب العراقي من خارطة الوجود,فيصبح الملعب العربي بين سلطة العراق وعشاقها أو كارهيها من العرب!..وفي هذه الرؤية الكثير من الصحة..فالعراقي بات منهكا حد الموت”ماتوا جميعا” بحيث لم يعد ينقذه من همه السلطوي والمشروع العربي الفاشل,سوى معجزة إلهية..أو أمريكية!. أنها إشكالية خطيرة تركت العراقي الذي أفاق من موته ألسريري على صوت المدرعات الأمريكية وهي تدخل إلى مدنه وتفتحها كما تفتح العذراء في ليلة الدخلة..بين الرغبة والألم..بين الخوف والشبق. فهي تقول”انقضضنا”..لماذا انقض المثقفين العرب على جثة العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية؟.. لماذا صوروه بطلا وهو في الحقيقة لم يكن أكثر من رقم بلا ملامح في قطيع كبير من الأرقام؟..

المرأة العراقية أيضا في “ذاكرة جسد” أحلام مستغانمي..ولكنها هنا العاهرة..

(حتى مومسات (بيغال)-حي العاهرات في باريس-المنتشرات على أرصفة الليل

56

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هيئة لا يصمد أمام غواية التلصص على عريهن رجل,لم استطع وأنا اعبر شارعهن إن أقيم مع أجسادهن العارية تحت معطف الفرو,أية علاقة فضول, فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلت تفاصيله الصحافة العالمية لمومسات البؤس العربي.مشهد لو رآه زوربا لأجهش راقصا,لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية.لا تخرج من حرب ألا لتبتكر لرجالها أخرى,وريثما يكبر الجيل الآتي من الشهداء.كانت تفرغ البيوت من رجالها ومن أثاثها,ومن لقمة عيشها,لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.لكن لا تهتم يا زوربا ..

يا صديق الأرامل لا تحزن..الجميلات الصغيرات لا يترملن,أنهن يزيّن قصور سادة الحروب العربية,وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلا لشرف الوطن..كما مات أزواجهن فداء له..وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات فاضلات يمثلن الاتحاد النسائي..بإمكانها أن تبقى معلقة على الأبواب يوما كاملا تأكيدا لطهارة اليد التي قطعتها,كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة (المتعة مقابل الغذاء)وتجرؤا تمني شيئا آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهن لتزيين كعكة عيد ميلاد القائد-29,عابر سرير)

هنا منتهى القسوة والوضوح في تجريد العراقي والعراقية من كل الصفات الكاذبة التي أغدقت عليه بشكل استثنائي أثناء حروبه دفاعا عن- شرف الأمة- ضد إيران..السلطة فاسدة,متوحشة,تسحق البنى التحتية للشخصية العراقية بلا رحمة,

العاهرات فيه فاضلات وبالعكس..إنسان مذلول,خانع..مجتمع لا يضم سوى القتلة والمقتولين. وما يحسب للكاتبة,أنها الأولى وربما الوحيدة التي تناولت ولو بشيء

57

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسيط لكنه جميل,وصف الحادث الشنيع التي أقدمت عليه سلطة الخراب ألبعثي في العراق ألا وهو إعدام العاهرات(أو هكذا اتهمن) بحد السيف العربي!

لكن العراق كان قد تحول بعد الحروب الكثيرة والحصار والانكسار النفسي والأخلاقي,إلى إفراز طبقة كبيرة من العاهرات والأرامل  والفقراء الأذلاء وهذه نتيجة طبيعية تحدث في أي مجتمع يخوض كل هذه التجارب المؤلمة من الحروب الخاسرة..بل لقد تحول ما سمي وقتها ,باتحاد العام لنساء العراق,إلى وكر كبير يمارس به العهر(الثوري)!..أن العراقيين الذين قبلوا بالذل والخنوع,مرتين,الأولى للنظام الوحشي والثانية لعقبات النفط مقابل الغذاء(المتعة مقابل الغذاء) كانوا مسئولين بشكل أو آخر عما جرى لهم..وهل يوجد إذلالا من هكذا وصف لرجال(جرءوا على التمني) وقبلوا برص جماجمهم بكل خضوع!

جدير بالذكر أن كتاب(عابر سرير) قد صدر عام 2003,فعندما حدثت منازلة(أم الهزائم) كان العربي في كتابات أحلام مستغانمي لا يزال يرجو (خيرا) من نظام أبدى استعداده الكاذب لرد كرامة الشارع العربي!..أما في كتابها الثاني,فقد انكشف كل شيء وعليه فان صب جام الغضب على النظام وبالتالي على العراقيين شيء منطقي!..لأنه المسئول عن كل هزائم العرب وهو الذي جسد (جثمان العروبة)..لكني اتسائل..أيضا..ماذا لو خرج العراق(منتصرا) في (أم الهزائم) وتحولت بالفعل إلى أم المعارك!؟..بالتأكيد كان المداحون العرب سيضفون عندها  كل صفات البطولة على العراقي الذي حارب وانتصر,وكل صفات الإلوهية على قيادته(الحكيمة) وذاب اسم الكويت في (أسيد) الذاكرة

58

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العربية المتعبة!..مجرد سؤال لا ارغب بسماع جوابه!

أخيرا نختار هذا المقطع الجميل من كتابها..( يحضرني دائما في مثل هذا الوقت,قول ساخر ليرناردشو معلقا على تمثال الحرية في أمريكا” أن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفتقدها أكثر” وهو ما يفسر وجود اكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مني بأكبر الخسائر والدمار-307,عابر سرير)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

59

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غالب هلسا..

الكتاب ( ثلاثة وجوه لبغداد ),هو عمل الروائي الأردني الرائع..غالب هلسا.

الصادر عن (آفاق للدراسات والنشر) في نيقوسيا-قبرص,في طبعته الأولى عام 1984 من القطع المتوسط ومن 224 صفحة.

اعتقد أن هذا العمل الروائي واحد من أهم ما كتب عن بغداد بصدق يصل أحيانا بنا إلى حدود ألامعقول..صدق جارح,بل دامي..ربما عن حب وعكس ما خرجت به من قراءتي الأولى للعمل من أن غالب هلسا يكره بغداد!..وربما البغداديون..( تحولت بغداد بالنسبة لي إلى ليل دائم-127)..الشخصيات عموما هي سلبية تماما!

لقد خرج غالب هلسا من السجن المصري وطار إلى بغداد..التي كانت تعد العدة للإطباق على كل اليساريين ورميهم بمصيدتها التي تعدها لهم..الطعم الذي تم جذب غالب هلسا به إلى بغداد مع كثير من يساريين العرب اسمه ( الجبهة الوطنية)..سار مع السائرين إلى المصيدة العراقية,في دلالة على بله سياسي أو انعدام البديل أو ربما الوعي..فما من احد استطاع بدقة أن يقرا تجربة عام 1963 في العراق من المثقفين العرب,وتحليل أسباب دمويتها المفرطة ومن كان المسئول عنها والمتسببين بها!..أن غالب هلسا يأتي إلى بغداد,وهو يحمل نظرة استشراقية وحنين هائل إلى الماضي..بغداد بشكلها الحالي لا تعجبه أبدا فيحاول جاهدا استبدالها بأخرى في خياله..كما انه لا يخفي مياه إلى بغداد التي تتوسط بطون التاريخ..تلك الجميلة,الثرية,المثقفة,الأنيقة..الخ,مما خلفته لنا قصص ألف ليلة وليلة. لا يريد هلسا الاعتراف أن بغداد قد أصابها القبح كما المرض الجذام

60

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولا أن يفهم غموضها..ولا أسباب تعبها من كثرة اغتصابها سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وعمرانيا من قبل أبنائها..ولماذا أدمنت على حكم العسس منذ زمن طويل واستسلمت له,تستبدلهم بين الحين والآخر ,لكن بنفس النوايا الشريرة, والوجوه الكالحة والأرواح الحاقدة..فما أشبه اليوم بالبارحة بالغد!

تبدأ رحلته داخل بغداد بشكل يثير في نفسه الأسئلة المريبة..( ولكن هذا الشارع صامت,والضوء شحيح,كأنه ضوء ساعة ما قبل الفجر.ما قبل خلق العالم بلحظة.الشارع خال من البشر.مشحون بتوقع غريب.يتراوح بين الخوف وتحقيق المستحيل,سار,وكان لوقع إقدامه صدى-15)…( كان قد تجاوز الجزء الأكبر من الشارع.ثم فجاءه رأى شجرة.شجرة كبيرة,مليئة بالأوراق,والأغصان.قدر أنها شجرة تين,كان تقع على يساره,وراء سور,وكان الضوء يتخللها من جميع الاتجاهات,بدت خارج سياقات الشارع.اللبص,المعتم,ولكنها تندرج في سياق بغداد.شجرة مرحة,هل يمكن قول ذلك؟ اعني كانت كأنها ضحكة,في وجه قاتم,ليس لها معنى,على أي حال.رأى شجرة فاتخذ القرار,سيعيش بين هؤلاء الناس-16,17)..انه القادم من القاهرة..تلك العاصمة الخرافية التي تستأثر بعقله وقلبه..يبقى متعلقا بها حتى في النوم..( ثم تذكر انه في بغداد.لقد كان يحتاج إلى قدر من الإرادة واليقظة ليتذكر انه في بغداد ,لم يكن سهلا.القاهرة تحتويه تماما فتظل بغداد عابرة-18)

لا يجد البطل اليساري القادم من المعتقل المصري بدا من الاندماج في الحياة الثقافية العراقية الملتهبة والتي هي جزءا مهما من أجزاء المصيدة السياسية التي

61

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعد لها السلطة..( وسارت الأمور في تتال متوقع,ومريح.انتهت بسيارة مرسيدس 2205 وقفت أمام الفندق البائس الذي يسكن,فحمل ملابسه القليلة,وسارت به السيارة إلى فندق فاخر ليصبح ضيفا على الحكومة العراقية-33)..لقد كان مثقفي العراق في تلك المرحلة( السبعينات) جزءا مهما من اللعبة السياسية(لعبة القط والفار) وكان طرفي النزاع,الشيوعي العراقي والعبثي العراقي,يشحذون سكاكينهم تأهبا للانقضاض والانتقام والغدر,والتي كانوا يخفونها خلف ابتسامات واسعة وأسنان بيضاء..وكلاهما قد ساهما وبشكل كبير في تدمير الحياة السياسية في البلد والقضاء على أي انجاز ديمقراطي فيه الحد الأدنى من احترام الخصم السياسي التي ورثها العراق الحديث عن فترة الملكية والتي نعم فيها العراقيون بنوع من السلام..فقد (اتفق) الشيوعي والعبثي,بدون اتفاق على اغتيال تلك الفترة أدبيا وسياسيا وتغييبها عن الذاكرة العراقية الجمعية,ولقد نجح كلاهما في ذلك ومن يريد الاطلاع على موقف الحزبين من الملكية عليه الرجوع إلى(أدبيات) كلا الحزبين. وربما كان هذا هو الأمر الوحيد الذي ( اتفق) فيه الطرفان المتنازعان تاريخيا.عموما,يصف هلسا في هذا المقطع بعض من تفاهة ورتابة المشهد الثقافي في تلك الفترة,التي يعتبرها العراقيون,عصرا ذهبيا!! أي فترة الجبهة الوطنية..( شارك غالب في بعض النشاطات الثقافية,ولكنه لم يحقق المشروعات الكبيرة التي كان يحلم بانجازها,شرب البيرة في بارات شارع السعدون,والويسكي المغشوش في دار اتحاد الأدباء,والشاي صباح الجمعة في مقهى البرلمان.كان طرفا في بعض المؤامرات الأدبية,وتعرض لكثير منها,

62

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحدث عن المساواة بين المرأة والرجل,فنالت آراءه موافقة جماعية,ولكنها قللت من احترام الآخرين له.قال آراء في الحياة الاجتماعية واعتبرها السامعون نكاتا.

وقال نكاتا اعتبروها آراء.أزعجه هذا الخلط فحاول أن يشرح فاعتبروه ظريفا جدا,فانتهى الأمر به إلى اليأس-34)..يبقى هلسا في خياله يبحث عن بغداد أخرى..كما تلك التي يحملها في خياله الخصب..( حلم يقظة أعيش  فيه بغداد عباسية-128)..( أسير ألان في موازاة قلب الحي,لمحة من الشارع الضيق,النظيف,الذي يتخلل الحي,ويتوه في عمقه بغموض,وّلد في داخلي شوقا لبغداد أخرى:بغداد الخمسينات الملفعة بضباب عصر عباسي-115)..( المرأة؟ وتئن أحشائك شوقا.وتمتلئ بانفعالية مضى زمنها,إذ تراها-تلك المرأة-في إطار التاريخ-الأسطورة حلم اليقظة متجذر في التاريخ.في عراقة الماضي,وحكايات ألف ليلة وليلة,وكتاب الأغاني و…..هذه بغداد في النهاية,والذاكرة لا زمن لها.وهذا الشارع ذاكرة الأسطورة والتاريخ والحلم,وأنت في قلبها-37)

يستعين الكاتب باللجة العراقية الحادة..أعجابا أو سخرية!..لكن توظيفها في العمل جاء موفقا خصوصا للقارئ العراقي(على الرغم من هذه الرواية من الممنوعات في العراق!),فاللهجة العراقية تتمتع بخصوصية خاصة لا تشابهها أي لهجة عربية أخرى,كما أنها تعكس جانبا من فجاجة ومزاجية الفرد العراقي..( همس رقيق,حلقي,هنا,يستطيع غالب أن يلتقط عبارات,مثل”انه وداعتك ووداعة أبويا”

“هلا بالورد,هلا بيك عيوني”..”آني ممنون”..ثم يتساوى الإيقاع ويزداد علوا,

يترافق مع ضحكات قوية أو شتائم من نوع “قواد,قندرة,زمال”ويظل يتعالى,

63

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الإيقاع-41). ولم تغب عن عين الكاتب الواعية لمفردات الشخصية العراقية, صفة الحزن الدفين والشرود الذي يسبق الانفجار العنيف الذي مارسه العراقيون كتقادم الفصول,والذي ينعكس بالتالي على مزاجية المدينة!..وبالعكس!

(-  ليلى!

لم ترفع رأسها,قدر أنها لم تسمعه أصلا.قال لنفسه,أن هذا الشرود الطويل,والحزن الذي صمد للزمان,بهما نستعيد تلك العراقة التي أخذت تزول.إنهما تعويضه وعزاؤها عن تلك الحركة الخرقاء,التي تجتاح شوارع المدينة-70)..أما حالة الرعب الملازمة لأختها صفة الحزن,فأنها هي الأخرى,

لم تخف عن عين المؤلف المدربة جيدا على رصد الإشارات وتحويلها إلى كلمات مؤثرة..ذلك الرعب الذي يطارد أصحابه حتى في الأحلام..( ويقول الصوت صامتا,باكيا,حزينا حتى الموت:تذكر – يا جنيني- عذوبة أماسي الصيف

ليالي الشتاء والقهوة المرة,والشاي….تذكر مذاق الحلوى- عندما كان لها مذاق يشيع في فمك وانفك,وإذنيك,يفتح مسارب صدرك- والحكايات المخيفة,يقودك رعبها للنوم مخدرا,خائفا من الهمسة,وتملأ أحلامك بموجودات صماء,تتحرك في قلبها حياة غامضة,فتتشكل,وتحاصرك,وإذا بها تلك الغولة التي تستعد لالتهامك,فتخبئ راسك في نحري,وتذوب بين نهدي..هل نسيت ذلك كله,حتى تلغيه وتدمره من اجل هوية واسم! ماذا استفدت من عالم الكبار برتابته,ومنطقيته وشعاراته ونظرياته..!-77)..العسس حاضرون بقوة,في كل مكان,فلا يمكن أن يكون الرعب المبرمج فعالا بدون عسس,مهنة العراقيين التي يحترمونها

64

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ويمارسونها منذ أجيال بعيدة!..(على يسارنا وراء البيوت الواقعة في شارعنا,

غابة نخيل,تتناثر بين جذوعها أشجار اللارنج والليمون,بين آن وآخر يلتقط ضوء السيارة شبح امرأة ملفوفة بعباءتها السوداء تسير برفقة رجل,رأيت فتيات يهبطن من سيارة أجرة توقفت أمام احد البيوت برقت سيقانهن وهن يغادرن السيارة, رجال شرطة يجلسون داخل سيارة مظلمة,تماثيل سوداء,مصمتة-93)..(التقطت عيناي رجال الشرطة,جالسين على الدكك الخشبية,يشربون الشاي من استكانات صغيرة ويدخنون كانوا صامتين93).

أن غالب هلسا ذو قدرة كبيرة على تحويل العادي إلى شيء مبهر..ملفت للنظر والفكر..فها هو يلتقط حديث فلاحين في باص نقل عام للركاب,ليسلط النظر على عمق الهوة التي تفصل بين النخب الحاكمة والمعارضة لها والتي تنتظر دورها في الحكم,وبين بسطاء الشعب العراقي وعامتهم. فالحكومة..أي حكومة,هي فاقدة للمصداقية بنظر هؤلاء الذين عانوا أجيالا بعد أخرى من كذب واضطهاد الحكومات المتتالية,إلى أن أصبح الطرفان يمثلان طرفي المعادلة التي لا حل لها

(..كان الفلاحون يجلسون على الكراسي التي أمامي ويتحدثون بصوت مرتفع.

كان موضوع حديثهم إشاعة تقول أن الحكومة قررت أن تمنح كل راعي غنم قرضا طويل الآجل,ودون فوائد قدره عشرة آلاف دينار,وسيارة مرسيدس هدية,

واخذ الفلاحون يبدون دهشتهم ويتساءلون عن السبب الذي جعل للفلاحين كل هذا الشأن قال احد الفلاحين أن هذه أكاذيب تعودت الحكومات على ترديدها,تذكروا أيام عبد الكريم قاسم؟ لقد قالوا أن كريم سوف يزوج كل فلاح معلمة مدرسة.

65

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انتظرنا المعلمات فلم يحدث شيء,أكاذيب الحكومات نعرفها-95)..ثم ينتقل بنا البطل غالب(هلسا),في مشهد بانورامي حزين داخل بغداد..عندما استقل تاكسي في ظهيرة ذلك اليوم من أيام الصيف اللاهب..(شاهدت نساء بعباءات سوداء,

تغطي الجسد من قمة الرأس إلى القدم,وبوجوه بللها العرق,يحملن أكياس نايلون ملونة أرى وراء شفافيتها خبزا وخضار حمراء وخضراء ولحمة كان ذلك نتيجة للوقوف ساعات طويلة في طوابير الجمعيات الاستهلاكية والأفران والدكاكين الصغيرة.شاهدت رجالا يلبسون الكوفيات منقطة وعقل غليظة,لهم وجوه مكدودة ضامرة بدت لي كالأقنعة…….أصبحنا في شارع الجمهورية,الهواء القادم من شباك السيارة المفتوح يأتي لاسعا,عنيفا كلسان ناري يلعق الوجه بشراسة.أمام العيادة الشعبية تقف عشرات الوجوه المنتحبة بصمت,الضارعة بصمت,تنتظر.

نساء بعباءات سوداء,رجال بكوفيات وعقل,أطفال سمر معلقون على الصدور,أطفال دارجون بين الأقدام,أو واقفون في صمت كالتماثيل بعيون سوداء,واسعة,حزينة,إلى جوار أمهاتهم,كلهم ينتظر في جحيم بغداد الملتهب وأعيش للحظات- وأنا أكاد اختنق- كوابيس طوابير الانتظار:طابور يمتد من داخل الفرن إلى الرصيف,إلى الشارع,وأنا أتفسخ وأذوب بالحرارة المنبعثة من الفرن المشتعل,وعندما أصل إلى بائع الخبز يقول لي.

عيني,ماكو صمون!

فانصرف ملتاثا بالحر والخيبة,طوابير طويلة لشراء كيلو طماطم,أو خيار,اكتشف بعد شراءه انه لا يصلح للأكل,طوابير داخل الاورزدي باك لشراء علبة سجائر أو

66

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استكانات لشرب الشاي..طوابير..طوابير..لا تنتهي أبدا وكأنها تتولد.وتواصل السيارة اندفاعها في شارع عريض يمتد لما لا نهاية..ولما لا نهاية تتكرر” امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” مكتوبة بخط اخضر بارز فوق أرضية من الزجاج الصيني الأبيض,معلقة على شرفات وفوق بوابات دوائر حكومية,ومؤسسات غامضة,وعمارات سكنية.ومطاعم كباب ومحلات بيع الشربت,بداية الوزيرية  صورة كبيرة لرئيس الجمهورية يبتسم بأدب,مكتوب تحتها”الرئيس احمد حسن البكر مثال رائع للمناضل العبثي” – صورة أخرى لنائب رئيس الجمهورية وهو عابس يرتدي ملابس عسكرية.مزينة بنياشين كثيرة,صورة أخرى لرئيس الجمهورية ونائبه..الرئيس يبتسم برقة ونائبه يضحك……..نمرق تحت الجسر الحديدي” امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” “وحدة حرية اشتراكية” معلقتان فوق دار الجماهير,تزاحم السيارة وتناور,وهدفنا ساحة باب المعظم.زحام هائل,الآلف البشر يقفون بانتظار باصات تنقلهم إلى أماكن متفرقة في المدينة,تجئ الباصات وتمضي ويظل الزحام على حاله………أوقفت السيارة قبل استدارة الساحة,وواصلت مسيرتي مشيا.توقفت في انتظار إشارة عبور المشاة,ولم أشارك السائرين مناوراتهم الجسورة لعبور الشارع.وسط اصطكاك الفرامل وشتائم السائقين.انفتحت إشارة المرور ولكن سيارة فولفو مرقت مسرعة كالسهم بين العابرين.قوانين المرور يحترمها الضعفاء فقط.في الطرف الآخر من الساحة يجلس بائع السجائر الوقور المقطوع الساقين على الأرض أمام سجائره- 112,

113,114).

67

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثم ينتقل بنا الكاتب على جناح السخرية السوداء,إلى مشهد من أهم مشاهد العراق السياسية المطبوعة بروح(البلطجة)..مشهد اغتيال عبد الكريم قاسم,الذي يذكره العراقيون كلهم وعلى اختلاف أهوائهم من هذا الشخص. فعبد الكريم قاسم,هو أول رئيس لأول جمهورية في العراق الحديث..مشهد سريالي آخر من المشهد العراقي العام الشديد الغرابة..شخصية لم يتم الاتفاق- كالعادة – على تقويمها بشكل عام,فمرة يذكر قاسم على انه قاتل العائلة المالكة في العراق,ومرة يتم تصويره على انه ثائر على الاستعمار البريطاني الذي كان يحكم العراق من وراء العائلة المالكة,مرة أخرى كمشجع على أعمال الغوغاء التي قامت بتحريض من الحزب الشيوعي المتحالف معه,في مدينتي الموصل وكركوك,ومعها يتم استذكار حوادث قطار السلام وما رافقها من أعمال دموية,ومرة بأنه أول من وضع لبنة الصرح العراقي الحديث وبداية نهضته الوطنية..عفيف,نزيه,نظيف اليد..هذا ما يتفق عليه الجميع وأولهم أعدائه..قتل في عام 1963,في مشهد مريع وبعد محاكمة صورية من بعض المغامرين وشذاذ الآفاق,ولقد تم البصق على وجهه(بعد إعدامه) على مرأى من العراقيين ومن خلال شاشة التلفزيون!..ثم تحولت جثته إلى عبئ على قتلته,لهذا تم الاتفاق على رمي جثته في النهر!..وهنا يصف غالب(هلسا) مشهد لقاءه بأحد(أبطال) محاولة اغتيال قاسم الأولى التي باءت بالفشل..( في تلك اللحظة هاجمني الضحك فقاومته بصعوبة,إذ تذكرت ما قاله لي احد المسئولين,الذي يكن عداوة للمدير العام.أن كل أمجاد هذا المدير انه شارك في اغتيال عبد الكريم قاسم على النحو التالي:لقد صدر إليه الأمر أن يرتدي ملابس النساء,وان يقف قرب

68

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المكان المقرر للاغتيال.ثم عليه بعد إطلاق الرصاص على قاسم مباشرة أن يصرخ بصوت نسائي,عال وواضح:

– واويلاه!الشيوعيين كتلوا الزعيم..!

وقال لي ذلك المسئول,تصور,انه حتى هذا الدور لم يقم به,فلقد انصرف بعد إطلاق الرصاص بعباءته واقر اطه الذهبية دون أن يطلق ولولة واحدة-119).

ثم ينتقل هلسا إلى الانتقاد المباشر للسلطة الحاكمة ويصف كابوسها الطويل على بغداد في مقاطع مهمة تبرز جانب من جوانب الشخصية العراقية بنظر العربي..

( فاجأتني صفائح الكارتون السوداء,تمتد على ارتفاع متر عن الأرض,تغطي الحجرات التي يوجد فيها فتيات تابعة للمكتبة الوطنية.اعتقدت في البداية أنها موضوعة بمناسبة عيد ما.من تلك الأعياد التي لا تنتهي.يوم أو يومان وتزول.ولكن هذا الكابوس الأسود,ذلك الليل الأبدي,استمر على الأيام والسنين-120)..( المهم أن المدير العام اختفى من الدائرة وان مديرا آخر حل مكانه وان هذا الأخير جاء من احد الإدارات الغامضة,وقيل انه سوف يعود إليها.وقد علمت أن هذا المدير كان شيوعيا سابقا,ثم انظم إلى حزب البعث في السبعينات,وأصبح فجاءه من اشد المتعصبين لأفكار الحزب ومن المغالين في عدائهم للماركسية.يقال انه مرة قابل احد معارفه ولامه لأنه كتب مقالا في احد الصحف عن مدام كوري,قال له”لماذا لم تكتب مقالا عن الخنساء بدلا من الكتابة عن امرأة شيوعية” ولا اعلم ما انتهت أليه هذه المناقشة,ولكن قيل أن أستاذ الفيزياء الجامعي هذا قد تم نقله إلى معلم أطفال في قرية في جنوب العراق- 123)…( عندما خرجنا لم ينظر احد منا إلى الآخر,أو

69

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يعلق على الحديث الذي دار,لا احد منا اخذ ما قاله المدير مأخذ الجد,فما داعي الحديث والنقاش,خاصة ونحن نعلم أن ما يقال يصل إلى أسماع المسئولين من خلال مسارب يصعب تحديدها-124)

يحلل بعمق الوضع السياسي والاجتماعي العام وبدقة,يضع أصبعه على بدايات الخلل,وهو خلل مر به كل العراقيون وخصوصا منهم المهتمون بالشأن السياسي وعمله..( تلك الآلام التي تصاحب نهوضي من وراء المكتب,وانحنائي لالتقاط شيء ما من الأرض,الآم العنق التي اشعر بها حين استرخي في كرسي مريح لم تكن الآما جسدية,بل نتاج الخوف الكامن في عظامي,أدركت لحظتها بحدس فاجأني وأدهشني أنني شاركت في صناعة هذا الخوف عندما تجنبت الصدام والمواجهة,واخترت الانزواء والانصراف إلى القراءة والكتابة,وعندما قبلت بالأمر الواقع اعتمادا على من كانوا يرون أننا نعيش في أحسن العوالم الممكنة 133)..كما انه يقدم وصفا لأسباب هذا الخوف الذي استولى على العراقيين وبالتالي عليه..و مدى احتقاره لهؤلاء الذين يحمون هكذا دولة ونظام..( أنهم مجرد حثالات-مكبوتة جنسيا-يمتلكون قدرا من السلطة- 136)..لكن مع هذا يتحول الخوف إلى مرض عضوي في النهاية..( لم يكن هذا الحادث فريدا من نوعه,كل يوم,تقريبا يحدث شيء يؤكد هذا الخوف ويجعله يتحول إلى جزء عضوي من الجسد,يشتبك مع اللحم والعظم والأعصاب لقد توقفت عن جولاتي الليلية,وملأت الثلاجة بالأطعمة- فقد استولى علي هوس اكتناز الأطعمة حتى لا اضطر للخروج ليلا لتناول العشاء-138)..أنها سياسية مبرمجة ومدروسة,جرعات من الخوف إلى

70

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أن يتحول إلى كائن خرافي لا يقهر,مارستها السلطة العراقية في ذلك الوقت ضد الشعب العراقي بقدر كبير من الذكاء والخبث..وفي هذا المقطع ينقل لنا هلسا, مشهد سريالي آخر لم يحدث في أي بلد من بلدان العالم الواسع..انه مشهد صبغ سيقان الفتيات..( أما بالنسبة إلى المرأة فلقد كانت المسألة تثير الفزع حقا,فلم يتوقف إلا منذ وقت قريب ذلك المشهد الذي ينقلك إلى جو الكوابيس,مشهد رجال الشرطة يحملون جرادل مملئة بالصبغة السوداء,والفرشايات,يستوقفون النساء اللواتي يرتدين ملابس قصيرة,ويدهنون سيقانهن بالصبغة السوداء,تكون المرأة واقفة تطالع إحدى الفاترينات,فتفاجأ بالشرطي ينحني على ساقيها ليباشر تلك المهنة الغريبة:إحدى النساء جعلتها المفاجأة تقفز من الرصيف إلى الشارع,صدمتها سيارة مسرعة فماتت على الفور,وأخريات كن يصبن بحالة هستيرية ينقلن على أثرها إلى المستشفى,وأحداث أخرى اشد غرابة,فكل رجل يسير مع امرأة في الشارع معرض لاستجوابات رجال الأمن,الذين يقودونه إلى اقرب قسم للشرطة,وهناك يطالبونه أن يثبت أن صلة عائلية تربطه بالفتاة,وحين يعجز عن إثبات تلك الصلة ينال الاثنان نصيبهما الوافر من الضرب والاهانات,وتستدعي عائلة الفتاة لاستلامها.أما الشاب فيحلقون شعره,ويضعونه في سيارة مكشوفة, تسير في الشوارع ببطء وخلال ذلك يتناوب رجال الشرطة ضربه وتوجيه الاهانات له-138)…بعد أن ابتلع العراقيون جرعات الخوف بدون مقاومة, واستسلام منقطع النظير اقرب إلى الجبن الصريح,اكتملت أعود المصيدة وأطبقت عليهم بسهولة..تفرغ ألبعثي العراقي إلى الشيوعي العراقي,وأصبح الإفلات من

71

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه المصيدة شيء أشبه بالمستحيل..( بعد فترة قصيرة تقوم قوات الأمن باعتقال عضو الحزب الشيوعي المستعصي,وتمارس معه أنواعا من الحوارات,يقف على رأسها الحوار الجنسي,يتم هذا الحوار على النحو التالي:الاغتصاب الجنسي للرجال والنساء(من أين لأجهزة الأمن هذا العدد الكبير من الشاذين جنسيا والساديين؟ سؤال مشروع أليس كذلك؟) إرغام الشيوعي أو الشيوعية على الجلوس فوق زجاجة مهشمة العنق,وإدخالها كاملة في المؤخرة.الزجاجة المستعملة هي زجاجة بيبسي كولا,وهي ليست كبيرة الحجم( هل يعني اللجوء إلى الزجاجة أن أجهزة الأمن تعاني نقصا في عدد الشاذين جنسيا) لا.لان الزجاجة كانت تتحول إلى كائن آخر,شرير,ومشبع بالرعب- 161)

لم يكتفي غالب بنقل ما يحدث في جانب الحكومة والعاملين معها ولها,بل انه ينقل لنا ما يحدث في الجانب الآخر..الحزب الشيوعي العراقي,الذي تشرذم بدون مقاومة,وإبدائه الاستعداد المازوخي في تقبل الإبادة الجماعية التي مورست ضده, كيف كان الانهزاميون فيه يروجون بسذاجة وبلاهة تقربهم إلى صفوف تلامذة المدارس وليس إلى مستوى سياسيين يريدون قيادة البلد..عندما روجوا إلى أن السيد النائب(صدام حسين) يمثل التيار المتنور واليساري في صفوف حزب البعث القومي صاحب التجربة الدموية لعام 1963..( هناك صراع داخل السلطة بين مجموعة يسارية وأخرى يمينية,المجموعة الأولى يقودها ويجسد أهدافها السيد النائب,أما المجموعة اليمينية فتدور في فلك رئيس الجمهورية,ثم يصبحون بالغي

الرقة عندما يخبرونك عن طبيعة المجموعة اليسارية داخل السلطة( ما الداعي

72

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للالتفات حول الأمور الواضحة؟هذه المجموعة تمثل اتجاها ماركسيا لينينيا بالتحديد!) ويرى نائب رئيس الجمهورية ( يطلقون عليه تحببا اسم السيد النائب) أن سياسة الحوار هذه موجهة ضده بشكل أساسي. وهو يعمل بدهاء شديد لتغليب الاتجاه اليساري داخل الحزب الحاكم على الاتجاه اليميني,وانه سيتقدم في اللحظة المناسبة,ويضرب ضربته,رافعا راية الماركسية اللينينية.السيد النائب يعلن بصراحة ووضوح انه لا أساس لكل هذه التحليلات وان الحوار هو مشروعه وان كل ما يتم هو بأمره وتحت إشرافه,وقد تحدث مطولا عن هذا,وطلب من المحللين الحالمين ألا تستغرقهم أحلامهم.( دا تشوف؟ السيد النائب يناور-162)….( وأي شيء لم نكن نراه على شاشة التلفزيون.النائب يزور البيوت ويسال الناس عن مشاكلهم.ويأمر بتجديد الأثاث التالف,ويتبرع بمهر المقبلين على الزواج,ويزور معسكرات الطلبة,ويداعب شعر الفتيات ويمازحهن,ويبتسم,ويبتسم,ويبتسم, ويقهقه أحيانا,و تهتز كتفاه ,وفي أحيان أخرى بضحك مكتوم.لقد أصبح السيد النائب هو الممثل الرئيسي في التلفزيون.ها هي جماهير غفيرة تتزاحم حوله)…

( على شاشة التلفزيون كنا نرى النائب في كل مكان,وفي كل الأوقات.باستثناء الأماكن التي نوجد فيها,ولكننا نحلم ونأمل أن يزورنا في بيوتنا ويجدد أثاثنا التالف.كل شيء بدا باعثا على الاطمئنان,هو انحراف مؤقت,وسوف تتعدل الأمور سريعا.ولكننا فوجئنا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي يصدر بيانا داخليا( بعد موجة رهيبة وواسعة من الإعدامات والتصفيات والاعتقالات) كان البيان موجها إلى أعضاء الحزب يقول فيه:من استطاع الهرب منكم فليهرب.

73

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ومن أمكنه الاختفاء فليفعل,أن المجموعة اليمينية هي قيادة الحزب الحاكم كلها.

وليس مجرد جماعة صغيرة تلتف حول رئيس الجمهورية-163).

من أجواء السياسة الدامية,ينتقل بسلاسة إلى تفاصيل الحياة العراقية..التي اثبت لنا انه لم يستطع سبر غورها,وبقيت بالنسبة له لغز يحتاج ربما لعمر آخر يعيشه في بغداد,للوصول إلى قاعها البعيد..( حديثها-لم لا أقول ثرثرتها؟-قادني إلى حياة بغداد الداخلية.كان لها أسلوبها الخاص في الحديث,أسلوب تلقائي,طلق,تستطيع في عبارات قصيرة محايدة,خالية من الخلفيات والشروح.وكأنها تفترض فيّ معرفة كلية بموضوع حديثا,أن تخرج الشخصيات من نطاق المجتمع العراقي المجهول لدي,والغامض,إلى دائرة البشر,ذوي الدوافع والعلاقات والأهداف المفهومة,كانت تدع لي وضع خلفيات الموقف,فكنت استعير خلفيات أردنية ومصرية,هنا يبدو لي المجتمع العراقي أليفا.كانت سهام بأحاديثها هي الحبل السري الذي يربطني بمجتمع منطو على ذاته,وكان مجرد سؤالي عن بعض الخلفيات والتفاصيل يربكها,ويجعلها ترسم صورة لمجتمع غير مفهوم وشديد الغرابة,فكانت تهرب من هذا الإرباك بالجنس-166). أن بغداد قد استنفذت كل دهشته وغرابته..امتصته وهي تطلب منه المزيد من الدهشة,والصبر لاستيعاب غرائبية هذه المدينة..ورغم أنني لم اعد اندهش لشيء في هذه المدينة-216)

كانت عصية على الغريب,واعتقد بأنها ما تزال كذلك,فقط من نشاء فيها وترعرع يبدو منجذبا أليها بحب غريب فيه الكثير من القسوة!..حتى الآخرون من أبناء العراق,كانت بغداد تصدمهم وتصدهم وتدفعهم إلى كراهيتها حينما يهاجرون

74

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أليها,وربما تلفظهم ويبقون فيها غرباء..كما حدث إبان الهجرات السكانية الكثيفة لأبناء الجنوب العراقي نحوها,بدا من عام 1958 ولحد ألان,حيث تجمع هؤلاء بالملايين وشكلوا طوقا بشريا هائلا حولها,وأحياء مليونية على أطرافها..ألا أنهم بقوا بعيدا عن قلبها الذي ظل يرفضهم.

للمرأة العراقية بنظر غالب هلسا ثلاث وجوه..وهنا يندمج الجغرافي بالإنساني.. بغداد والمرأة..( ومن خلال سهام تعلمت أن ابحث عن وجوه المرأة العراقية الثلاث.الوجه الأول,أن أراها داخل إطارها الاجتماعي المتخلف,وهي في حالة خضوعها له,وقبولها به,أو تظاهرها بالقبول,وهو الوجه القبيح,الذي عرفت سهام في البداية من خلاله,بدت لي فتاة سمينة,عصابية,ثقيلة الظل,تتحاشى مجتمع الرجال,وتعيش في رعب دائم منهم,كنت أراها وهي تنتقل داخل حجرة الفتيات تسير محنية الرأس,تدب بقدمين متباعدتين وكأنها حبلى,والوجه عابس كأنه لا يعرف الابتسام.عبر هذا الوجه…تبدو ثقيلة الحركة,مفتقدة للرشاقة ولوح الأنثى,

وإذا حدثها رجل,فتتلخص ردود فعلها في حماية جسدها:تنحني لتخفي نهديها ولذلك يندر أن ترى الفتاة العراقية تسير منتصبة القامة,يرعبها أن يبد نهداها مشرعين للعيون.أن نظرات الرجال وأحاديثهم تتحول عندها إلى نوع من الملامسة,بل محاولة اغتصاب.وعندما تتعمق هذا المظهر تجد وراءه رغبة الفتاة أن يستباح جسدها.أن الخلوة بالنسبة لها,مع رجل تعني منحه جسدها,ما فعلته سهام في نفس اللحظة التي أغلقت فيها الباب الخارجي.الوجه الثاني,هو الذي ينكشف أمامك حين تشعر المرأة بغياب الرجل العراقي,هنا تحس أن الفتاة تعيش

75

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حالة انتعاش,حالة يقظة وكأنها تستيقظ من خدر كان يلازمها,تنفتح روحها أمامك فتجد ذلك المزيج من خفة الظل,والذكاء والمرح,ترافق ذلك جراءة غريبة لا تتوقعها وتصبح الفتاة مستعدة لكل شيء,دون خوف,ودون شعور بالذنب,…….

الوجه الثالث,هو وجه الفتاة المتمردة على وضعها الذليل,والتي تملك القدرة أن تعلن تمردها أمام الجميع,وتجعل الضر وف الاجتماعية تخضع لشروطها,أنها التجاوز-167,168,169).

وأخيرا,أراد..ربما..غالب هلسا أن يصف لحظة دموية ومروعة في تاريخ بغداد..

المدينة..بعد أن انفرد الحزب الحاكم بالسلطة والمصيدة ( لم تكن غيوما تلك التي حجبت نور الشمس,بل لون اسود,كان مجرد لون اسود,انبثق من قلب النخيل الذي يشكل الجزء الأرضي من الأفق,واخذ ينتشر في السماء بسرعة مخيفة,

زحف السواد من كل جزء من محيط دائرة الأفق إلى المركز,احتجبت الشمس,

بعد دقيقة أو أكثر قليلا هبطت على المدينة ظلمة ككابوس خانق,كثيفة عدوانية,

شاملة,لا وجود لضوء من أي نوع في قلبها,عجزت حتى عن رؤية يدي, ظلمة كانت كالعمى المفاجئ218).

هل كانت فعلا( كالعمى المفاجئ) أم..كالعمى التدريجي؟!

 

 

 

 

76

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حنان الشيخ..

أن رواية اللبنانية حنان الشيخ..( أنها لندن يا عزيزي),الصادرة عن دار الآداب

بيروت,والتي تقع من 408 صفحة من القطع المتوسط..عمل جميل جدا..متناغم بالرغم من الانتقادات التي وجهت أليه من هنا وهناك.وأهمية هذا العمل تكمن في أن مؤلفته الروائية اللبنانية المميزة,حنان الشيخ.والتي انتشرت في الغرب أكثر بكثير من انتشارها العربي,وحققت ما لم يحققه الكثير من الأدباء العرب.

وإذا أردنا اختصار العمل في كلمة أو جملة,فلا يمكن أن يكون غير العنوان التالي(أزمة الحرية)..التي يعاني منها العرب المهاجرون إلى دول الغرب الأوربية.وما يهمنا طبعا هو كون البطلة الرئيسية في هذا العمل هي العراقية (لميس)..التي تلقي بظلها الخفيف على العمل كله.تلك العراقية القادمة من وطن ممزق,لا يملك حتى مقومات الوجود الأساسية التي يحتاجها أي وطن!

تبدأ أحداث الرواية داخل طائرة عائدة من دبي إلى لندن..وهنا تصور لنا الشيخ بطلتها –لميس- ومدى الهلع الذي امتلكها بسبب فقدان جواز سفرها البريطاني,وتصور لنا أهميته القصوى بالنسبة لها..( داخل لميس يغلي من الرعب..جواز سفرها الغالي ما زال مفقودا رغم أن المضيفة أعلنت فقدانه أكثر من مرة.بعد لحظات عاد نيكولاس يسلم لميس جواز سفرها بعد أن لمحه على الأرض تحت المقعد قبالته.تشكره وكأنه قد أعاد أليها حياتها-7). أن جواز سفرها ليس عراقيا,فالمعروف أن العراقيين ما أن يصلوا إلى ارض المهجر,حتى يمزقوا رمز الهوية- جواز السفر- حتى يتسنى لهم البقاء في دول المنافي..

77

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وما أكثر الجوازات والهويات الممزقة والمرمية في دورات المياه في تلك الدول!

ليس هذا وحسب,فالعراقية هنا تكن كل الحب والتقدير والعرفان لوطنها الجديد(بريطانيا)..يدل بوضوح مدى التنافر الذي يصل إلى حد الرعب بينها وبين وطنها القديم(العراق)…(فتبكي أكثر إلى أن تتوقف فجاءه وتنهض وكأنها انتهت من واجب ما.تخر على الأرض تريد أن تقبلها,كما أضمرت أن تفعل ما أن تصل إلى لندن,تماما كما يفعل العائدون المبعدون عن بيوتهم وعن بلادهم قسرا-15).

تبدو لميس في البداية خارجة للتو من محنة طلاقها..شخصية قلقة ومترددة,غير قادرة على اتخاذ قرار حاسم بشان مستقبلها..حياتها ما بعد الطلاق..أزمة الحرية الهابطة عليها فجاءه,الخارجة توا من أجواء البيت العراقي الحميم,الكثيف بتفاصيله,الحاد بحدوده,المقيد للحرية..انه السجن الذي حبست فيه لميس بمجرد قدومها إلى لندن للزواج من رجل عراقي ميسور الحال,ولمدة 13 سنة. وكانت حماتها هي حارسة بوابة بيت الزوجية والتي تقض مضجعها وخيالها لا يفارق لميس حتى بعد الطلاق!..هذا الموروث الثقيل يجعلها غير قادرة على التعامل الناضج والمفيد للحرية التي فتحت لها ذراعيها.فقد اعتادت لميس على الاتكالية,وهي صفة تكاد تكون ملازمة ومن مقومات الشخصية العراقية النسوية.

فالمرأة العراقية,يكون هاجسها الأول والأخير,هو البحث المحموم والهستيري عن ظل رجل تستند عليه-أب أو أخ أو زوج أو ابن)..وهي تجسد بشكل رائع المثل الشعبي المصري المعبر(ظل راجل ولا ظل حيطة!)..فبالرغم من طلاقها وبالرغم من أنها تعيش في مدينة تتنفس الحرية مع الهواء..وكون أن طلاقها

78

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ناتج عن رغبة منها..ألا أنها تظل قاصرة وتعاملها غير ناضج مع الحرية الهابطة عليها,ربما يكون من خلال الكبت الطويل الذي عاناه العراقيين عموما وخصوصا منهم النساء وحرمانهم من الحرية وكيفية التعامل الناضج معها..( تهرع إلى التلفون,تدير رقم بلقيس وتتوقف عن أدارة الرقم الأخير..ألا تزال بلقيس صديقة لها؟ أصدقاء الزوجين المطلقين يصبحون ككرة قدم لا تعرف في أي شباك فريق سوف تدخل وترسو.عليها أن تتصل بزوجها مباشرة لتخبره أنها ستعود إلى البيت..تدير رقم هاتفه النقال,ثم تتوقف قبل الضغط على الرقم الأخير-20). أنها تحاول أن تجلد ذاتها وتؤنبها على حريتها التي لا تعرف استغلالها, علما أن جلد الذات وتأنيبها ارث عراقي مميز منذ مقتل الأمام الحسين..( تذّكر نفسها بوجه حماتها المؤنب,المنتقد,وجملتها التي كانت لا تثير في نفس لميس سوى الصراخ”لا تكثري من المشاوير,لديك واجبات زوجية في الليل”-20).

تدرك تماما أن الماضي بكل أطيافه وعلاقاته وجذوره الضاربة عمقا في تكوينها النفسي,يكبلها ويبعد عنها ذراع الحرية التي تحلم بها..( لكن لميس تشعر أن تحقيق هذا الخاطر كبعد الشمس عن الأرض.بعد نيلها الطلاق لم تركض في البارك حافية ,لم تصح”أنا حرة,أنا حرة” كما كانت تعد نفسها,بل جلست في غرفة الفندق تواجه قنينة شمبانيا في السطل,تراقب الثلج وهو يذوب,ووجها على يدها,تفكر في صديق والدها الذي قبض عليه في مطار أثينا بسبب قطعة حشيش وحين أفرج عنه بعد أشهر تحسر على روتين السجن والجلوس مع احد المساجين تحت شجرة التين يلعبان الشطرنج-21).ليس هذا فحسب,فهناك نقطة ضعف

79

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كبيرة..ابنها!..الذي تركته في رعاية أبيه,ومن خلال هذه النقطة,يحاول أصدقائها وأقربائها,وخصوصا أمها,النفوذ من خلالها إلى عقلها ودفعها للعودة عن قرارها بشان الطلاق وبالتالي امتلاك حريتها..فالمرأة العراقية قدرها دائما أن تكون خاضعة لمزاجية الزوج,وعملية الزواج في العراق تتم في الأغلب الأعم على طريقة اختيار البطيخ الأحمر!..بمعنى أنت وحظك!..أما أن تكون حمراء وحلوة..أو تالفة!..وعندها لا تجد المرأة مهما تلفتت طلبا للنجدة,من اؤلئك الذين كانوا متحمسين لزواجها,سوى كلمة واحدة قدرية تتردد على جميع الألسن…

قسمة!

ها هي لميس تتلقى عبر خطوط الهاتف,صوت أمها وهي تحاول خلخلة وضعها النفسي,والضغط على نقطة ضعفها..( وماذا عن خالد,هل أنت بلا قلب؟.. أم انك نسيت انه كان يعيش في بطنك؟..على كل..كان عليك أن تحولي حياته إلى جحيم حتى يستجيرك ويطلب هو الطلاق..أو..تجعليه يقع في حب سواك,حتى لو وجدت له امرأة بنفسك.لماذا لا تلعبين الألاعيب هل تعرفين,يا بلهاء أن طلبك الطلاق قد سحب من بين يديك رغيف الخبز نفسه؟كأنك رميت كل أملاكه:البنايتين في لبنان,والشقتين في لندن,وكل الثراء في البالوعة.لكن اسمعيني جيدا.أنت الآن تملكين جواز سفر بريطانيا,هذا سيخولك أقامة دعوى عليه لدى المحاكم والمطالبة بنصف ثروته..ونيل حضانة ابنك-22).

ذكرياتها في العراق..زوجها..ابنها..أمها..حماتها..كل هؤلاء يشدون بها إلى الوراء..لكن ماذا عن الجانب الآخر..المجتمع البريطاني,هل كان فاتحا لها

80

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذراعيه,أم انه اكتفى بتوفير حرية اتخاذ قرار الحرية التي اتخذته لها؟.. ليس هذا فحسب,فها هي تشعر بالدونية وتشعر بالنقص لأنها لا تنتمي إلى العرق البريطاني بالرغم من حصولها على أوراق ثبوتية تعلن ذلك!..تلاحقها النظرة المسبقة السلبية التي يحملها البريطانيون اتجاه عموم المجتمعات الشرقية,والمرأة فيها بشكل خاص,وهي نظرة سلبية بالكامل. فها هي تتحدث عن معلمة ابنها البريطانية..( لكن المعلمة لم تمنحني فرصة واحدة لأظهر إني عكس ما كانت تتصورني:طفيلية,كسولة كالباقيات-23)..تقوم لميس بجرده حساب بسيطة,بعد سنين طويلة من العيش في لندن,تكتشف فحاءه,كم هي معزولة,أو منعزلة,عن مجتمعها البريطاني الجديد..,تصرخ..( من.من؟ هل معقول أننا لا نعرف انكليزا غير الأطباء؟-27)..وهذه مشكلة كبيرة تضع الكثير من الجاليات العربية عموما والعراقية منها,نفسها فيها في مجتمعاتهم الجديدة..أنهم يعملون مع بعضهم البعض,يجلسون في نفس المقاهي,يأكلون في نفس المطاعم ونفس الأكلات الشرقية,يقرؤون الصحف العربية ويشاهدون الفضائيات العربية..أطبائهم..

حلاقيهم..زيجاتهم..يتخاصمون بالعربية ويمارسون الجنس بنفس العقلية!.. لهذا نجد أن الكثيرون منهم بالرغم من عيشهم الطويل في بلدان الغربة,لا يستطيعون التأقلم معها أو على الأقل احترام طريقة عيش أهل البلد!..يعزلون أنفسهم في غيتوات خاصة بهم,يتجاهلون نداءات الطرف الآخر بالاندماج,بل يعتبرون تلك الدعوات( مؤامرات) لتذويب هويتهم الأصلية..وإذا سالت احدهم عن سبب هجرته أصلا أذا كان متمسكا لهذه الدرجة بهويته ولا يريد التفريط بها؟.. يحير

81

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجواب ويبدأ بالمراوغة..لكن لميس على العكس من ذلك,فهي كانت قد كفرت بمجتمعها القديم,راغبة غي الاندماج,لكنها تواجه مشكلة من نوع آخر..أو مشاكل

( الأطباء الانكليز هم وحدهم الذين تحتك أجسامنا بهم,وتكّون علاقة خاصة بيننا وبينهم-28)..لميس لا تيأس,تحاول نبش الذاكرة,فتجد فيها رغبة قديمة تواقة للانطلاق في عوالم أكثر رحابة من تلك التي عاشتها..( كان امتعاضها من حياتها يزداد كلما أخذت ذبذبات من عوالم أخرى تختارها وتلازمها,وهي عائدة من حضور الأفلام والأوبرا والمسرح,لتستأنس وان ببقية التذكرة المطمورة في جيب الجاكت أو شنطة يدها.هذه النشاطات كانت تجعلها تتحمل وجود حماتها وأصدقاء زوجها ورائحة السيكار ووقع ورق اللعب على الطاولة وبقايا الطعام أينما كان-30)..لكن الماضي يظل يخيفها بظلاله وشخوصه..( لم تجرؤ على الخروج من الشقة,فحماتها وزوجها السابق أغلقا باب لندن في وجهها-35).

ولمحاولة فهم شخصية البطلة العراقية المتذبذبة..نقرأ هذا الحوار البليغ بينها وبين المعلمة الانكليزية التي قصدتها لإتقان اللهجة الانكليزية..( – إذن,تريدين إتقان اللهجة الانكليزية.

– نعم.

– هل لي أن اسلك عن السبب؟

– أريد أن أعيش في لندن.

– متى قدمت؟

– منذ ثلاثة عشر عاما.لم أكن اشعر إني أعيش في لندن.كنت في بيئة عربية

82

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

صرفة.

…………….

– لذلك أريد أن اعرف لماذا بعد 13 سنة قررت فجاءه اكتساب لهجة انكليزية صرفة؟ ولماذا اخترت انكلترا لتعيشي فيها,لا أي بلد آخر؟

– جئت إلى لندن لأتزوج من عراقي كان يعيش هنا,وأنا الآن مطلقة,ولي ولد منه.لقد قررت أن اندمج في هذا المجتمع وأصبح واحدة منه.اعتقد أن إجادتي للهجة انكليزية صرفة سوف تساعدني على ذلك.

– بمعنى آخر,لقد اتخذت انكلترا كبلد ثان لك.

– لا.كبلد أول,لقد تركت العراق وأنا في الثانية عشر من عمري.ولا اعتقد أني سأعود إلى العيش فيه-81)

أنها راغبة في الاندماج..لكن هل الرغبة وحدها كافية للقضاء على كل ما تحمله من خوف وعدم ثقة بالنفس وشعورها بالضآلة لتحقيق ذلك..( في النجف كان التلصص ضروريا عبر فتحات النوافذ المغلقة,ولذلك كانت طاقة الحمام عالية.كان التلصص في الاحتفالات الدينية يبلغ ذروته..عبر مناديل النساء السوداء,وعبر الدماء التي تملأ وجوه الشباب وهم يضربون بالسيوف رؤوسهم منادين:”حيدر,حيدر,حيدر,العباس,العباس”هل يخطر لهذه المرأة الأجنبية,التي ترتب ملابس طفلها الآن,أن هناك مدينة اسمها النجف؟-83)..هناك في تلك المدن التي تجهل الأجنبية أسمائها..هناك حيث المرأة لا قيمة لها..سلعة..هدف دائمي للمتعة..آلة أنجاب,وذبيحة على محراب الشرف الرفيع!

83

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان عليها أن تتخلص من كل هذا الإرث الدموي والثقيل..وهي التي اعتقدت أنها بمجرد طلاقها ستحصل على الحرية وما يترتب عليها من أحلام جميلة!

الماضي يحاول أن يوصد أبواب لندن أمامها ,ممثلا بزوجها وأمه..حتى بلقيس صديقتها,تحاول أن تعود بها إلى الماضي,الذي كرهته وتركته طوعا.فبلقيس لا تتخيل أن تعيش صديقتها لميس وحيدة في هذه المدينة الكبيرة,بدون رجل!فهذا شيء مرعب بكل القياسات العراقية..( وكانت بلقيس كالأخريات,دجاجة تنقر الأرض وهي تولول”حرام أن تطلقي حرام-88)..( كيف يهون على بلقيس انتظاري 45 دقيقة.أنها غاية في الوفاء,كريمة.هذا كل ما في الأمر,وأنا علي أن اخجل من تصرفي,علي أن أتقدم وأعانقها .لكن ها أنا اهرب.أنا خائفة من إني إذا نظرت إلى بلقيس رأيت زوجها يختبئ خلف تسريحة شعرها يؤنبها لأنها ما زالت تتحدث معي-89). كيف تقيم لميس زوجها؟..العراقي الذي يعيش في لندن,

المهاجر أو المنفي..أو الهارب..لا نعرف!..كل الذي يمكن جمعه من معلومات حوله,يتلخص في كلمة واحدة..التفاهة!..( لقد جربت كل شيء..وجمعت ثروة وها أنا في الخمسين من عمري..لم يعد هناك شيء افعله سوى امتهاني السياسة-89).

أما هي فقد اتخذت قرارها وأصرت عليه..الفراق,لهذا تبدو الآن أنها مستعدة لتحمل كل النتائج المترتبة على هذا القرار الخطير!..( تخرج لميس خفيفة.زال عنها تماما تأنيب الضمير إزاء بلقيس,لن تعود إلى حياتها الأولى ولو للحظة واحدة,تفرح لأنها مطلقة..تدخل المكتبة-93).

أن المؤلفة,حنان الشيخ,لم تشأ أن تترك بطلتها العراقية-لميس- في المتاهة كثيرا

84

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وراحت تنسج لها بكثير من العناية والتروي..قصة حب..مع الجانب الذي تتوق لميس أليه والذوبان فيه.انه المجتمع البريطاني,ومع رجل انكليزي..نيقولاس..

وحتى لا تبقى علاقتها بالانكليز محصورة فقط على الأطباء!..أن نيقولاس,تاجر وخبير تحف شرقية,العربية منها خصوصا,يعمل مع شريك من سلطنة عمان..( حيث كان نيقولاس يقود السيارة,راقبت لميس نفسها باستغراب متسائلة,كيف في لحظات معدودة انزاح عنها ضياعها ووحدتها؟..يبدو كل شيء بعيدا وغير مهم الطلاق,الصناديق المكومة في الشقة,اللهجة الانكليزية,الشقة المهجورة,البحث عن عمل,كأن كل ما أرادته هو رجل,يقبلها كما قبلها نيقولاس في ليل لندن-96)

تمتزج لندن المدينة بشخصية نيقولاس..يصبحان معنا واحدا في حياة لميس..( كانت لندن بعد السينما تنتظر أشارة من لميس حتى تفك أزرار فستانها وتقف أمامها عارية,ولميس تنتظر أشارة من نيقولاس حتى تفك سحاب بنطلونها وتقف أمامه عارية,الأشجار والبيوت والبنايات تصبح فجاءة لندن,هي مع انكليزي وكل ما حولها أليف ومصدر طمأنينة-142). تساعدها هذه العلاقة على تفكيك خيوط حياتها الماضية المعقدة,وتبدأ تنظر إلى الحياة والأمور المتعلقة بها من منظار جديد مدهش..( لقد أجبرت على الزواج من رجل بضعف عمري-147).. ليس على المستوى الشخصي فقط,بل حتى بما يتعلق بذاك الوطن البعيد الغامض المخيف الذي كان..( إذ العودة إلى العراق بدت مستحيلة,كالعودة إلى الموت نفسه-148)..بل مع كل ما هو عراقي..( تمر على العراقيين بنظرة فقط, تماما كما يفعل السائحون والانكليز قبل أن تحط أنظارهم على شيء آخر..كأنها لم تكن

85

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منهم-177)..كما يتشكل لديها وعي سياسي آخر,فهي لم تعد كما في السابق تكتفي بإلقاء نظرة على الحياة بدون أن تشارك فيها..لقد أزاحت علاقتها الجديدة بالانكليزي الكثير من الضباب الذي كان يغلف عقلها وروحها..تعود بها الذكريات إلى حياتها الزوجية,وتكتشف الآن كم هو تافه هذا الزواج وهذا الزوج,

كما تقر أيضا وضمنا بتفاهة المشهد السياسي العراقي المعارض في لندن..( كان صالون بيت لميس يتحول كل صباح إلى مركز لاستقبال الرجال,حيث تدار عليهم علب السكائر من خمسين صنفا,وهم يسبحون بمسابحهم التي كانت تصدر عنها طقطقة كضحكاتهم,يعيدون ما كتبته الجرائد عن الأخبار العراقية وقصص صدام حسين وأخبار الحركات السياسية,زوجها يبدو في أفضل بذلة,وأفضل كرفات,يجلس فوق الكنبة الوثيرة فيغوص فيها,ساعة معصمه تلمع كالتماع بعض أسنان الزائرين الذهبية,يجلسون جميعا ولسانهم هو المقارنة..( هذا مليونير ,هذا كان مليونير,هذا ابن وزير سابق,هذه عائلة السفراء,هم أبناء العائلات العريقة,هم أبناء العائلات الثرية,يريدون سحب العراق من صدام حسين-179).

حتى علاقتها بأمها خضعت للمراجعة,والتي كانت تقول لها..( كانت أمها توصيها”على زوجك أن يرى الفراش أمامه كلما رآك-197)..أنها لم تعد ببساطة ذاك الفراش البليد المغري!. لكن حنان الشيخ لم تترك لميس بهدوء لذيذ مستسلمة لهذه العلاقة الجميلة الطارئة على حياتها,فهي تنقل لنا بذكاء,صدام ثقافتين.. شرق وغرب..فأحيانا النيات الطيبة وحدها لا تكفي لبناء حوار ناضج وموحد بين النقيضين,وهذا ما تكتشفه لميس,حتى بعد أن قطعت شوطا كبيرا باتجاه الآخر

86

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأوربي..( اخذ أصدقاء نيقولاس ومعارفه في القدوم,تشعر بأنها تدب على الأرض بدلا من أن تسير,تصدر منها أصوات كالأطفال..تستجمع حضورها. تصاب بالفشل,أحاديثهم تدور في فلك لا تعرفه..فلك انكليزي محض,لا تستطيع أن تجامل به أو تنافق أو تخترع.يدور حول السياسة المحلية والقوانين……وجدت نفسها تلوم نيقولاس. كانت كدودة القز التي غزلت شرنقتها بكل تأن وسعادة,تعد نفسها للطيران,لكن نيقولاس أخرجها قبل أوانها-224)….(وجدت نفسها تتمنى فجاءة لو أنها أوربية-232). لكن رحلتها التي بدأتها بقرار شجاع لا مجال فيه للتراجع أو العودة,حتى بعد اختفاء نيقولاس,لم تتوقف وقررت أن تعيش في لندن!..( رأت نفسها تجمع كل شجاعتها وتدخل دكان بيع الأزهار وتسال عن وظيفة-395)..( ما كان يهم لميس هو الشعور بالانتماء إلى انكلترا,وبعده سياسة من تنتخبه-390).

مرة أخرى صورة العراقي أو العراقية في المنفى..يبدو أنها صورة أثيرة لدى الكتاب العرب عن العراقيين!..لكن لميس في النهاية لم تكن شخصية رومانسية أو خبيثة..أو معقدة..أنها ببساطة امرأة باحثة عن حريتها,وبالتالي سعادتها, تبدو خائفة ومترددة,لكنها تحمل قدرا كبيرا من الإصرار,يساعدها على انجاز ما أرادت هي وليس ما يقرره لها الآخرون,أو ليس ما تريده الذاكرة العراقية أن تراه!

 

 

87

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زهدي الداوودي..

أن ثنائية( أطول عام وزمن الهروب) هي للروائي العراقي الكردي,زهدي الداوودي.( أطول عام) طبعت عام 1994 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – أما (زمن الهروب) فالطبعة الأولى صدرت عام 1998 وأيضا عن نفس الدار.مجموع صفحات الروايتين,830 صفحة,وهو بكل القياسات عمل ضخم وجميل..وما جذبني لاختيار هذا العمل الضخم,أولا لان المؤلف كردي, ولابد باعتقادي أن من المهم التعرف على رأي الآخر-الكردي- المقيم معنا في نفس البلد أو لنسمها البقعة الجغرافية المسماة بالعراق!..فهذا البلد وكما لا يخفى على الكل,مبتلى بالحروب والكوارث وموعود بالتمزق العرقي والطائفي.والأكراد دائما يعتبرون أنفسهم خارج المعادلة العراقية-العربية, ويمكن تعريفهم ببساطة أذا جاز لي (أكراد يعيشون في العراق ويأملون بالانفصال!) ولا اعرف لماذا لم يتحقق حلمهم أو يحقق لهم بالانفصال؟..بل لعلهم لا يريدون ذلك بالفعل,فالحلم أجمل بكثير من تحويله إلى واقع!..واستكمالا لإنضاج صورة العراقي ونموذجها في الأدب العربي,اعتقد أن من المهم أيضا أن نأخذ مثالا من شركائنا في الوطن المفترض!..فمنذ مئات السنين ونحن نتجاور ونحمل نفس الهويات الشخصية ونتخرج من نفس الجامعات ونأكل في نفس المطاعم,ونعبد نفس الإله..نخضع لنفس القوانين..ونهرب إلى نفس المنافي,لكننا في النهاية عالمان منفصلان لم يعرفا الاندماج والانصهار..فالآمال مختلفة والآلام هي غيرها,وطرق تحقيق الأهداف مختلفة,ناهيك عن اللغة..شعبان مختلفان

88

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يجمعهما وطن واحد وحدوده واحدة!..هكذا شاء الانكليز والفرنسيين عندما اقتسموا تركة الإمبراطورية العثمانية(تركيا). وربما شاء الأمريكان في حال قيامهم بتقسيم جديد في المنطقة,وإعادة تنظيم أحجار الدومينو!

اعتقادي الشخصي أن الأكراد يسعون بكل ما يملكون من قوة للانفصال,لكن ينقصهم تنظيم أنفسهم وان طال الزمن. لهذا رأيت أن من المهم أن نأخذ نموذج(روائي) لكاتب كردي(عراقي),خصوصا وان الجزء الثاني من العمل (زمن الهروب) قد تم تدوين عبارة صغيرة على الكتاب لتعريفه وبخط صغير (رواية عربية)!..لا اعرف لماذا تم تدوين هذه العبارة ولا فكرة من كانت!..لكن من الواضح جدا أن الرواية لا علاقة لها بالعرب إطلاقا,صحيح أنها كتبت بالعربية,لكنها تتحدث عن شيء آخر غير العرب..أنها تتحدث عن شعب منسي,أو مدفوع بقوة نحو النسيان,على هذه الخارطة الهلامية التي يطلق عليها الوطن العربي..عن شعب ليس عربيا,متهم دائما بالتأمر والانفصالية والتحالف مع أعداء الأمة!..وهذه كما لا يخفى شعارات من بقايا التيار القومي الذي اجتاح العراق كما الكثير من الدول العربية..فعبارة(رواية عربية) الصغيرة الخجولة,أشبه بتعريف مضحك لكل من يفرغ من قراءتها.

الحقيقة إنها رواية جميلة تتحدث عن عادات وتقاليد وطريقة تفكير هؤلاء الناس وطرق عيشهم,والذين أقاموا عالمهم الخاص بهم,فيها الكثير من المفردات والأسماء والمناطق بما لا تمت إلى أي صلة بالعرب,سوى اشتراكهم معا في ديانة توحيدية كبرى هي الإسلام.هناك الكثير من الأدب الكردي,لكنه أما باللغة

89

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكردية التي لا أتقنها,وإما أنها لا ترتقي لما يسمى بالعمل الأدبي المتوازن..أما هذه الرواية الملحمية بجزأيها,فهي شيء آخر..جميل,سلس,ناضح بالحيوية, كما أنها تخلو من اللغة العنصرية الشوفينية وإنكار الآخر. بالرغم من المؤلف قد أنكر وجود الآخر العربي وأرادها رواية كردية خالصة وليست عراقية أو عربية كما في تلك العبارة الغريبة,لكن بلغة أدبية رفيعة تسمو فوق الحزازات العرقية.

الأكراد لم يمنحوا ولائهم لأي دولة أو سلطة,سواء كانوا تراك أو فرس أو انكليز أو عرب..والسلطة وان كانت تمثل لهم ولحد الآن,الغرباء الأعداء!..وهذا المقطع من الرواية يصف انعزالية الأكراد وخوفهم وعدائهم للآخر أي كان!..( بابا, ثلاثة فرسان غرباء يتجهون إلى القرية..اثنان منهم يرتديان ملابس الجند رمة “قال رمضان وقد ارتسمت على وجهه علائم الوجل”لا أهلا بهم ولا مرحبا,علق ميرزا منفعلا وهو يقوم من مكانه”لن نتخلص منهم حتى لو ذهبنا إلى آخر الدنيا”-18,أطول عام)..صحيح أن الحديث يدور هنا أثناء احتلال العثمانيين للعراق وبضمنة المناطق الكردية,لكن وبعد رحيل هؤلاء بأعوام طويلة وتبدل الكثير من الحكومات في العراق,بقي نفس الهاجس العدائي اتجاه الدولة( الغير كردية)ولم يتبدل.فالدولة ,أي كانت بالنسبة لهم,تريد أمولا لطعامها,ثم رجالا لحروبها..( قال الشيخ زوراب وهو يهبط السلم بخفة”أن وجود اليوزباشي معهم علامة سيئة,لا شك أنهم جاءوا يريدون رجالا-10,أطول عام)..وفي مكان آخر ( يا ملانا العزيز,أن أبواب وادي كفران مفتوحة للجميع,سواء أكانوا غجرا أو دراويش أم عابري سبيل أو أصدقاء وحتى أعدائنا إذا طلبوا منا الصفح والتجاؤا

90

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ألينا,فعلى الرحب والسعة,وأما أن الكلام ضد السلطان هو كفر والحاد وان الاحاجيين هم الزنادقة.فهذه كلها أمور لا تهمني أنا,أنهم كلهم بالنسبة لي سلطة ودولة,وإذا كنت تعتقد أن اليوزباشي يستطيع إقناعنا بوضعنا في خانة الاحاجيين,فأنت متوهم,أن السلطة هي السلطة وسنظل إلى الأبد على طرفي نقيض منها,أنها أذا أعفتنا فعلا هذه السنة من الضرائب فأنها ستعوضها في السنوات القادمة,وألا كيف تستطيع أن تعيش؟-349,أطول عام).

وبقيت لعبة القط والفار بين الأكراد والسلطة,مستمرة لحد يومنا هذا(وحتى بعد أن أصبح رئيس الجمهورية العراقية كرديا!)..

عندما دخل العراق في حرب مدمرة مع إيران أبان الثمانينات من العقد المنصرم

(اختفى) رجال كردستان ولم يخدموا مع وحدات الجيش العراقي,أسوة بالعرب من رجال العراق,بل كانوا ضمن أفواج شكلتها الدولة خصيصا لهم,لا يخرجون فيها من مناطقهم وقراهم ,وارتبطوا اسميا بالجيش العراقي,حفاظا على هيبة الدولة وتجنبا لتمردهم أذا ما ساقتهم فعلا إلى الحرب المشتعلة على الحدود!.. لقد استمروا في أخفاء(الأموال والرجال) عن أعين الدولة المركزية,التي كانوا ينظرون أليهم بازدراء وعدم اعتراف بها..وكان قانونهم هو..( يا بني مر على القرى ولا تستعجل،فبينهم وبيننا مسافة غير قصيرة,فقط النساء والأطفال يبقون أما الرجال وكل الأولاد الذين تجاوزا الرابعة عشر فيتركون القرى,ولا يرجع احد إلى القرية ألا بعد أن يسود الظلام,هل فهمت؟-85,أطول عام)..أن هذه الوصية الصادرة عن الشيخ زوراب,رأس العشيرة,بقيت سارية المفعول لحد

91

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآن,في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. أتيحت لي الفرصة بان أتوغل إلى أقاصي الأماكن الكردية,والتجوال فيها,ولم أكن أرى سوى(النساء والأطفال)

تماما كوصايا الشيخ زوراب الأزلية!..أن صلة الوصل التي تربط الأكراد بالعالم هي عبارة عن عنف متبادل وأزمة ثقة كبيرة,ولا وجود نهائيا لشيء اسمه الحوار في قاموسهم,وأخيرا الحروب الدموية التي فرضوها على الآخرين أو تلك التي فرضت عليهم..ومن ضمنها الحرب التي خاضها العراق العربي ضد العراق الكردي,ثم الكراهية التي تجاوزت حدود المعقول ووصلت إلى حد تمني إبادة الآخر كليا ونهائيا!..وما أحداث حلبجة التي تصدرت الأخبار في العالم كله لتكون بدون جذور أبدا. ( لكن عندما نشر اليوزباشي على الأرض الأوراق التي أخرجها من حقيبته,توقف زوراب عن التفكير واعتراه خوف,إذ أن أبراز أي ورقة يعني مصادرة رجال وأموال العشيرة:قال بلا أرادة منه محاولا بذلك تأجيل هذا الموضوع”جناب اليوزباشي”اعتقد أن الأكل جاهز فلنترك وجع الرأس هذا إلى ما بعد الأكل-14,أطول عام).

وطبيعي أن يحاول الأكراد أن ينفوا أي علاقة بالعرب,ويبقوا صلة الوصل الوحيدة بينهم,والتي تحضي باحترامهم,هو الدين..فالعرب هم الذين ادخلوا الدين الإسلامي إلى مجاهل الجبال الكردية ونشروه بينهم,وهؤلاء تلقفوه بدون مقاومة,

بل أصبحوا من اشد المتحمسين أليه,فاقترن اسم الأكراد بالتكايا الصوفية وحلقات الذكر النبوي والدراويش..( يأتي عدد كبير من الدراويش ذوي الشعور واللحى الطويلة ويبدؤن بضرب الدفوف والرقص على أنغامها بحركات منتظمة ما تلبث

92

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أن تتحول إلى هستيريا وجنون وهم يلوحون بسيوفهم وخناجرهم في الهواء ويرددون بصوت واحد ومتناغم”لا اله ألا الله,لا اله ألا الله”..وعندما كانت الحركات تشتد أكثر فأكثر يقفون في أماكنهم فجاءة ويبدؤون بهز رؤوسهم يمنة ويسرة وهم يرددون بسرعة”الله حي,الله حي”وبعد ذلك تبدأ المعجزات الخارقة:

الجلوس بمؤخرة عارية على صاج حام,ضرب البطون بالخناجر,مسك الجمر باليد ووضعه في الفم-56,أطول عام)..وبفعل تمسك الأكراد الشديد ببيئتهم الوعرة والمنعزلة طبيعيا عن بقية الحضارات المحيطة بهم,تولد لديهم نوع الأدب الأسطوري المحكي غير الموثق والذي يعتمد أساسا على المبالغات وعالم الغيبيات وإقصاء العلمية..بل أن الدين الإسلامي بالنسبة لهم كان الغطاء الذي احكم على أساطيرهم بغطاء محكم بعد أن نجحوا بنقلها إلى جسد الفلسفة الإسلامية..وأصبحت عاداتهم القديمة الوثنية ترتدي حلة أسلامية,وعلاقتهم بالعرب تتم عن طريق واحد,هم رجال الدين الذين يحظون عندهم باحترام شديد وخصوصا اؤلئك المنحدرين من أصول النبي.

فعندما هرب ثلاثة من الأكراد من الخدمة العسكرية الإلزامية تحت لواء      الجندرمة العثمانية ومن ضمنهم الشيخ زوراب-رئيس العشيرة-..التقوا بأحد هؤلاء الشيوخ أو الدراويش الذين يرتبطون بأصول عرقية مقدسة إلى النبي العربي محمد,قال لهم خليفته..( انتم الثلاثة يا أولادي قد أثبتم خلال فترة وجودكم بيننا بأنكم مخلصين فعلا.فقد استوحى الشيخ من جده الرسول صلى الله عليه وسلم, أنكم تخلون من أي غش,وإنكم بهروبكم من الجيش قد قمتم بعمل يخدم

93

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدين والضمير.لان هذه الدولة قائمة على الظلم والطغيان-65,أطول عام)

وهنا تلتقي مصلحتين..التمرد الكردي الطبيعي ضد السلطة والتقدير العالي للإسلام,الذي يبرر عدم جهادهم في الجيش والذي يرى في السلطة رمز الظلم والانحلال,ويدعو إلى العودة إلى الجذور النقية للإسلام الأول. والعرب يعتبرون أو غيرهم من الأقوام غير الكردية,أن الحل الأخير لمشكلة الأكراد هو خروجهم من تلك العزلة الطبيعية التي فرضتها عليهم الطبيعة والتي يعتبرها الأكراد مقدسة!..فعندما ضربت الكارثة,عائلة الشيخ زوراب رئيس عشيرة وادي كفران,

وتعرض ابنه الأثير(كريم) إلى عارض صحي لم تنفع معه طرق علاجهم البدائية..( استغرب شيخو من أن أخوه كريم لم يتحرك من مكانه,بل كان شاردا.

مأخوذا ينظر في الفراغ,ويحرك رأسه بين حين وآخر بحركة عصبية,فعرف انه مصاب بالصرع نتيجة ضربة من الجن-95,أطول عام)..وهنا بعد أن تأكد لهم أن مرض ابنهم كريم اكبر من أن تعالجه الطرق الكردية المتبعة منذ مئات السنين,

بدوا ينتظرون النجدة من الخارج,خارج محيطهم التقليدي..( لكن الغجر لم يأتوا بعد,ولا يمكن انتظارهم فهم سيظهرون على الأقل بعد ثلاثة أشهر,فاما أن يذهبوا إلى شيخ البر زنجية أو يذهبوا إلى السيد جواد حفيد النبي,ودار النقاش الحاد حول أفضلية هذا أو ذاك……ثم راحوا يقارنون بين كل من الشيخ البر زنجي والسيد العربي,فاجمع الكل بان السيد له خوارق ومعجزات…….الذي شوهد أكثر من مرة وهو يطير في أعالي السماء وعباءته ترفرف ورائه-98,أطول عام).

حاول الأكراد دائما,ولكي يثبتوا بأنهم قادرين على تكوين دولتهم الخاصة بهم

94

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقارنين أنفسهم بالشعوب المجاورة,رصد النواقص والتشهير بها,وبالتالي نسب كل ما هو جيد من خصال أليهم,شيء واحد لم يستطيعوا الالتفاف حوله هو نسب النبي العربي..هنا يتوقفون عن التشهير والمقارنة..( بارك السيد- المقصود هنا السيد العربي- زواج كل من رمضان وميرزا واستبشر لهما ولكل وادي كفران الخير والبركة,وسر أليهم انه رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يمتطي صهوة براقه الذي نشر جناحيه فوق وادي كفران,وراح السيد يغمض عينيه وهو يردد”فال حسن,فال حسن”وفي ذلك اليوم تحولت القرية إلى ساحة للفرح الحقيقي-137,أطول عام)..( وكان أن اقر السيد بان سبب عدم تلبية الدعوة هو انه أذا حضر هناك فينبغي عليه أن يقبل يد الشيخ كأي فرد آخر.ولكن بما انه حفيد النبي,فلا يجوز له تقبيل يد احد,وعندما قال له مردان,بان الشيخ حفيد الرسول نفي السيد ذلك وقال بسخرية:كلا يا مردان,الشيخ كردي,والحفيد لا يجوز ألا أن يكون عربيا هاشميا-193,زمن الهروب)..وطبعا كان الكثير من العرب يعرفون نقطة الضعف هذه في الدفاعات الكردية المحصنة,ويستغلونها لصالحهم واختراقهم سواء بالخرافات أو بالحقائق!..لكن هذا لا يمنح العربي الحق في استفزاز انعزاليتهم وشكوكهم المرضية بالآخرين.فبالرغم من أن حمل السلاح  مثلا,من مقومات الرجولة الناضجة في بلد عشائري قبلي مثل العراق بشقيه العربي والكردي..ألا أن العربي يرفض بلياقة مغلفة بهالة دينية دعوة كردية له بحمل السلاح,حتى ولو كان هذا العرض من قبل كبار رجالات العشيرة,ألا انه يفضل أن لا يخرج من أطار هذه الصورة التي تمثل العربي

95

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

غريب..فيبقى بلا سلاح أفضل له بكثير من حمله..( وحين أكد الحارس بان القادمين الثلاثة هم من عشيرة البابائيين,مدوا أيديهم بصورة لا إرادية إلى بنادقهم هارعين إلى خارج الخيمة للتأكد بأنفسهم من الأمر,وكان السيد هو الوحيد الذي لا يحمل السلاح في القرية,رغم أنهم عرضوا عليه بندقية,فرفضها شاكرا,وقائلا بان سلاحه هو إيمانه وان حفيد الرسول لا يجوز أن يحمل السلاح-211,أطول عام)..

عموما يبقى العراقي العربي في هذا العمل الروائي الطويل والجميل,هامشي تماما..غريب..مشكوك بوجوده في مناطق كردستان الجبلية,ألا أذا كان ضيفا, لأسباب دينية أو اقتصادية,انه لا يلعب أي دور أساسي في تقرير مصير أي شيء, وانه في العمل الروائي هذا كان مسئولا عن أعمال الغيب التي يخشاها الأكراد, لأنهم لا يملكون الصلاحية لهكذا عمل والتي احتكرها العرب بحكم أن النبي عربي!..بل حتى في بغداد..العاصمة..أو ما يفترض بأنها عاصمتهم أيضا,والتي تبدو بعيدة جدا وضبابية,وعامرة بدور الدعارة,يبقى الأكراد لا يفرقون بين الغرباء..كل الغرباء..( حمة غريب يريد أن يعرف ما أذا كان الانكليز هم عرب أو أتراك؟-54,زمن الهروب).

 

 

 

 

96

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حيدر حيدر..

( وليمة لأعشاب البحر أو نشيد الموت) للكاتب السوري حيدر حيدر. العمل يقع من 378 صفحة من القطع المتوسط.انتهى الكاتب من عمله هذا عام 1983 وتحت يدنا الطبعة الرابعة والصادرة عام 1992 عن ( دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع).

لقد نالت هذه الرواية – فجاءة – شهرة كبيرة طارت في الآفاق بعد أن تم تحريمها من قبل الإسلاميين في مصر واتهامها بالترويج للإلحاد!..مع العلم أنها تعتبر من أهم الأعمال الروائية العربية التي تناولت الوضع الدقيق للعراق والعراقيين,بعد صعود التيار القومي بزعامة حزب البعث العربي الاشتراكي العراقي,أن لم تكن من أهمها على الإطلاق!. حيث جمعت هذه الرواية بتناسق جميل ومؤلم بين التوثيق السياسي والجمالية السردية, ويمكن تسميتها بالعمل الأهم الذي وثق نشيد الموت العراقي المترف!كما لم يفعل أي كاتب عراقي!!

بطل العمل هو (مهدي جواد),عراقي خارج من جحيم الموت الايدولوجي إلى المنفى الجزائري.أما كيف ينظر كاتب سوري لهذا البطل,ومن خلفه كورس أصوات نشيد الموت العراقي,فهذا ما سنحاول تلخيصه بجملة..انه صراع الموت البشع الدموي الذي لا يعرف الرحمة,بين الشيوعيين البعثيين العراقيين!..والذين

_كلاهما اقصد- أودى بحياة بلدهم العراق.كان صراعهما السياسي الدموي البربري,بداية النهاية لبلد لم ولن يتعافى من نتيجة هذا الصراع,أنهما يمثلان قطبي الصراع لحلقة جديدة من الموت المجاني..يقول البطل الشيوعي..

97

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( – أما أن نبادر سريعا أو تفوتنا الفرصة.النظام هش,والجيش يغلي,البعثيون يجهزون قواتهم فأما نحن أو هم.ومن يسبق بالضربة الأولى سيفوز-264)..

بهذه العقلية الدموية كانت ولا تزال تدار الحياة السياسية في العراق..بلا أي حلول وسطية,قاد(سياسيو) العراق البلد ومن خلفهم(مثقفيه) إلى التهلكة,أنها سياسة الإبادة الجماعية وعقلية(الضربة الأولى) التي تعكس مزاجية عراقية هائلة تنحى نحو العنف المفرط الذي لا تحده أي حدود أخلاقية أو إنسانية أو حتى دينية!

كون الكاتب-حيدر حيدر- متعاطف مع الحزب الشيوعي العراقي,وبنفس الوقت ناقد له,فقد اختار عبر أبطاله العراقيين,أن يورد تفاصيل توثيقية لانهيار الحزب الشيوعي بعد الضربات الشديدة والمميتة التي وجهها لهم البعثيون..انه يبحث في كمية الدم السائل وأشلاء الجثث عن سبب الانهيار من خلال شخصيات متعبة وممزقة!.انه يتكلم هنا عن مرحلة ما بعد انهيار الجبهة واندلاع المواجهات,وليس خلالها,كما قراءنا في كتاب هاديا سعيد ( سنوات مع الخوف العراقي).أنها المرحلة الأكثر دموية في تاريخ العراق الحديث..في هذا المقطع يتحدث عن ( مهيار الباهلي) وهو شيوعي عراقي من أنصار الكفاح المسلح,الذي يؤمن بان الإصلاح ينشئ على جثث الخصوم..( وكان رجلا مصابا بلوثة الحروب, مثقف مسحور ببلانكي ومجد الكومونة والإغارة على سانتا كلارا.السلاح.السلاح. من يملكه يملك كلمة الله على الأرض……ويوم خاض مع خالد احمد زكي ومجموعة الأهوار حرب العصابات الخاسرة.كان يتوهم انه يواصل ميراث الخسارات الدامية والامثولات التي تتراكم لتشكل ذات صباح أو مساء الصرخة التي

98

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تختزنها القرون القديمة لتدوي في القرن العشرين أو الثلاثين أو الخمسين.هادمة جدران زمن الاستبداد والجوع والإبادة الجماعية لشعوب قهرت أو استذلت ثم ما لبثت أن دفنت تحت السطوة الوحشية للخلفاء والأمراء الخلعاء والجنرالات الدمى والأحزاب المستذلة والراكعة-21)..من يملك السلاح يملك كلمة الله على الأرض

لماذا الكل يحاولون أن يلعبوا دور(الله) في العراق!..الأقوى هو الأجدر باعتلاء كرسي(العرش) في العراق,الذي لا يسمح بالجلوس عليه ألا القتلة والمغامرين والمعتوهين!..قاتل أو مقتول..أما أن تكون حاكما أو من بقية أفراد الشعب.. ثنائية لا تقبل الجدل في بلد مثل العراق..أن الشعب العراقي هو صانع قاتليه بامتياز.. رائحة الدم تصيب الجميع بالنشوة القصوى,وبمجرد انبعاثها,تتلاشى كل قيم الأرض من عقولهم..انه صراع بين أنصار مملكة الدم الأممية وبين أنصار مملكة الدم القومية!

كانت الضربة موجعة ومفاجئة..استفاق الحزب الشيوعي عليها وهو يتحسس جسده المغطى بالدم وينظر برعب إلى بقايا أشلاءه المتناثرة..بدأت الانقسامات, تلتها الخيانات,الاعترافات..البراءة..والمقاومة المسلحة..أخيرا كان الفرار الكبير.

الاتهامات تطال الكل وتتطاير في جميع الاتجاهات..بداَ من عبد الكريم قاسم رئيس أول جمهورية في العراق,الذي تحالف مع الشيوعيين وانتهاء بالقيادة الهاربة إلى الخارج تاركة القاعدة تتمزق تحت الضربات الوحشية,وانتهاء بالشعب المتخاذل المتعب الذي يفقد الأبناء المتحاربين أن قتلا أو سجنا أو نفيا

( سيتذكر وهو يخرج من منزلها عابرا الأرصفة والمتاجر والمقاهي والبيوت

99

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تحت أشجار الدر دار الرطبة أن ذلك الأصيل كان مكربا للنفس لشدة اختلاطا ته من تداخل الحب الروحي مع الجنس مع الوضع السياسي المزري من كل جوانبه

بدءا من وحشية الجنرالات وهمود الشعب,وانتهاء بتخاذل القيادات الثورية وقطاراتها المتأخرة على سكة خط اللاراسمالي المخربة-194)..أن الانتقادات والإدانة تطال الكل..عندما تحالف الحزب مع(الجنرال)عبد الكريم قاسم,لم يجد عندها ضيرا في هذا التحالف المشبوه,وعندما ارتكب غوغاء الشعب باسم الحزب الشيوعي العراقي جرائم(قطار السلام) في الموصل وكركوك,والتي لا تجد لها أثرا في هذا الكتاب!..لم يكلف الحزب الشيوعي نفسه حق الاعتذار عن الوحشية المتمثلة بسحل الجثث في الشوارع بالحبال الشهيرة وتعليقها بعد ذلك على أعمدة الكهرباء!..أما عندما حدثت نفس كمية العنف ضدهم فكان الأمر عنده مختلف وطفت(الأخلاق) فجاءة على السطح السياسي العراقي,والذي هو أصلا بلا أي أخلاق كان وما يزال…( كان التأنيب العميق ينحو إلى التبرئة.فالهجوم على المحور الرئيسي كان يشير إلى قيادة الحزب اليمينية والمتواطئة والتي راهنت على انقلاب 14 تموز والزعيم الأوحد والتطور الرأسمالي.غير أن الأمر كان يتجاوز ذلك.وعلى مدى عام كانت محصلة الحوار أكثر خطورة,وأعمق دلالة من هذا الذي طفا أخيرا على السطح.فأطاح بحزب كان يحرك مئات الآلاف في اللحظات الحرجة.والذي تأبى أكثر من مرة من خلال النزوع الأخلاقي للسياسة.أن يستولي على السلطة,النزوع الأخلاقي:أوه يا للكلمة الرءوفة والساخرة!أبدا.بل بقسوة:هو الجبن وشلل الإرادة الذاتية والخط الأعرج.ويوم

100

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان الانقسام على أشده والحزب يعبر شتاته:موته أو حياته,كان الباهلي مع رهان السلاح وكان مهدي جواد يدعو للتنسيق بين حرب المدن والأرياف.لكن كل شيء كان يبدو وكأنه يأتي بعد فوات الأوان.ذلك أن اللحظات التي يختطف فيها التاريخ لصالح القوى الجديرة بالحياة كانت قد مضت إلى غير رجعة-24)..واضح أن ( القوى الجديرة بالحياة) التي وصفها الكاتب,هي الجهة التي تمتلك( السلاح) والقادرة على استعماله في الوقت المناسب بالاتجاه المناسب,لم يكن في النهاية هو الحزب الشيوعي بل خصمه اللدود!..كل الأحزاب في العراق نصبت نفسها بنفسها,على إنها القادرة الوحيدة على قيادة قطيع الشعب بالاتجاه الصحيح..لم يفكر أي من هذه الأحزاب نفسه بسؤال هذا القطيع أن كان يرغب أن يسير بالاتجاه(الصحيح).

( في الاجتماع السري بحي الكاظمية,تحدث مهدي جواد لخليته عن الوضع الراهن.حدد بنقاط واضحة الخطين المختلفين للحزب,خط جبهة الكفاح الشعبي المسلح وهو خط”ظافر”والخط ألتحريفي الملحق والتابع للبورجوازية الحاكمة وهو خط آب التصفوي.الخط الأول ممثل بالقواعد المؤمنة بخوض نضال مسلح في الريف والمدينة لإسقاط سلطة البورجوازية وإقامة حكم الديمقراطية الشعبية,

والخط الثاني ممثل بقيادة اللجنة المركزية المتواطئة مع حكم البورجوازية, والتي ما زالت تؤمن بالعمل السياسي السلمي وتراهن على الانقلاب العسكري الثوري.

……هذه القواعد الآن ملقى على عاتقها مهمة هدم العالم القديم وبناء عالم جديد للبروليتاريا العراقية قائدة المستقبل.ثم شرح مسألة عزل القيادة الانتهازية

101

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التحريفية,وانبثاق قيادة جديدة على مستوى المناطق.وأكد على ضرورة السرية والاختفاء والسلاح الذي سيوزع على الخلية قريبا:قواعد الحزب ما تزال متماسكة رغم المحنة ورغم تواطؤ القيادة.خلايانا في الجيش سليمة.في الديوانية هناك فصيل مسلح,الرفيق ظافر ومجموعته يحضرون لكفاح شعبي في الأرياف القتال لإسقاط  السلطة الفاشية هو المهمة المركزية الآن……واصل مهدي جواد شحن خليته:أن حزبنا الذي تمرس بالكفاح منذ تأسيسه على يد الرفيق المناضل”فهد”هو الآن أمل ملايين الشعب العراقي_43,44)..لكن السؤال,من أين جاء هذا اليقين الذي لا يقبل الجدل للحزب الشيوعي أو غيره من الأحزاب من أنهم يمثلون طموحات (ملايين) الشعب العراقي؟..وفي هذه الحالة الخاصة بالحزب الشيوعي,لماذا انقلب عليهم(ملايين) الشعب العراقي وشارك بتصفيتهم وان كان على مستوى اضعف الإيمان واكتفى بالتفرج على مذبحتهم؟..هكذا الحال في العراق دائما..توزع الألقاب المجانية الفارغة من أي مدلول عقلاني على قادة الأحزاب,فمن “فهد”الرفيق المناضل إلى عبد الكريم قاسم”الزعيم الأوحد”إلى احمد حسن البكر”الأب القائد”وأخيرا كل الألقاب إلى صدام حسين!

انه ابتذال رخيص للغة واستهلاك حد تفريغ الكلمات من معانيها واستخفاف مذهل بوعي الشعب!..مبالغات وكذب ودجل..الكل يصفق..الكل يرقص..الكل يغني..

الكل خائف!

ثم يصف مهدي جواد,قيادته..( وشرح مهدي جواد المشحون ضد انتهازية القيادة بان قيادة الحزب,رغم وجود تيار ثوري يطالب باستلام السلطة,لم تتخذ قرارا

102

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

باستلام الحزب للسلطة السياسية,كانت قيادة جبانة وذيليه للبورجوازية والدكتاتورية.أن قيادة حزب شيوعي تتخلى عن تعاليم لينين في استلام السلطة بالعنف,وتنتهج النضال السلمي-الديمقراطي ليست أكثر من قيادة بيروقراطية,

تحريفية,جبانة تقدم حزبها بطواعية لسكين الرجعية-45)..نحن الآن في عام 2005 ,لقد شاهدنا بأم أعيننا انهيار الإمبراطورية الأممية بقيادة الاتحاد السوفيتي ومنظومة دول حلف وارشو,حيث في النهاية لم تنفعها مقولات لينين كثيرا, واتجهت بملء اختيارها نحو النظام الديمقراطي,وحققت بسنوات عديدة ما لم تفلح بعمله طوال عقود طويلة تحت قيادة الأحزاب الشيوعية!..وسؤالنا,ماذا لو نجح فعلا الحزب الشيوعي العراقي في استلام السلطة؟..هل كانوا سيكونون أفضل فعلا من حزب البعث القومي؟..أم إنهما في النهاية وجهان لعملة العنف الواحدة؟..

ولا يكتفي مهدي جواد بذلك..فهو هنا يدين عبد الكريم قاسم,الذي حكموا البلد من وراء ظهره..( وسال احد الرفاق عن التحالف مع الدكتاتورية العسكرية,وهل كان الزعيم يثق بالحزب وخطنا الاشتراكي:وقال مهدي جواد:فيما بعد ثبت عكس ذلك,في البدء ناور بنا,بعصا الحزب صفى خصومه,أعطانا بعض المراكز والمؤسسات الإدارية,وبعد أن شل خصومه شعر بخطر الحزب فانقلب عليه, كان الزعيم يلعب كأي عسكري معزول شعبيا,لعبة التوازن ليبقى هو-45)..

إذا الشيوعي العراقي مهدي جواد,يعترف بأنه وحزبه كانوا عبارة عن عصا بيد الجنرال,ينزل العقاب بهم على خصومه السياسيين!..أنهم لم يكونوا مجرد عصا

بيد جنرال,بل أداة قتل.ثم أي حزب هذا يدعي الثورية الحزبية وله مؤسساته

103

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وقيادته وقواعده ومثقفيه والمتعاطفين من أبناء الشعب معه,أن يلعب بهم شخص واحد ويناور؟..أين يكمن السخف في المشهد السياسي العراقي..وحجم التفاهة!!

أن الأحزاب..كلها..بدون أي استثناء,هي في النهاية أحزاب تعتمد العنف لتصفية خصومها لتنصيب دكتاتورية مطلقة وتفتقر لأبسط قواعد الديمقراطية والإنسانية.

أما القواعد الحزبية,فما هي في النهاية أيضا سوى أدوات تنفيذية,لا دور لها سوى التهريج والتصفيق في حالة السلم,وأداة قتل في حالة اقتتال العشائر الحزبية

( قال الرفيق العمالي:يا رفيق مهدي.عفوا,أردت أن أصل إلى نقطة أسكتني بطرفها.أريد أن أقول,لماذا استيقظنا فجاءة على أخطاء القيادة وبدأنا تهشيمها!لماذا لم تتضح هذه الأخطاء سابقا؟العفو.أريد أن اسأل أين الصوت الذي ارتفع ضد هذه القيادة سابقا؟الحقيقة أن سؤالي يتجه نحو الديمقراطية الحزبية.

– ماذا تريد أن تقول بالتحديد؟

تلعثم الرفيق العامل.وضع يديه على ركبته،ثم ما لبث أن هرش شعره الأشعث:

نحن في بيت الحزب.وهذا اجتماع مصيري.موت أو حياة كما قلت.ليكن موقفك وموقف الرفاق مني ما يكون.سأجهر بما اعتقد.سأقول أن الديمقراطية كانت مفقودة وان قواعد الحزب ما كانت سوى أدوات تنفيذية,والآن نحن نذهب إلى المذبحة وليس إلى استلام السلطة.الخطأ قديم.لعله كان في صلب الحزب,اعني كان في البنية التنظيمية والسياسية,لم تكن القيادة هي المخطئة وحسب,الخطأ محصلة تراكم تاريخي ونحن جميعا مسئولون عنه ,هذا ما أحسه كعامل بسيط في خلية شيوعية,أقول ذلك بألم وأنا ذاهب إلى الموت أنا مع حزبي حتى النهاية

104

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

– 46)…أن قيادة الحزب في تلك المرحلة,كانت مسئولة بشكل كبير عن إبادة قواعد الحزب والمتعاطفين عموما مع اليسار,من أمثال هذا العامل البسيط الذي آمن بغد أفضل له ولأطفاله وشعبه..فكم من البسطاء الذين آمنوا بكذب الأحزاب العراقية وراحوا ضحايا بلا معنى ولا ذنب؟!

أما من الجانب الآخر,الأكثر دموية..الحزب الحاكم,فقد كان عبارة عن مجموعة من المغامرين الذين استولوا على السلطة وتربعوا على عرش الدم,فلم يكن لهم أي خيار..وكما الشيوعي,كان ألبعثي..موت أو حياة..أن الحياة لا تستوعبهم معنا, مع أن الموت أستوعبهم جميعا!..لقد انهالوا بسياط جهنمية على أجساد خصومهم وفتحوا أبواب الجحيم على مصراعيها,لقد صمموا على إبادة الشيوعيين والى الأبد,ولم يكن بوارد حساباتهم قطع الذنب فقط,بل سحق الرأس..وكان لهم!

( وسمع أصوات تصيح وتئن بينما الرصاص يخطفها,الجوع والمطاردة والتشرد والفرار من وكر إلى آخر تحت رعب الموت.اغتيالات بغداد والموصل والبصرة والحلة,ثم فاجعة الأهوار.

– اسمك,خليتك,أماكن الاجتماعات,الأوكار,نوع الأسلحة ومصادرها.قيادتكم خانتكم.أنها في قبضتنا.أتريد الأسماء.استمع:عامر عبد الله.عبد القادر إسماعيل. زكي خيري.العبللي.صلاح احمد.جميران.عبد الأمير عباس.السباهي.كلهم اعترفوا.كتبوا براءتهم.لقد سمعها ورآها الشعب على شاشة التلفزيون وعلى صفحات الجرائد.كالفئران سقطوا وكشفوا الجهاز كاملا.

الضرب.الضرب.الضرب.

105

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدم.الدم.الدم.

وإذا لم تعترف على القيادة الجديدة ستعدم ككلب.ابن القحبة,ماكو شيوعية بعد اليوم في العراق.شنو هاي الشيوعية.صار مأواها المجاري والبواليع.انتم شنو؟

حفنة جواسيس,عملاء لموسكو,سيدتكم باعتكم.مصالحها معنا.أنت مو عارف انو السوفيت تجار.قواد.ولد القحبة.شنو هاي القيادة الجديدة؟

كالإخطبوط كلما قصصت له ذراعا ظهرت أخرى.هيا اكتب كل ما تعرفه عن حسن ألعبيدي,والياس ديمتري,والعلاوي,والأحمدي,وخليل كرم.أعطوه الأوراق.اسمع أذا كذبت تعرف نهاية الصامدين في قصر النهاية .

الصمت يدوي,والرأس مختلج ومختل,والعالم مظلم ومضاء بنور مبهر.أصوات المعذبين والطلقات والصرخات.

آه.يا لهذا الجنون الدموي.دوي جبل شامخ,صلب,ينهار,يتداعى وينهار-75,76).

لا يبقى في النهاية سوى طعم الفجيعة,والحزن الذي يتراكم كجبل أسطوري على صدور العراقيين,يصنعونه بإتقان وينقلون حجارته من كل بقاع الأرض..الحزن

ذلك الجبل المقدس!…( خصوبة الحياة ثم عمق المفاجأة التي تأتي كصفعة الموت

وهما ألان يخطوان فوق الغبار,غبار المدينة التي كان اسمها بابل.المدينة المرممة والتي تبدو الآن كمومياء.تمثال الثور الهاجم والمرأة المضطجعة يشير إلى انتصار بابل على آشور التي تغتصب.تشير الفتاة إلى تمثال البازلت الأسود إشارة جنسية عابرة وينحدران بين الغبار.لم يبقى من بابل غير الأنقاض وهذا الغبار والصلصال المرمم,هما يعبران الأنقاض يسمعان صوت حمام ينوح.

106

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تقول الفتاة :اليمامة تنوح حبيبها المفقود.ثم تروي قصة عاشقين من بابل القديمة,

العاشق الذي أخذته الحرب والعاشقة التي تموت حزنا وحنينا بانتظار الفارس الذي لا يعود,يستلقيان على العشب تحت شجرة نخيل,الوقت أصيل,والظلال تسيل على وجه في لون العسل.شعر اسود كثيف كدغله,وعينان تلمعان بوميض غريب,خاطف للقلب,وهي تتكلم تتكثف,من وجهها يشع بريق يضيء:تاريخ العراق هو تاريخ الفقدان.تقول المرأة-128)

كلما ازدادت شراسة طرف ما في المقاومة,يقابلها تصعيد غير مسبوق من الطرف الآخر..أقصى حالات العنف والبربرية..أقصى الجنون والهوس..

الأوكسجين قليل في هواء العراق..لا بد من الإبادة..( الحي- الميت الذي دفن قبل أعوام في سجن الحلة بين خمسمائة سجين ضربوا وأهينوا وعذبوا.بدءا من تحطيم الإضلاع والرأس بالأحذية العسكرية عبورا بالصدمات الكهربائية على أعضاء التناسل,قلع الأظافر بالكلابات وإدخال زجاجات البيبسي في الإست وممارسة اللواط إلى حرق الجسد بأعقاب السكائر.طقوس عذبة للجلادين. احتفاءات جنسية لآلهة الليل.الضعفاء ماتوا تحت التعذيب.وآخرون فتحوا نفقا بمفك براغي ومدية مطبخ خلال شهر من الإصرار وتوهج الروح فخرجوا إلى حرب المدن وحرب الأهوار وبقية الحروب الخاسرة.آخرون امضوا عقوبتهم أو جزءا منها ليخرجوا حطاما أو خونة.تهم واعترافات وشتات وانشقاقات ومحاولات لتأسيس جديد مناقض لما مضى.الذي تأسس ترسخ بعد الانهيار, وصراخ عواصف الدم والموت:العودة إلى الموال القديم,التحاق ذيلي بعربة

107

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كاليغولا عبيد الله الكلبي الحاكم بأمر الله وأمر السيف.الحجاج الثقفي المقعي على العرش.رب السموات والارضين الذي يقول للشيء كن فيكون.وما كان يمكن أن يكون في ذلك الزمن سوى الخيار بين المقبرة أو الانصياع.الهلاك أو المنفى,فأما من خضع وخاف وانصاع فقد ابتلع الموسى وأما من خرج صارخا في براري الروح الناهضة هائما لا يدري تحت أي سماء أو في أي ارض يموت,فقد اختار الزمان الغامض.الزمان الأقسى.

يوتوبيا.يوتوبيا.

القيامة.القيامة.-312,313)..لم يكن الشيوعيون وحدهم يدعون تمثيل الشعب العراقي-وأمله – بغد أفضل..البعثيون كانوا يعتبرون أنفسهم كذلك!!

( بعصبية سحق مسئول البعثة سيجارته تحت قدمه.نظر إلى مهيار بعينين تقدحان شررا:اسمع عيني مهيار,مهدي جواد وأنت وسائر الحاقدين لا هم لكم سوى التشنيع على بلادكم هنا.الشعب في العراق عارفكم زين.زمرة منبوذين معادية تشوه المسيرة القومية بالكلمات الحاقدة اللامجدية.شنو هاي عيني الماركسية المستوردة التحكون عنها! أصلا انتم في واد والشعب في واد,انتم غرباء في بلادكم.من اجل ذلك لفظكم الشعب لفظ النواة……..لقد بدأت الأمور تأخذ اتجاها آخر.عندما اتهم مهيار عضوين من أعضاء البعثة بتقديم تقارير أمنية للسلطة الجزائرية وإرسال نسخ منها إلى العراق:هل هناك ما هو أكثر خزيا من هذا؟ لماذا هذه النذالة؟-317,318)..هكذا كان الحال وهكذا سيبقى ( لا يغير الله نفسا- صدق الله العظيم)..الاتهامات ستبقى تتطاير بين العراقيين..الكل لا يرغب في

108

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحوار مع الآخر,وان اجبر على ذلك,فسيحمل الخنجر بيد وقارورة السم باليد الأخرى!

هجرة أو هروب..سيان..كثير من شباب العراق ,فجاءة لم يجدوا أمامهم مخرج آخر من هذه المقتلة التي وجدوا أنفسهم في وسطها.والعراق يعاني منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ,من موجات هروب أو هجرة,بشكل متواصل كل بضعة سنين..الأوكسجين في العراق يقل!!

( انه يخرج الآن من البصرة.متسللا يخرج مع غروب الشمس المنحدرة نحو الخليج.يتناول جواز سفر مزور ويغيب-97)..الآلف مؤلفة خرجوا بهذه الطريقة أو اخرجوا..لكن إلى متى؟..طعم الخيانة يبقى مرا المذاق إلى نهاية العمر..وفي حالة مهدي جواد..( ما الذي يبقى من الزمن السعيد عندما ينشق الشيوعي على الشيوعي ويسلمه إلى سكين الجزار؟-259)..أن الزمن السعيد هو أكذوبة الأكاذيب في العراق..لم يكن كذلك ولن يكون,فالذي سلمت رقبته إلى الجزار هو في النهاية عراقي,والذي سلمها هو عراقي آخر,والذي حزها عراقي كذلك..ما الذي بقى في شعب يكره نفسه!..بقايا بشر!

( كتب مهدي جواد في ذلك المساء” المنفى اغتراب جديد يضعك وجها لوجه أمام نفسك.انه يضعك أمام المرآة,وها أنت تراجع هيروغليفيا الزمن في استراحة الحرب.ثمة عطب داخل الإنسان وداخل الكتلة يرى ألان بوضوح اشد في هذا المنفى.التجربة قالت ذلك بمرارة وفاجعية الدم,ربما.لكن الأشياء ما تزال هلامية سابحة كقناديل البحر-42)….( وهذا الرجل لا يعدو كونه صدفة فارغة ألا من

109

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأصداء طرحها البحر,حملته الريح ذات غسق لعين فوصل شاطئ بونة”مدينة في الجزائر”البعيدة وهو حطام-36)….( يحس الرجل بأنه مطارد,وان شخصا ما يتعقبه,رجل لا يعرف ملامحه بدقة.كان ينتظر المفاجأة في المنعطف القادم…….

انه يخطو مسرعا.متوجسا أبدا.متأهبا أبدا.كان الخوف يسري هناك,في الفقرات التي ستتلقى الضربة من يد تتأهب لتطعنه من الخلف-10)…..( عندما خرج من العراق لم يكن حزينا.فقط أحس بانقباض غامض وهو يغادر,ورأى الفجر رماديا فوق دجلة,وكانت الأشعة الأولى للشمس تشع كالماس فوق الماء…….وكما يحدث في حفل تراجيدي غامر بالرهبة والجنون والحب تنطلق الزغردات مع النحيب.أصوات الأمهات والعمات والأخوات والصديقات النادبات في احتفال خروج مهدي جواد مع أصدقاءه الهاربين تلك الليلة التي امحق قمرها ثم انغمر صداها في عمق الليل الغارق في مهرجان من الفزع ورائحة القتل العميم………

انه يفر الآن من ارض الجحيم.جواز سفره مزور,ورأسه مليء بشظايا حلم تبدد.والأصوات:زمانك انتهى بين فراراتك واختباءاتك في أوكار بغداد والبصرة والعمارة والحلة والناصرية,وبين مقبرة الهور التي كفنت أطفالها بطحالب الماء

………أخيرا,هو ذا مهدي جواد ينجو بجلده من طقوس المذبحة-15,16).

ليس كل الهاربين أو المنفيين بالضرورة من السياسيين,بل أن الكثير منهم خرج أو هرب لأنه مل رائحة الدم وعفونة الأفكار المتطرفة..فها هو احدهم يتذكر..

( – الآن أنا لست حزبيا.صدقني أخي مهدي أنني لا اكره الشيوعيين ولا القوميين

لكنني رأيت ما حل بالعراق من المآسي………عشت وشفت المرارات والدمار

110

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أحزاب الماركسية والقومية وضيق أفق الأخوان ولا عقلانيتهم. اقتتال طوائف.هذا ما رأيت.قلت الكل باطل وقبض الريح.كما قلت:الجميع أوصلونا إلى حطام الوطن-258)..

في النهاية يتساءل حيدر حيدر بلسان بطله,وهو السؤال الأهم الذي يبقى بدون إجابة…( ليكن السؤال هكذا:الإنسان أولا أم المجتمع؟ وهل بالإمكان بناء عالم جديد بإنسان قديم؟-43).

لقد قدم حيدر حيدر ,الشخص العراقي في وجوه عديدة..فهو مناضل يحارب الظلم والرجعية والأفكار المتطرفة..كما هو جبان ينهار تحت الترغيب أو التهديد ثم خائن يسلم رؤوس رفاقه إلى سكين الجزار..لكن أهم من كل هذه هو التطرف في ممارسة العنف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

111

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إسماعيل فهد إسماعيل

( إحداثيات زمن العزلة) سباعية روائية للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل الصادرة عن ( دار الوطن) ( طبع بدعم من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت) في عام 1996 وهي بمجموع أجزاءها السبعة تتألف من – 2423 – صفحة من القطع الكبير..أما تسلسل الأجزاء فكالآتي:

1- الشمس في برج الحوت.

2- الحياة وجه آخر.

3 – قيد الأشياء.

4 – دائرة الاستحالة.

5 – ذاكرة الحضور.

6 – الابابيليون.

7 – العصف.

توفر لنا هذه (الملحمة!) الروائية,فرصة ألقاء الضوء على رؤية كاتب كويتي عانى من احتلال العراق لبلده وبالتالي فالسلبية المطلقة,هي التي تلقي بظلالها الكثيفة على الشخصية العراقية في هذا العمل من البداية وحتى النهاية, وتبرزه (من وجهة نظر الآخر) بشكل سلبي سافر,فاضح,عاري..ومخجل!..كما يصور العراقي على انه شخص غريب الأطوار,بدائي اقرب إلى الهمجية والبربرية منها إلى الصورة الإنسانية المتعمقة في مأساة هذا الإنسان.وعلى عكس كل الكتاب العرب الذين تناولوا بعض الجوانب الايجابية في الشخصية العراقية

112

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بهذا الشكل أو ذاك..يبقى هنا في عمل الروائي إسماعيل فهد إسماعيل شيء آخر..ربما لان مجال الرؤية يختلف..فهنا تكون الرؤية من الداخل..داخل الحدث..الاحتلال الذي يصل إلى حدود الاستباحة,ويجسد موروث البدو..الغزو,

ولكن ليس شعريا أو رومانسيا كما في أشعار العرب..بل بشكل دموي,مخيف,

وكإرثي بكل معنى الكلمة. العمل أيضا يتحدث عن المقاومة الكويتية للاحتلال العراقي..ويبدو أن المؤلف قد قرأ الكثير عن أدب المقاومة وحرب الأنصار خلال الاحتلال الألماني النازي للعديد من الدول الأوربية,بالإضافة إلى غيرها من أدبيات المقاومة الشعبية..فهو يصور لنا الكويتي وكأنه مخلوق آخر غير المتعارف عليه والواقع,انه هنا(سوبرمان!)..طبعا لا ضير في ذلك عندما يبقى الأمر في حدود المعقول,لكن عندما يخرج عن المألوف يصبح الأمر شيئا مضحكا..لهذا اعترف أني قد عانيت بشدة حتى أتمكن من إكمال قراءة هذا العمل,

حيث التكرار والمبالغة التي تصل إلى حدود السخرية!

لكن ما يهمني هنا هو كيف ينظر الكويتي الذي احتل بلده من قبل العراق إلى العراقي!..وسأختار في البداية جملة وردت في الجزء الثاني..تلخص كل العمل الطويل وتختزله بدقة..( مطلوب من كل الكويتيين في الداخل أن يختفوا من كل مكان حتى لا تنالهم يد البطش,ويتحتم عليهم تواجدهم في كل مكان بغية تدبير أمور حياتهم,يواصلون بقائهم في زمن عراقي مطلق-ج2-77).

كان احتلال الكويت عملا وحشيا بكل القياسات على الرغم من الاختلاف السياسي أو الاقتصادي,وكان الأجراء العراقي أكثر بكثير مما هو غير عقلاني

113

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجرت البلدين إلى كوارث عديدة ما تزال المنطقة تعاني منها,وخصوصا الفاعل العراقي..كما تم إلصاق صفات- أو أعيد اكتشافها- في الشخصية العراقية من قبل الكويتي.فها هو إسماعيل فهد إسماعيل يصور العراقي..( – الجيوش العراقية..

– اجتحت الكويت..

– ماذا قلت؟!

تساؤلها يتضمن رفضها تصدق.وجهها قبالته.عيناها هاجس الفجيعة.اكتفى أكد خبره بهزة من رأسه.لم يفاجئه رد فعلها:

– مجرمون جبناء!!-ج1-17)

( -..الاحتلال لم يفرض سيطرته الكاملة على الكويت!

استغرب منها استخدامها كلمة(احتلال) أدبياته السياسية تفيده أن الاحتلال يجئ استعماريا غربيا بالدرجة الأولى,أما والحالة عراقية..فوضى الذهن باختلاط المفاهيم وتبادل مواقع القيم-ج1-26)

( الجنود العراقيون

إجابة الحاج محمد بعد ما فهم السؤال على طريقته,اكمل

– ينتشرون كالجراد.يملئون الشوارع والساحات والمباني-ج1-35)

( – يقال أن القوات العراقية لجأت إلى أسلوب المخادعة كي تغرر بالكويتيين.. تغلغل داخلا دون مقاومة..ذلك من خلال رفع أعلام كويتية-ج1-39)

( ردت بحزن محاصر,واستطردت بدافع من حقد عارم:

– لو لا اؤلئك الكلاب

114

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فضول سليمان يأخذ عليه وجهه,يتساءل باستفزاز برئ:

– كلاب؟!

حقد سهى يتدافع في صدرها لدى إجابتها موضحة:

– العراقيون –ج1-50)

( – إضراب عام عن العمل..مفتوح..

………..

– ومن لا يلتزم؟

عيسى يجيب على الفور:

– يعامل معاملة العدو – ج1-111,112)

( ضغط شعور الكارثة,واشد منه إدراكك أن الكارثة قائمة الآن..وان استمرارها.

نظام بغداد,أساليبه,قتل جماعي..أم حكم بإبادة عامة؟!-ج1-114)

( -“هويتك”

نقاط السيطرة ومفارز التفتيش التي خص بها الاحتلال العراقي الكويت تتوالد على بعضها,لتتواجد عند كل مفرق وزاوية.

– أن كانت عندك علبة سجائر!

…………

– من أين اشتريت ساعة اليد هذه؟

– الكويت.

مفارز التفتيش..وحدات دورية محمولة.بلدك تعج بهم

115

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“مسألة دفع الثمن..كيف؟!-ج1-134)

( قالها صالح,قبل أن يستطرد باشتراط لا يخلو من مرارة ساخرة:

– أما إذا تنبه مختصو النهب من العسكر المتواجدين في منطقة الشويخ إلى مخازننا هناك-ج1-242)

( إلى جانب العديد من قصص بدأ الناس يتداولونها حول إقدام جنود عراقيين على اغتصاب نساء عدة من جنسيات مختلفة,عدا أعمال السلب والنهب والقتل في حالة التصدي-ج1-253)

(-…..الفرق المتخصصة بأعمال السلب والنهب من جيش النشامى..صوته ينضح سخرية مريرة..

– ….أنهت واجبها تجاه المحلات التجارية في شارع فهد السالم,مجمع المثنى.

سوق الكويت الكبير..سوق الوطية-ج1-277)

( السيارة, تواصل سيرها.مجمع الأوقاف يمينا.موقف سيارات المجمع يزدحم بشاحنات عسكرية,وبضع سيارات تاكسي عراقية بألوانها المميزة,وعشرات من الجنود في حركة دائبة,يعملون على نقل أكياس بلاستيكية سوداء منتفخة.

– ينهبون محلات المجمع!

أشار محمد صالح,اكمل مبديا حقدا:

– حولوا الجيش العراقي إلى عصابات لصوص وقطاع طرق!

-…….حطام سيارات.هياكل.أبنية خاوية.شوارع مقفرة.عدا زمر من الجنود يتحركون بخفة في ظلال الأبنية حاملين أكياسهم البلاستيكية السوداء.. يظهرون

116

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فجاءة..يختفون بأسرع-ج1-249)

( النشامى حولوا مدينة الكويت إلى مقبرة أخرى,كل السيارات التي اضطر أصحابها أن يتركوها يوم الغزو..مر عليها جراد نظام بغداد..عراها من كل ما يمت لإمكانية الاستفادة بصلة-ج1-138)…( تفشي ظاهرة سلب الكويتيين من جانب جنود الاحتلال.

مصطفى يضيف:

– الكثير من حالات السلب كان مصحوبا بعمليات قتل-ج1-310)

( – من أين لك ثقتك بخروجهم؟!

– لأنهم يسرقون كل شيء-ج2-239)..( عسكر الاحتلال..سيارات شاحنة عملاقة

أعمال السلب والنهب على قدم وساق..أملاك عامة..أو خاصة-ج2-315)

( – يتفننون باستثارة كراهية الجميع ضدهم!!

قالتها الأم مبدية وجهة نظر.

– هم لم يكسبوا حربهم مع العالم بعد..

قالت إيمان,ختمت:

– لكنهم كسبوا احتقاره-ج3-38)…( سأله ابنه بخوف غريزي لا حد له:

– هل سيقتلك العراقيون؟-ج3-63)…( الخطاب أوضح أسبابا,وكشف جريمة العصر..النازية كانت في أوربا,والنظام العراقي. الدوافع محيرة,الاستباحة, التقتيل,الأسر,الاعتقال,التعذيب,السلب,النهب,طمس الهوية.شحنات هائلة من حقد أعمى لا تفسير له-ج3-320)….( ثلاثمائة شاحنة عملاقة يصار إلى تحميلها

117

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

على مدار الساعة,تمهيدا لسوقها بعد ذلك,قوافل محددة,خاضعة لحراسة عسكرية مشددة.مغبة تعرضها للنهب من جانب عصابات منظمة,تنشط-ليلا خاصة- على طول الطريق الدولية الواصلة بين محافظة البصرة وبغداد العاصمة-ج5-109)

( كانت سلطات الاحتلال-تأكيدا للهوية العراقية-استبدلت مسمى شارع فهد السالم بشارع (فاو) الاسم والمسمى,عصف ريح ومرتع كلاب ضالة.حطام واجهات محلات.بدت وكأنها لفضت ما بداخلها خارجها,على الأرصفة وفي عرض الشارع.بعدما تعرضت لعمليات نهب عشوائية متوالية-ج6-76)……

طبعا ما اخترته هو غيض من فيض,فالكتاب بأجزائه السبعة تقريبا يقسم إلى قسمين,أولهما هو تعداد المزايا السلبية للشخص العراقي,صحيح انه يتكلم أكثر عن الجيش العراقي,لكن هؤلاء لم يأتوا من الفراغ أو من دولة أخرى,وبالتالي فالتورية كانت غير منطقية ,أن الجيش العراقي هو هو الشعب العراقي.أما القسم الثاني فيتحدث عن المقاومة الكويتية,وهذا الجزء لا يهمنا. أن الصفات التي أسبغها الكاتب على الشخصية العراقية في كتابه تراوحت ما بين السلبي وما هو أكثر!..ولا ادري هل أن هذا التحول في رأي الكويتيين بالعراقيين وليد لحظة الاحتلال أم هو ابعد من هذا؟..اعني الم يكن الكويتيين هم اقرب العرب وأكثرهم معرفة بالعراق والعراقيين!..كيف لم يتسنى لهم اكتشاف هذا الكم الكبير من السلبية في الشخصية العراقية قبل الاحتلال؟

أن إسماعيل فهد إسماعيل يذكر في المقاطع التالية(حقائق) عن العراقي وكأنها بديهيات مسلم بها,وإذا آمنا سلفا برأيه,فلماذا لم يذكرها قبل- الغزو- والكويت

118

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كما هو معروف من أكثر الدول العربية التي ساندت العراق في حربه على إيران وكانت قريبة جدا من النظام الذي افترسها فيما بعد؟

( مع النظام العراقي لا يمكنك استبعاد ما هو مستبعد-ج1-13)…( العراق أول بلد في العالم من حيث تعداد النخيل,وعدد المشردين لأسباب سياسية.في طهران ومدن إيرانية أخرى أحياء خاصة بهم,في دمشق أيضا-ج1-68)..

( – استشهد الشيخ فهد الأحمد..

قالت شيرين.كانت هبطت من الطابق العلوي.عيناها المحتقنتان تؤكدان مشاركتها ابنتها فجيعتها,أتمت:

– سيكون وصمة عار في جبين نظام بغداد!

ندت عن إيمان ضحكة صغيرة دالة:

– لدى نظام بغداد من الوصمات ما يكفيه وزيادة!-ج1-120)…( النظام العراقي من اخطر الأنظمة القمعية التي عرفت في التاريخ,وأشدها دموية وبطشا-ج1-187)…( ويعرف عن الاحتلال الفاشي وردود أفعاله المسعورة إزاء الاجهار بمعارضته-ج1-237)…( النظام العراقي..ارخص ما عليه هو الحياة البشرية- ج1-314)…( نظام بغداد محكوم بالحرب.استعدى بعضه على أكراده,واستعدى العرب على إيران,وها هو يستعدي العرب فيهم-ج2-56)…( نظام بغداد. طبيعته الدموية.مقومات استمراره باستمرار حروبه العدوانية,افتعاله حربه مع جارته إيران.الحال السجال…الخسائر البشرية-أيا كانت- بغض النظر-ج2-253)….

يبدو أن إسماعيل فهد إسماعيل لديه معلومات جيدة جدا عن حالة النظام العراقي

119

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وعدوانيته,ولا ادري لماذا لم نسمع هذه الآراء القيمة والحقيقية عن النظام الفاشي قبل الاحتلال مثلا؟..في حين على ما اذكر أن كل المثقفين الكويتيين كانوا ضيوفا دائمين على مهرجانات النظام العراقي التي لا تنتهي!

نعود لنرصد مع المؤلف بعض من الأفعال المشينة التي تسبب بها العراقيون أثناء احتلال الكويت,ونتعرف على جانب آخر من جوانب الشخصية العراقية بنظر كاتب كويتي خائف ومذعور..ومندهش ..

( قتلوا ثلاثة شبان كويتيين رميا بالرصاص تحت جسر محول بيان-ج1-56)..

( أعداد لا حصر لها من سيارات الأجرة بألوانها الفاقعة تجوب مناطق الكويت محملو بأنماط بشر…نظرات شرهة لا تخفي اندهاشها الحاقد-ج2-34)..( الاحتلاليون يهدفون إلى إيجاد نوع من الاستعمار الاستيطاني!

صوت عبد المحسن لا يخلو من غضبه.واصل:

-وألا..ما معنى توافد العوائل العراقية..احتلالهم مساكن الكويتيين عنوة……..

– سلوك لصوص-ج2-35)….( فجاءة أضيئت إحدى نوافذ الطابق الأول من المبنى.حيث دخل الرجلان”سرقة استيطانية بوضع اليد”……………….

المرأتان بقيتا ملازمتين مقعد سيارتهم الخلفي ريثما برز الرجلان خارجين من مدخل المبنى.لحظتها تولت كل من المرأتين فتح بابها قامتا مجللتان سوادا.الأربعة يتوجهون إلى صندوق سيارتهم.يتخاطفون حقائب خفيفة “حدود الخسة”-ج2-44,45)…..( في الوقت الذي قامت أسواق عديدة في بغداد ومحافظات أخرى لبيع المسروقات الكويتية قامت في شبرة خضار الشويخ

120

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سوق تخصصت في بيع منتجات عراقية لها دلالاتها الصلفة-ج2-13)..( جنود الاحتلال تنبهوا إلى مكيفات الهواء في الشقق السكنية الخالية من أصحابها,وكذا مكيفات هواء المساجد والدوائر الحكومية..تنبهوا بعدها إلى المراوح السقفية..

الأرضيات الرخامية..السجاد..مفاتيح التيار الكهربائي..خزانات المياه..أغطية المجاري”الفرع ينتقل إلى الأصل”-ج3-148)…( صاروا يكسرون أبواب المنازل الخالية من سكانها.شاحنة عملاقة جاهزة عند الباب.تحميل كل شيء.. أي شيء..ومن ثم شمالا باتجاه حدود كانت قائمة-ج3-227)…( في المقابل ازداد توطن المظاهر العراقية.باعة المحلات والأسواق الطارئة والباعة الجوالون.الرجال.سحناتهم.النسوة,الوشم الأخضر والرائحة..أشغال البيوت الخالية من مناطق الأطراف,وتزايد عمليات النهب بوضع اليد لتشمل مناطق الكويت كلها.صاحب ذلك حضور لم يسبق له مثيل للذباب والبعوض,وتزايد الحيوانات الضالة والسائبة,وكذا قطعان الفئران”الفرع يشبه الأصل”.تلال القمامة حيثما وليت وجهك ,فيضان مياه المجاري بسبب انعدام الصيانة,توقف وحدات الصرف.اعتيادك الرائحة..الزنخة”الفرع يشبه”-ج4-140,141)..

لو كنت قرأت هذا الكتاب قبل انهيار بغداد,لراودني الكثير من الشك..لكن بعد سقوط بغداد على يد الأمريكان,وما صاحب هذا الحدث من أعمال نهب مشابهة لوصف الكاتب الكويتي عن نهب العراقيين للكويت وتخريبها يبدو الأمر المخيف الذي كنا دائما كعراقيين ننكره!..فلقد شاهدنا ومعنا العالم كله,العراقيين وهم ينهبون أنفسهم..دوائرهم,أماكن عباداتهم,متاحفهم,جامعاتهم ومدارسهم..أن

121

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العالم كله شاهدنا في هذا الموقف المخزي واللاأخلاقي ثلاث مرات وخلال سنوات قليلة..في الكويت وأثناء الانتفاضة ثم بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

في الحقيقة نحن بارعون جدا في إضفاء أسماء رنانة على أعمال النهب والفرهود  هذه,والفاجعة أننا الوحيدين الذين نصدق هذا الدجل!

أن عنف العراقيين لم يتوقف على الكويتيين,بل انه تجاوزه نحو العراقيين المقيمين في الكويت ثم الجاليات العربية والأجنبية.حيث عقلية الإبادة والإجهاز على الخصم وعدم إتاحة أي فرصة لالتقاط أنفاسه..

( – الاستخبارات العراقية شنت-بدءا من هذا الصباح- حملة اعتقالات واسعة شملت العراقيين المقيمين من المعارضين للنظام-ج1-85).

هذا وتناول إسماعيل فهد إسماعيل جانب مهم من سلوكية العراقي(التهريجية) واستعداده العالي للتصفيق والتهليل إلى من يرهبه أكثر أو يكسب إعجابه الدموي الطابع..فكل من يتولى أمر حكم العراق,حتى وان لم يكونوا  راضين عنه في أعماقهم,هم على استعداد للخروج إلى الشارع والهتاف الأبله له ولعشيرته وسلالته..أي كان..حتى وان كان ليس عراقيا!!. وتاريخ العراق مليء بالشواهد.

فبعد انهيار بغداد على يد الأمريكان,ارتفعت في شوارعها صور لآية الله الخميني,علما أن هذا الشعب نفسه قد حارب النظام الإيراني لمدة ثمان سنوات عجاف,وحينها كان الإمام هو الذي يحكم إيران!..وأي تبرير معقول لهذه السريالية يبقى غير قابل للاستيعاب!

( وما استغرب الكويتيون وقتها أن يعجز الاحتلال العراقي يجد كويتيا واحدا

122

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يعرف يتعاون معه,كي يضعه في واجهة الأحداث-ج1-146).

وهذا صحيح جدا وعلى العكس من العراقيين,فكل محتل للعراق على امتداد المشهد السياسي العراقي,يحير في اختيار( رجالاته!) لكثرة العروض والاستعداد العالي للتعاون مع هذا المحتل..وتاريخ تبادل حكم العراق من قبل العثمانيين ( الأتراك) الصفويين ( إيران) شاهد على ذلك..وأما في التاريخ الحديث وحتى لا نغرق في تفاصيل التاريخ,فقد شاهدنا استعداد السنة العالي للتعاون مع المحتل البريطاني في بدايات القرن العشرين بعد احتلالهم للعراق,ونفس الشيء بالنسبة للشيعة مع المحتل الأمريكي في بدايات القرن الواحد والعشرين!

وكون أن المحتل العراقي لم يجد كويتيا واحدا يتعاون معه,هي حقيقة تحسب لصالح البناء النفسي للمواطن الكويتي المخلص لبلده المحتل.

( الجميع يلتفون حول التلفزيون,الشاشة تعرض شريطا لآليات عسكرية متحركة

دبابات مدرعات,حاملات جند,زاوية الكادر شاهد عددا من نسوة متلفعات بعباءات سوداء يحملن دفوفا ويرددن أغنية,أريد لها أن تكون وطنية عراقية,وغير بعيد عنهن وقف عدد من الأطفال نصف حفاة يشاركون بالتصفيق.

شعور غامر بالدهشة يأخذ على سلطان حواسه-ج1-216).

كما ولا يخلو المشهد العراقي على امتداد أزمانه من منظر المهرجين(المثقفين) الذين هم على أتم الاستعداد للوصول ب(أنا) الحاكم أي كان,إلى السماء السابعة ومقبل لا شيء!

( تلفزيون بغداد يفسح ساحة شاشته لشعراء لا حصر..يلقون قصائد عصماء

123

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تتغنى بخصال السيد الرئيس القائد..يحيون فيه روحه العبقرية التي حققت معجزة عودة الفرع إلى الأصل.حشد هائل من برقيات التهنئة والتأييد للخطوة الجبارة-ج2-34)….( مارشات أخرى,وإفساح مساحة وقت لشعراء يتبادر ون يتدفقون قصائد تتحدث عن رؤية مستقبلية-ج2-111)…( النظام العراقي يتصدى – بأعلامه الذي يدور في فلك الرئيس القائد- بثقة لا مثيل لها,ويؤكد بدلائل دامغة انه منتصر لا مفر-ج2-242).

ينتقد المؤلف سلبية العراقيين,بل خنوعهم المرضي للحاكم..ثم يبرر ذلك بقوله..

( الشعوب على دين ملوكهم-ج2-148)…( المحافظة التاسعة عشر تستعصي على مروضيها مقارنة مع محافظات أخرى قيد السيطرة-ج2-165).

في حين كان العراقي مستسلما بخنوع-لأي- نظام حكم,كان الكويتي برفضه السلبي,يمثل أرادة التمرد على الواقع الذي فرض عليه!

( لهاث المذيع يكاد يقطع عليه أنفاسه:

“الآن أيها الأخوة..ننتقل بكم إلى شوارع بغداد العروبة..لكي تتوافر لكم فرصة مشاهدة جماهيرنا الشعبية وقد خرجت عن بكرة أبيها لتؤكد بتظاهراتها العارمة تأييدها المطلق للسيد الرئيس القائد حفظه الله..وتندد وتشجب خطاب بوش المزعوم”…انتقال إلى إحدى الساحات المخصصة للاستعراضات.الجماهير حالة احتشاد قصوى والهتاف: “النصر المؤزر لقائد الأمة وباعث مجدها السيد الرئيس”. جانب آخر من الساحة.احتشاد مماثل.الهتاف يأخذ طابع السجع المعد للإنشاد:”بوش بوش شيل أيدك..هذا ألحكي ما يفيدك” اللازمة تتردد صاخبة..

124

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مجموعة من المتظاهرين تشعل النار بدمية تمثل الرئيس الأمريكي.الكاميرا ترينا لافتة قماش عريض كتب عليها بحروف كبيرة”يسقط المدعي الكاذب الجبان” –ج3-211.212).

استعداد عالي وغير طبيعي ل(جماهيرنا الشعبية) للرقص تحت راية أي سفاح أو محتل,وانقيادهم غير المنطقي للحتف المعد لهم..وبدرايتهم !!

( بشرهم- من المحسوبين عليهم-هل هو مؤقت أيضا؟!..يزرعون رجالهم في الأرض وعلى مفارق الطرق,فان قتلوا استبدلوهم بغيرهم,فان قتلوا استبدلوهم..فان قتلوا..-ج3-328).

في الأخير نختار هذا المقطع الذي بثه التلفزيون العراقي في خطاب موجه إلى الكويتيين,بعد أن تم أنزال قوات التحالف التي طردت العراق من الكويت..

( المذيع بأهمية”متميزة.وحده-كما هو مفترض- يبدد أنماط الحيرة كافة, ليؤكد جسرا من المعرفة بواقع الأحداث”أيها الشعب الكويتي الأبي..” حواس سلطان تستفز تصغي..” حان الآن وقت التضحية والفداء.دافع عن وطنك ووجودك. أشهر سلاحك في وجه الغزاة البرابرة-ج1-19).

السؤال هو..من كان يقصد المذيع العراقي بالغزاة البرابرة!!

 

 

 

 

125

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة..

في فترة ما..منتصف الستينيات وبداية السبعينيات,انتشر شعار بين الشباب والمثقفين..( انظر وراءك بغضب!)..هكذا قال لنا –مثقفو- تلك المرحلة..

متأثرين تماما بكل ما هو دائر هناك..وراء الحدود..

فالماركسيين قالوا لنا انتم جزء من البشرية..الإسلاميين قالوا لنا انتم جزء من امة الإسلام..أما القوميين فقد قالوا لنا بل انتم جزء من امة عربية واحدة!

ازدادت الحيرة وانتشر الارتباك وتطايرت الرؤوس بسبب الحروب التي دارت بين كل من هذه -القبائل- الفكرية,وانطبق علينا المثل العامي العراقي..( طلع هذا الحمار من هذا الوحل!..).

وما جاء في سياق متن هذا الكتاب,هي محاولة بسيطة لفهم الذات ومواجهتها بالحقيقة التي تأبى أحيانا كرامتنا واعتزازنا بهويتنا أن نعترف بالأخطاء التي ارتكبناها وإنكارها..هي محاولة لمحاصرة الذات بالأسئلة المزعجة غير المجاملة عن كينونتها..ووجدت أن رأي الآخرين الأقربين منا..الكتاب العرب ربما تصلح بداية للمكاشفة ونزع الأقنعة البطولية الزائفة التي أصبحت جزءا من وجوهنا!

لم اقصد أن أروج لآي كاتب أو كتاب أو حتى لفكرة محددة..بل القصد هو جدلية البحث المضني عن جذور تشعبت وتشابكت مع أفكار وايدولوجيا وأشخاص!..

وان كانت هذه الجذور تبدو لي – كما اغلب العراقيين- واضحة,لكنها كسراب الصحراء,عصية على الإمساك بها ووضعها على مائدة البحث العلمي والنفسي,

لكني في النهاية- نهاية محاولتي- لم يبقى مترسبا في سوى الحب والنفور!..الحب

126

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لهذه الشخصية ذات الجذور الغارقة في القدم..والنفور الذي يسببه الخوف منها!

شخصية قريبة الشبه بآلهات تلك العصور السحيقة,التي تتراءى للبعض,كما ورد في الألواح الطينية,حنونة وحانية..وللبعض الآخر,قاسية وجبارة في ظلمها..أنها شخصية ارض السواد..العراق..الغارقة في الحزن الأبدي حتى النخاع والتضحية المجانية,القسوة المفرطة ومزيج غريب من آلهة غير معروفة الواجبات!

ولعل الأقرب إليها- الشخصية العراقية- هي شخصية الإله آيا..اله الماء..فهو من جهة خان مجمع الآلهة البابلي-الاوناناكي- وسرب قرارهم الرهيب بإبادة الجنس البشري وتدمير الإنسان بتسليط الطوفان الكبير عليهم وإغراقهم,إلى الورع التقي

-اوتونبشتم- لينقذ ما يستطيع إنقاذه قبل حلول الكارثة سواء من بشر أو حيوانات..لكنه- أي الإله آيا- كان في نفس الوقت أداة تنفيذ الغضب الإلهي ومدمر القرى والمدن..الزرع والضرع..مدن العراق وحضارته..شيء محير!!

خليط متوازن من الخير والشر,ولعل هذه هي جدلية الإنسان منذ خلق ولحدالآن

ليس في العراق وحده بل في كل مكان..الرحمة والقسوة!

هذا عن الماضي البعيد,الذي خلف لنا إشكالية كبرى,بل مشكلة مستعصية,هي غياب القضية..أو هموم الوطن؟

فالمواطن العراقي ينظر إلى الوطن من خلال المنظور الديني أو العرقي أو حتى المذهبي..وحتى لا نوغل في التاريخ البعيد,ولو أن دراسته ضرورية لفهم التقلبات الحادة في مزاجية الفرد العراقي,نأخذ تاريخا محددا من مسيرة العراق الحديث.. أي منذ عام 1958,في الحقيقة أن تجذر ظاهرة العنف السياسي والعرقي

127

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

والطائفي ابعد من هذا التاريخ..لكن منذ هذا التاريخ اخذ العنف بعدا تنظيميا ومنهجيا يشبه الإبادة الجماعية كافتراس الإنسان لأعضاء جسمه!

ففي صبيحة 14 تموز من ذلك العام قامت(ثورة) حيث انتفض عدد من قادة ضباط الجيش العراقي على الحكم الملكي الذي كان قائما لغاية هذا التاريخ وصاحب تلك الأيام المشئومة عمليات اغتيال وقتل وتقطيع أوصال جثث العائلة المالكة وبعض رموز العهد الملكي من السياسيين وسحلهم أو ما تبقى من أجسادهم بواسطة الحبال في الشوارع العامة للعاصمة بغداد في مهرجان شعبي  جهنمي لم يشهد له العراق مثيل من قبل..أما القتلة فقد نصبوا أنفسهم قادة وأولياء على أمور البلد,وسط سكوت جزء مرعوب من الشعب وخروج الأغلبية راقصة في الشوارع على خلفية رائحة الدماء والأشلاء الممزقة تماما كما تجذب رائحة الدماء الذئاب الجائعة..لقد كان صباح ذلك اليوم الشؤم هو بداية الانحدار السريع نحو عمق هاوية العنف الذي لا رجعة عنه..فلم نسمع أو نقرأ أو نشاهد,أن عقوبات قد اتخذت بحق القائمين على تلك الأعمال البربرية أو إحالتهم إلى المحاكمة!..حتى ولو كانت عقوبات معنوية أو استهلاكية,بل لقد تم نسيان الأمر بكل(بساطة) واغفل الملف في زوايا النسيان.ولقد كان ذاك البعض من الشعب العراقي الذي لم يشارك في مهرجان الرقص الدموي على أشلاء المغدورين أو يرضى عن حفلات الدم,يرغب في أعماقه بإنزال العقاب الإلهي أو أن تحل العدالة السماوية محل العدالة الأرضية المفقودة,لهذا بداء بترويج الكثير من الإشاعات أو أنصاف الحقائق عن أخبار القتلة وعلى شكل(قيل أن فلانا..)

128

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أي أن محاكمة العهد الدموي قد تمت في محكمة ضمير الشعب وعلى شكل فيه الكثير من الأسطورة التي يعشقها العراقيون عامة,والتي تبقى هي الملاذ الأخير لشعب مسلوب الإرادة بشكل كامل وتام..وشعب ضعيف متعب وخائف!

كان من الممكن أن يتوقف مهرجان الدم عند هذا الحد,وان يبقى محصورا بين الراغبين في الحصول على السلطة والمتكالبين عليها والمنتفعين بها..لكن الإشارة الثانية لم تتأخر طويلا,ووقعت الأحداث البربرية في مدينتي الموصل وكركوك,اقصد هنا أحداث ما بات متعارف عليه باسم قطار السلام السيئ الصيت.والتي تمت خلال نفس فترة الحكم التي جاءت بعد الكريم قاسم إلى سدة الحكم التي أنشئت على أشلاء جثث العائلة المالكة ونصبته رئيسا لأول جمهورية في تاريخ العراق وقائدا(للثورة)..حيث تم حشد وتعبئة مجاميع من رعاع الشعب وزبالته ومن مختلف أنحاء العراق وشحنهم في القطار المذكور وإرسالهم إلى المدينتين المنكوبتين,بحجة أقامة مهرجان شعبي يدعو إلى (السلام!) ويشرف عليه الحزب الشيوعي العراقي..وهناك اتضحت النية من هذا الحشد المشبوه..حيث تم إلى افتعال حادث معين لتبدأ بعده أعمال القتل والسحل وتعليق جثث أعدائهم على أعمدة الكهرباء,بما فيها جثث النساء..في موجة جديدة من العنف الوحشي الذي لم يشهد له العراق الحديث أي مثيل,والتي لا يمكن مقارنتها ألا بالحكايات المكتوبة عن غزو المغول للعراق..وطبعا هنا لا نريد الدخول في تفاصيل الحكاية المعروفة..لكن السماح لهؤلاء الرعاع بارتكاب ما ارتكبوه من أثم وعدم محاكمتهم محاكمة حقيقية قد أسسوا لتقليد(ثوري!) جديد تمام الجدة في

129

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قاموس العنف العراقي,والمؤسف له,أن هذه الأعمال تمت تحت يافطة مباركة وتنظيم الحزب الشيوعي العراقي,وان هؤلاء الرعاع,هم إما من أعضاء الحزب أو المتعاطفين معه.

كان من الممكن تفهم عقلية ناس عسكر أنصاف مثقفين,مثل الحكم القائم برئاسة عبد الكريم قاسم التي تمت المذبحة تحت أبصارهم أن لم نقل مباركتهم,لكن من غير المفهوم تماما حينذاك-قبل انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية وانتشار الفضائح- أن يقبل الأمر من حزب يدعي الأهداف النبيلة ويحمل رسالة التغيير نحو الأفضل!! وهكذا تجاوزت قيادة الحزب هذه (الهفوة) وسلمت ملفها إلى العزيز (نسيان)!..ولم نسمع أو نقرأ..أو نشاهد..أي عمليات تطهير حزبية أو استقالات أو عقوبات أو طرد لأي من أعضاء الحزب وخصوصا الذين ساهموا بشكل مباشر في تلك المذبحة أو حتى عقوبة الإيقاف!

بل في الحقيقة لقد تمت مباركة هذه المجزرة والتغاضي عنها,بل أراد الحزب الشيوعي استغلال هذه القوى الرعاعية في إرهاب خصومه السياسيين والعسكريين,مهددين بها أي شخص أو حزب أو مدينة!..وكأنهم امتلكوا سلاحا فتاكا لا يقدر على استعماله غيرهم- مع أن السنين حكت لنا فيما بعد كيف انقلب سلاحهم الفتاك هذا عليهم وفتك بهم فيما بعد- لم يكن صمت القيادة مفهوما..أما الذي يشكل علامة استفهام كبيرة ومحيرة هو صمت مثقفي هذا الحزب,ولم يكتفي البعض منهم بالتزام صمت قيادته والضحك في الخفاء,بل كانوا أكثر جراءة و(باركوا) هذه العملية الرعاعية وأطلقوا عليها صفة(الثورية) !..وكما يقال في

130

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهاية أن السحر ينقلب على الساحر..فقيادة الحزب والحاكم العسكري اللذان كانا يتنافسان على كسب ود وتحريك ( الجماهير) بإشارة من أصبع احديهما,لم يحسبا حساب أصبع ثالث كان قادرا على تحريك هذه(الجماهير).فكمية السم العنفوي الذي سقوه لهذه الجماهير كانت تفوق كل الحسابات,فانقلبت عليهم مع مجيء بعض المغامرين وشذاذ الآفاق والذي مع إطلالتهم الأولى قد وعدوا هذه الجموع من(الجماهير) بكميات اكبر من العنف ألترياقي الذي اعتاده الشعب.ففي عملية تافهة وسخيفة بكل القياسات والتفاصيل,استولى القادمون الجدد على السلطة ببساطة مذهلة وذلك في عام 1963..وكان انتماء هؤلاء حسبما يدعون إلى تيار القومية العربية..وبعد أن استولوا على الحكم في العراق..وهو في الحقيقة ليس سوى مبنى وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة !..وبعدها يسقط العراق كله في الظلام والصمت والترقب المتوتر,فهذين المبنيين هما قلب العراق النابض!

كان الترقب متوترا والأنظار تنتظر الكشف عن هوية الحكام الجدد وهذا شيء مهم جدا في الشارع العراقي الذي ينتظر أن يضبط إيقاعه على درجات العزف القادمة من الجوقة الجديدة,وعلى أول نغمة سيعزفها هؤلاء سترقص(الجماهير)  من زاخو إلى الفاو..وهكذا كان..وانقلبت (الجماهير الثورية) على الحاكم العسكري الذي حوصر وقتل على مرأى من الجميع في وزارة الدفاع..بل لقد تم نقل مشهد مقزز يعبر عن استهانة بكل محرمات الأرض والسماء,فعندما شوهد عبر الشاشات الزعيم عبد الكريم قاسم الذي مزق الرصاص جسده,جاء شخص ما ليرفع رأس الميت من شعره ويبصق بحقد في وجهه على مرأى من الشعب

131

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كله..! وكما في السابق ,فقد تم تنصيب القتلة الجدد حكاما جدد..وخرجت إلى الشارع(الجماهير) راقصة محتفلة بالعهد الجديد ولاعنة العهد البائد! وصاحب هذه الرقصة البدائية افتتاح موسم اصطياد الشيوعيين الذين كانوا قد تحالفوا مع النظام البائد وحيثما وجدوا..حيث تم قتل المئات منهم وتوزع الباقين بين السجون التي مورست فيها اشد أنواع التعذيب والاغتصاب,  مذكرة بمحاكم التفتيش السيئة الصيت والتي سادت في أوربا أثناء القرون الوسطى ضد الهراطقة..في عملية بشعة تخلو من أي رحمة أو إنسانية أو دينية.ووجد الحزب الشيوعي العراقي ذو القاعدة(الجماهيرية) الواسعة والتي كان الحزب يتبجح بتحريكها بأصبعه!..وحيدا في ساحة المواجهة الهمجية,وان هذه (الجماهير) تلاحقه بنفس  الأسلحة التي سلحها بها ذات مرة في الموصل وكركوك!..ودارت الدوائر عليهم

وأصبح اسم(شيوعي) يثير جنون هذه (الجماهير)المتعطشة لسفك الدماء,وأسلمت رقابهم بدم بارد إلى مجرمي ما سمي حينذاك ب(الحرس القومي),الذي أنشئ على نفس مبادئ الحرس النازي أو قوات العاصفة إبان الحكم النازي المقيت في ألمانيا.وبعد أن أثخن جسد الحزب بالجراح,تأمر واحد من القادة الجدد على رفاقه واستطاع أقصاهم ليتسلم القيادة وينفرد بها,لقد كان(عبد السلام عارف) الذي أراد التنصل من الأفعال الشائنة التي قام بها رفاقه في الثورة وأطلق على حرسهم اسم(الحرس اللاقومي)..لكنه وكما من سبقوه,لم يقد إلى المحاكم الحقيقة كل من أساء وقتل وعذب,بل لجئ إلى المحاكم ليتخلص من خصومه السياسيين واكتفى بالتنكيل برفاق انقلابه.كل هذا حدث في وتيرة متسارعة وغريبة الإيقاع,لكن

132

 

 

 

 

 

 

هذه الأحداث رسخت في ذهنية المواطن العراقي صورة العنف الدموي وشرعت هذه الانقلابات غير الشرعية كل ما يليها من اعمل بربرية,لان كل من يستولي على الحكم يمارسها ضد أعدائه وسلاحه المفضل هي هذه(الجماهير) التي اعتادت على لعق الدماء والأعتياش عليها.كذلك لم يبقى العنف محصورا على السياسيين المتكالبين على كرسيي وزارة الدفاع والإذاعة,بل تعداه إلى(الجماهير) التي أصبحت تتحفز لرؤية السياسيين- أي كانت ايدولوجيتهم-وهم معلقين على الحبال وجثثهم تسحل في الشوارع,وكذلك لما يصاحب هذه الأعمال(الثورية)من عمليات سرقة ونهب وهتك أعراض.

بعد أحداث عام 1963 أصبح المرض عضال واستمكن من رقبة(الجماهير) ولم ينجو حتى المثقفين العراقيين منه,وأصبح من النادر أن يرى مثقف عراقي يقف بنفسه بعيدا عن المشهد السياسي المتصارع بوحشية حيوانية,بل انغمسوا بهذه اللعبة الجهنمية وغرقوا فيها,وأصبحنا نرى مثقفين محسوبين على هذا التيار أو ذاك أو ذاك,كذلك فقدوا المبدئية وأصبحوا يتنقلون بين هذا الحزب أو ذاك كما يتنقل الشخص بين حجرات المبغى بدون أي وازع أخلاقي أو مبدئي,فمن كان في الأمس شيوعيا تراه بعد ذلك بعثيا وغدا سترونه إسلاميا أو ليبراليا جديدا وهكذا..كما أن الأثر السيئ الذي خلفه مثقفو تلك الفترات الحالكة من عمر العراق أصبح من الصعب محو أثره السيئ,فقد أسسوا ثقافة شعبوية ليست نخبوية قادرة على قيادة المجتمع نحو التطور الحضاري كما في المجتمعات السليمة,نقول ثقافة شعبوية وظيفتها دغدغة المشاعر الدونية(للجماهير)

133

 

 

 

 

وغرائزه,بل كانوا يتبارون بجنون في أثارة غرائز العنف الكامنة في ذاكرة الشعب,وخصوصا منهم الشعراء العراقيون,وأصبح السجال المثير في أحقية سبق البدء في الشعر الحر بين نازك الملائكة وبدر شاكر السياب أهم بكثير من أبراز جماليات الشاعرين وترسيخ قيم الجمال والحب والإنسانية عند الشعب.. والشعر كما هو معروف هو اقرب الفنون الجميلة إلى وجدانية الشعب العراقي,لهذا اندفع هؤلاء في المقدمة لأسعار(الجماهير) وتحفيزها على إسالة دماء السياسيين العراقيين على أسفلت المدن العراقية,كما كان يفعل تماما أجدادهم الجاهليين فعندما كان يولد في القبيلة العلانية شاعرا تحتفل به أكثر من احتفالها بالمقاتلين,وهكذا كان السجال بين شعراء القبليتين الشيوعية والبعثية والآن دخلت إلى الساحة القبلية العراقية قبيلة الإسلاميين الجدد!

في عام 1968..حلت بالبلد الطامة الكبرى بعودة التيار القومي ألبعثي إلى حكم البلد ,وطبعا عن طريق انقلاب وعملية مغامرة للاستيلاء على المبنيين الأهم, وزارة الدفاع والإذاعة,لكن هذه المرة جاءوا من أعماق القرى البدائية المتخلفة ويحملون معهم قسوة فريدة من نوعها,ومع أن جذور العنف السياسي قد أوغلت بعيدا و بسرعة مذهلة في المجتمع,بعد أن مهد له الطريق سياسيين وعسكريين وأحزاب ومثقفين,ألا أن العنف هذه المرة كان من نوعية أثقل عيارا أسلمت بعده البلد إلى مصير مجهول تماما.مع القادمين الجدد أصبحت حروب العراق لا تتوقف وخصوصا على الجبهة الشمالية وضد مواطنين عراقيين من الأكراد..

استنفار(الجماهير) وعسكرة المجتمع التي قامت على قدم وساق,وارتفاع

134

 

 

 

شعار(لا صوت يعلو على صوت المعركة) بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1967 أمام إسرائيل,التي أصبح لها طعم العلقم على كل فم..كان التحضير جاري لنوعية مختلفة من العنف التي لم يشهد لها العراق بعد من مثيل والتي أوصلته إلى نظام المقابر الجماعية..في تلك الفترة الحالكة من تاريخ العراق السياسي والمعاش,شهد البلد مهزلة جديدة من مهازله السياسية التي لا تنتهي أو لعبة جديدة اسمها(الجبهة الوطنية) بين الحزبين الكبيرين عندها,الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي,وكلاهما لم يجف دمه بعد مما واقعه بعضهما بالبعض..مهما قيل عن هذه المهزلة السياسية هو كذب مفضوح وتبرير سمج في وقت ضاع فيه العراق والى الأبد..كلاهما دخل هذه الجبهة المزعومة وهو يحمل نوايا الغدر بالطرف الثاني,كلاهما كان يعرفان والسؤال هو متى ستبدأ المواجهة وليس احتمالية وقوعها!..حتى (الجماهير) التي كانت هدف الحزبين وأملهما بتحويل هذا السلاح الفتاك لصالحه,كانت تعرف أن المواجهة قادمة وأنها في النهاية كانت ستلعق دماء احدهما وليس مهما من يكون!

كانت ( الجماهير) هو الوحش الرابض والمتربص والعارف أن الغدر هو من خصال الأحزاب العراقية وعليه كان يمني النفس برؤية أحداث ساخنة وعما قريب..وكان كلا الحزبين يعد نفسه للضربة الأولى,ولكن يبدو أن الحزب الشيوعي وعلى ما جبل عليه من رومانسية ثورية قد تسلل إلى أوصال جسده المثخن بالجراح بعض الخدر أما الطرف الآخر القادم من عمق الريف المتخلف المتوحش فقد كان اشد يقضه ويحمل كميات اكبر من نوايا الغدر,وهكذا كان

135

 

 

وانتهت المسرحية الهزلية الجبهوية بمجزرة هائلة أعدها البعثيون إلى رفاق الأمس وانهوا أسطورة الحزب الشيوعي العراقي بشكل نهائي وانفردوا بالحكم بدون أي منغصات إلى أن أسقطهم الأمريكان عام 2003.كما وانقض الوحش الرابض مع المنتصرين على المهزومين وكانت كمية الدم كبيرة هذه المرة, كما انقض الحكم الجديد على هذا الوحش المخيف(الجماهير) في محاولة لامتصاص إمكانياته بإشراكه في سلسلة حروب متواصلة أوصلت البلد في النهاية إلى الهلاك فقد أدرك الحكم الجديد أن عدوه الأول هو هذه(الجماهير)لهذا دخل معها في صراع وجودي مخيف تراوحت بين المكرمات والهبات إلى المقابر الجماعية..

وكلاهما أنهكت قواهما واستنزفت,ومع دخول الأمريكان إلى المدن العراقية خرج هذا الوحش ثانية ليمزق نفسه هذه المرة وتاريخه وذاكرته,فلم تسلم مدرسة أو جامعة أو مستشفى أو مكتبة أو متحف أو دائرة حكومية من أعمال السلب والنهب والتدمير..والإبادة!

وهنا بدا موسم اصطياد البعثيين,بعد أن أطلق هذا الحزب نفس الوحش (الجماهير) لاصطياد الشيوعيين.في النهاية لم تعد الأحزاب قادرة على العمل السياسي في ساحة ساهموا هم قبل غيرهم على تسميمها وجعلها غير صالحة لأي شيء وارض يباب..

الإسلاميين الذين انتظروا طويلا يحاولون بهمة الدخول إلى الأرض البور للمنافسة لكنهم يعرفون أن (الجماهير) لا يمكن أن تبقى (جماهير) وان من المهم جدا تفتيت وتحييد هذا الوحش,لهذا يدخلون بهمة وثقة إلى الساحة العراقية لأنهم

136

 

 

 

واثقون من سلاحهم الجديد..الطائفية..فهذا السلاح الفتاك لم تستعمله( الجماهير) من قبل,والإسلاميين يعتقدون من أن هذا السلاح الذي ينزلون به إلى الميدان قادر على ترويض وتفتيت هذا الشعب الذي لم تعد تفيد فيه أي أنواع من المسكنات أو المهدئات.فقد أثخن جسده بالجراح وتلبد.

 

 

 

 

137

 

 

 

 

 

 

عن عامر تايه

شاهد أيضاً

” هجر و حنين ” للكاتبة رضا الباز

رضا ابراهيم الباز موهبة شابة صاعدة طُبعَت على حسابها الشَّخصي،كتاب (هجر و حنين ) يقعُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *