توالت السنوات بلا عدد احسبه .. لكني لازلت احمل أ ملا كبيرا في النفاذ نحو الحياة الدافقة …
تطلعت طويلا في المرأة , لمحت الشيب المترعرع في ثنايا لحيتي وراسي … لأبدو مثل رخامة بيضاء …
فجأة انتابني الضجر ومضيت نحو السرير المزوي في الركن البعيد .. تمددت فقراتي المتعبة على الفراش , لم اشعر بعد بالطمأنينة …رحت اسمع صدى نبضات قلبي المتناسلة , مع الخواطر المثالة , في أتون الأيام المستمرة … بفوران لايتوقف …
أظل أترقب لعل الفرج آت , تناغمت ذكرياتي , مع عبق الود , حين يحوي الأجساد المنهكة , ونحن نبحث باستمرار , عن رزق كفيف , يملئ قربة المعدة ويثوي عند قرصات الجوع , لكنها تبقى مشرئبة , نحو الحنين المتجذر في النفوس الطيبة …
كنت أتمنى الليلة , ان تأتيني زوارق الغياب , وندهن الجدار نذرا بحناء الوداعة … لعل من رحلوا , يتنفسوا الدرب , وتدلهم حيطان العبث ,على تواريخ منسية لذاكرة ينهشها الخرف .
يتواءم الليل مع نبضاته المتدافعة , نحو الشيخوخة , وثمة أمل يطوي الفزع الملتاث , يمضي نحو تخوم تتداعى عندها وصمة الهذيان …..
شراع يطوي المسافات , برفيف أدرك معه .. ان عدة عملي تحمل عني آهة , تند في حرقة زفير اعتراضاتي المستمرة ….
سرت نحو باب المنزل الموصد , باستمرار .. للتأكد بأن جميع إفراد أسرتي لم يغادروا الدار فقد كنت اخشي عليهم , من هول الانفجارات المتلاحقة بتواصل مفزع ..ربما لايترك لديهم فرصة للنجاة , فنحن نعيش حياة من نوع أخر …
عدت ثانية , لأبقى حيث رائحة القهوة والشاي المعطر .. لطالما كنت اسمع كلمات الثناء والمديح على الشاي الذي اصنعه , واستلم الإكراميات الصغيرة , لأجل ذلك , فأقوم بإخفائها في جيب سري لسروالي الأسود … لأنني كنت أعي ان زوجتي ستبحث في ملابسي, لتأخذ ما ادخرته .. وهي تصرخ :
لم يعد الراتب يكفي .. لأن الدروس الخصوصية وأسعار الوقود .. تمتص المعاش
انتبهت للجرس الموضوع إمامي يرن … نهضت بلا اكتراث , تحركت مفاصلي , شعرت بها تتحرك في الفضاء وحدها بدون نقطة أر تكاز … والبلاطات بدت تتمطى مثل بالونه منفوخة .. حاولت ان أمد يدي نحو الباب المتراخي في فزع واصل إلى رتاجه الذي يحمل بصمات الهدوء … دفعته , لم يصر منذ ان دهنته في الشتاء الماضي ,خفت صوته .. لكنني أحسست ان صريره أصبح يصدر من مفاصلي الموجوعة ..
تذكرت فقد شاهدت البارحة , في الباب الشرقي , عند الباعة المفترشين الأرصفة , أنبوبة دهان للمفاصل والأعصاب .. أتذكرها جيدا فقد لصقت عليها صورة إنسان بلا جلد .. خلته يشبهني , مما جعلني أتمتم داخلي :
آه يا أخي …
كانت أمور العمل تتغير باستمرار .. فلم تعد الأمور كما كانت في السابق , فقد شحت الإكراميات , وبدا البعض يعاملني بخشونة , وكنت كثيرا ما امتعض من أساليب المحيطين بي .. لكني تعلمت كيف اخفي اضطرابي وراء منظري الوقور بسحنتي الداكنة ..
نهرني صاحب العمل بشدة , تمنيت لو أنفذ بجلدي المسلوخ من هذه الزاوية إلى غير رجعة , لكني لااستطيع فعل ذلك, وورائي كوم لحم … كما تردد زوجتي دائما …
في الخارج كان صوت الرصاص يسمع بوضوح , تطلعت من النافذة , رأيت الناس يهربون بفزع موجع , فيما كانت جثة ملقاة على الجانب الأخر من الشارع .. استشعرت بالخوف , وأحسست ان نهايتي قريبة …
مرة أخرى عاود الجرس يرن … لم اعره اهتمامي , فقد كنت أفكر بمصيري , ومصير عائلتي , خالجني شعور غريب , ترى هل استطيع الوصول إلى شارع ( أبو نواس ) لأحتمي بمقر الأمم المتحدة !!!
لابد ان أجد لوسيلة لذلك .. هبطت من البناية الجاثمة وسط الهلع ودوي الانفجارات اقتربت من الباب الرئيسي .. بدا الشارع مقفرا , الأمن بقايا صحف وأوراق متطايرة … وأشلاء ممزقة .. بلا ملامح محددة .. هالني المنظر , وفكرت طويلا قبل ان اخرج نحو المجهول !!
حاولت ان أوقد قنديلا في تجاويف ذاكرتي واتسائل مع نفسي :
لابد من قانون يوقف النزيف المجنون … هل هناك من يستطيع فعل ذلك … ؟؟!! حتما يوجد قانون دولي وأنساني يعطيني وإفراد أسرتي الحماية , من هذا الطوفان المتشظي في الإرجاء بلا رادع …
تركت الجرس يرن , ومضيت وسط الأهوال , اسحق الزجاج المتكسر على امتداد الطريق , وأقاوم رغبة عنيفة بالبكاء من المنظر البائس …
ازت بالقرب من راسي رصاصة , سمعت احدهم يصرخ بي , وقد كان مختبئا خلف برميل القمامة … بعدها اهتز المكان بدوي مخيف …
لم اعد اشعر بألم مفاصلي , واستلقيت على ظهري المحدودب والشقوق تخترق جلدي الممزق … بحثت بأصابعي المرتجفة , عن مساماتي التي أودعتها تحت الملابس , لم اعثر عليها , بل ارتدت يدي , تحمل سائلا لزجا , بلون الدم …
وحل الظلام في عيني , وسكن النبض ي جسدي , لكني كنت اسمع أصوات أبواق متلاحقة ..
فشعرت بأني أطير بخفة عجيبة … تسألت :
هل أحلم …؟؟!!
حاولت فتح حدقتي .. لمحت نورا يأتيني من فوق جسدي المسجى , يلسع عيوني , فأعيد اغماظها … سمعت صوت باب يفتح , وهمهمات لم افهمها … عاودت بعناد , فتح أجفاني المغلقة , شاهدت من وراء ضباب عيوني أناس يحملونني بتؤدة ولمحت خلفهم سيارة إسعاف
رسم عليها ( هلال احمر ) … تساءلت مع نفسي :
هل الجرس لازال يرن .. ؟؟!!
ودسست يدي في الجيب السري لبنطالي الأسود .. أتحسس نقودي … ثم هدأت …