لمحة عن محمود درويش
خالص عزمي
ما زالت الصورة ماثلة أمامي … شعراء على جناح زورق شراعي يتهادى على شط العرب ؛ واحداث المهرجان الادبي تسجل بقلم المربد الاول تلك اللوحة التذكارية الزاهية بالالوان والأمان ؛ وسعفات النخيل تظلل نغمات ضحكاتهم المرحة كلما اقتربوا من شواطيء معقل البصرة . دعوني اشاهدهم بالمنظار المكبر من شرفة الفندق ؛انهم مجموعة متألقة من صداحي الشعر ؛ محمود درويش ؛ خليل حاوي ؛ بلند الحيدري ؛ ؛ سليمان العيسى عاتكة وهبي الخزرجي احمد عبد المعطي حجازي وآخرين . كأنهم كوكبة من نجوم تحط ركابها على أكتاف فجر وثاب الخطى يستشرف الآتي من الزمن ؛ وبصرة الفراهيدي تستقبلهم بترحابها المعهود كلما ذهبوا او آبوا .
كانت أمسيات الشعر المتدفق المحلق ينطلق من منابر هذه المدينة العريقة بتاريخها اللغوي ؛ وكان الجواهري ؛ وحافظ جميل ؛ ونزار قباني ؛ ولميعة عمارة ؛ والفيتوري ؛ وأدونيس ؛ وحسين مردان … وكان لمحمود درويش صوته المغرد المتفرد ؛ يصعد المنصة فاذا به يجسد امام المخيلة عباقرة الشعر الفلسطيني الرواد ؛ معين بسيسو وابراهيم طوقان وبرهان الدين العبوشي ووديع البستاني ؛ …بل وحتى من سار على دربهم من الرعيل الثاني ؛ فدوى طوقان ؛ ؛ جبرا ابراهيم جبرا ؛ ابراهيم الخطيب ؛ سلمى الخضراء الجيوسي؛ هارون رشيد ؛ ثريا ملحس …وآخرين ؛لقد كنا نشم من عطر ازاهير شعره عطردواوين تلك الصفوة المتألقة من ابناء ارض المقاومة الذين منحوا الشعر العربي طاقات أبداعية من نسيجهم المتألق .
كان نيسان من عام 1971 …..؛ حيث تورق الاشجار ؛ وتتباهى بجمالها الأوراد ؛ موعدا لاستقبال هذا الشاعر الفلسطيني المجدد ؛ ومشاهدة طلعته الناصعة وهو يلقى من شذى انفاس قصائده البكر ما يضفي على الفيحاء لونا محببا من انغام قيثارته ؛ بصيغته الخاصة والقائه الواضح العذب .
من لحظة ذلك الظهور الاول ؛ ظل محمود درويش على صلة حميمة بالادباء الاصلاء من رباب الحرف المعتزين بكرامة نتاجهم ؛ فكانت له لقاءات متواصلة الحلقات مع جمهوره الواسع
ومما اذكره لاحد معلمي البصرة ممن انتدب لمرافقة الوفود وكان من محبي الشعر والغناء ؛ ترديده لمقطع لحنه هو عفو الخاطر من قصيدة لهذا الشاعر الكبير يتحدث فيها عن مخضل الارض الممرعة وانعكاسها على حالة مستديمة من عشق الوطن والدفاع المستميت عنه :
(إنّا نحبّ الورد ، |
لكنّا نحبّ القمح أكثر |
و نحبّ عطر الورد ، |
لكن السنابل منه أطهر |
فاحموا سنابلكم من الأعصار |
بالصدر المسمّر |
هاتوا السياج من الصدور … |
من الصدور ؛ فكيف يكسر ؟؟ |
إقبض على عنق السنابل |
مثلما عانقت خنجر! |
الأرض ، و الفلاح ، و الإصرار ، |
قل لي : كيف تقهر… |
هذي الأقانيم الثلاثة ، |
كيف تقهر ) |
كان محمود درويش ؛ يلقى الشعر وكأنه موسيقي فذ يعزف على كمانه عزفا منفردا فيغدق على اوتارها من احساسه الفني رقة وحنانا ؛ على الرغم من ان الافكار التي كانت تتدفق منها على المتلقي كان لها تأثير في غاية العمق والجدة
خذ ايا من دواوينـــه ( اوراق الزيتون ؛ مطر ناعم في خريف بعيد ؛ مديح الظل العالي ؛ شيء عن الوطن ؛ لاتعتذر عما فعلت ….) وغيرها او مما صدر بعدها تجد ان سر عظمة شاعريته تتضح في ان غنائية وعمق شعره الذي يسمع ؛ يوازي عمق وحلاوة شعره الذي يقرأ :
وشاح المغرب الوردي فوق ضفائر الحلوه |
و حبة برتقال كانت الشمس. |
تحاول كفها البيضاء أن تصطادها عنوة |
و تصرخ بي، و كل صراخها همس: |
أخي !يا سلمي العالي! |
أريد الشمس بالقوة! |
..و في الليل رماديّ، رأينا الكوكب الفضي |
ينقط ضوءه العسلي فوق نوافذ البيت. |
وقالت، و هي حين تقول، تدفعني إلى الصمت: |
تعال غدا لنزرعه.. مكان الشوك في الأرض! |
أبي من أجلها صلّى و صام.. |
و جاب أرض الهند و الإغريق |
إلها راكعا لغبار رجليها |
وجاع لأجلها في البيد.. أجيالا يشدّ النوق |
و أقسم تحت عينيها |
يمين قناعة الخالق بالمخلوق! |
من الصدف العجيبة ؛ ان يكون لقاؤنا الاخيرفي بغداد ؛ وفيها كانت لنا صورة غالية على النفس عند نصب الشهيد ؛ توثق له والشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي وهما يحملان أكليلا من الزهور باسم الادباء والشعراء المشاركين في المربد ؛ اما انا فقد كنت خلفهما مباشرة وكانت لقطة فريدة لم احسب انها ستكون آخر صورة اظهر فيها مع هذين الراحلين الكبيرين .
ان مميزات شعرمحمود درويش ؛ تكمن في مكثفات يمكن ايجازها في التعبيرالمصغر التالي :
جدة في المواضيع المختارة بعناية وحصافة ؛ حداثة مدروسة من خلال اسلوب التناول التفصيلي ؛ لغة عربية صافية في فصاحتها مؤطرة ببلاغة متفردة في انتقاء المفردات الملائمة تماما للتعبير الذي ينشده عن النمو العضوي لمجمل القصيدة التي تتفاعل في دواخله .
رحمه الله