ناجي العلي

ناجى العلى

اسامة كمال

لم أعرف ناجى العلى إلا متاخراً ، ففى طفولتى الاولى لم يصل الى أذنى اسمه ، او تترقرق امامى كلمات عنه ، وعند مراهقتى تحدثت مع رفاق الصبا فى كل شىء ، ولم أكن ادرى عنه اى شىء ، مع دخولى الجامعة رأيت حنظلة مرفوعا فى احدى مظاهرات الطلبة .  طفل لا ترى وجهه .  خطوط رسمه بسيطة جداً ، لكنها تحاصر القلب بغلالات الحزن ، شعرت اننى اسير فى المظاهرة وراءه ، وليس وراء أحد آخر .. انتهت المظاهرة وتفرق الجميع وبقى معى حنظلة وابى ان يغادرنى حتى الآن … سألت عنه اجابونى بكلمتين : ناجى العلى .. صعد الاسم الى روحى كنسمات الفجر الاولى ، وتدفق اصوات العصافير مع ميلاد الصباح .

ولاننى عرفته متاخراً ، فعرفته دفعة واحدة .. وشاءت أقدارى ان يبزغ ناجى داخلى من خلال شريط سينما لمخرجنا الراحل عاطف الطيب ، فبعد أن سمعت عن ناجى العلى بأيام قليلة ، تم عرض فيلم  ناجى العلى ، بل وفاز بجائزة مهرجان القاهرة وقتها ، وحدثت الازمة ، وقاد رئيس تحرير جريدة مصرية كبرى حملة ضد الفيلم وضد صناعه ، واتهمهم فى شرفهم الوطنى ، باعتبار أن ناجى العلى أحد من تطاولوا على مصر ، فحاول صناع الفيلم الدفاع عن شرف وطنيتهم المهدرة ، وايضاً عن ناجى العلى ، فحملوا الفيلم من مكان الى مكان عارضين وجهة نظرهم فى الدفاع عن الفيلم وعن الشخصية ، وفى كل الاماكن التى عرضوا فيها الفيلم كنت احد مشاهديه ، وقتها لم اسمع دفاعهم ، ولم اهتم بتلك الحملة المسعورة ضد الفيلم وضد ناجى العلى ، فقط كنت مأخوزاً بتلك الخطوط التى تمزج بين الابيض والاسود ، وتخرج رسومات لها قوة الحياة ، ودفقة الشعر عندما ينساب على الورق الابيض ، فى لحظات خارج الزمن ، وتحول ناجى العلى الى شيخى ، وتحولت دون ان ادرى الى أحد مريديه …  حاولت أن اكتب كلمات توازى حزن رسوماته الشفيف فلم أستطع ..  حاولت أن اخط اشعاراً تكون فى الصفحة المقابلة لحنظلة ، فلم استطع .. حاولت أن ألملم الغصب والحزن والتمرد وجسارة روح ناجى العلى ، فلم استطع .. مع الوقت عرفت أننى لم اهجر وطنى صغيراً الى المخيمات ، ولم تغادر العصافير قلبى دون ان تعود ، ولم يتعرض جسدى وروحى الى مرارة فقد الوطن ، ولم يسرق أحد احلامى فى وضح النهار ويلقيها دون مبالاة ، ويهيل عليها تراب الصمت البغيض ، ولم اتعرض لحبس النفس الطليقة فى سجون حكومات الأعداء والأصدقاء ، ولم أشعر يوماً باستلاب الروح من مكمنها الأثير ، ولم تترقرق فى عيونى دموع الفقد للراحلين من الاهل والصحبة وابناء نفس المصير ، ولم ….. ، ولم ….. ، ولم …. فأدركت أننى مجرد مريد لرسومات خرجت من وهج الذكريات الأولى لفقد الوطن ، ومن نسمات الاحلام الرهيفة بالعودة اليه ، ومن الغضب على كل من تاجروا با لارض مقابل بريق المقاعد وحفنة الاموال … وادركت أننى مجرد مريد لثائر أبيض لا يرضى بغير اللون الأبيض ، ولا يقبل ان تلوثه مسحة سواد ، يدق باصابعه نتوءً بارذاً فى القلب وشمساً لا تغيب … لم أستغرب يوماً بأن خطوطه مجرد لونين ، فاللونان خطان متوازيان يسيران جنبا الى جنب :  الأبيض هو حضور الوطن البعيد الى الروح والى الحياة ، والأسود هو غياب ارض الطفولة الاولى فى الجب ، تنتظر من يمد لها حبل الخروج الى الميلاد الجديد .. ولم استغرب أن يكون حنظلة ، الذى يبدو دائما من الخلف ، وكأنه بلا ملامح هو قنطرة عبور ناجى العلى من شمس طفولته الاولى ، الى غروب وطنه الأسيف .

لكل ذلك لم استطع الا ان اكون مجرد مريد لفنان لم تقدر ثلاثة رصاصات صادرة من كاتم الصوت ، ان تكتم براءة أحلامه بأن يعود الى قرية الشجرة ليستظل باروراقها التى تغطى الآن قبره فى لندن ، وتتطايرحول جسده المسجى هناك

عن admin

مجلة ثقافية مستقلة أسسها ويرأس تحريرها عامر تايه

شاهد أيضاً

الاتجاه المعاكس

الاتجاه المعاكس «من رواية قنابل الثقوب السوداء» وظلا يتابعان أحداث المظاهرات على القنوات الأجنبيّة وبعض …

اترك رد