1
…بينما كانت ( هناء) تنزلق في النوم، وضعت الكتاب جانبا. نامت وعلى فمها ابتسامة كمن يحلم بألعاب جديدة غداً، لكنها عندما استيقظت اليوم، استيقظت متأخرة، فالشمس كانت في وسط السماء…وحين خرجت من المنزل ، كان صمت الظهيرة يردد صدى كل صوت أو حركة .
وبعد أن غادرت البلدة ، رأت من بعيد شخصاً يقف فوق الجسر، وحين أمعنت النظر عرفت من يكون فتساءلتْ عما يفعله هناك ؟!
..ها هي تراه بعد انقضاء أقل من ساعة على استيقاظها اليوم، وكان هو آخر من رأت ليلة أمس..!ولم تكن هناء تنزعج من زيارات ( سليم )، إنها فقط تريده أن يكف عن ملء فمه بالمبالغات السخيفة. كانت تلميحاته في البداية خجولة، لكنه فوجئ برفضها الحاسم الذي جاء – كما يقول – مختصراً..كالموت!
.. في الأثناء ذاتها – في مكان آخر – خرج (أحمد) إلى دروب البلدة كمن يبحث عن شيء أضاعه، لكنه في الحقيقة وجد شيئا، وأراد أن ينبه الأصدقاء إلى أن تحذيراتهم بعد البروفة الأخيرة كانت صائبة، فإذا كانوا عينة تمثل الجمهور المفترض، فلا شك أنه قد فشل في تقديم ( التراجيديا).. كتراجيديا! فجأة بعدما راح يطرق أبواب الأصدقاء فقط، أخذ يطرق كل باب يصادفه -دون أن ينتظر الرد- وهو يضحك..
لكن (هناء) كانت قد ابتعدت عن البلدة واقتربت من الجسر.. واستعادت ذكريات كثيرة وهي تمشي، وعندما توقفت في مقدمة الجسر، أحست أنها مشت كثيراً.. مع ذلك لم يلتفت ( سليم ) نحوها حتى حين أصبحت على مقربة منه…ظل يستند بظهره ومرفقيه على الحاجز الحديدي..
و يريد (أحمد) من الأصدقاء الحضور غدا من أجل مشاهدة التدريبات على مسرحية مختلفة تماما – هي المسرحية نفسها مع ذلك- حتى اسمها سيكون هو اسم المسرحية ذاته ولكن بطريقة أخرى!
كأن حلماً واحداً يجمع الثلاثة : (أحمد) و(سليم) و(هناء)، لكن أحدهم- فقط – هو الذي يحلم ، بينما يتحرك الاثنان الآخران داخل حلمه بخفة وحرية ..
ووجدت (هناء) نفسها مضطرة لأن تقول شيئا:
-” مرحبا ؟”
.. وكرد على التحية، نظر (سليم) إليها، لكنه لم ينطق:
-“…..”
فقالت:
-” هل تنتظرني لكي تلبي الدعوة التي رفضتها بالأمس؟”
-” طبعا لا “- قال سليم – ” فقد قلت أن لدي عمل مصيري اليوم.. “
-” من المدهش أن تتذكر ذلك رغم أنك تفعل عكسه.. فأنا لا أراك تقوم بأي عمل، حتى لو كان غير.. مصيري..”
-” سترينه بعد قليل، أي في وقت حدوثه، لأن معرفة الحمقى للأحداث تعتمد على تصادف رؤيتهم لها في وقت وقوعها وليس قبل ذلك “
-” ..طيب..طيب.. إذا كنت لا تريد مرافقتي إلى الكروم، فأنت تنتظر سيارة ذاهبة إلى المدينة، لكنك لن تجد سيارة بعد الظهر – حتى في بقية أيام الأسبوع – ونحن الآن بعد الظهر، كما إنك لن تجد يوم الجمعة – حتى قبل الظهر – سيارة ذاهبة إلى المدينة، واليوم جمعة، لكن خطأً مزدوجاً أمر عادي بالنسبة للأغبياء..” ..
.. غير أن (هناء) تعرف أن (سليم) ليس غبياً، وأنه لا يرغب بالسفر إلى المدينة ولكن – هكذا- كان كل حوار بينهما يدور على نفسه .
* * *
حين التقته -ذات مرة- واجهته مباشرة بحقيقة مشاعرها فسألها:
-” لماذا؟”
-“ربما لأنك غبي فقط هل خطر ببالك انه قد يكون سببا كافيا؟”
-” نعم..خطر ببالي واستبعدته فورا.. إذ لو كان غبائي سبب عدم حبك لي فكيف عرفت أن جميع الآخرين أغبياء؟”
-“لكنني لم أقل عن أحد سواك انه غبي “
-“ولم تقولي انك تحبين أحدا سواي…!”
فصرخت (هناء):
-” ولم أقل أنني أحبك أيضا ؟؟”
-” لماذا؟!”
-“يا إلهي .. ألا توجد طريقة تستطيع فتاة من خلالها أن تجعل رجلا يعرف أنها لا تحبه؟”!
-“لا..لا ، هناك طريقة.. أن تقول له هكذا : أنا لا احبك..مباشرة وبشكل مختصر “
..وخرجت الكلمات من بين أسنان (هناء) وهي تقول:
-“..تبدو طريقة مألوفة لي ..ولكن هل تنجح طريقتك مع الجميع؟ بمن فيهم الأغبياء؟!”
-“نعم..كل الرجال يقفون سواسية أمام المرأة التي لا تحب، كما أنهم جميعا يفهمون الموت- لاسيما حين يموتون-مهما كانوا أغبياء و..”
ودوت صرخة فوق رأس (سليم ):
-“ولماذا لم تنجح هذه الطريقة معك حتى الآن؟ هل أنت مختلف عن البشر إلى هذه الدرجة؟!”
-“ربما أنت المختلفة؟”
-“لماذا؟..لأنني لا احبك؟”
-“بل لأنك بالإضافة إلى ذلك لا تحبين سواي”!
-“لكنني لا أحب (الغبي)! أما أنتَ فتحب (الحمقاء)!.. ؟”
-“لا مشكلة عندي..فأنا اعترف بمن أحب ..ولكن أنتِ..لماذا تصدقين ما يقوله الآخرون ؟هل تكرهين نفسك؟!”
كانت (هناء) سترد..فقد فتحت فمها..لكن..وجدت أن كلمة (لا) لا تكفي للإجابة عن سؤاله السخيف، فصمتت. و…
..هذا ما جعل منهما موضوع دعابة رفاقهما-ومعظمهم أعضاء في فرقة الهواة المسرحية-لاسيما (أحمد) أكثرهم حماسة ونشاطا، والذي كان يصر على تقديم (سوتوباليتا ) أمام جمهور البلدة هذا الصيف . و(سوتوباليتا) مأساة من فصل واحد، مأخوذة من تراث السكان الأصليين، لكنها- الآن- تقدم المجازات اللازمة لدعابات الرفاق ، فـ(أحمد) يقول لـ(سليم) حين ينفرد به:
-“…سليم..إذا لم تفعل شيئا فسوف يطير العصفور من يدك.. وكيف لا يطير؟..وقد اقترب موعد سفره إلى المدينة..؟ سوف تبحث عنه فلا تجده ، تناديه فلا يجيب.. ولماذا يجيب؟.. صحيح أنه سيعود في الإجازات الصيفية إلى عشه ، لكنه سيكون أصعب منالاً ، لن تستطيع الإمساك به أو إغرائه بالبقاء، وسوف يغمض عينيه كي لا يراك..”
ورغم أن كلام (أحمد) نصفه دعابة واستعارات مأخوذة من النص إلا أن (سليم) يوافق عليه لأنه وافق مسبقاً على التحدي..بالإضافة إلى أن النصف الآخر من كلام (أحمد ) كان صحيحا، ربما لأن ..مجاز المجاز حقيقة:
-“نعم..”-يقول سليم-“إذا لم أفعل شيئا في الأيام القليلة القادمة فلن أفعل بعد ذلك أي شيء”.
* * *
لم تكن(هناء ) تستطيع – وهذا وحده ماكان يزعجها في زيارات (سليم)- أن تنعته بـ( الغبي) أمام والدها ولم يكن يهمها أنه لا يستطيع هو أيضاً أن ينعتها بـ( الحمقاء) .. للسبب نفسه. ولذا تراشقا أمس، ومن وراء ظهور الجميع ، بإشارات مبطنة ، مع ذلك فإن والدها هو الذي ختم حوارا لم يخف عليه أنه كان عقيماً، حين قال:
-” سليم..اسمع.. اليوم خميس ..يعني غداً الجمعة، سوف نذهب كلنا منذ الصباح إلى البستان .. بينما ستلحق (هناء) بنا بعد الظهر .. تستطيع أنت أيضاً أن ترافقنا فما رأيك؟..لاسيما أن الذهاب إلى البستان ليس عبوراً للجسر..” .
وكان والدها –في الجملة الأخيرة-يستعيد بقصد الدعابة ، ماكان (سليم) قد قاله:
-” أنت يا عم تجتاز جسر البلدة كل يوم لتذهب إلى الكروم وتعود إلى البلدة، لكنك لا تعرف المدينة، أي أنك- في الحقيقة- لا تجتاز الجسر. وأنت يا عم ..تنظر الى السماء فتجدها زرقاء فلا تعود تراها وتظن أنها زرقاء في كل مكان، ولكنها في المدينة سوداء ليس في الليل بل في النهار..!”
..! كان والدها يميل إلى مجالسته ولا يجد فيه عيباً سوى عطالته الدائمة.. كما لو كانت أيامه كلها يوم جمعة طويل لاينتهي ..
ورأت ( هناء) السرور يعبر وجه (سليم) ، ويضيء ملامحه فجأة ، فظنت أنه سيوافق-حتماً- على الدعوة، لكنه على العكس اعتذر..مما أدهشها :
-“لا أستطيع..”-قال سليم-“..فلدي غداً عمل مصيري!”
-“عمل مصيري؟!” سأله والدها “..ما هو؟ وهل تذكرته الآن؟”
-“لم أتذكره ولم أنسه ..كان أمرا مؤجلا وسوف أحسمه غدا”…”
وقد شعرت (هناء) أن المسألة-بالفعل- ليست شيئاً يتذكره أو ينساه ، بل هي شيء آخر ؟..وحتى (هناء) – التي لم تكن حمقاء حقاً-لم تفهم شيئاً أمس.
… وعندما كانت تقطع المسافة نحو (سليم )، بين البلدة من ورائها والجسر من أمامها ؛ مشت على طريق تحيطه صحراء خضراء..لأن البساتين كانت مملوءة بالصمت..وكان مرور النسمات الخفيفة بالأعشاب البرية والأشواك التي تحمل رؤؤسا فارغة على جانبي الطريق ، يصدر خشخشة تشبه الرنين الجاف ..ومنذ كان الجسر لا يزال بعيدا أصبحت (هناء) قادرة على سماع صوت النهر المتدفق تحت (سليم) ،..بل إنها استطاعت أن تسمع للأفق البعيد ..هديرا..خافتا..
وأطلت في ذهنها خواطر صبيانية سخيفة، فاستبعدتها على الفور، لكن..ما إن فعلت ذلك حتى عادت تلك الخواطر واستبدت بعقلها بشكل لا يقاوم..كما يحدث حين نعترض نهرا هادئا بحاجز فتتدفق المياه بقوة عبر الشقوق .. هكذا فكرت.. فيما إذا كان (سليم) ينتظرها في مكان كهذا – في وقت كهذا – من أجل أن يهمس في أذنها بكلمة – جوهرية – لا يجب أن يسمعها أحد ؟! (..ولكن) –قالت هناء لنفسها- )..هل بقيت هناك كلمة جوهرية- واحدة – أكثر سخفا من كل ما قاله حتى الآن؟!)..
..ما الذي يريده منها إذاً.. ؟ تساءلت (هناء): ماذا لو كان عمل سليم المصيري يصل إلى مستوى الحصول على قبلة..بالقوة ؟! وهذه طريقة أخرى للتساؤل عما إذا كانت القبلة تصل إلى مستوى (عمل مصيري)!وفي الحالتين فإن (سليم) وحده يملك الإجابة إذا ابتعد عن الحاجز وقفز نحوها..
وحينها..سوف يمسك بها من كتفيها ، ينظر في عينيها ، ثم ..وسوف تصرخ (هناء) صراخا ممزوجا باللعنات..لكن هذا لن ينفعها في شيء ، سيكون باستطاعة (سليم ) أن يقبلها على خدها الأيمن وعلى خدها الأيسر بينما سيكون عليها مواصلة الصراخ إلى أن يصل صوتها إلى إنسان ما ..إن كان هناك إنسان في هذه (الصحراء)..لن تكون قبلات سهلة ..هذا أكيد..ولابد أن معركة ستنشب ، وسوف يتطاير السباب في الجو..لكن نتيجة المعركة معروفة سلفا…بعد ذلك ، سوف يتركها (سليم) تواصل طريقها عبر الجسر ..وهي تشتم وتلعن ، بينما يعود إلى البلدة وهو يلتفت ويضحك .. وما الذي ستفعله (هناء) وقتها ؟ ماذا ستفعل حقا ؟ هل ستنعته بـ(الغبي) ؟ وما الجديد في ذلك ؟لن يكلف نفسه عناء الرد عليها..هل ستصرخ قائلة أن عدم حبها له قد ازداد الآن بسبب تصرفه الأخرق؟ولكن ماذا سيخسر؟ سيكون قد حصل على قبلة من الفتاة التي يحبها- وإن كانت لا تحبه- ستكون قبلة لحسابه الخاص..! وما الذي باستطاعة (هناء) أن ترد به على عدوانه الإرهابي السافر ؟ هل ستنحني وتدور على نفسها لكي تلتقط الأحجار من الأرض وتقذفه بها ؟؟ غير أن هذا – إن حدث- سيجعله يضحك أكثر ..و أكثر…
(لكن سليم ليس مرحا إلى هذه الدرجة، للأسف..)- قالت هناء لنفسها: (…كما أنه ليس غبيا بحيث يحاول الحصول على ماهو أكثر من قبلة…)..ورغم أنها فكرت جديا بهذا الاحتمال المضحك والمخيف ، لكنها لم تستدر وتعود إلى البلدة ، بل واصلت تقدمها حتى بلغت الجسر…
* * *
بعد مغادرته ليلة أمس، صحبت معها إلى السرير كتاباً كان (سليم) قد أهداه لها ويضم قصصا مترجمة إلى العربية ، اعتادت (هناء) أن تتصفحه قبل النوم بدءا من الغلاف الأخير، أي من الشمال إلى اليمين، وكلما التقاها (سليم) كان يسألها – بشكل عابر- فيما إذا كانت قد انتهت من قراءته، فتجيب بأنها تبذل جهودا خاصة :
-” ..نظرا إلى أنني لا أملك الوقت الكافي ، فإنني أحاول قراءة نهايات القصص فقط، إذ لابد في النهاية أن يكون لكل قصة..معنى”
-“.. طبعا، لابد أن يكون لكل قصة معنى في النهاية !”
يقول (سليم) ذلك ويشدد على الكلمات..كما لو كان هو الذي نطق تلك الجملة أولا..
..هل يسخر (سليم ) منها ؟ فقد كان اختيارا غريبا منذ البداية أن تكون هديته إليها كتابا لا أكثر ولا أقل..!رغم معرفته بأنها ليست مغرمة بالقراءة..وكان من المحتمل أن لا تقرأ ..كتابه!
حاولت التأكد من إيصال سخريتها:
-” لا تسيء فهمي ، فأنا لا أقصد الإساءة لك أو للكتاب حين أقول أنني أقرأ من النهاية إلى البداية ، المسألة مسألة وقت فقط..!”
.. لكن ( هناء ) أطلقت ضحكة عصبية ، فهي فتاة مرحة، صحيح أن مرحها قد لا يكون نابعا من الأعماق لكنه نوع من المرح على أية حال..ذلك النوع الذي نجده لدى الفتيات الجميلات كما لو كان انعكاسا لجمالهن الظاهر أو لثقتهن بجمالهن ، ولذا كانت (هناء ) تعطي انطباعا بأنها تميل لأن تكون بين الآخرين ، لكنها في الحقيقة فتاة حالمة وهي غالبا ما تكون.. وحيدة..!
وكانت( هناء ) قد رحبت من جانبها – وهو أمر لا يقل غرابة- أن تكون هدية (سليم) إليها كتابا –ولا شيء غير كتاب- من أجل أن تقوم بعكس المطلوب: أن تقرأه بدءا من النهاية كنوع من المقاومة..لـ( سليم ) !
و(هناء ) المتفوقة في الدراسة تتفوق في أشياء كثيرة..تتفوق على ذاتها..فقد كانت أكثر ذكاء مما هي مرحة وبيضاء أكثر مما هي جميلة..(بيضاء كالثلج ) كما يقول أهل البلدة..
وكادا يفترقان وهما يضحكان مثل عدوين حميمين..لولا أن (سليم ) قال..بصوت يشبه النداء:
-“…قد يكون علينا أن نعيش المعنى لكي نفهمه…”!
وعندما التفتت (هناء) وجدته قد استدار ومشى…
تستعيد (هناء) ذلك الآن دون ضغينة، لكنها في ذلك الوقت لم تفهم القصص ولم تحبها، كما أنها لم تحب (سليم) ..لسبب مماثل! كان مثل أولئك الأشخاص المتوحدين- كما يقال- الذين يحملون وحدتهم معهم حتى حين يكونون بين الآخرين ، رغم أن ( سليم) غالبا ما يكون بين الآخرين وليس وحيدا . كان يحب قراءة الروايات ، لكن تلك القصص كانت غربية وغامضة بشكل خاص ، ولم يكن ذلك ما تتوقعه (هناء) من الأدب ، فهي تميل إلى قراءة الكتب المدرسية ولذا تبدو تائهة في العطلة الصيفية عادة ولقد قرأت المنهاج المدرسي ، غير أن ما قرأته من ( قصص) لا يمكن أن يكون الشيء نفسه ، وبالعكس ، لكن.. هذا لا يعني أنها لم تشعر برعشة كاللذة حين كانت تقرأ الكتاب رغم غرابته.. تماما.. كما يحدث لنا عندما نسافر إلى بلد بعيد أو نبحر نحو قارة جديدة.. أو، باختصار، حين نجد أنفسنا في مكان لم نكن نعتقد – حتى- أنه موجود، فنكون على أرض غريبة، غير مألوفة لنا..ولا ننتمي إليها..لكننا نكتشف في الوقت نفسه شيئا وهو أن العالم الذي نعيش فيه، عالم واسع وإن كنا نجهله وأن ما نألفه وننتمي إليه، محاط بهذا العالم وينتمي إليه فنشعر بلذة تجعلنا نرتعش..
ليلة أمس قرأت الصفحة ما قبل الأخيرة في قصة لا تعرف عنوانها (كانت قد قرأت خاتمتها منذ بضعة أيام) ثم غفت سريعا واستيقظت اليوم منذ ساعة، ورأت (سليم) من بعيد، فإذا لم يكن يريد مرافقتها ، فلماذا ينتظرها..؟ وإذا لم يكن ينتظرها فما الذي يفعله فوق الجسر..؟ وكم مضى عليه من الوقت وهو واقف هكذا دون حراك..؟ هاهي تتصبب عرقا من شدة الحر، لكن البستان يستحق أن يمشي الإنسان عبر القيظ إليه، آما هو، فما الذي يجبره على أن يصلب نفسه على حاجز الجسر تحت هذه الشمس اللاهبة…؟!
* * *
ولم تطرح(هناء ) فرضية سفره إلى المدينة إلا لكي تستبعدها، أي أنها ألقت طعما لكي تجتذب السمكة الصغيرة إلى الخطاف .. أن يقوم (سليم ) بالعمل الذي ينتظرها من اجل القيام به لكن (سليم) قال:
-“..لا أريد الذهاب إلى المدينة ، فالمدينة لا تقدم شيئاً لي ، بل لك، ثم إن المكان الذي اقصده لا يذهبون إليه بالسيارات..”
-“ولماذا..؟ هل ستصعد إلى السماء ؟..بالمناسبة ، انظر كم هي زرقاء..؟!”
وأدارت (هناء) وجهها إلى الأعلى ، لكنها- في الحقيقة-لم تستطع أن تفتح عينيها في وهج الشمس ، فسمعت بوضوح – وهي مغمضة العينين-صوت ( سليم)وهو ينطق كلمات مغلفة بالكثافة ..كمن يخاطب نفسه:
-“ربما أصعد في وقت لاحق لكن قد يكون علي أولا ..النزول إلى الأرض..!”
وأثبت (سليم) انه سمكة كبيرة قضمت الطعم والخطاف ..ولم تحصل (هناء) على شيء..فقالت:
-“لقد كنت غبيا دائما ثم بدأت تصبح عنيدا ويبدو أن مزيج الغباء والعناد يقود الإنسان نحو الجنون..فأنت منذ الأمس تقول كلاما غير مفهوم..!”
..وبدل أن يجيبها عاد (سليم) إلى الصمت والى النظر بعيدا عنها…ومر بالقرب من قلبها خوف عابر..لم يدم لأكثر من لحظة..لكن ، سرعان ما عاد الخوف وجعل قلبها يهتز طوال لحظة مديدة ..هي المدة التي استغرقتها هذه الفكرة: إن إحساسنا الواقعي بالخوف قبل وقوع أي شيء ..دليل على أن وقوع شيء مخيف…هو احتمال واقعي ..تماما..!
أما (أحمد ) ..فقد لمعت في ذهنه فكرة تمثل حلاً لمشكلة شغلته أياما وظنها بلا حل..وبعد أرق ليال عديدة فهم في لحظة حكمة كان قد سمعها مرارا ، واليوم فكر : إذا كان أكثر ما يخشاه هو أن يتلقى الجمهور مسرحيته المأساوية الشعرية (كمهزلة) ، فإنه يستطيع أن يذهب إلى المهزلة مباشرة و..يعرضها على الجمهور باعتبارها مسرحية كوميدية.. ألا تقول الحكمة: إذا خفت شيئا فعليك أن تقع فيه ؟!.. وهكذا ..وإذا تعثر أحد الممثلين فوق الخشبة ، فلن تكون مشكلة..ستكون جزءا من الكوميديا.. وحتى إذا بكى الجمهور بدل أن يضحك- أثناء العرض الكوميدي – فلن يستغرب ذلك..!
لكن (سليم ) لم يبد أية حركة حتى بعد أن وصلت (هناء ) إلى الجسر و بدأت حوارها معه ؟! وقد يكون سبب ذلك ..هو أنها منذ ابتعدت عن البلدة ، فقد دخلت في شباك مصيدته..وإذا كانت (هناء ) قد احتاجت وقتا قبل أن تعرف هوية الشخص الواقف على الجسر ، فإن (سليم ) لم يكن يحتاج إلا أن يرى طيفا يغادر البلدة لكي يعرف أنه طيف (هناء ) ..!..مع ذلك وطوال المسافة التي قطعتها (هناء) منذ أن رأت ظلا مائلا على الحاجز إلى أن أصبحت على مقربة منه ، فإن (سليم) لم يبدل وضعيته..كان يستند بظهره ويديه على الحاجز الحديدي ، وينظر بشكل مستقيم إلى ما فوق الحاجز المقابل ..بعكس اتجاه النهر ..كما لو أنه ينظر نحو المنبع…
..وعندما أصبحت أقرب ما تكون من (سليم) استعادت (هناء ) ذكرى بعيدة، أبعد ذكرى تستعيدها وهي تسير نحو الجسر …حين كانت طفلة وكان (سليم ) صبيا..وكانت الأصداء البلورية لضحكات الطفولة تتردد في أرجاء البساتين عندما يلعبان..ذات مرة..تسلق (سليم ) جذع شجرة إلى منتصفه ، وقفز من هناك في الهواء .. نحو غصن وأمسك به بيديه..ونظرت (هناء) إلى الأعلى..نظرت نحو (سليم) وهو يتدلى من الغصن وأخذت تطالبه:
-” انزل يا سليم وارفعني مكانك ..فأنا أستطيع أن أتأرجح مثلك..!”
-” كلا”- يقول سليم وهو يتأرجح قي ذكرى الطفولة- ” من كان في مثل سنك لا يستطيع أن يتدلى من فوق غصن عال ..فهذا خطر..”
فتحتج (هناء ) وهي تبكي..وتقول”
-” انزل يا سليم ..انزل..انزل..انزل…”
لكن (سليم ) يواصل تأرجحه..فتواصل هي بكاءها ، هو يتأرجح ، وهي تبكي و..يتأرجح..ويتأرجح..ويتأرجح…
* * *