الرئيسية / نصوص / عودة الى الذاكرة

عودة الى الذاكرة

عودة إلى الذاكرة

قاسم طلاع

 

 

 

في الصباح

تنفجر قنبلة

في المساء يعود

وجسمه

ممزقا

يحمله الآخر.

 

 

رميت نفسي، بيدي، خارج حدود هذا العالم، بعد أن تأكد لي، بأننا سنكون أمام كارثة لا خلاص منها….

هذا العالم الذي دفعني أن أتخذ قرارا، لوحدي، بالهروب منه، دون أن تكون هناك أي ملاحقة من الآخر، سوى شعور، بأن شيء ما سيحدث.

تحرك القطار وبدأت الأشياء تتحرك باتجاه معاكس وتبتعد عني رويدا رويدا، حتى أخي الذي كان حاضرا لوداعي رأيته يصغر بشكل متتالي وبسرعة زمنية لم تتجاوز بضع من الدقائق حتى رأيت جسمه وقد أصبح نقطة وسط أشكال هندسية غير واضحة….

ثم تلاشت…

لم تبق من هذه النقطة سوى تلك اللحظة الزمنية التي كنت قد وقفت فيها أمام والدتي لأقول لها ” الوداع… ربما سنلتقي، في يوم ما، ثانية “.

كانت الظلمة تحيط العربة، أثناء ما كانت تتحرك متجهتا نحو الغرب تحت قبة سماوية تحيطها أرض رملية مجردة من أي كائن بشري، سوى الذين كانوا يشاركونني الجلوس فيها، والكثبان الرملية التي ظهرت وكأنها معابد سماوية امتدت بشكل متتالي على أفق أرضي.

الوجوه التي كانت معي، قد دثرت نفسها بعالمها الخاص أو، ربما، بأحلامها أو الانطواء على نفسها وعدم مخالطة الآخر ـ ربما عمدا ـ حتى الضوء بدا معتما داخل العربة.

لم يكن خروجي هذا مفاجئا، وإنما كان خروجا مخططا ولكن” في عجلة من أمره „… خروجا كانت تشوبه حالة نفسية، لم أتمكن في حينها من أن أجد لها تفسيرا منطقيا، سوى الرغبة من تحرير الذات، التي بدأت بالاختناق وبدأت فيه ملامح العنف وإزاحة الآخر ميزة الوضع الذي كنا نعيش في وسطه.

لم أحمل معي ثوبا أو قميصا، أو حتى حقيبة صغيرة ربما أحتضن فيها أوراقي…!!!

ولا كتاب بين يدي،

ولا قصيدة أو قطعة نثر أتغنى بها،

وأنا في طريق كان لي، على الأقل،

مجهولا.

كنت خاليا من كل شيء، إلا من الخوف..! الذي دفعني لقراءة الدعاء عندما أوقفني حارس الحدود عند آخر محطة وطلب مني الكشف عن هويتي… وجواز سفري… هذا الجواز الذي كنت قد أخذته من بين أوراق أخي، الذي اختفى فجأة في ليلة من ليالي شهر آب الحارة ولم نعثر عليه حتى هذه اللحظات… لم يكن جوازا مزورا، وإنما كان جواز ( شرعي ـ قانوني ) يحمل شعار الدولة وختم المسئول وصورة أخي الذي كان يشبهني تقريبا وفيزة البلد الذي كنت قد نويت أن يكون المحطة الأولى لي في سفرة طويلة ربما ستدوم أربعة أو خمسة سنوات ( هكذا كنت أعتقد )، منطلقا من واقع التجارب التي عشناها وتعايشنا معها، والتي صارت ميزة العصر الذي كان حضرا آنذاك وهو ” الانقلابات العسكرية “… فبين كل فترة وأخرى كان يحدث انقلابا… وهكذا كان أملي ” بانقلاب آخر ” لماذا لا، إذا كان رئيس الوزراء، آنذاك، الذي كان يملك نصف السلطة إلى جانب رئيس الجمهورية في إدارة شئون البلد، حاول، قبل هؤلاء، القيام بانقلاب عسكري على نفسه وسلطته، حيث حلق بطائرة الميغ على القصر الجمهوري وخبطه بصاروخ لاغتيال رئيس الجمهورية، إلا أنه لم يصل إلى هدفه، لأن الرئيس لم يكن، في حينها،  موجودا في القصر… وسقطت الوزارة وبقى الرئيس.

 

وهكذا مرت السنين الأربعة الأولى… والثانية… ثم الثالثة وتلتها الرابعة ….   

وأنا لا زلت أتنقل من محطة إلى أخرى محملا بذاكرة الحنين إلى تلك الأماكن التي لازالت خرائطها متشابكة في ذهني… وفي جيبي جواز سفر ـ رسمي ـ يحمل شعار دولة و…. صورتي….. ” وفيزة ” أريد الدخول بها إلى ظلال  تلك الحيطان المنهارة التي تركت فيها آخر رسالة كنت قد كتبتها إلى جارتنا أمل…  والغجرية التي كانت تقص علينا حكاية ألف ليلة وليلة وعن المدن التي بدأت تتهاوى ولحظات الصمت المتعمد عما يحدث من حولنا، والتي مهدت الطريق أمام لحظة زمنية قرر فيها الناس، ودون وعي، اختيار بؤسهم، الذي كان خليطا من العذاب والموت وأسطورة القائد، التي أقحمت الشعور العام في مقولة العودة والنهوض بها داخل إطار تاريخ مزيف مملوء بالكذب، محاولة منهم، كذبا، بإعادة إشراقات الماضي السعيد لتبدأ بالقادسية وتمتد حتى تصل إلى ” أم المعارك “. تربطها جسور ضحايا حلبجة والاغتيالات اليومية التي كانت تحدث على مرأى من أعين الناس وانتفاضة واحد وتسعين وحملة الأنفال إضافة إلى المقابر الجماعية، التي لازال المحتل الأمريكي محتفظا بسريتها خوفا من فضيحة ” من الذي مهد الطريق بحصول القائد الفذ على مثل هذه الأسلحة ومواد الإبادة ” التي تذكرنا بالشعب الفيتنامي الذي عانى منها أيام المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في ذلك الوقت. 

 

فصول بغداد تداخلت بعضها مع البعض، وإذا بالربيع، الذي كان ينتظره العشاق يتحول فجأة ” إلى فصل خريف ” حتى قطرات المطر التي كانت تسقي حقول أرضنا المزروعة تحولت إلى نتف من الثلوج كانت ولا زالت تتساقط في كل مكان….

أطلال من المدن يحيطها:

برد…

وظلام….

ونفحات الرياح الرملية القادمة من الغرب.

 

أين أنت ” يا عمي أبو فريد ”  لقد كنت على حق إذا كنت قد احتقرت الرجل الذي كان يسكن في واحدة من أزقة محلتنا.. ماذا قلت عنه…؟  ” أنه يغتصب حتى الدجاجة، إذا لم يقع بين يديه شيء ما لينكحه ” هكذا تحدثت عنه عندما مسكوه مرة وهو يحاول اغتصاب الشاب المجنون المشوه ( الخلقة ) الذي كان يرتاد محلتنا. لقد جعلت الثورة البيضاء منه، فجأة، مسئول منطقتنا… يكتب التقارير…. صار عمودا من أعمدة الحكمة السبعة التي كانت تحافظ على نقاوة مبادئ الثورة ونقاوة سلالتها العربية من شعوبية ماركس ولاهوت الخميني وقذارة الفرس المجوس….

هل تتذكر كيف كان يجلس في مقهى ” أبو شاكر ” ويفتح  ” سترته ” … ترى حديده لديها القدرة، منحها لها الإنسان، لقتل الآخر… أراد من هذه القطعة الحديدية أن يمنح لنفسه لقب الرجولة…!!!؟ رجولة الاغتصاب المشروع الذي منح له من قبل سلطة لا تمثل سوى أخلاقية أمثال هؤلاء الذين منحوا لأنفسهم شرف الرمز الصحراوي، حيث لغة البداوة ـ البدائية ـ التي لم تعرف سوى ( غير ) الربابة التي تتغنى بكل ذرة من رمال صحراء البادية المتروكة التي كان بعض من ساكنيها يبحثون عن مدن أرادوا الولوج إليها وتجريدها من شكلها الإنساني وتحويلها إلى أماكن لا تسكنها سوى أشباح لها طقوسها العشائرية… وتمكنوا من أن يفعلوا هذا وأحاطوا كل مدننا بمقابر جماعية أرادوا منها قتل ذاكرة الآخر وبالتالي قتل التاريخ، كشاهد إدانة على اقتراف جرائمهم.

 

في رسالة بعثها لي أبو فريد بعد الاحتلال الأمريكي وانهيار النظام الدكتاتوري يقول فيها: ” أن سيدنا الذي أراد نكح الدجاجة صار في ليلة وضحاها شيخ محلتنا… يخرج ، كل يوم، في الصباح وعلى رأسه عمامة بثلاثة ألوان يتجه نحو الجامع يبقى هناك حتى المساء تحيطه أشكال من بشر لم نراها من قبل، يقرأ بعض من آيات القرءان الكريم وإلى جانبه وضع كتبا أوراقها صفراء تتحدث عن يوم القيامة وعن السلف الصالح… “

 

وهكذا صارت المدينة التي بدأت تتهاوى منذ أكثر من خمسة وثلاثون سنة، ولا زالت:

عندما بدأت الرياح الساخنة تهب من كل الجهات…

صرخات ترافقها دقات طبول،

تسمع من عمق الماضي

في الحاضر.

رقصة موت ممزوجة بتراتيل جنائزية

لازالت تحوم في أزقة وشوارع

مدن منكفئة على وجهها.

صدى قادم من بعيد

يحمل عهر الماضي

رهبان…

بعمائم ملونة

هياكل، منحت لهم داخل معبد بل معابد

طقوس وصلوات

ثم…

فجأة…..

تتناثر الجثث.

 

عن قاسم طلاع

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *