رحيل صاحب القلب الأبيض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السمّاح عبد الله
Alsammah63@yahoo.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا مساء يليق برحيل النبلاء .
مساء رمادي شفيف يناسب تماما شخصية الشاعر الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب ، الذي غيّبه الموت مساء السبت الماضي 21 من أبريل .
وأحمد سعد الدين أبورحاب صديق شخصي لكل أدباء مصر ، ولابد أن الأدباء الذين زاروا سوهاج على مدار الثلاثين عاما الماضية يحملون له تفاصيل صغيرة ، وحكايات جانبية ، فقد كانت زيارته في قصره الباذخ بقرية العسيرات جنوب سوهاج ، ركنا أساسيا من أركان أية ندوة تقيمها المحافظة .
ولد أحمد سعد الدين أبورحاب في الرابع والعشرين من يونيو عام 1944 ، وتخرج في كلية تجارة المنصورة ، وعين معيدا بها ، وتدرج في السك الأكاديمي إلى أن أصبح أستاذا أكاديميا بها ، غير أن النداء القبلي لعائلته الكبيرة انتزعه من مقاعد الدرس ، فخلع الروب الأكاديمي ، وارتدى حلة البرلمان ، ليصبح واحدا من أكثر أعضاء مجلس الشعب تداولا على الكرسي البرلماني ، حيث تم انتخابه لأكثر من دورة متتالية ، منذ عام 1979 غير أن الاهتزازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مرت بالبلاد في السنوات الأخيرة ، جعلته يفشل مرتين متتاليتين في دخول البرلمان ، وكان قد هيأ نفسه تماما كرجل برلماني لامع ، الأمر الذي سبب له كثيرا من الأسى .
الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب ، ازدحمت حياته بالشعر والرواية والقصة ، ولعل ذلك من أسباب عدم ترسيخ اسمه جيدا في خريطة الإبداع المصري ، فقد قدم نفسه لأول مرة كروائي وهو في العشرين من عمره بروايته ( الأيام الميتة ) عام 1965 ، ثم أعقبها بمجموعتين قصصيتين هما ( وداعا أيها القلب المحطم ) عام 1969 و ( ماذا تفعلون بهابيل ) عام 1976 ، مما لفت إليه الانتباه كسارد متفرد ، وبدأ المتابعون يعدونه كأحد شباب الكتابة الجديدة ،إلا أنه سرعان ما فاجأ الأوساط الأدبية عام 1981 بديوان ( أغنيات الثورة المستحيلة ) ، ومنذ هذا التاريخ توالت دواوينه الشعرية الكثيرة التي تجاوزت السبعة دواوين ، منها ( خماسية الموت والوجود ) و ( المتفرد ) و( ثلاث قصائد ) وكان يعد لإصدار آخر أشعاره بعنوان ( التاريخ السري للحزن ) ، غير أنه كان يصدر كل أعماله على نفقته الخاصة ، وهو الأمر الذي جعل هذه الإصدارات كأنها لم تكن ، إذ كان بطبيعته الانعزالية والمترفعة ، لا يهتم بإيصال أعماله إلى النقاد والمبدعين والصحفيين ، فظلت أعماله طوال الوقت بعيدا عن أعين الراصدين .
غير أن ثمة شيئا آخر كان يشغل تفكيره طوال الوقت ، ويزحم شعره وسرده وأستاذيته في الجامعة وبرلمانيته في مجلس الشعب ، وهو التأليف الموسيقي ، وأظن أنه كموسيقي عبقري قد خانه التوقيت الحقيقي لزمانه ، وأن مأساته الكبرى تكمن في غربته كموسيقي في مجتمع يخلط في ما بين الموسيقا والغناء والرقص ، وكان هو كدون كيشوت الذي يحارب طوال الوقت طواحين الهواء . كان يؤلف الموسيقا البحتة ، ويذهب – كطبيعته في الكتابة – إلى الاستديوهات ، ويقوم بتسجيلها على شرائط كاسيت ويطبعها على نفقته الخاصة وهو الأمر المكلف ماديا جدا ، تلك الشرائط التي لن يتاح لأحد أبدا أن يشتريها أو يستمع إليها ، لأنها ببساطة تطرح في أسواق يؤمها الرقاصون ومطربو بدايات القرن ذوو الوسط المخلوع .
الذين جلسوا إلى الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب ، وتحدثوا إليه ، واستمعوا لأفكاره ، سيظلون طوال الوقت ، يحتفظون في مخيلتهم ، بتشكيل بصري لرجل بالتأكيد ليس من هذا الزمان . رجل ينزع إلى الفضيلة كمعنى ، وإلى القيم كأساس راسخ في التعامل ، وإلى المثالية كمنطق حقيقي ينبغي الارتكان إليه .
وستظل فرقة كورال الأطفال للعسيرات ، التي أنشأها الراحل الكبير في قلب صعيد مصر، وأنفق عليها من ماله الخاص ، ووضع لها الموسيقا والأشعار ، وأقام لها الحفلات في المسارح الكبرى ، والتي مازال التليفزيون المصري يحتفظ في أدراجه ببعض أغانيها ويذيعها بين الحين والحين ، ستظل هذه الفرقة واحدة من إبرز إنجازاته الفعلية .
وسيظل الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب ، عائشا في وجدان أهله وعشيرته وأبناء عمومته – هو الذي لم يتزوج ولم ينجب – بما تركه على دكك الدواوين في ( منادر ) العسيرات ، من أحاديث ومسامرات لا تنتهي ، أما طلاب الشعر ومتابعو الإبداع فبالتأكيد يوما ما سيكتشفون زهوره العاطرة .
أرسل لي الدكتور أحمد سعد الدين أبو رحاب ، قبل رحيله بأيام ، قصيدة على بريدي الالكتروني عنوانها ( تولى زمانك إلا قليلا ) ، يقول فيها :
تولى زمانك إلا قليلا
تولت حكاوى الشتاء الدفيء
وأفراح قلب برئ
دموع الفراق ..وفرح اللقاء
وأول أغنيةٍ للهناء
تنام وتحلم حلما طويلا
تولى زمانك الا قليلا .
كان يدرك أن زمانه ولى ، إلا قليلا ، وكان يعرف أنه مائت عما قليل ، غير أن الذي لن يتاح له أبدا أن يعرفه ، أنني أعددت رسالة له ، أنبئه فيها أن زمانه كله قادم ، ولم يتول ، ولو كنت بعثتها له ، لعرف أنني أكذب عليه ، ولعرف أنني أعرف أنه يعرف ذلك ، فقد فقد صوته تماما في السنة الأخيرة وكان يتكلم بالكتابة سواء بالايميلات أو الرسائل الهاتفية ، وكانت آخر جراحة له لتركيب صمام في الحنجرة لتعلية الصوت .
الدكتور أحمد سعد الدين أبورحاب
سبقتنا إلى عالم مثالي ليس فيه أضغان أو أحقاد .
عالم يليق بأمثالك من النبلاء والمثاليين .
اذكرنا
اذكرنا هناك
يا صاحب القلب الأبيض .
السمّاح عبد الله