الرئيسية / نصوص / رثاء عوني …رثاء اور

رثاء عوني …رثاء اور

 

رثـــاء عونـــي .. رثــــاء أور

حميد عبدالمجيد مال الله

 

رزأ الوسط الثقافي والشعبي بالرحيل المفاجىء للمبدع المتألق د. عوني كرومي، فاجعة الرحيل قبل الاوان! رحيل فنان لم يكتف بـ(طريق الحرير) المسرحي، بل نقب وحفر في مسار الزمن، وطار فرحا بلقيته الاحفورية (رثاء اور) صارخا (وجدتها..)

جاءنا للبصرة محاضرا في قاعة المركز الثقافي لجامعة البصرة عام 1977 جلسنا بتراتب تقليدي في الصالة، صعد الى المسرح حيث المنضدة وكرسيين والمايك والتأثيث الثابت بما فيه (الصورة) المعروفة (الايقونة!)… خلع الجاكيته، وارخى ربطة العنق، وفتح زر الياقة، حمل الكرسيين، وانزلهما الى المقدمة ، امام القاعة، على تماس حميم بنا (.. اعتقد هنا افضل..) وعاد ليحمل المنضدة، وسرعان ما عاونه عدد من الحضور.. فك عقدة البداية، استرخى الحاضرون!

  

راح يحاضر متحركا بيننا، وتارة يجلس يقلب اوراقه، احسسنا بصلة اخرى، صلة صداقية واجتماعية، يفوح منها تواضع وود وكسر للحواجز، صلة الفة لا مألوفة.

في ثلاث امسيات اتحفنا بثلاث محاضرات جمالية ومهنية وعلمية هي (التراث والمسرح) و(بوابة العروض المسرحية للشعوب العراقية القديمة) و(عالم الممثل) احس بغصة الاسى وانا اورد تألقاته ضمن رثاء مبدعنا العملاق ـ كنت قد كتبت عن المحاضرات في حينه ـ راجع صحيفة (طريق الشعب) صفحة ثقافة العدد 1149 في 7 تموز 1977 ـ محاضرات في المسرح ـ العنوان.

دعــــا في الاولى الى (خــــلق قـــــيم استاتيكية للمسرح العربي) والاشتغال بـ(اشكال تراثية) ومسرحية ( المظاهر المسرحية الشعبية) محذرا من تشويه التراث في تيار وهمي.

في المحاضرة الثانية اكد صلة الدراما بـ(الطقس الميثولوجي) المتضمن لحوار بين الالهة والجوقة في مدونات الخط المسماري، ورسومات الاختام الاسطوانية، عن (دموز) وقتل وتعذيب الاله (مردوخ) وافترض ضمن مقترحه العنواني (ان تلك الممارسات الطقسية تطورت الى فعل درامي) واستكشف (دراما مسرحية دينية) في حوارية (السيد والعبد) التي تعود للعهد البابلي المتأخر وكـــــذلك في (رثاء اور) والتي قارب بينها وبين مسرحية (الفرس) لأسخيلوس.

ودراما (الفصول) و(البحث عن سر الخليقة) و(التهيؤ للحروب) و(الكرنفال).

في محاضرته الثالثة ربط بين التناقضات الاجتماعية وظهور انماط معينة من التمثيل.

ودعا الممثل الى دراسة الأيماءات الاجتماعية وليست الطبيعة وعرف الدور المسرحي بأنه (نتاج غير مادي) (.. نتاج حسي ينتج شخصية ممتلكة لمعنى الانسان … ) كنا ننتظر موعد العرض، امام الباب الجانبي المألوف لمبنى (منتدى المسرح) في بغداد، حان الموعد ونحن في الانتظار، ضجر البعض.. بدأ يطرق الباب التراثي بغضب! نادى آخر بصوت حاد على من يوجد خلف الباب! لا جواب.. في الوقت المحدد (بالضبط) قدم من يشير لنا بالتوجه الى امام بمحاذاة المبنى البغدادي المعمارية صوب شاطيء دجلة الخالد، احاطت بنا حشائش ونباتات مائية عالية تمتد من الشاطىء الى خلفية المنتدى، حديقة طبيعية، من هنا بدأ العرض المسرحي نص (تشيخوفي) بدأ اداء شباب اردنيين يتوسطهم استاذهم د.عوني ـ شاب كما تتصوره ذاكرتي مطالع التسعينيات ـ احدهم امسك انبوبا بلاستيكيا يروي النباتات برذاذ ماء اظنه (الخال فانيا) حركة جماعية وئيدة تضم الممثلين لاجتياز حديقة الخيال المنسية، متجهة الى خلفيات المبنى وبواباته الخلفية الضيقة.. هنا ابداع “الضربة الاولى” التي امسكت سنارتها بالمتلقي ـ كما في ترنيمة الكرسي الهزاز ـ الدهشة والمشاركة في الحدث .. انه الدكتور المجتهد وطلبته من عمان التي بدأ منها مشروع طريق الحرير الخيالي.

انا جالس في قاعة المسرح الوطني، انتظر بدء العرض المسرحي، التفت الى يساري كان الدكتور جالسا وقد اشرع ذراعيه كأنهما جناحان خلف ظهري زميليه، اشرت له بيدي محييا، تأمل وجهي، وصاح (اسمر.. من البصرة..) قلت (انا.. ) ضحك وتأمل بعمق (شصار بيك.. لقد شخت يا فتى.. ) اجبته على حياء (.. الزمن يا استاذي.. )

كنت اتابع ابداعاته واخباره، وروائع افكاره وتنظيراته التي نشرها.. بتواصل والمام، لم ينس البصرة فكتب بتفصيل عن الفنان الراحل (توفيق البصري).

بحزن عميق تلقيت آخر خبر عنه من زوجتي ليلا وهي تناديني بجزع (رحل د. عوني كرومي الى الابدية..)

 

عن حميد عبد المجيد عبد الله

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *