الرئيسية / قصة قصيرة / تراتيل شديدة الكآبة لقمر غيبته العسكر

تراتيل شديدة الكآبة لقمر غيبته العسكر

ترتيل الروح
للذين كعبتهم الأوسمة
ويتلون الصلوات، بخشوع
وصمت الموات،
وعلينا… يفوِّتون الأزمنة…
ليس من يستطيع أن يوقف
الحياة.

 

1.      ترتيل الآب:
هل رأيت القمر؟ سألت.
لم يكْ أحدٌ يجيب، قلت لنفسي ربما لم
ولن يطلع ثانية، رغم أن الحصار عن المدينة
انفكَّ، مخلفاً إياها أكوام ثكالى وحجارة وتراب.
–        هل رأيت القمر؟
–        هل رأيتم القمر؟
ولا أحد يجيب، ولا ليل يجيب.
آه يا أحمد…
هدَّتك الطرق التي جبت، شتاءات طويلة أرهقت هذي القامة يا أحمد وليس ثمة ما يوحي بالحياة، سوى السراب المتراقص على دروب المدن التي أدرت لها ظهرك باحثاً عن القمر، ليس ثمة ما يوحي بالحياة سوى نعيق غراب على الأسوار، وعواء لابن آوى يجيء منبعثاً من أعماق هاتيك المدن.
شتاءات طويلة مضت، والقمر الذي غاب حين دخلتِ العسكرُ المدينةَ لمّا يزل غائباً.
شتاءات وأصياف طويلة مضت… والآن كل شيء يبدو هادئاً أو هادئٌ فعلاً… فالرصاص سكت، واختفى عنين العجلات العتيقة، وما عاد هناك صوت لجدار هدَّته قذيفة، إلاّ قلباً غاب عنه قمره، لا يملك إلاّ سؤالاً يضجّ بين حين وآخر كعواء ابن آوى فوق جثة:
–        هل رأيت القمر؟
كل شيء قد هدأ الآن… وأنت الآن يا أحمد، تقعد تعباً أمام باب البيت، تبحث في رأس الحارة عن قادم.
قبل شتاءات وأصياف كثيرة -لا أدري كم- كانت الحارة تمتلئ بهم، فيدوّخون ساكنيها بضجيجهم، ثم لا يدرون من أين تأتيهم اللعنات… وحين يطاردهم أحد ما، يتبعثرون كحبات سبحة رجل عجوز قُطِعَ خيطُها فجأة… يتلاشون مع صدى أصواتهم المتلاشية.
–        هل رأيت القمر؟
وأحسست ببرودة السؤال، مثل هذي الليلة الباردة، التي لم تأتِ منذ شتاءات وأصياف بعيدة، كبرودة أول ليلة وقفتُ فيها أسأل جواباً عن القمر… يوم تلمس قلبي طريقه إلى العتمة، في مساء الخامس من كانون حيث لا يخرج إلى برد الصقيع المعسكر مع العسكر أحد، خرجت أنا، أحمد الياسين، أبحث عن آخر ما تبقى من أولادي، عن آخر قمر لي.
آه أيتها المدينة..
يا مدينة لا تشبه في الموت إلاّ بيروت.
تجيء إليك فيالق العسكر، تندلق على شوارعك ترتل سور الحصار، وتقيم الأسوار حولك، دبابات، ومدافع وجنود، ونجوم، النجوم التي أغفت على الأكتاف منذ زمن صَحَتِ الآن تزيل عنها غبار الهزائم… والصدأ.
آه أيتها المدينة…
هذا نحن نغلف هزائمنا بالمسافات إلى قرطبة، ونغني فتمتطينا الهزائم، نغني من على المنابر معلنين بلا استحياء أن “لكل جواد كبوة” قل كبوات… هذي هي الحياة الموات.
هذا هو الزمن الموات..
لماذا يا الخامس من كانون بارداً ذاك الشتاء جئت؟ أما كنت تستطيع إيقاف الشمس عن مغيبها، كي لا تأفل، ويُحْتَضَرُ السؤال في احتضار المساء…؟
–        هل رأيتم القمر؟
نعم…وقالوا:
–        تكسَّر على الباب، وتشظَّى الجسد الناحل حين اخترقته القذائف، كان أوصل إليهم شاياً، وعاد والخوف يختلج فيه، وعندما استدار وأصبح ظهره لهم… غربلوه… أو… أو غيَّبوه.
… ووصلت حيث أشاروا… حيث تكسَّر على الباب وتشظَّى… لم أجد منه شيئاَ… فلجسده الناحل عظام تفتتها النسمات فكيف القذائف والرصاص…؟
لم أجد منه شيئاً…سوى بركة من دم، تترقرق حيث سقط… لم تجف… حدقت فيها… دمها قانئ، ورائحته تخترقني، ولا أدري أين تستقر، في الشرايين، أم في القلب؟
ياه يا ولدي…
قبل لحظات كنت أمضي مسرعاً لألقاك، ولمَ لا ألقاك… فأنت ما تبقَّى… الآخرون قد ذهبوا… لذا مضيت مسرعاً حين انفلتنا من طوق شكلَّه الجنود، وهم يسوقوننا إلى الملعب البلدي، كنّا مئة… مئتين… لا… كنا أكثر من ذلك… مئات… المهم أنّا كنا كثر نسَاق إلى هناك… وكان لابد لنا من المرور عبر سوق الجزارين، حيث أغلق الجزّارون دكاكينهم، لكنَّ الذبح ما زال مستمراً… الدم يسيل… يشكل بركة كبيرة.. بركاً… بحراً من الدم…
حين أصبحنا في بوابة السوق… رأينا الجثث قد تكوّمت على أرضه… ومن بعيد سمعنا صرخات… صرخات…
كانت صرخات رجل توسّط السوق، الجثث، اقتربنا قليلاً، وما زال هو يتوسط الجثث، ينحني بين الفينة والفينة.
–        لابد أنه يبحث عن قريب له بين الجثث.
قلت في نفسي، وربما قال الكثير ممن معي في أنفسهم ما قلت… أردفت:
–        عسى يلقاه حياً، أو… أو ميتاً، المهم أن يجد له أثراً.
كان لزاماً علينا أن نمرّ والجنود الذين يسوقوننا، عبر سوق الجزارين إلى الملعب البلدي، اقتربنا، موجة هائلة من البشر الذاهبة للذبح أو للغياب، تجتاح سوق الجزّارين المغلقة دكاكينهم. الرجل يصيح، يعوي، اقتربنا منه، دار حول نفسه دورات قليلة، ثم انحنى يقطِّع الجثث التي تحته بضربات من “بلطة” حادة.
توقفت الموجة الهائجة بمكانها، في بوابة السوق، لم نتحرك قيد أنملة، نحن مئات بلا سلاح، نقف في بوابة السوق، بمواجهته… ما عرفنا، أهي أسنان تلك التي برزت من فمه حين فتحه، أم حراب؟
حدّق بنا للحظات، ونحن المئات بلا سلاح انغرزنا في أماكننا، والجنود الذين يسوقوننا، يعلّقون أسلحتهم على أكتافهم، وينظرون إليه دهشين، بل خائفين. قال أحدهم للآخر:
–        أليس هذا…؟
–        أجل… هيا… وإلاّ سنموت.
–        هيا..
وصرخ الجنود بنا حين عوى الرجل، وركض نحونا والبلطة بيده تقطر دماً… ها قد عرفه الجنود … كان منهم، يرتدي مثلهم، لكنّ سلاحه يختلف..
–        هيا.. اهربوا… ستموتون… سنموت…
–        هيا…
أدرنا ظهرنا للرجل، وانخرطنا والجنود في الركض، تلاحقنا صرخاته وقطرات الدم السائلة من بلطته، فانفرط الطوق الذي شكلوه حولنا، حين كانوا يسوقوننا قبل لحظات إلى الملعب، الزنزانة، المذبح… ومضيت إليك مسرعاً لألقاك… فما وجدتك، ما وجدت منك شيئاً.. أهكذا تغيب.. لتغرقني العتمة…؟
أيتها المدينة… أين قمري؟
يا الله… أين قمري؟
أيها السادة… أين قمري؟
ها أنا أسألكم الآن… لكن، ذات يوم حين أعلّق متأرجحاً على مشانقكم، وأنتم تقفون أمامي، تنظرون عالياً، كي تروا وجهي أنا الفوق، وأنظر إليكم وأنتم التحت، فلا أرى إلاّ رؤوساً تتوسط أجساماً قد ضُغِطَتْ لأني فوق وهي تحت، رؤوساً ملأى بطرق معدة لإعدامات جديدة. ساعتئذٍ ستكون قدماي بمستوى وجوهكم، ولن أتوانى عن ضربها بقدمي، وإن لم أستطع فعل ذلك، سوف أصعد بروحي إلى السماء وأنتظركم هناك عند الله حتى تجيؤوا، ولابد من مجيئكم… عندها سترفع لكم البطاقات الحمراء للخروج من الجنة.
 
كاتب وفنان سوري
 
 


عن يحيى الكفري

كاتب وفنان سوري

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *