حسن مطلك.. سؤال الدم والحداثة
عدنان الصائغ
أطلُ من نافذة منفاي على الهباب والثلوج.
قبل حوالي عقد ونصف، كنا: عبد الرزاق الربيعي، حسن مطلك، دنيا ميخائيل، اسماعيل عيسى بكر، محمد اسماعيل، حاكم محمد حسن، فضل خلف جبر وأنا، نجلس قبل الأمسية في حديقة منتدى الأدباء الشباب ونتحدث عن صيف بغداد والكتب والحرب والنص الجديد وأحلام ما بعد الحرب كما كنا نسميها.
جلس حسن مطلك خلف المنصة، هادئاً، وخجولاً أكثر مما يجب وراح يقرأ مقاطع من روايته الجديدة “دابادا” وسط دهشة الحاضرين والحر اللاذع وسعادة البق وامتعاض بعض “الآذان” التي لم تجد في غرائبية النص وتهويماته سطراً واحداً مفهوماً تستطيع أن توصله – كعادتها أو وظيفتها- إلى ذوي الأمر..
كتمت ورزاق- أمام دوران رؤوسهم المكوكية – ضحكتين استمرتا لزمن طويل حتى قطعهما همس حاد كمدية:
– حـ حسـ حسـ حسـ حسـ مطلك!
– مابه؟
– أعدموه
– أحجي الصدك، ليش؟
واستمر السؤال جرحاً فاغراً بحجم العراق الذي مازال حتى هذه الساعة ينزف مزيداً من الأسئلة والدم.
أفتح ألبوم الصور، أقلب الوجوه والذكريات وأرتد بطرفي إلى أشجار البيورك Bjork الشائبة بذؤاباتها الطويلة، وأصرخ بأعلى جنوني: أين أنتم ياملاعين؟
تفتح جارتي السويدية نافذتها أو قل فضولها، وتسألني: مابك؟
أستمر في عوائي:
“لي بظلِ النخيل بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
انها محنةٌ – بعد عشرين –
أنْ تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ”
…………
…..
ترى أين أجدكم الآن؟
(عبد الحي النفاخ) جن من التعذيب والقراءة.
(حميد الزيدي) أمسكوا به وهو يتسلل مع مخطوطة روايته عبر الحدود وأعدموه.
(علي الرماحي) دفعه أربعة رجال غلاظ إلى سيارتهم اللاندكروز قبل أكثر من عشرين عاما ومضوا.
(اسماعيل عيسى بكر) غافلهم، قال لهم أنه ذاهب للبيت لجلب أبرة الأنسولين، أغلق الباب على نصه ونفسه ومات.
(دنيا ميخائيل) أخرجت من حقيبتها الصغيرة ثلاثة أحجار عليها ثلاثة حروف “ح. ر. ب.” صنعت منها ساحة حرب وحديقة حب وقنينة حبر وظلت تلعب وتلعب. ضحكوا طويلاً حتى نعسوا، فحملت طفولتها وقصائدها وفرت إلى مشيغان لتلعب هنالك بالثلج بدلاً من الأحجار وشظايا القنابل.
(فضل خلف جبر) قطب حاجبيه حين رأى الأشنات تغطي كل شيء. فحمل قصائده وكآباته. قال: سأرحل ولو مشياً.
(حاكم محمد حسن) قال لهم انه يحب القصة القصيرة وقطار المربد والنساء والسكر في اتحاد الادباء أكثر مما يحب رئيس عرفاء الوحدة والتقرير السياسي والحرب فحشروه في مظروف قذيفة ثم أطلقوه باتجاه كافكا.
(ضرغام هاشم) لم يصدّق هو ولم يصدق أحد من أهله حتى هذه الساعة أنه بسبب مقالة لا يزيد طولها على 30 سم علقوه بالكلابات ثلاثين يوماً لكي يعترف بأسماء… الله الحسنى.
(حسن مطلك) أصعده ضابط فصيل الاعدام الى المشنقة في فجر الثامن عشر من تموز1990 وقال شارحاً درسه الأول لمنتسبيه الجدد، سأقرأ لكم شيئاً من دابادا:
” لماذا يضكون؟ وهكذا أهمل رأسه ليكمل النشيد الناقص. ضحك . ضحك. ضحك”. هل كان يضحك علينا هذا الكلب أبن الكـ…
(عبد الرزاق الربيعي) في طريبل فتشوا حقيبته الكبيرة فلم يجدوا فيها سوى فرشة أسنان، وبصاق متيبس أو مني متيبس، وقصيدة استحالت حمامة بيضاء طارت باتجاه جدارية فائق حسن.
(حميد المختار) قالوا أنه يبيع الحمائم المستنسخة سراً تحت بسطات الكتب في سوق المتنبي و
(….) و
(….)
و..و..
أين أجدكم هذه الليلة؟
أسمع محمد اسماعيل يصرخ من أسفل طبقات الجحيم: ألهم أجعل بيني وبين الحصار جبلاً من كباب.
أسمع محمد خضير يهمس في منامه الطويل: بصرياثا . بصرياثا . بصرياثا
أسمع محسن الرملي ينشج من منفاه : ” انه يعيش معي يا عدنان في كل اللحظات والاماكن انه شجرة حزن تكبر داخلي الى ان تقضي عليّ، اشعر بمسؤولية ان أعيش وأعمل عن شخصين لا عن شخص واحد، انه حيٌّ داخلي بل اكثر حياةً مني عند نفسي .. انه رجل مثقف ومبدع اصيل وانسان حقيقي ورجل شجاع وصادق واسطورة نادرة، كان رحيله اكبر كارثة في حياتي وأكبر خسارة للثقافة العراقية .. أبعث اليك مع هذه الرسالة بعض ما عندي عنه هنا وبعض المعلومات تجدها في ظهر أحدى الاوراق المستنسخة مع الرسالة ولكن تذكرْ دائماً ان تتحاشى ما قد يضر بأهله وبناته هناك في الداخل …”.
أسمع حسن مطلك وهو غارق في الضحك : هـ ها هـ هاهـ ها هـ هـ هــ
……..
…………….
قال لي حسن مطلك ذات مساء ممطر من عام 1989 :
” أكثر ما يدوخني في الكتابة هو شرطيها الانساني والفني: الحرية والابداع”. قلتُ: والتغيير؟ والمخالفة؟ . أكمل مواصلاً: وهذا هو شرطها الآخر والمهم، ذلك الشرط العصي على الفهم الآني. وأمامنا، أمام الكاتب الجاد – في هذا الزمن الصعب – الكثير الكثير”.
…………….
……
غنائي يشبخ الطرقات المعتمة إلى آخر القطب، مضيئاً بألمي. بينما الثلج يهمي، وكذلك الجدران والصور والشموع والشجر. هكذا رأيتني أقود قطيع النصوص الهائجة إلى معلف اللغة. وفي السديم أورّق فصولي وأنثرها. رافعاً ناياتي المفرطة بالحنين باتجاه أصدقائي ومكتبتي هناك. لم يقولوا شيئاً عبروا سراعاً قنطرة الأيام حاملين حقائبهم وبيوتهم بحثاً عن نجمة تليق بسؤالهم المؤجل منذ مناحات أور. سمعت أنين الكلمات في أقبية النجف. سمعت العاصفة. سمعت أنوار عبد الوهاب. سمعت الطيور وهي تقترب بمناقيرها اللجوجة من نبع المعنى. وما زالت الغيمة تعلو وتعلو والنرجس الأبيض يصعد باتجاه كردمند. مخلفاً حقول الرماد في تلك البلاد التي لم تعد تتذكر غير القبضة. شاداً قوس الأسى باتجاه الأسى. الكتب. الكتب. الكتب. نصفق للعابرين على جسر أوجاعنا القديم ونحكي عن الشهقة المكتومة في القصب. المرايا والتأريخ والمطلق..
وفي الجدائل أو المواويل نمضي باتجاه النبع الباذخ. في طفل CNN أو دابادا ، البياض المتخفي بين نصوصنا المفضوحة برائحة الزنبق بينما هم يتربصون لخطواتك يامطلك أيها الخجول، الخجول أكثر مما يجب. خذ حياتك وامضي بعيداً عن ناعور الدم. القتلة لا يرحمون والأصدقاء تفرقوا أو فُرقوا على أرصفة الشتات والآخرون تعلموا من الحرب شهوة البقاء. صاعدين من رئة الخريف، صاعدين من البروق، صاعدين من الزحمة والموت، صاعدين من مقهى حسن عجمي، صاعدين من حطام اللواء المدرع على طريق الخفجي ، صاعدين من الناي وقصائد السياب، ونصب الحرية.. وأنت تواصل ضحكك المرير على البرابرة ورقيب المطبوعات. ملوحاً لنا في الوداع الأخير: ” الشمس أجمل في بلادي من سواها . والظلام، حتى الظلام هــ.. ولم يمهلوك لتكمل النشيج. لكني في الصقيع أرقب مجيئك وأقول لجارتي سيأتي هذه الليلة حتماً. أنت لا تعرفينه. انه عنيد ، وأكثر حياةً مما تتصوره الانشوطة. سنترك له نجماً وناياً ليعزف ويسكر ويرقص ويغني حتى مطلع الفجر. فجر العراق. العراق الذي لا تعرفينه سوى في الخريطة. سيأتي سيأتي هذه الليلة. وفي التماثيل الثلجية أجد يدي تلوح للنساء الغاربات بعيونهن اللامعة خلف زجاج البارات الكثيفة. تلمع سلاسلك وفي الموسيقى شيء من روحك وهي ترتقي سلالم الألم.. والبالونات التي في ساحة الاحتفالات انفجرت قبل أن يمر موكب الرئيس. فأطلق الحرس رشاشاتهم بكل اتجاه. بينما اندفعت الجموع لا تدري إلى أين. وحدها الشمس ظلت تشرق كل صباح وتغني:
طلعت يا محله نوره شمس الشموس.
وحده ميثم التمار في بادية الكوفة ينحب: يا “جبلة” اذا رأيت إلى الشمس كأنها الدم العبيط فأعلمي أن الحسين قد قُتل.
وأنتَ
أنتَ
أنتَ صرت غيمة
هكذا وجدوك في غرفة التحقيق
ومن ثم
في التابوت المقفل
في تلك الليلة بكينا، بكينا حتى لم نعد نقوى على البكاء، فغادرنا الوطن.