الرئيسية / قلم رصاص / صحبة لصوص النار لجمانة حداد

صحبة لصوص النار لجمانة حداد

“صحبة لصوص النار” وحوارات مع شخصيات غير محايدة

الذروة في توريط القارئ والسائل والمجيب

 

 

جهاد الترك – جريدة المستقبل- الاثنين 29 ك2 2007

 

 

ينطوي كتاب “صحبة لصوص النار” لجمانة حداد (دار النهار للنشر، بيروت) على حوارات جرت مع شخصيات عالمية خلفت بصمات عميقة وخالدة في التراث الانساني، فكراً وثقافة وأدباً، هي: الايطالي امبرتو إيكو، البرتغالي جوزيه ساراماغو، الفرنسي إيف بونفوا، الأميركي بول أوستر، البرازيلي باولو كويلو، النمساوي بيتر هاندكه، البيروفي ماريو فارغاس، النمساوية الفريده يلينيك، الايطالي انطونيو تابوكي، المغربي الطاهر بن جلون، الاسباني مانويل فاسكيت مونتالبان، التركي نديم غورسيل، والأميركية ريتا دوف. وقد نشرت هذه الحوارات تباعاً بين عامي 2003 و2005 في الملحق الثقافي لصحيفة “النهار” اللبنانية، باستثناء تلك التي تناولت بول اوستر ومانويل مونتالبان ونديم غورسيل والطاهر بن جلون التي نشرت في صفحة “أدب فكر فن” اليومية في الصحيفة المذكورة، إضافة الى حوار ريتا دوف غير المنشور سابقاً.

وقد اجتهدت جمانة حداد في أن تضفي على هذه الحوارات أجواء تتجاوز هذا الفن الصعب، في الأساس، في اتجاه استقراء هذه الشخصيات الاستثنائية في ابعادها الانسانية الكبرى. نستدل على ذلك بعنوان الكتاب “صحبة لصوص النار” الذي يحاكي، على الأرجح، الرمز الميثولوجي اليوناني الشهير “بروميثيوس” الذي أقدمت الآلهة على معاقبته لأنه تجرأ على سرقة النار، رمز المعرفة الكونية في الأسطورة اليونانية القديمة. وهي محقة، في ذلك، إذ أن في كل من هذه الشخصيات شيئاً كثيراً أو قليلاً من هذا اللص الأبدي الذي وضع حداً لاحتكار المعرفة من قبل الأوصياء السرمديين عليها كما تنبئنا الأسطورة المذكورة. وتستعيد الكاتبة في اعادة تمثل هذه الواقعة الرمزية، ذلك التوق الانساني العميق القائم في اللاوعي البشري نحو نمط من الكينونة المعرفية أكثر رقياً وشفافية مما هو حال الانسان المكبل بأصفاد العطش الدائم نحو ذاته العليا.

في أي حال، تستبطن هذه الحوارات ما يجعلها منفتحة على ملامسة “عقل الآخر وقلمه وروحه وحياته ومزاجه، وربما مكبوتاته ولا وعيه”. رحلة مشوقة تبحر فيها الكاتبة على أجنحة الثقافة في أبعادها، متخطية، في ذلك، تفاهة اللحظة وانغلاقها على نفسها، نحو آفاق واسعة في إيحاءاتها الأشمل. غير أنها، في الوقت عينه، تتشبث بأنماط من المعايير النقدية الصارمة في دقتها الموضوعية، تنطلق من الجزئي نحو الكلي أو العكس. ولذلك فهي تأخذ على عاتقها أن تحفر عميقاً في الطبقات السفلى لأعمال هذه الشخصيات في دلالاتها واحتمالاتها. على هذا الأساس، يتحول الحوار، كما تقول الكاتبة إضافة حقيقية الى طبيعة هذه الشخصيات، من جهة، والى القيمة الفكرية والأدبية لنتاجها، ناهيك بالتعرف الى أنماط من القيم الذاتية والمزاجية لهؤلاء الشخصيات التي قلما تظهر في أعمالهم. تشير حداد الى ان محاورة هؤلاء، أتاحت لها فرصاً نادرة أطلعت، من خلالها، على تفاصيل جوهرية وحميمة عنهم. تقول إنها تعلمت من بول أوستر كيف تكون الكتابة هوية، ومن امبرتو إيكو، الفهم واتساع الأفق، ومن بيتر هاندكه، فضائل الانسحاب من الحياة العامة، ومن باولو كويلو الإصرار على الحلم حتى عندما لا تصدقه، ومن ماريو فارغاس، فطرة الثقافة، ومن ساراماغو، قاعدة الجلوس المقدسة، ومن بونفوا، التواضع والبساطة والحنان، ومن انطونيو تابوكي، الايمان العنيد بالمصادفات، ومن نديم غورسيل، دفء الحس الانساني، ومن الفريدة يلينيك شراسة الصدق، ومن مانويل فاسكيت، عشق الحياة، ومن ريتا دوف، معنى بناء الذات شيئاً فشيئاً، ومن الطاهر بن جلون، الشفافية والتقشف. توفر حداد للقارئ، بإيرادها هذه الانماط السلوكية، تقنيات هامة جداً وطريفة جداً، للتوغل بعيداً في اعمال هذه الشخصيات، لقراءتها من جديد على قاعدة لم تكن متوافرة لهم من قبل.

تطرح الكاتبة، في مقدمة عملها، سؤالاً استباقياً، على الأرجح، هو: لماذا حاورت حصراً كتاباً أجانب، مستثنية بذلك نظراءهم العرب. تجيب قائلة “إنها الرغبة في عبور النهر والذهاب الى الآخر البعيد، واكتشافه وكشفه. الرغبة في محاورة من لم يحاورهم الإعلام العربي مباشرة، من قبل. المسألة في اختيار حقل مغناطيسي مختلف والمضي في اتجاهه. لا أكثر ولا أقل.

الحوارات، في هذا السياق، ليست ترفاً فكرياً أو “سياحة” عابرة، إذا جاز التعبير، في حياة هذه الشخصيات. انها شيء قليل من هذا، وأكثر بكثير من أمور أخرى، من شأنها ان تساهم، على نحو فاعل، في إعادة “تمركز” هذه الشخصية أو تلك في منطقة غير محايدة أبداً في ذهن القارئ. والأغلب أنها من نسيج التورط الصعب في ما لا يرغب الكاتب، في العادة، ان يعلنه، على الملأ، باعتبار انه من أكثر خصوصياته دفئاً وحرارة. ومع ذلك، لا تساوم حداد على مسائل كهذه، وان كانت تصب مباشرة في ما يمكن اعتباره من المواد “المحرمة”.

ثمة إحساس، في كل من الحوارات المدرجة في الكتاب، بأن صاحبها يدرك، على الفور بأنه تم اصطياده على حين غرة. لم يعد بمقدوره الإفلات من المصيدة قبل أن يدلي باعترافاته. غير أنه يفعل ذلك، على نحو محبب، وبطيبة خاطر، والأرجح بما لا يدع له مجالاً للتملص. في هذه المناطق الخطرة، بالتحديد، يبلغ الحوار ذروته، يتحرر من نمطية السؤال والجواب التي غالباً ما تبعث على الضيق والتبرم. يصبح استدراكاً، من قبل السائل والمجيب، لما ينبغي استدراكه حتى لا يشيع عن نفسه صورة مشوشة. التورط الذي تنجح حداد في إحلاله في حواراتها، هو من هذا النوع الذي لا يقيم اعتباراً يذكر لما لا يمت بصلة الى الطبيعة الحية المتفجرة لهذه الشخصية أو تلك.

رويداً رويداً، نلحظ كيف تنساب هذه الشخصيات العالمية مع الينابيع الأولى التي كانت حركت فيها صورها الابداعية الكبرى. حوارات مع اشخاص. غير أنها مساءلات مبررة لمنشأ الذاكرة وتكويناتها لدى كل منهم.

 

 

 

عن جهاد الترك

شاهد أيضاً

حكومة العالم الخفية تجتمع في مدينة دريسدن الألمانية (جمال قارصلي )

إن إجتماعات ما يسمى بحكومة العالم الخفية لا تشبه إجتماعات القمة السنوية لمجموعة دول الثمانية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *