” المدفعية ، المدفعية ! ارجعوا أيها الخنازير الجبناء ”
صرخ فرانس ملوحاً بيديه إلى الأعلى والآخرين يركضون ……
يركضون خلال ميدان البريه … ينطّون يتقافزون فوق الحفر والخنادق رافعين أيديهم ليحموا وجوههم وهم ينطون مسرعين خلال أعشاب قراص النار .
” الروس ، الروس ” كانوا يصرخون جميعاً .
بعض الأحيان يلتفت أحدهم إلى الخلف ودون أن يتوقف عن الجري ليرى خلفه المدرعات وفرانس
كانت المدرعات قديمة جداً وصدئة . فرانس يدعى بأنها كانت من مدرعات النمر الألمانية خلال الحرب، لكن ربما كانت T.34 والروس قد استخدموها حتى أنها لم تعد صالحة للعمل.
على جوانب المدافع رسم الروس صليب بالأسود والأبيض ، وكانت الألوان حديثة ولامعة على ظهر المدرعة الفاطسة، الزيتونية اللون القذرة.
لم تكن المدرعتان تقفان قريبتين من بعض في ساحة التدريب…..
كانت الأرض محفورة من على جانبي المدرعتين يميناً ويساراً، وكانت السرفة اليمنى لأحدى المدرعتين مقطوعة في الوسط . تراجع فرانس جالسا على مدفع المدرعة الثانية وصرخ.
“مدفعية .. عبئوا وأطلقوا ….. جبناء ، ثلاث درجات يمين الماسورة الكل يتهيأ للاشتباك، أيها الجبناء الأنذال ارجعوا .
الفتى وصل تقريباً إلى أطراف الغابة، واحداً منهم ظلّ واقفاً …… التفت ثم إلى الخلف وضع يديه حول فمه كالقمع صارخاً ” الروس، فرانس ….. الروس قادمون”
كان الروس عبارة عن سيارتي حمل زيتونيتين، كانتا تتأرجحان ، يميناً ويساراً أشبه بجمال فلم لورنس العرب المحمله ثقيلاً .
الروس …… الروس هم الفيلل الصفراء الخربة على الساحل ….. صفيح جدران الثكنة …. آثار سوف المدرعات على الاسفلت … برميل البنزين الذي ابدله والد (باول) مقابل قنيقة فودكا……
الروس ….. هم طوابير السير، تقاد بثلاثة صفوف من محطة القطار إلى الثكنة ومن الثكنة إلى محطة القطار … الفلاحين …… ومثلما يقول والد (باول) بعد ثالث جرعة من الكحول، هم خنازير مسكينة رائحتهم مثل رائحة تبغ رخيص ولباد رطب .
الروس …….. هم ضباط يظهرون ثلاثة أو أربعة من الحانة التي على طرف المدينة ، ليحاولوا أن يبيعوا ساعات يد أو ذخائر تدريب.
” الروس ” ……تقرفص (فرانس) بوجه متقلص أحمر على مدفع المدرعة وحملق باتجاه مركبات الحمل الخضراء التي تنطنطت مثل عدة كرات مطاطية تعبة فوق طسات الطريق .
” الروس يصرخ فرانس ”
“أرمي ” يصرخ مرة أخرى “إرمي أخيراً ”
الفتيان يلهثون إلى الآن، منطرحون على عشب رطب تحت الأشجار …..يلهثون ويصفرون مثل المنافيخ.
منطرحون على العشب جبناً إلى جنب، ينظرون إلى أعلى جذع الشجرة الأبقع يزفرون الهواء بسرعة وبدفعات من خلال الرئة.
” اللعنة يا للخراء ، خراء ، اللعنة ” يلهث (نيكلاس)
” أنه يصاب بلوثه” يصرخ (هلوجر)
” ربما يفعلون معه شيئاً ما؟ ” سأل (نيكلاس)
” أنهم يفطسون من الضحك ” قال (باول) ” لوكان ذلك لما ركضت كأول شخص” قال (هوليجو) وهو يزحف على الأرض
” من أنا؟”
” هذا ليس بمهم ” قال( نيكلاس )
” أنه مهم …. بالنسبة لي مهم” قال “باول”
” من هو أول شخص هرب ؟” ربما أنا ” قال (هولجر) ثم نظر باتجاه (باول) …
“دع هذا الآن، اللعنة، نحن يجب أن نفعل شيئاً قال (نيكلاس )
” ماذا نفعل، ها ؟ بالك من معتوه، يا لك من أحمق” تقدم إليه (هولجر)
” ماذا تريد أن تفعل”
” أن عثروا عليه، فهذه هي نهايتنا” قال (باول) بهدوء
” رغم ذلك أنت كنت أول شخص يهرب” قال (هولجر)
“لا ….. لم أكن، وأن كنت، فأنت كنت أسرع مني ، اذن فأنت أصبحت”
أنا ؟ ا”
أجاب (باول) ثم وقف بانتصاب
” بالطبع أنت، من اذن، (وفرانس ) ملعون أبله، أتعرف لماذا يفعل ذلك ؟” ….
تراجعوا متسللين بحذر نحو أطراف الغابة.
في الأمتار الأخيرة كانوا زاحفين، وملتصقين بالأرض كالأفاعي .
عاكسي أذرعهم إلى الأمام وشفاهمهم مالحة.
نهض (نيكلاس) كأول شخص ….. همس (باول) بغضب ” انبطح” اللعنة، انبطح، أنهم يروك من أبعد مسافة”
” لا أحد هنا” رغم ذلك سحب (نيكلاس ) رأسه بين كتفيه”
” لم يعد يوجد أحد هنا، لقد ذهب الروس”
نهض (هولجر ) كذلك ومشى باتجاه (نيكلاس)
” بماذا تفكرون؟” قال مبتسماً ” ربما أخذوا (فرانس) معهم للتحقيق ….. يعذبونه قليلاً ……. أو يسقوه الفودكا، حتى يسقط ثم يعترف بكل شيء بكل شيئ”
” بماذا سيعترف أيها الأبله؟ بماذا ؟ ها؟ “
قفز (باول) وصفعه براحة يده على جبينه.
” أي اعتراف ؟ ، اذا نحن فقط قد نظرنا إلى المدرعه”
قطع (نيكلاس ) من العشب ثم لفّ بها أبهامه الأيسر .
” كيف لي أن أعرف؟”
” لو أنه لم يهرب ” قال ( باول) بازدراء ثم تطلع إلى الميدان.
” اذا كان الروس قد قبضوا عليه، فسيحصل على عدة صفعات، ثم يطردوه بعد ذلك، أكثر من هذا لا يفعلون”
” أو ربما قد عاد الان” قال (نيكلاس)
“رغم ذلك سأبحث عنه أنا” قال (هولجر)
“لو كنتم خائفين فباستطاعتكم البقاء هنا”
اقتربوا جميعهم من المدرعة في نصف حلقة…….تقدموا ببطء محدودبي الظهور ….خمسة، عشرة أمتار إلى الأمام ….وقفوا يتنظرون اشارة يد من (باول) .. لائذين بالصمت يتنصتون بدون نفس ….
الحشرات تطنطن وتأزئز، شحرور يغرّد ….. ومن مكان ما من أحدى الحدائق على طرف المدينة سُمع صوت منشار أشجار تَعب.
” هنا رائحة جيفة شديدة”
بحلق (نيكلاس) في حفرة أمام قديمة.
” ما هذا؟ (باول) …. باول .أنه ما هذا أذن ؟ شيء أخضر كريه”
” ماذا بحق السماء؟ ماذا أذن؟ لا تصرخ هكذا ؟
” تعال هنا اذن …..هنا، هنا” كان (نيكلاس) مصفر الوجه ” ثم لوح بيديه إلى الأعلى ” هنا …. هنا….” ظل يلوّح باستمرار عندما كان (باول) و(هولجر) يقفون بجانبه ويبحلقون في الحفرة .
” يا للخراء ” دمدم (باول)
” كل هذه الخربشة هي مصارين وأمعاء داخلية”
” أية أمعاء؟ (باول) لا تتحدث بمثل هذا ، أيه أمعاء؟ يا للرب باول؟”
“أنها أمعاء بقرة ميتة أيهاالأبله ، أنها تاهت عن الحقل ودهست أحد الألغام”
” لغم ؟ أتعتقد بأن اروس يتركون قنابل وألغام حقيقية في هذا الموقع ؟ “
” بالطبع …. أن هذا ليس روضة للأطفال ؟”
“ربما لديهم سجن وقد ذبحوا أحد السجناء”
حاول (هولجر ) الضحك
“هراء”
” كلا …. بل بواسطة حربه”
” أعتقد أني يجب أن أتقيأ ”
تكور (نيكلاس ) ثم ضغط بكلتا يديه على بطنه متقرباً من العشب
” هيا تقيأ اذن، أفرغ ما في بطنك، ربما يشاهدك (فرانس) ، أو سيروك الروس، سيضحكون عليك حتى الموت ”
” الان أفضل، دعونا نهرب من هنا”
(هولجر) يغلق أنفه بابهامه وسبابته ….ينط من ساق على ساق أخرى وهو يحاول الضحك.
” اللعنة، أن أعتقد بأني يجب أن أتقيأ، حالتي سيئة من شدة الجيفة”
” أنا عائد ” همس (نيكلاس) ” أن (فرانس) في جميع الأحوال غير موجود هنا”
“اذن … دعونا نهرب من هنا” قال هولجر
“أنا أيضاً نفذ صبري” ….
” أرجعوا، ارجعوا أيها الجبناء” قال (فرانس) هامساً ومثل مناجاة الرب خرجت الكلمات من شفاهه اليابسة……
تردد الصوت في اذنيه ….. وكان كما لو أنه لحد الآن يلّوح بيديه صارخاً ، وصارخاً
عاد متسلقاً من فوهة مدفع المدرعة إلى داخلها……
قفز داخل الغرفة المظلمة في المدرعة التي كانت تعج برائحة البول والعفونة، التي كانوا قبل عدة دقائق يتشاجرون أربعتهم للحصول على المكان الجيد فيها .
مكان السائق أمام الشباك الصغير المفتوح، كان هو المكان الجيد الذي حشر (فرانس) نفسه به ليتطلع إلى الخارج من فتحة الشباك.
يخفق الدم بعروقه، وجهه ويديه كانتا حمروان وساخنتان…..
عاد هامسا ” ارجعوا، أيها الجبناء، ارجعوا”
قفز جالساً فوق مكان السائق الصدئ ثم بحلق
في سيارتي الحمل الزيتونيتين من خلال الفتحة الصغيرة التي أمامه.
سيارتي الحمل التي تسيران ببطء نام على الطريق الوعر محدثتان عجه من التراب خلفهن .ومن خلال حجاب التراب وبدون صبر، استطاع (فرانس) أن يتعرف على وجوه الجنود اللذين كانوا جالسين فوق سيارتي الحمل…يمين
ويسار وجوانب التحميل جالسين فوق الواح ضيقة مصفوفة إلى بعضها.
عندما اختفت سيارتي الحمل عند المنخفض، تسلق ( فرانس) على المدرعة ثم قفز منها على العشب …. جرى بسرعة واختبأ بين أشجار الزان والتلال الترابية.
اقترح طريقاً لا يقوده إلى أشجار (البتولا*) والذي ركض الأخرون باتجاهه .
اقترح طريقاً … هو العودة رجوعاً حول ميدان التدريب ومن ثم إلى الحدائق على أطراف المدينة.
يوجد سياج شائك أمام الحدائق، يحد بينها وبين ميدان التدريب، لكن (فرانس) كان يعرف أن بعض أطرافه الشائكة والحادة كان متداعياً ونصف متدلي.
كانت الأسلاك الشائكة في هذا المكان متدليه وغير مربوطة بشدة
حول أن يقف باستقامة حين وصل إلى مكان ما في طرف ميدان التدريب، عندما حدثت أمامه ومن بين الأعشاب التي كانت بارتفاع خصره حركة ما، تركته مرعوباً.
لاحظ مندهشاً كيف أن شيئاً رطباً دافئاً سال سريعاً على ساقيه، من خلال البنطال القصير، سال إلى الأسفل بسرعة وعلى ركبتيه، ثم تسرب إلى حذائه الرياضي حيث زغمّق لون قماش الحذاء الأزرق القذر.
من بين الأعشاب العالية ظهر أمامه رأس وجسم رجل للحظة واحدة وقفوا جميعاً جامدين ينظر أحدهم إلى الآخر، ثم قال الجندي شيئاً لم يفهمه (فرانس)
” فقط هكذا ” (قال فرانس) “نتمشى …. نتطلع لا شيء غير هذا ”
في الأعشاب وخلف الجندي الأول استلقى جنديان متكأين على ساعديهما متكاسلين، يدخنان سكائر قصيرة مطعوجة من الوسط وبفلتر طويل أبيض.
حرّك (فرانس) رأسه وسحبه بين كتفيه……
أشار الجندي الذي يقف أمامه إلى البقعة الرطبة الداكنة على بنطلون الفتى ثم قال شيئاً إلى ما الآخرى .
ضحك الاثنان.
وضع أحد المنطرحين على الأرض سيكارة أمام رأس (فرانس) المطئطأ
“أجلس ” ضرب يده بجانبه على الأرض لكن الفتى هزّ رأسه نافياً ثم انقضّ فجأة على السيكارة بكلتا يديه ثم اختفى.
ضحك الرجال، ومثل حيوان مفزوع ركض بين الأعشاب العالية دون أن يلتفت إلى الخلف….
ركض إلى أن التصق قميصه المتعرق على ظهره . ركض وركض وركض حتى استطاع أن يرى السور وما خلفه من أكواخ وأشجار التفاح
” هي . أنتم يا خراء” اتكأ (فرانس) متراخي على أحد أسوار الحديقة
” هالو….. هتلر” قال (هولجر ) ثم رفع ذراعه الأيمن إلى الأعلى
صفّ (باول) أمام (فرانس)
” أنت تبولت، نتانتك على مسافة عشرة أمتار في الريح ” قال (باول)
أغلق (هولجر) أنفه منفوخا وتجنجل هنا وهناك .
” والروس، ماذا حدث مع الروس؟” سأل نيكلاس
” أنهم أعطوني وسام” قال فرانس
“وسام، وسام” أصفق (هولجر ) بيديه ضاحكاً “وسام البول”
” لقد اطلقوا النار على بقره” قال (نيكلاس)
” كان هناك أمعاء وأشياء مقرفة في كل مكان”
” كان باستطاعتنا أن ننتصر، لو أنكم لم تهربوا” قال (فرانس)
” أيها المجنون ” قال (باول) بهدوء و أشار باصبعين إلى جبهته.
” كانت لديك دائماً صدعه خفيفة، أما اليوم فانك مخبول (تماماً)
” صرعه روسية” ابتسم (هولجر) ” حالة واضحة من الصرعات الروسية.
كانت رائحة عفنه جنوبيه” قال (نيكلاس) ” الأمعاء”
“لو أنهم عثروا عليك” قال (باول) “لرموك مع الأمعاء في الحفرة، أو فعلوا بك”
” لكنهم لم يفعلوا ” قال (فرانس) ” أنهم أعطوني وسام”
” أرني أذن وسامك اسمع دائما وسام … وسام… أين وسامك اذن
صرخ هو لحر ” أنه سيهتزأ بنا، ليس الا”
” لقد كان محفوظاً بأن الروس لم يشاهدوه ، الآن ينفخ نفسه …وسينفجر بعدها”
” يلتفت (باول) إلى (هولجر) و(نيكلاس) ” من يأتي معي؟ ”
” ماذا عن الوسام”
“سأريكم اياه الأحد القادم” قال (فرانس) ثم بصق عبر السور
” الأحد القادم”
” الوسام في المدرعه، لقد تركته هناك والذي يريد أن يراه يجب أن يأتي معي ”
” وماذا اذا لم يكن هناك وسام” ؟ لم يلتفت (باول)
تطلع (فرانس) إلى ظهر (باول) المربوع
“هناك وسام روسي خرائي ، وأول شخصي يدخل إلى المدرعه سيحصل عليه”
“الأحد القادم” قال (هولجر) ” سأحصل على هذا الشيئ”
” بكل وضوح ” ” قال (باول) ” بالتأكيد الأحد القادم”
مضواجميعا راجعين خلال حدائق المدينة ….. يصفّر (هولجر) بهدوء ماشياً ومحافظاً على عدم تجاوز المسافة بينه وبين (باول)
(نيكلاس ) يتقافز ويتبختر بينهم وبين الحين الأخر ينظر إلى الخلف باتجاه (فرانس) لكني فرانس لا يلاحظ ذلك .
ساروا على امتداد أسوار الحدائق وظلال البيوت الرمادية النائمة.
شعر أشعث على الجباه، وشمس برتقالية شاحبة تغرق في الغروب خلف أعمدة هوائيات التفاز وسفوف الحملونات.
” شمس الروس ” قال (نيكلاس ) ” أنها بحق شمس الروس اليوم”
” ما معنى هذا؟ ”
” لا أدري، أمي تقول ذلك عندما تكون الشمس هكذا”
” أنها تخرّف”
“ضحكوا جميعاً وأشاروا بأصبعين إلى جباههم.
ضحك (نيكلاس) أيضاً ثم رفع كتفيه إلى الأعلى متسائلاً .
أما (هولجر ) فضحك بصوت عالي عندما لا حظ (فرانس) و(باول) يضحكان ثم استمروا بالمسير أشعتي وتعبى.
ثم نادوا مرة أخرى ” الأحد، الأحد القادم”
قبل يتفرقوا ويختفوا بين البيوت الرمادية النائمة.
تأليـف: يــورغ ياكــوب
ترجمهـا عـن الالمانيـة : عامـر تايـه
* البتولا ….. نوع من الأشجار ذو جذوع بيضاء