من يفتح النوافذ؟

بمناسبة ذكرى رحيل كريم جثير الاولى

 

قراءة في نص مسرحية النافذة

من يفتح النوافذ؟

د. حسن السوداني

يسأل الحائط

عن جدوى النافذة

عدنان الصائغ في تأبط منفى

في دأبه المستمر في البحث عن مغايرة شكلانية في أعماله المسرحية يَقدم كريم جثير على نوع من الاستشراف النصي في العديد من نصوصه المسرحية ومن بينها “النافذة” المنشور في مجلة علامات في عددها الأول*. فهذا النص يتحدث عن شخوص منهكة على مختلف الأصعدة, بل هي شخوص تحتظر في ساعتها الأخيرة ودون أدنى بارقة أمل في الخلاص من الموت إلا بالموت ذاته. والمسرحية مستلهمة من زيارة كاتب النص لشاعر الجنوب العراقي عيسى الياسري في منفاه القسري, كما يوضح  الكاتب ذلك في نهاية النص المنشور*.

وإذا كنا هنا أمام نص يعالج موضوعة واقعية لأشخاص حقيقيين فأننا في ذات الوقت نتعامل مع معايير كتابة نصية درامية تنأى عن المباشرة إلى رحابة الخيال ومنصاته الواسعة ذلك أن الكاتب يسعى في نصه هذا إلى استخدام ألية حلزونية يمكن أن تقود القارئ إلى النهايات واللانهايات وفقا لعمليات ضغط النابض بشكله النهائي. ولكي يصل إلى هذه الألية المغلقة شكليا والمفتوحة على اسقاطات تعمد إلى اختيار ثيمة تتوافق وقوانين هذا النمط من الكتابة.

فالشكل الحلزوني ليس بناءً دائريا كما هو الحال في النصوص المعتمدة على المنهج الدائري في الكتابة ولكنها تعتمد عليه في بعض جوانبها, فإذا كانت بنية النص الدائري تعتمد على ” مجافات المنطق الظاهري واللامنطق الشخصي, والحلم, والتكرار الرتيب الممل الذي يصل إلى درجة الجمود” فأن المنهج الحلزوني يأخذ من الدائري جزئه الأخير بطريقة يفتح معها منطقة الجمود إلى منطقة القصد, فالتكرار في النصوص يعتبره نقاد الأدب أحدى سمات  الأدب االسومري عبر تكرار الجمل والالفاظ والافكار، وهو داخل النص ينبع من ضرورات البنية النصية المؤلفة من “214” حوار يتوزع مناصفة بين “هي وهو” وبمقدار” 107″ لكل منهما على وجه التحديد ومن هنا فأن عملية رفع التكرار في أيا من حواراتهما سيعمد إلى خلخلة تركيبة النص ويجعله أقرب للوقوف على قدم واحدة!. فالتكرار الأول يأتي في الحوار رقم” 111ـ 117″ وهو إعادة للحوار رقم “1 ـ 7″ ثم يعاد نفس الحوار في الثلث الأخير من النص وتحديدا في الرقم”186” إي بعد “64” حوار أخر. ثم يبدأ تكرار أخر في المقطع “211” وهو إعادة للحوار رقم “140” إي بعد ” 71″ حوار. ولعل قراءت هذه الأرقام يؤشر لأكثر من مفارقة في تحليل هذا النص. فآلية التكرار لدى الكاتب تبنى على أساس المناصفة التامة فالحوار موزع بالتساوي على الشخصيتين, والتكرار في المرة الأولى جاء بعد نصف النص تماما كما جاء التكرار الرابع في نهايته والتكرار الثالث في منتصف المسافة النصية بين التكرار الأول والتكرار الرابع!!. وإذا كانت المصادفة التحليلية كشفت عن هذا التناسق الرقمي في التكرار فمن المؤكد ان الكاتب الدرامي أياً كان لايمكنه المراهنة القصدية على هكذا نوع من الكتابة الرقمية إلا من خلال مكنوناته الداخلية, ولو حجبنا النص” النافذة” عن مؤلفه وطالبناه بكتابته مجددا وفقا للشرط الرقمي انف الذكر لما تمكن من وضع هذه التناسيقة العالية في التكرار إلا من خلال ما يحملة الكاتب من إحساس فطري في بناء النص. وللوقوف عند هذه النقطة وما يمكن ان تثيره من تأويلات فأننا إزاء بنية نصية حاولت صهر الشخصيات المتعددة إلى شخصية واحدة ثم محاولة أطلاقها مجددا عبر شخصيات متعددة ولكن هذه المرة بشروط جديدة لتحقق هدف واحد. فالسعي للخلاص من المأزق لا يشمل المعايير المنطقية للخلاص منه, ذلك أن المنطق لا وجود له في المنطقتين ” الواقعية”ـ الشاعر في منفاه ـ والمأزوم ” هي وهو” في النص الدرامي وبالتالي فأن مجافات الواقع أو محاولة استنطاقه لا يمكن ان تمنطق هنا إلا بالمنطق نفسه” بالعكس فلا شئ يعادل منطق الأشياء حولنا سوى الضحك” (حوار رقم “96” في النص ) بل هي محاولة عبثية لبعثرة الخراب وهو ما حمله النص بطريقة رقمية مرة أخرى فقد تكررت مفردة الموت ومجاوراتها داخل النص 91 مرة مثل: ( موت, قبر, ذعر, فرار, هرب, عطب, نهاية, بكاء, نسيان, نفاد, دفن, جثمان, جفاف, جنون, شلل, مشانق, رصاص, سأم, نُذر, محنة, توقف…. الـــخ) توزعت على الشخصيتين بطريقة متساوية تقريبا, في حين تكررت مفردات الأمل ومجاوراتها عشر مرات فقط مثل: (خلاص 6 مرات وبسمة, فرح, حياة, ازهار) ولعل هذا التفاوت العددي يشكل مفارقة أخرى في هذا النص ذلك أن المتعارف عليه مبالغة الشخصيات المقبلة او المشرفة على الموت في تشبثها بالحياة بكل السبل وخاصة تلك الشخصيات المسلوبة أو المقبلة على موت قسري. إلا أن المؤلف هنا سعى إلى قلب هذه المعادلة أيضا من خلال عشق شخوصه للموت وأيثاره على الحياة وأعتباره خلاصا في النهاية.

ولوعدنا للناحية الاستشرافية في النص لظهرت لنا مرى أخرى واحدة من المفارقات الحقيقة ذلك أن الكاتب يذكر في هوامش نص النافذة ” هذا الموت الذي لا توقفه سوى عودة الياسري إلى جنوبه وقد نبت العشب من جديد كما نبت واستطال في قصائده وأحلامه ليكتب قصيدته الأخيرة هناك, وتبطل هذه العودة أيضا نهاية مسرحية النافذة, هذه النهاية التي تسقط فيها الأوراق من يد الشاعر قبل أن يكتب قصيدته الأخيرة”* ولكون هذه المسرحية قد انتهت منها الكتابة في ديسمبر من عام 2002 فأنها سبقت حلمه في التغيير الهائل لمعطيات* القهر الحادق بشخوص نصه الحقيقيين والوهميين وبالتالي فأن النهاية التي دعى  الكاتب إلى إبطالها عادت من جديد لتتحقق في سابقة لا تتحقق كثيرا في العالم الواقعي. هذه النهاية التي امتزجت بين الخيال والواقع اسفرت عن حصاد أول شخصية محببة للشاعر” أستشهاد أبن أخيه وزوج أبنته” في الوقت الذي لم يفتح فيه الشاعر سوى جزء من نافذته المسمرة بالأصفاد, ترى ماذا لو حاول فتح النافذة على مصراعيها؟ فالمفارقة الاستشرافية هنا قد تحققت بطريقة نادرة ولكن ليس بالطريقة التي حلم بها مؤلف النافذة بل بطريقة محزنة وضعت العديد من الأصفاد حول الاف النوافذ الموصدة والتي تنتظر  تحريرها منذ ثلاثة عقود من  القهر* .

هوامش

* مجلة علامات مجلة نصف سنوية تقافية تصدر عن رابطة الرافدين الثقافية في أمستردام, العدد الأول, السنة الأولى, نوفمبر, 2003.

* مسرحية النافذة لمؤلفها كريم جثير, مجلة علامات, العدد الأول,ص 136. وهي تتحدث عن عجوزين محاصرين في غرفتهما وقد نفد منهما كل شئ ولا يستطيعان الخروج أو فتح النافذة لهول ما موجود خارجها من خوف ورصاص وتنتهي المسرحية بموتهما بعد ان تحاول “هي” أن تفتح النافذة ويلحقها “هو” بعد لحظات.

* المؤلف في هامش النص.

* سقوط النظام الدكتاتوري في العراق في 9 أبريل 2003.

* المفارقة الاخرى في النص ان الكاتب كريم جثير فتح التافذة على مصراعيها فاخذته بعيدا…………. بعيدا جدا.

عن admin

مجلة ثقافية مستقلة أسسها ويرأس تحريرها عامر تايه

شاهد أيضاً

مسرحية الأطفال – الساحل وجني المصباح

بـدايــــة   (( المسرح متسع من الفراغ .. الستارة الخلفية بيضاء يرتسم عليها لون     …

اترك رد