الرئيسية / مسرح / مقارنة بين عرضين…….

مقارنة بين عرضين…….

مقارنة بين عرضين…….

العرس الوحشي نموذجا

محاولة اختراق طوق اللغة


د. حسن السوداني
كلنا غارقون في العار….. كلنا غارقون… تلك الكلمات رددها ” المنسي” بطل مسرحية العرس الوحشي عدة مرات باللغتين العربية والسويدية ازاء دهشة العيون المترقبة ازدحام المشهد بتلك العواطف الجياشة التي حملها ذلك الكائن وهو يحتضن امه الرافضة ان تعترف به!! واذا كنا ازاء عمل مسرحي يحمل تجربتين في العرض اولهما كانت من تمثيل واخراج الفنان حسن هادي والثانية من اخراج الفنان السويدي نيكلاس ساندستروم وتمثيل عايدة و حسن هادي ايضا فاننا نجد انفسنا امام مقارنة حتمية تحمل الكثير من نقاط الالتقاء والاختلاف ايضا.
فعلى مسرح فيركستان  قدمت مسرحية العرس الوحشي التي أعدها الكاتب المسرحي فلاح شاكر عن رواية بنفس الاسم ليان غيفليك والحائزعلى جائزة الغونكورد الدولية تطرح موضوعة العقدة الأوديبية بين طفل الخطيئة والأم الموشومة بالعار عبر حكاية حب تنعقد بين فتاة في الثالثة عشر وبين جندي أمريكي يخدم في قاعدة عسكرية قريبة من سكن الفتاة تنتهي باغتصاب للفتاة من قبل صديقها واثنان من رفاقه وحمل الفتاة بهذا الطفل الذي سيولد ويعيش في مخزن للغلال لا يسمع و لا يرى غير ما ستسمح به الأم العازفة عنه تماما.
وإذا كنا قد تناولنا العرض الاول بشئ من التفصيل ذكرنا فيه ان هذه الموضوعة هي افتراض منطقي قد يحدث في أي مكان وزمان فأنه يأخذ أهميته الجديدة من واقع اليوم وإسقاطاته الزمكانية, فإذا ما عرفنا بأن النص الروائي قد دار في قرية فرنسية ولفتاة فرنسية مع جندي أمريكي فأن ذلك ممكن الحدوث في مكان آخر ما دام الوجود الأمريكي قد أصبح طحلبيا يتكرر بطريقة منسوخة في بقاع الأرض الشاسعة, ومن هنا فقد نجح فلاح شاكر في استثمار هذه الثيمة في بناء متن النص محولا إياه إلى دائرة من الصراع يمكن أن تبدأ من أي مكان تختاره أنت كـ(مخرج للعرض) أو تختاره أنت كـ( مخرج ثان ـ مشاهد العرض) معتمدا في ذلك على تأثيث فضاء النص بجمل حوارية تخرج من مخيلة صورية متشظية يستطيع أن يصيغ منها ما يشاء من استفزازات عقلية وحسية لا يمكن لجمها دون خبرة ودراية في فنون اللعب المسرحي. وإذا كان النص قد اختار البناء الدائري من بين أساليب الكتابة النصية الأخرى فأنه قد أعتمد التمازج الصوري والانتقال المونتاجي بين الشخصيات بطريقة متقنة وغير تقليدية, فشخصية الابن تتماها في عدد أخر من الشخصيات( الحبيب, المغتصب,الجلاد,المجنون,القاتل) وكذلك شخصية الأم تتشظى في عدد أخر من الشخصيات( الحبيبة,ابنة الخالة, ممرضة المصح العقلي, المراهقة) ويأتي هذا التماهي متساوقا مع الانتقال الحر في الأحداث مبتدأ من النهاية ومنتهيا في البداية دون أن نشعر في مدى أهمية الأولى على الأخيرة, ورغم أن هذه الطريقة في الكتابة تقلب المثلث الأروسطي لكنها لا تختلف معه في الشروط الدرامية الأخرى فالصراع داخل هذا النص يستمد شرعيته من الإرث الكلاسيكي القديم لكن التكثيف في البناء أخرج النص من دائرة الكلاسيكية إلى المنطقة التعبيرية الحديثة فالشخصيات ما تلبث أن تنهار ساعة نشوئها لتولد محلها شخصيات جديدة ستنهار في دورها هي الأخرى ما عدا الشخصيتين المحوريتين ( الأم والابن) التي ستتعززان بانهيار هذه الشخصيات, إما الحوار فأنه غالبا ما يتميز بنصوص فلاح شاكر مشكلا إحدى علاماتها الفارقة فهو حوار صوري يتميز بالشاعرية المكثفة محاولا تحدي ذهن المتلقي مجبرة إياه على اليقظة الدائمة, حتى تلك المطولة منها والتي يؤاخذه عليها بعض النقاد فأنها تنساب هنا بطريقة لا تدع المجال لمنتجتها أو تكثيفها بل أنها جاءت لتعزيز الجو العام ومكان العرض مما ساعدها في بناء صراع متنامي يصل إلى الذروة عندما نكتشف النهاية المفجعة التي تنتظر الأم والابن في نهاية المطاف


العرض في التجربة الاولى.
أن التعامل مع المنظومتين السمعية والبصرية في مسرحية العرس الوحشي في عرضها الاول جاء وفقا لدراسة متأنية للنص المسرحي, فقد انتبه المخرج حسن هادي إلى فكرة انهيار الشخصيات وبنائها من جديد ليعيد كتابة النص وفقا لمتطلبات العرض معتمدا على فكرة الهدم بعد تكامل البناء خارجا من فكرة الاستاتيكية المشهدية إلى فكرة التحول المفاجئ دون التأثير على انسيابية العرض ماسكا بقوة إيقاع العرض, وهو أسلوب يحمل الكثير من المجازفة! فماذا لو انفلت إيقاع المشهد أثناء العرض أو شعر الممثل بعارض ما؟ أن المخرج هنا لا يترك فرصة لتنامي هذه الفكرة هنا بل وليوغل في المجازفة مختارا مكان العرض حقلا للألغام بدلا من ـ سفينة آيلة للانهيار كما جاء في النص ـ شاغلا مساحة العرض والمشاهدة في آن واحد ليوحي بفكرة القلق داخل الممثل والمشاهد, أي أن مصيرهما سيكون واحد بالنتيجة. ولكون الحوار المسرحي هو حالة تجريدية مهما تضمنت من صور فأن عملية تحويلها إلى صور حسية كانت تتم بطريقة النحت المتأنية, فقد أعتمد المخرج على مرونة جسده كممثل وخاصة في مشاهد الرقص الإيحائي التي تتطلب مرونة جسدية عالية. ولكون فكرة المجازفة ظلت هاجسا خفيا داخل العرض فقد تجلت بشكل أساسي في مشهد الاغتصاب, فغالبا ما تقع هذه المشاهد فريسة التناول المباشر أو المبالغ فيه لكنه هنا يتحول بفعل الاشتغال الاسقاطي إلى واحد من المشاهد الارتكازية في العرض ففيه تتحول الممثلة بطريقة رمزية جميلة إلى خريطة العراق عبر عباءتها العراقية وجسدها المطوح بكل الاتجاهات, وبنفس آلية البث تدخل فكرة التطهير محورا اشتغال آخر في العرض فيخصص لها المخرج مشهدا كاملا وبطريقة تعتمد إثارة الحواس من خلال استخدام السينوغراف ( موسيقى ـ إضاءة ـ أداء راقص ـ أكسسوار) فعملية الاغتسال بالماء التي يؤديها الممثل في ليلة عيد الميلاد هي فعل تطهيري مادي تجري عبر سياقات الأداء المقترن بولادة المخلص, ومن هنا فأن البنية الدائرية التي اعتمدت في كتابة النص وإخراجه لم تكن مجرد إطار أو هيكل خارجي بل هي لا تنفصل عن المضمون الذي يكمن في أن( الزمن ـ الحياة)في النص محض تكرار فيه مجانبة للصواب والواقع وأن الثيمة في أغلب الأعمال المسرحية التي يلعب فيها الزمن دورا مهما هي إبراز هذا الزمن وتجسيد هذه الاستمرارية وتصويرها في شكل مادي محسوس. أن إشكالية الزمن في العمل المسرحي هي في اعتقادي مفترق الطريق بين الكاتب المسرحي والمخرج فالكاتب المسرحي يهتم بزمن الفعل الدرامي في النص المسرحي ولكنه لا يولي نفس الأهمية لزمن الفعل في العرض المسرحي وهنا يأتي دور المخرج التي يتعامل مع زمن الفعل وفقا لقوانين وضرورات زمن العرض وأن مسك زمام النص أو انفلاته مرهون في فهم هذه الإشكالية فغالبا ما تقع العروض المسرحية ذات الموضوعة المشابهة أسيرة الفهم الملتبس للعلاقة بين زمن الفعلين( زمن فعل النص ـ زمن فعل العرض) ومن هنا فان معرفة مخرج عرض العرس الوحشي بها قاده إلى تجاوز اللحظة الزمنية في النص إلى اللحظة الزمنية والحضارية الراهنة ليكون شاهدا عليها ومستشرفا للتغيرات التي يمكن أن تحدث في الواقع من خلال زمن الفعل داخل العرض, وهذه في حد ذاتها مهمة ليست باليسيرة يقوم بها المخرج المعاصر بدلا من الاستسلام لزمن الفعل الدرامي وبالتالي الوقوع في شرك العروض الميتةللنصوص الآسرة. وكمثال على هذه الآلية في التعامل مع الزمن يستخدم المخرج دالة سينمائية في مشهد تجريبي مهم عندما يعيد الممثلون الحوار بالمقلوب بطريقة إعادة الشريط السينمائي إلى الوراء في حوار( الابن : ربما نحب بعضنا إذا نسنا من نكون! .
الأم : هذا جنون )
ليثبت الشريط في حوار: وأي عقل في أن تكره أم أبنها!؟.
فالزمن هنا أصبح أداة تتقدم وترجع إلى الوراء كما يشاء الباث لا كما يريد زمن النص فهذه الآلية محض اجتهاد إخراجي له علاقة بزمن العرض وليس بزمن النص


العرض في التجربة الثانية
أن التعامل مع المنظومتين السمعية والبصرية في مسرحية العرس الوحشي في عرضها الثاني لم يختلف كثيرا في دراسته للنص فقد حافظ المخرج نيكلاس على فكرة انهيار الشخصيات وبنائها من جديد ولكن هذه المرة وقع المخرج في مشكلة اندماج الممثل في تأدية مشاعره بعد ان خرج الرقيب الداخلي” المخرج” من مسؤليته ليصل بالمشهد الى درجات عالية في الاداء يشعر معها المشاهد بقرب انتهاء العرض وعند تكرار هذه الموضوعة في اكثر من مشهد جعل المتتبع يشعر بانفلات الايقاع من يدي المخرج ولا ينقذه منها الا اداء الممثل حسن هادي وبراعة الممثلة عايدة والتي شكلت مفاجأة حقيقة للجمهور العربي في مدينة مالمو السويدية لادائها الرشيق وقدرتها على الانتقال المرن بين الشخصيات المختلفة التي ادتها” الحبيبة,ابنة الخالة, ممرضة المصح العقلي, المراهقة” وبالتحديد عند ادائها شخصية ممرضة المصح العقلي فقد جسدت الشخصية بطريقة عالية الاتقان بشرت بولادة ممثلة عراقية ذات مستقبل يعد بالكثير, ولكي يحكم المخرج انسيابية السرد الحكائي لمتن النص اختار جوا عاما لجغرافية المكان المبني اساسا على افتراض ” الارض الحرام” او المنطقة الفاصلة بين خصمين ليؤثث المكان بعدد قليل من المفردات” قصب, ارض ترابية رخوة, حفرة صغيرة مملوئة بالماء, مجموعة فتحات ضوئية للدلالة على وجود الالغام”شاغلا مساحة العرض والمشاهدة في آن واحد ليوحي بفكرة القلق داخل الممثل والمشاهد معا معتمدا على خبرة الفنان جعفر طاعون مصصم السينوغرافية والذي استطاع توظيف هذه المفردات بطريقة ذات دلالات جمالية معبرة اضافة لها الاضاءة دعما اخر ساهم بطريقة تجريدة بالاستعاضة عن الوجود الافتراضي للاشياء كمخزن الغلال والنافذة الوحيدة التي كان المنسي بطل الحكاية يتعامل معها للتعرف على العالم الخارجي , واذا اجرينا مقارنة موضوعية بين بعض المشاهد في العرض الاول والثاني فأن المنطق يشير الى خسارة العرض الثاني واحدا من المشاهد المؤثرة التي ظهرت في العرض الاول وهي مشاهد ليلة عيد الميلاد وطريقة الاغتسال التي تؤديها شخصية المنسي على يد ممرضة المصح العقلي , فقد جاء المشهد نفسه فقيرا في العرض الثاني معتمدا على حوارية بين المنسي وممرضة المصح العقلي ولولا براعة الممثلة عايدة وادائها المميز في هذا المشهد لما احكم المشهد اصلا.ولكن ما يحسب لصالح العرض الثاني هو قدرة المخرج نيكلاس من تخليص العرض من دلالاته العراقية الواضحة في العرض الاول ودفعه لدلالات انسانية ارحب في هذا العرض كمشاهد الخريطة العراقية والمفردات الشعبية العراقية التي طغت بوضوح على العرض الاول, ولعل اهم ما يميز العرض الثاني هو طريقة تعامله مع اللغة فقد اقدم العرض على تقديم تجربة جيدية في العروض المسرحية هنا في السويد بالرغم من وجودها في بعض البلدان الاوربية وهي تقديم العرض بلغتين ” العربية والسويدية” في ان واحد من خلال استخدام الترجمة الفورية المكتوبة على شاشة تعلق في منتصف اعلى المسرح واعطاء الحرية للمثل باستخدام اللغة التي يشاء مع وجود ترجمة محسبوبة بدقة تظهر في ذات الوقت ورغم ان هذه التجربة تساعد كثيرا الجمهور السويدي او العربي في التعرف على مجريات الحوار في العرض المسرحي الا انها تسهم في الوقت ذاته بتشيت المشاهد بين قراءة النص في شاشة العرض ومتابعة اداء الممثل في نفس اللحظة ولكون هذه الطريقة معتمدة اصلا في الفليم السيمائي او العروض التلفزيونية وتشكل نوع من المؤلوفية نتجية التكرار الطويل في الاستخدام الا انها تشكل نوعا جديدا في العروض المسرحية ستحفل حتما بطرفي قبول ورفض لاستخدامها في العروض المسرحية , وهي من وجهة نظري تشكل حلا معقولا لاختراق حاجز اللغة في العروض المسرحية المقدمة في البلدان الاوربية او العكس وتقدم حلا معقولا ايضا للكثير من التبريرات المملة للمسرحين العرب المقيمن في اوربا بعدم قدرتهم تقديم عروض ناضجة باللغات الاوربية وصعوبة اتقانها. ويبقى القول ان السينوغرافية كانت مرادف بصري سمعي فعال في تأجيج التحفيز النفسي للمتلقي دون أن تلعب دورا مستقلا بعيدا عن آلية البث نفسها وخاصة أن المسرحية قدمت على أحد أهم المسارح التجريبية في مدينة مالمو السويدية “مسرح فيركستان” ليشكل عرض العرس الوحشي لفرقة مسرح فرات اختراقا لطوق اللغة في تقديم العروض المسرحية كما تشكل اختراقا حقيقيا لقاعات العروض السويدية المهمة”مسرح فيركستان” في دار الاوبرا بمدينة مالمو السويدية بعد ان قدم الفنان حسن هادي عليها بجدارة تستحق الكثير من التقديرعروضه على ,
.Drömmarnas hus مسرح بيت الأحلام و Maf Taeter مسرح

عن د. حسن السوداني

شاهد أيضاً

مسرحية الأطفال – الساحل وجني المصباح

بـدايــــة   (( المسرح متسع من الفراغ .. الستارة الخلفية بيضاء يرتسم عليها لون     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *