الرئيسية / مسرح / الهنا والهناك

الهنا والهناك

قراءة نقدية لمسرحية الهنا والهناك لمروجك

 

الهنا والهناك

 

نكوص الصورة ام انعتاقها ؟

 

د. حسن السوداني

 

 

 

إن الأدب هو الذي يولد المسرح وليس المسرح من يولد الأدب, لان الصورة المسرحية تظل عديمة المعنى وتافهة ما لم تنبع من جوهر النص

 

ميير هولد من رسالته إلى ليونيد اندرييف

 

 

 

النص عبارة عن ” إنتاج فكري ودرس ميت علينا أن نستحضره الى زماننا بحيث يبدو قريبا ألينا لذلك فأنه خامة أولية ميته لا نبض فيها وهي لهذا مادة ميتة متحجرة الزمن ولابد لها أن تتحرك وتستحضر كل الأرواح الهائلة في هذا الأثير الأزلي “

 

د.صلاح القصب . ما وراء الصورة الإشارة الأولى لصورة الذاكرة

 

 

 

 يختار سلاومير مروجك ليلة رأس السنة علامة زمانية لأدارة احداث النص ” مهاجرون ” الذي ترجمه عبد الواحد المهدي وماجد الخطيب ، كما يختار القبو علامة مكانية لرسم حركة الاحداث وبين علامات المكان والزمان ينتقي شخصيتين متضادتين ليبني بهما هيكلة النص .

 

ولعل ما يمكن استشرافه من النص الذي خضع لتجارب متعددة من قبل مسرحيين عرب واجانب انه قابل للتأويل المتعدد لجملة الافكار التي حملها رغم المسافة الزمنية الفاصلة بين كتابة النص في منتصف القرن الماضي وبين العروض المتعددة التي مرت عليه ولعل اخرها التجربة التي اقدم على اخراجها د.حميد الجمالي واعدها الفنان اسعد راشد والمقدمة على مسرح Studie Framjandet في مدينة مالمو السويدية.

 

 

 

 

 

النص :

 

يتناول نص مسرحية ” مهاجرون ” فكرة الصراع بين العقل واليد او بين الفكر والالة وربما هذا الفهم المختزل قد تناول واحدا من اهم الاشكاليات التي واجهت الافكار والمثقفين عبر العصور ومازالت هذه الفكرة تتجدد في عالمنا الراهن مادام هناك اتجاهات راديكالية تلبس اشكال متعددة وتقف في وجه التغيير محاولة قيادة نوع اخر من التغيير تعتقده الانسب وما على الاخر” المفكر او المثقف” الا الانصياع له والانخراط في آلياته ويتجسد في النص بين شخصية المثقف وشخصية العامل وهما شخصيتنان تحملان في النص الكثير من المتضادات من حيث التوجه والسلوك هي تضادات بين البساطة والتعقيد وبين الانفتاح والانغلاق وهي تكرار لحالة الجدل الفكري التاريخي بين مثالية المفكر وواقعية الحياة بمختلف اشكالياتها :

 

” حالتي متفردة تماما ، لان حاجتي للاسير المثالي لا تقع ضمن مفهوم المنفعية في اي حال من الاحوال .انت ضروري لي كموديل ، كمثال ، ورقيب خصوصا هنا “

 

 هكذا يتحدث المثقف مع العامل وهو حوار يحمل المنفعية بحد ذاتها باعتبار ان المثقف يحاول ايجاد مناخ ملائم لتطبيق افكاره وهي غير قابلة للتحقق الا بوجود ” فأر تجارب ” وهي دعوة عادة ما تلاقي رفض حادا من قبل العامل” انا زوج واب لما تبقى من اطفالي… كن ما تكن انت.. مثقف.. سياسي.. لايهمني.. انا لست قرد.. لست اسير” وهو يحاول ان يفهم اصرار المثقف على اشراكه بهذه التجربة متسائلا عن صلته بالمشكلات المتشابكة التي تربك المثقف فيتلقى اجابات متعددة:

 

 ” انت الان بالضبط مثلي حينما كنت انا مثلك سابقا . كالشهاب الساقط مخترقا عمق الارض ، الذي لا يتغير ولا يشعربما حوله ، الوافد الجديد من عالم اخر ، عنصر قادم من جرم سماوي اخر “.

 

ان النص من خلال حوارات الشخوص يكشف عن ان الشخصيتان منتهكتان تماما فشخصية المثقف تعاني من ارباكات عديدة بسبب قهر السلطات لها ” الرقيب ” ومحاولة الاخير تطويع المثقف او الغائه او اقصائه وبالتالي فهو يعوي هنا باحثا عن خلاصه الافتراضي . في الجانب الاخر نجد شخصية العامل المنتهكة جسديا وفكريا بسبب طبيعة عمله القاسية وحياته المهنية التي اجبرته على الابتعاد عن اسرته واولاده وزجته في نمطية مهنية قاتلة جعلته يحلم بابسط مفردات الحياة الطبيعية ” المأكل ، الملبس ، الاولاد ، الشوارع ، السينمات …… الخ . واهم تلك الامنيات عودته الى الاهل وبنائه بيتا يجمع فيه تلك الاسرة التي طال ابتعاده عنها.

 

واذا كان النص” الاصلي”  يعالج مشكلة الصراع الفكري في فترة الحرب الباردة ووجود قطبي المعادلة الكونية” المعسكر الاشتراكي ونقيضه الرأسمالي” فقد احتوى على الكثير من الافكار التي حاولت معالجة هذه الثيمة الاساسية فجاء متماسكا من حيث البناء رغم مطولاته الحوارية واستطراداته الكثيرة في سرد العديد من الحوارات التي تقترب من الثرثرة , لكنها ثرثرة محسوبة لاضفاء الجو النفسي العام داخل متن النص وليس ضمن المكملات المقترحة للمخرج المسرحي الذي يرغب بتناوله, لكن النص في العرض الحالي خضع للاعداد المسرحي الذي قام به الفنان اسعد راشد محاولا سحب النص ” زمانيا” الى الوقت الحاضر وبالتالي تغير مجرى الكثير من الحوارات التي يجب ان تطوع للتعبير عن اجواء الفترة الزمنية الحالية, وبسبب ذلك ضحى المعد بالعديد من الافكار التي تضمنها الحوار الاصلي . واذا كان المعد هنا يحاول تأكيد فكرة الصراع المتجددة والمشاكل القديمة التي تديم نفسها دون وجود حلول مقترحة بل التفاقم هو مصيرها من خلال تضمين النص شروطا مكانية ومفردات ديكورية ارخت بثقلها على متن النص وجعلته يدور في حلقة مشروطة ستكون متلازمة ومحددة لطبيعة العرض.

 

العرض: حاول المخرج د. حميد الجمالي التمرد على النص من خلال النص نفسه فهو لم يستجب لمقولة ميير هولد في رسالته إلى ليونيد اندرييف ” إن الأدب هو الذي يولد المسرح وليس المسرح من يولد الأدب, لان الصورة المسرحية تظل عديمة المعنى وتافهة ما لم تنبع من جوهر النص” بل تماهى مع التنظيرات التي تميل للصورة على النص باعتبار النص ” إنتاج فكري ودرس ميت” على المخرج ان يبث فيه الروح  وهي معادلة تنم عن خبرة تراكمية لم تتح لها الفرصة الحقيقية للظهور, وبما ان النص يدور “مكانيا” في ورشة تصليح التلفازات او قبو معتم فان المخرج حاول الغاء فكرة الجدار والخشبة في ان واحد ناقلا العرض بين الخشبة والصالة ومستخدما احيانا الفضاء بطريقة فعالة تتناغم والافكار التي يطرحها النص فهو يذهب الى استخدام انابيب بلاستيكية طويلة كمفردة دالة ومتشظية في عدة مواقف منها خيوط الاتصال بالعالم الخارجي”التمرد علىالداخل” و اشكال غرائبية  في موقف اخر, وحبل مشنقة الاعدام في موقف ثالث واخر رابع وهكذا محاولا تثوير مفردة في اكثر من موقع.  الا ان سينوغراف العرض لاكنس تالاش قد  قرأ العمل بعين واحدة ولم يستجب لفكرة المخرج بالغاء الجدار الرابع والخشبة فاوقع العرض في نقلة الغراب , فلو استجاب السينوغرافي لفكرة المخرج لالغى  الخشبة تماما وحول العرض الى الصالة باعتبار ان المشكلة غير محصورة بين العامل والمثقف بل بين الجمهور نفسه كما شكلت التلفازات المفتوحة طيلة العرض مشكلة اخرى وهي تبث صورا تحمل الكثير من الاثارة ( صور للحروب, صدام حسين واجتماعاته , صور لشخصيات ساسية عراقية وعربية, الــــــــــــخ) وهي بمجموعها تشكل نمطا جاذبا للمتلقي ولكن على حساب الحدث المسرحي المتحرك على الخشبة, وهي تدفع المتلقي لتشتت الذهن او الانسحاب ذهنيا من داخل القاعة وهي نقطة لم تكن بصالح العرض, فلو اكتفى العرض  بمشهد واحد لتلك التلفازات لكان اجدى بكثير, وفي واحدة من المشاهد المؤثرة يقوم العامل ببناء منزل افتراضي له بعد عودته للوطن مرة اخرى مستخدما الكارتون كمربعات جاهزة لذلك وبعد انهيار الحلم وعوته للواقع يتهدم البيت تماما, وهي فكرة جميلة لو استثمرها العرض كمفردة لبناء الديكور لكنها سرعان ما خفتت ضمن مجريات العرض الاخرى. اما من حيث الاداء فقد اسفر العرض عن واحدة من المشكلات الحقيقة التي تواجه الممثل في مسرح المنفى ذلك انه يمتلك من الطاقات الفنية الكثير ولكن قلة الاعمال بل وندرتها احيانا اضفت نوعا من الاداء الخاص للممثل , ربما يتبين ذلك في رشاقة الحركة, او سلاسة الجمل الحوارية, او التعامل مع الجمهور, او احيانا كيفية استثمار الجو العام, ورغم تلك النقاط يبقى اداء للفنان اسعد راشد وزميله المجتهد حيدر ابو حيدر فعالا بتذكيرنا بروحية المسرح العراقي الذي نفتقده هنا تماما, ساعد في ذلك الالتقاطة الذكية للفنان طارق هاشم وهو يخلق عالما خفيا داخل العرض من خلال اختيار موسيقى تصويرية للعمل تستمر طيلة العرض ولا تتوقف ولكنها تظهر احيانا وتخفت احيانا اخرى , تحيلك كمتلقي الى نوع من الارواح المراقبة للمشهد والمنسلة بين الجمهور دون ان تراها ولكنك تستطيع تميزيها حتما. الهنا والهناك مسافة افتراضية لا احد يستطيع قياسها وتشظي شخوصها او اختيار مكانه هناك او بقائه هنا وتبقى حالة التأرجح هي السائدة لدى الكثيرين ” تأرجحت.. تعلقت بذيلي.. بقدمي…. من اليمين الى اليسار ومن اليسار الى اليمين…. واعترف في نهاية المطاف: اني لم اكن سوى قرد اسير” هكذا يصف المثقف نفسه وهو بذلك  يلخص موقف الكثير ممن نراهم في الهنا او الهناك..

 

عن د. حسن السوداني

شاهد أيضاً

مسرحية الأطفال – الساحل وجني المصباح

بـدايــــة   (( المسرح متسع من الفراغ .. الستارة الخلفية بيضاء يرتسم عليها لون     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *