مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي
الدورة السابعة عشر
الندوة الرئيسية
القاهرة من 20 – 30 سبتمبر 2005
( التجريب وتقاليد الكتابة المسرحية )
كتاب المسرح الحديث، والتمرد على التقاليد
ها ينر مللر نموذجا
بقلم:
د. عوني كرومي
2005 برلين
كتّاب المسرح الحديث، والتمرد على التقاليد
المدخل:
أود ان أوضح بدءا إنني لاستخدم كلمة التمرد هنا بالمعنى ألقدحي لها فانا أتعامل مع التمرد باعتباره حالة جدلية، وكذلك الأمر مع التقاليد، التي اعتبرها أساسا لا غنى عنه للانطلاق الى ذرى التقدم والتطور، والكف بالتالي عن التعامل معها كموروث مقدس لا يجوز المساس بثوابت من جهة، أو عدم الاكتراث بها وتجاهلها بغطرسة لا مبرر لها. إنما يجب ان نعمل على استغلالها.
فالتمرد في المسرح حالة من حالات إعادة أبداع الذات، تنزع الى البحث والتقصي وعدم الرضوخ والاستكانة الى المألوف والجاهز والمستهلك…. فالتمرد على سكون التقاليد وعدم إعادتها لذاتها, هو ما ندعوه بالتجريب الذي يقود الى الثورة على الذات والواقع, مع انه حالة فردية، ولكنه مرتبط بشروط العمل والبيئة الثقافية للعصر،
ان التمرد على التقاليد المسرحية كان وما يزال ديدن العديد من المبدعين والطليعيين في المسرح.تنحو نحو النماء والتطور ورفد الانسان بأدوات التغيير عبر مراكمة الخبر والبحث الدءوب. لأدراك كنه الظواهر وطابعها المتناقض والإجابة بالتالي على أسئلة وتحديات الطبيعة والواقع من خلال السعي المتواصل لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية والتكييف الخلاق مع قوانين الطبيعة الموضوعية, وبدون هذا الطموح يتحول المسرح الى بركة راكدة وآسنة… .
وتتمثل التقاليد المسرحية بالمناهج، والطرق والأساليب المسرحية التي تسيطر في فترة ما، على الحركة ألمسرحيه هنا او هناك، وتمثل خلاصة للتجربة المسرحية او لتراكم الخبر عند الفنانين او داخل اتجاه مسرحي معين. ويمكن دراسة هذه التقاليد أما على أساس الحقب الزمنية او المجتمعات والحضارات البشرية أو حسب الأشكال والنماذج المقدمة في المسرح من خلال النص وهو الشكل الأكثر تواصلاً وثباتاً من عناصر المسرح حيث وصلنا ورغم كل الظروف ابتدأ من نشأة المسرح وحتى اللحظة الراهنة أو من خلال التطور المعماري لأبنية المسرح. على العكس تماماً من ا لعرض المسرحي الذي لم يتنفس الحياة إلا مع مرحلة التسجيل المعاصرة بواسطة الأفلام والصور وأجهزة الفيديو
لقد كان دائماً التمرد على التقاليد يولد تقاليد جديدة تشق لها طرق مختلفة نحو الانتشار الواسع ويجلب معه دائما مسرحا طليعيا يرتبط بالسياسة.ونوعا مسرحيا يحاول ان يوجد نفسه على انه لون جديد من الحياة في الدراما.
ان التمرد في المسرح يعني التحدي لاتجاهات ثابتة معينة تكّون مع مرور الزمن حركة طليعية تأخذ على عاتقها تعميق المواقف الحداثية أو التجديدية أو الطليعية وترتبط هذه المصطلحات مع الأسماء أو الفترات الزمنية وكثيراً ما تفرز هذه الحركات حركات فنية مركبّة نطلق عليها تسميات عديدة الطليعة والطليعيين، الحداثة والحداثيين، التجديد والمجددين او الدادائيه او السريالية او ألتعبيريه. هذا يرتبط بالزمان والمكان وماهية التقاليد التي يتم التمرد عليها والتي هي نتيجة لما جاءت به طبيعة المجتمع والثقافة وتاريخ المسرح في هذا البلد او ذاك.
وكثيراً ما كان التمرد بالذات في الجوانب الاجتماعية والأخلاقية يواجه بشجب عنيف.لان التمرد أيضا يحمل في جوانبه قوة تدمريه اذا لم يكن مترافق بوعي وحكمة وتجربة وصبر وتأني وشفافية، وهنا تكمن المخاطر اذا لم يكن مرتبط التمرد بادراك لمعنى الحياة.
لأن الإحباط واليأس والعجز قد يقود هو الآخر الى التمرد, من أجل أثبات الذات والقدرة على البقاء والتطور, بالذات في المراحل التي يعيش فيها الانسان والفنان المتناقضات الأساسية للتفكك الاجتماعي.
لذا أصطدم سعي المسرح الى التغير الاجتماعي بالكثير من الإشكال والتقاليد المسرحية، التي أصبحت تشّكل عائقاً جدّياً أمام هذا المسعى ويعتبر الفنان بيتر بروك واحد من ابرز من أخذوا على عاتقهم القيام بهذه المهمة بالمزيد من الجرأة والإصرار. فلقد أدرك بروك أن المسرح في الوقت الحاضر ، بأشكاله التقليدية ومضامينه المترهلة والشائع، لم يعد قادراً على التعبير عما يعتمل في المجتمع من نوازع ورؤى جديدة، تبحث لها عن أشكال مناسبة، تستجيب لتمردها على ثوابت المجتمع القديم واعتباراته ومعاييره لان التخمة قد حلت وأصبح المسرح عاجز عن تنفيذ مهماته لذا يعتقد ان الوقت قد حان وأصبح من الجوهري ضرورة إعادة اكتشاف جذور المسرح والتجربة الإنسانية معاً. لان التمرد لايعني إسهام التحدي فقط للمؤسسات الفنية إنما للفن المسرحي ذاته.
ان أبسن الذي اتسم بالتحدي للأزمات والتناقضات والمناطق المعتمة اجتماعيا والتي لم تسلط عليها الأضواء في ذلك الزمن. رفض الطابع التمثيلي أو التصويري للغة عندما قرر التخلي عن الشعر الدرامي وأن يكرس نفسه للكتابة باللغة المحكية والسهلة التي يتكلمها الناس في حياتهم الواقعية لأنه كان يرغب في تصوير كائنات إنسانية لا تتكلم لغة الآلهة. وبهذا حرّر الكلمة من أغلال الاتجاهات الفلسفية والدينية ومزج بين الخبرة الراهنة القائمة على التزامن كما أن هناك الكثير من الظواهر التي ثار عليها في حينها أصبحت تقليد درامي له وجوده الخاص. مثل إقامة بنية حقيقية على الخشبة مشابهة للحياة وهذا أهم ما مّيز ه وأصبحت من بعده شيئا مسلماً بوجوده.
ان حركة التمرد لها بداية، ولكن ليس لها نهاية تظهر عندما تبرز أسماء المبدعين المدافعين عن حالة التمرد والثورة. لان التمرد يطمح الى التغيير وإعادة التكوين ويأخذ شكله من الزمن الذي يظهر فيه والمكان والمجتمع لان التمرد على الأشكال و المضامين نسبي ففي بلد ما يعتبر ما هو تمرد على الأشكال في بلد آخر يعتبر هذا الفعل أو الشكل مستهلك وتم تجاوزه. لأن المسرحيات الأكثر تمّرداً هي التي تطرح مفاهيم سائدة للتساؤل، وبهذا تُثير السخط من المحافظين والتقليديين وتتهم بالانحطاط والابتذال وعدم الفهم… كما أنها تهدد قيم المجتمع السائد لأنها تتصّدى للأزمات العميقة وتقترب من المحرمات وهذا ما حدث مع أبسن ذاته.
فالتمرد يسعى لكي يكون الفن المسرحي مواكب من حيث(( الموضوع والشكل )) للمجتمع الذي يتخطى التقليدية.
ولكن التمرد على المسرح التقليدي او على تقاليد المسرح في الوقت الحاضر, الحديث والمعاصر، يعود تاريخها في الحقيقة الى نهايات القرن التاسع عشر حيث انفلتت المحاولات الأولى للتمرد على الابسينية بالرفض المتعدد الجوانب(( للطبيعية)) والعمل على إنهاء الوهم على المسرح، وهم تحقيق الواقع والطبيعة بأدوات الواقع والطبيعة، وهم خلق الخلفية التاريخية من خلال الملابس والديكور، وهم تحقيق الشخصية عبر الاندماج وإعادة بناء الحياة على المسرح ببناء مشهد على الخشبة(( مشابه للحياة )) وإذا كان الوهم يتحقق من في خلق التجاعيد والمساحيق فأن التمرد أستثمر الماكياج المبالغ فيه لإبراز الطابع المسرحي. إي النزوع الى التعبيرية والرمزية من خلال تمثيل شخوص عبر الدمى والعرائس مثلا.
ارتبط التمرد المسرحي عبر العصور بظهور السياسات الراديكالية او الثورية أ ومن خلال الابتكارات والتجارب الفنية و الاكتشافات العلمية والاجتماعية. التي غيّرت الأهداف الرئيسة للفن ووظائفه واستثماره في حياة الانسان الى جانب تغير العلاقات القائمة بين منتجي المسرح والجمهور المسرحي, بين الفن الذي لا يهدف و بين الفن الغامض, والذي يعجز عن إيصال رسالة العرض….. ان التمرد على الإشكال الفنية يحمل بذاته بذرات التمرد اللاحقة ويقدم الدليل على أمكانية التطور… فأبسن هو من مهد للتعبيرية كشكل مهم في تأريخ المسرح العالمي.
لان التمرد يعلم ويعرف الفنان ماذا يجب ان يعمل و لأنه يقود الى الانفتاح والحرية والتعرف على الآخر فهو يعني الرفض في أوسع أبوابه كما هو متعارف عليه بهدف خلق تقاليد جديدة في( المشاهد المسرحية، الكتابة المسرحية، بناء العرض المسرحي، التمثيل، والتلّقي. والعلاقة مع الجمهور).ويعني التطور لظاهرة المسرح المرتبط بالتطور الاجتماعي
أشكال التمرد المسرحي
إن الشجاعة التي يتميز بها الفنان المسرحي المتمرد مؤلفاً، مخرجاً، ممثلاً، كانت تدفعه إلى التجريب والتجديد وعدم الوقوف والرضا وعدم الركون الى ما هو قديم ومألوف، والعمل مهما تغيرت الظروف بروح البحث والاكتشاف، حيث سعى الكتاب الدرامييون المعاصرون ًإلى اختبار قدرتهم على التجدد والتطور، ليس فقط لأن المسرح هو المكان الوحيد الذي يتلقى فيه الكاتب تأثير عمله مباشرة وبلا حدود، وإنما لأنه كذلك مكان للحوار والنقاش والتجريب وتبادل الآراء والخبرات.
إن الخزين الفني الذي منحه إيانا “المتمردون على التقاليد كان وسيلة مهمة في تطوير الرؤية المسرحية والمنهج والوسيلة لإغناء العمل الفني والإبداعي. وكان مصدراً ملهماً للطفرة التي حدثت في المسرح والتي انطلقت منذُ بداية الستينات من القرن الماضي . وشملت مجتمعات ودولاً ونظماً مختلفة ومتنوعة كانت تعيش في مرحلة التكيف والاندماج على نطاق واسع لذا جاءت حركة التجديد في الستينات تمّرد على كل ما هو تجميلي وتخديري وإيهامي..
لم تكن الستينات نقطة تحول بالنسبة الى المسرح والثقافة في أوربا فحسب إنما شمل ذلك شتى أنحاء العالم، بكل معسكراته ونظمه السياسية والاقتصادية في الدول ألاشتراكيه والرأسمالية ودول عدم الانحياز او ما يطلق عليه دول العالم الثالث. فما انتهت الخمسينات مع نهاية الحرب العالمية الثانية حتى كان كل ما هو منطقي وعقلاني قد وصل الى حالة من العجز والعقم. ودخلت الثقافة والمسرح في صراع بين ما هو تقليدي وحديث بين ما هو أكاديمي وما هو تجريبي وبين من يطور عروضًا كبيرة في الهواء الطلق هادفاً الى تحطيم الانفصال التقليدي بين الممثلين والجمهور. و بين من يعمل في داخل المختبرات ألمسرحيه ألمغلقه وبين ما هو غربي وشرقي يخضع لتأثيرات المعسكر الاشتراكي من خلال الواقعية الاشتراكية التي لم تكن في الظاهر سوى إعادة فهم الثقافة على أنها جزء من بنية التعليم والتهذيب البرجوازي, وبين ماهو شكلي غامض
.
ففي هذه الفترة ظهرت اتجاهات متعددة ومختلفة وفي بعض الأحيان متناقضة، فهذا يرفض أن يقدم صورة وثائقية والآخر يرفض ان يكون مسرحه تعليماً والآخر يبحث عن المتعة من خلال التعليم والتعلم وبعضهم يسعى لمشاركة المشاهد للحدث أو انتظار لحظة التطهير.
وحّول البعض الكتابة المسرحية وبناء العرض الى شكل يراد منه ان يكون تجربة فريدة تقوم على جمع المختلط معاً، وضع المختلف جنباً الى جنب حتى تحدث تلك اللحظة المتمثلة بالمواجهة كما تجسدها مختلف صور الاختلاف والتناظر. ووصل التجريب ذروته عند بيتر بروك في إعادة تقديم العمل المسرحي بأشكال مختلفة وصياغات متعددة، مثلما فعل مع منطق الطير(( اجتماع الطير)) حيث عمل على إعداده في أكثر من بلد ومكان ومثّلته سبعة مجاميع مختلفة، كانت مسئولة عن سبع صياغات للعمل و قُدم العمل في الليلة الأخيرة بثلاثة أجزاء، يبدأ الأول في الثامنة من المساء والثاني في منتصف الليل والثالث في الفجر، أول العروض كان ارتجالياً وثانيهم كان هادئاً و ملتزما بالنص، أما الثالث ذا طابع احتفالي
فإذا ما أخذنا الصراع الدائر في مسرح الدول الاشتراكية بين متحفية ستانسلافسكي وتجريبية بر تولد بريشت أدركنا كم كانت الشقة واسعة بين اتجاهات المسرح ولكن كيف سقط الجميع أيضا في وهم التشابه, فالحداثة والتقليدية أخذت إشكال أخرى وأسست منطلقات مغايرة عما كان يحدث في الغرب الذي شهد محاولات الطليعيين في الستينات بالبحث عن المسرح الاحتفالي والشامل، كما شهد إعادة الإشكال الشعبية المسرحية ذات الصبغة الجماهيرية، مثل مسرح الكوميديا ديلارتي من خلال العروض ألمسرحيه التي قادها بلونش في فرنسا و التي تجمع بين الفكرة الممتعة والتسلية والمسرح الموجه الملتزم بقضايا الانسان…
كانت الستينات تقع، حداً فاصلاً بين دراما ما بعد الحرب ودراما المجتمعات، التي تسعى من جهة لبناء مجتمع التكافل الاجتماعي وبين المجتمع ذي العلاقات الاشتراكية، بين الصراع من اجل مجتمع الرفاه الاجتماعي كل حسب طريقته و مرحلة البناء الجديد والانقلابات التي لم يرى فيها المواطن العادي في بلدان العالم الثالث إي تأثير على مستوى حياته وتطور وتفتح شخصيته….
وضعت فترة الستينات المسرح الحديث في غرب أوروبا الذي سعى عن موقع جديد في قتل الاعتيادية في التلقي والطروحات التحررية.بابتكار مضامين وأساليب جديدة تستفز المشاهد وتثير لديه رغبة النزوع الى مسائلة الواقع والخروج من دائرة التلقي السلبي والخامل لما يدور على خشبة المسرح, لقد فهم الجميع الطليعية في المسرح بمعنى التغيير والثورة ,و في الوقت ذاته اعتقد الكثير ان الفنان الثأر على التقاليد هو ثار اجتماعي او سياسي ولكن بدون التمييز بين التمرد في الشكل او التمرد على المضمون والمعنى.لهذا وصلت( الطليعية في أوربا) الى البلدان العربية بدون تميز واختلافات شديدة ان لم نقل في وقت واحد وتحت مسمى الطليعية العام والشامل
لهذا تأثر المسرح في هذه الفترة بثلاث اتجاهات:
1- مسرح الدراما ألعبثيه الذي يعتمد على السخرية والتهريج المبكي والمضحك حيث قدّم العالم على المسرح في صورته الذاتية المغلقة.من خلال ما كتبه بكيت, وما تركه سارتر ويونسكو الذي أكدوا على عبث الحياة واللغة التي تتحّول الكلمات فيها الى جثث قاتلة ومعيقة.
2- وباتجاه برشت في مسرحه السياسي النقدي الذي يسعى الى التغيير الاجتماعي ذي الأبعاد السياسية، والذي تألق فيه مع فرقة مسرح برلين ( البر لين انزامبل) في العالم بالذات بعد زيارته الى باريس ولندن.
ان كّتاب المسرح الحديث حاولوا ان يجدوا من خلال المسرح الطليعي أجوبة على الأسئلة السياسية والاقتصادية التي ترتبت على التغييرات الحاصلة في بنية الحكم والاقتصاد والإيديولوجية بعد مرحلة الحروب التي مرت بها بالذات أوربا.
كانت اهتمامات المسرحيين في هذه الفترة موزعة بين خيارات عدة، بين أن يمثل المسرح لديهم حالة من حالات التمرد والرفض والتغيير، أو يكون جزء من أدوات إشاعة القيم والمصالح التي يعبر عنها الفكر السائد بين ان يسهم في حفر الوعي على إدراك مشاكل الفرد الاجتماعية السياسية أو يكتفي بالتفسير الحرفي للنصوص مع استفادته القصوى من الإنجازات التقنية الحديثة.
بين ان يكون المسرح فعالا ويمتلك جذوره وخصائصه وبين مسرح يعتمد على الترجمة للنص والفكرة ويتأثر بالمسرح الوهمي, بين مسرح يعتمد على الاحتفالية التي شاعت في المسرح الأوربي وبين المسرح الواقعي يُعنى بالفرد ومعاناته الداخلية وبين مسرح متقدم فنيا وجماليا وبين مسرح هابط يعمل على خلق التسلية والترفيه.
وتميز المسرح الطليعي بابتعاده عن التناول المباشر للقضايا السياسية والاجتماعية، وأختار أن يكون تمرده على مجتمعه من خلال شخصياته السلبية الأسيرة للملل والضجر والمنتظرة بكل معنى العبث، ولكن المسكونة من ناحية ثانية بأحلامها الحارقة في تغيير العالم بأسلوبها وطريقتها الخاصة، من خلال لغة مشحونة بالشاعرية والتأويل والترميز.
وعموماً توجّه كتّاب المسرح لما بعد مرحلة الحرب في المقام الأول للاهتمام بالإنسان المسجون داخل شرنقة ذاته وداخل عالم موحش مُحاط بالفوضى. وأتت أعمالهم لتدين الإيديولوجيات والأفكار الشمولية وحاولت تحطيم صرح كل المثاليات التي يعيش الإنسان على وهم تحقيقها، وكانت المواضيع المتنوعة والأساليب الفنية المختلفة هي سمة كتّاب ومسرحيي هذه المرحلة الذين حاولوا أن يجربوا جميع الأشكال، ويحطموا الحواجز بين الأساليب، مستفيدين من الوقائع الحية المعاصرة. ومن الأساطير والأعمال الكلاسيكية التي تحاول تسليط الضوء علي التاريخ المعاصر من خلال عملية إعادة قراءة التاريخ القديم، وكذلك من الأجناس الأدبية المختلفة مثل القصة والشعر والملحمة من أجل أن يتجاوزا الصيغ الكلاسيكية التقليدية للعمل الدرامي، حيث أستثمر المونتاج والتزامنية في الحدث والبناء الملحمي واستغلت وسائل وطرق الاتصال الحديثة من فيلم ووثيقة وسلايد والبحث في الجزء عن الكل لتشتيت الحدث والابتعاد عن السببية، محاولين تقديم نوع من المسرح الذي يعتمد على الواقعية.
ومن اجل أن نعطى صورة واضحة عن المسرح المعاصر اخترنا واحداً من أهم المسرحيين المعاصرين، والذي يشّكل علامة مهمة من علامات مرحلة ما بعد الحرب، وهو هاينر مللر الذي. اعتمدنا في عملنا الأخير على أفكار وشخصيات ومواقف من إعماله، والذي أطلقنا عليه اسم (ليلة السكاكين الطويلة بغداد 2003) والذي تعملنا معه من منطلق الأخذ والإسقاط والتجريب كاتب استطاع ان يقرا الواقع كأنه تاريخ
Heiner Müllerهاينر ميلر
هو واحد من أهم كتاب جيله ممن نطلق عليهم كتّاب ما بعد “برشت”. ولد في 9 يناير 1929 في مقاطعة سكسونيا، هو من جيل طحنته الحرب وجسد مآسيها من خلال التناقضات الاجتماعية، وان كانت شغله الشاغل أعادة بناء ألمانيا، وكان الصراع على أشّده بين مختلف المعسكرات والأطراف، فالبعض كان يراهن على قدرته لإعادة الثقة بالإنسان لتحقيق المعجزة الاقتصادية. حيث دخل المجتمع الألماني عهداً لم يتمكن فيه الألمان بعد من استيعاب ماضيهم وهضمه، عاش هذا الجيل الجوع والتشرد والعمل المضني في إعادة البناء المادي والروحي، حاول بطريقة نقدية أن يعالج عقدة الذنب، التي مازالت حتى يومنا هذا تشكل هاجساً وكابوساً أثقل كاهل مبدعيه و مازالت هذه الصراعات قائمة وتفاقمت بعد سقوط جدار برلين، حيث تسائل الألمان:
“كيف يمكن لنا أن نعيش في زمن فقدت فيه كل الأيدلوجيات مصداقيتها والأفكار الكبيرة بريقها وشاخت الأحلام التي كانت تعدنا بمملكة الحرية، لذا جاءت أعمال “هاينر ميلر” تعبيراً عن ضياع هذه الأحلام من خلال خيبة الأمل من النموذج الاجتماعي الذي لا يعتمد على الانسان بقدر ما كان فيه الانسان مستلب الارادة والقدرة فلقد ظهر أمام الإحداث التاريخية والالتزامات الاجتماعية.
لقد سعي “ميلر” أن تكون مسرحياته دعوة إلى الكفاح من اجل تحرير البشر بطريقة إنسانية متحدياً وكاشفاً طبيعة المجتمع الجديد وأزماته، التي هي صورة من أزمات المجتمع الاستهلاكي
لقد حاول أن يسلط الضوء على حقائق المجتمع من خلال إعادة دراسة التاريخ واكتشاف قيمه وتأكيد خصائصه على مستوى الأحداث والنصوص التي أعاد كتابتها. وكان يؤكد دائماً على رفضه لفكرة نهاية التاريخ، ويرى أنه يسير ولا يتوقف عند خاتمة ما، يتحرك وتتحرك معه الأوضاع وتتغيّر، ولكن هذه الديناميكية تتحرك على محور واحد وثابت، وهو يطلق عليها “بنية التاريخ الأساسية” وهي التكرار المستمر لعالم الظالم والمظلوم،.
لم يتقيد “مللر” بنوع واحد في أسلوب تقديم العمل المسرحي إنما جرب العديد من الأشكال المسرحية، واستفاد في بدايـة مسيرته بخصائص المسرح الألماني وفكـرة “برشت” حول المسـرح ودوره ووظيفته الاجتماعيـة والسياسيـة.
أما ما يثير اهتمامه في المسرحيات التعليمية أنها تحمل في داخلها تركيبة تراجيدية تقدم العالم من خلالها وتضعه وسط التساؤلات. وبالرغم من تعدد الأشكال المسرحية التي كتب فيها إلا انه ظل متميزاً في استعارته واستدلالاته للتاريخ أو النص المسرحي، الذي عمل على إعادة كتابته وصياغته كقراءة جديدة قائمة بذاتها.
بالرغم من أن الإنسان كان يمّثل المحور الأساسي في جميع مسرحياته إلا أن أعماله مّرت بأكثر من مرحلة:
المرحلة الأولى: مرحلة البناء الاجتماعي، والتي حاول فيها أن يقدم نموذجاً لتفكير الإنسان المبادر المضحى بنفسه من اجل الآخرين، والذي بمقدوره أن يتحاور ويتفاعل نقدياًمع مشروع السلطة، بحيث يقدم الإشكاليات التي يجب أن تعمل السلطة على حلها لصالح الشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة في الحراك الاجتماعي. كما انه أكد على أن القوانين الاجتماعية تحتاج إلى وعيا متقدم يسهم بفعالية في عملية البناء الجديد. لقد فهم, أن الثورة الاجتماعية هي حوار دائم وصيرورة ترفض الثبات والجمود.
المرحلة الثانية: عبارة عن إعادة دراسة التاريخ واكتشاف قيمه وتأكيد خصائصه على مستوى الأحداث أو النصوص التي أعاد كتابتها، وان كان موقفه من التاريخ لا يخلو من غرابة، فبالرغم من انه يستخلص منه قوانينه إلا انه يتّخذ في نفس الوقت موقفاً متناقضاً معها.
لقد ظهرت الأحداث في نصوصه مكثفة تكثيفاً عاليا إلى درجة يصل التجريد فيها في بعض الأحيان إلى مجرد رموز وإشارات. لهذا امتازت مسرحياته بقوة تعبيرها وبلغتها التي تقربها من من الأعمال الأدبية الخالصة إضافة الى بعدها الدرامي.
وأهم ما يميّز مسرحياته هو دورها الملموس في التحريض والنقد الاجتماعي ونستطيع القول بأنه ساهم في تطوير المسرح السياسي والتحريضي آذ تناول بمسرحياته مواضيع معاصرة مثل بناء الاشتراكية والحياة الجديدة في المجتمع الاشتراكي. كما كتب وأعّد مسرحيات، استلهمت موضوعاتها من أحداث الثورة الاشتراكية وتاريخ النضال الثوري والسياسي في العالم، مثل مسرحية (( سمنت )) و((مبادرات)) (( وكوميديا النساء)) وجميع هذه المسرحيات تتحدث عن أزمات بناء الاشتراكية. وأثارت هذه المسرحيات العديد من النقاشات والتساؤلات والنقد سلباً وإيجابا، بسبب آرائه الجريئة والواضحة، حيث يعتقد أن من أبرز مهمات المسرح في المجتمع الاشتراكي هو ديمومة الجدل بين السلطة والقاعدة، هذا الجدل الذي يجب ان لا ينقطع والا فأن تجاهل التناقضات واختلاف الرؤى بين الطرفين راهناً، سيجعلها تظهر في المستقبل بصورة أشّد خطراً وأكثر أستعصاءاً على الحل.
أنه يعرض السلبيات بهدف الوصول الى الإيجاب والموازنة بين الحقوق والواجبات وتجسد مسرحية مبادرات ( ضاغط الأجور) ابرز مثال على تناوله هذا ا حيث جسد فيها أزمة عامل في مجرى دفاعه وصراعه في تثبيت العلاقات الجديدة في المجتمع، حيث كان الفعل الرئيسي والحاسم يكمن بين أفكار الانسان وسلوكه العملي والتناقض بين ما يراه هو وما يقال عنه.
وهو في كل هذا يقدم الثورة الاشتراكية في بنائها النظري والتطبيقي الهادي البطيء لكن خلف هذا الهدوء يكمن عنف تكوينها ومسارها الذي يحتدم تحت سطحها, (عنف الصراعات وتناقض المصالح) وكان كما يقول هاينر مللر عن بحثه هذا أنه يمنح شخصياته أسلوبا تستطيع ان تعبر من خلالها عن علاقتها بالآخرين فالمسرحية لم تكن قصة شخص واحد مبادر أنما تشّكل قصة لمجموعة أشخاص أنها شخصيات تفكر بشكل أصعب مما تستطيع أن تعّبر لهذا نجد ان النجاح لا يتحقق بالجهد الذاتي وبالانفصال عن الآخرين إنما بالارتباط بهم.
لقد تمسّك هاينر موللر بالواقعية الى جانب استلهامه للتراث فالواقعية بالنسبة له تجاوزت الضفاف التي يحددها النظام لذا نراه طّوّع الإحداث التاريخية الكبيرة لتصبح أحداثاً معاصرة.
كانت أعماله التي تعتمد المادة الأدبية التاريخية تغوص في أعماق الظلمة السياسية وظلمة الواقع الاجتماعي لقد كانت أعمالاً ترفض الإيديولوجية وتمجد الانسان
فمن خلال التاريخية يسلط الضوء على الحياة اليومية المعاصرة، وقد استغل المثيولوجيا الإغريقية كمادة أساسية في العديد من مسرحياته ليعّبر من خلالها عن تدهور وسقوط الطبقات المسيطرة أو النظم الشمولية.
كما أنه سلط الضوء على أزمات عصره مجسداً ما يكلفه الكفاح من ضحايا و شهداء في صراع البشرية مع مستغليها. فمسرحية “الموقعة” التي استغرق العمل بها أكثر من عشرين عاماً وبأشكال متعددة الى أن وصل إلى رؤيته الأخيرة في عرض المسرح الشعبي، هي عبارة عن مشاهد مسرحية حول الحرب العالمية الثانية، وبالذات عن دور النازية في ألمانيا وما أحدثته من دمار وخراب، فهي ليست حكاية واحدة، بل صور وحالات ومواقف تعبر عن القسوة اللاإنسانية التي مارسها النازيون في الحرب مع أنفسهم وضد الآخرين، وعن الازدواجية التي عانت منها النازية كأفراد وكنظام. و لم تتخذ المسرحية الوثائق مادة أساسية لها رغم أنها توثق لفترة زمنية محددة. كان همّها الأساس هو شحذ الوعي بالتاريخ وذلك ليس لان المسرحية تاريخية، إنما التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة، وفي أماكن متعددة وبأساليب متنوعة. وما زالت الفاشية تمثل الى يومنا هذا تهديداً حقيقياً للإنسان وهنا أختلف “مللر” مع “برشت” في معالجة ذات الموضوع، حيث اعتمد “برشت” على الوثائق في تحليله للنازية والتعريف بها.
اما مسرحيات هاينر مللر كانت تعرض حالات وشخوص في وضع اعتراضي على استمراريتها, كنموذج يدفع الى التفكير والتساؤل.. و تقدم لنا الرعب كأنه مسيرة للتحول من الميلاد الى الموت
إما أهم سمة لمسرحياته وخاصة (( الموقعة)) و(( ماكنة هاملت )) فهي العنف والقسوة كيما يشاكس اعتياد الناس على رؤية العالم في المسرح أجمل مما هو عليه في الواقع ولم يجازف أحداً قبله وبمثل هذا الوضوح في عرض مشاهد التعذيب والقسوة على المسرح فهو يريد ان يُحدث صدمة لدى المتفرج بحيث تعرض الجروح قبل التئامها ومعالجتها، هذا يعني بالنسبة له عرض ألازمة على حقيقتها بدون رتوش، فهو ينظر الى وظيفة الدراما ليست كما عند أرسطو في إثارة الخوف والشفقة و إنما في إثارة الخوف والغضب لأنه يعتقد ان أكثر ما يخيف في عصرنا هذا هو التغيير.وهو يؤمن ان مهمة المسرح هي تغيير عقلية المشاهدين وعرض الحقيقة بشكل غير مألوف وغير معروف ومحسوس في الحياة.
ان التمرد على تقليدية الكتابة المسرحية تكمن في التعامل مع النص باعتباره يعّبر عن حالات يقف الفرد في داخلها عاجزاً عن الإشارة إليها أنه أي الفرد مندهش ومتحسس في حالة مرغم عليها.
كتب هاينر موللر عن التداخل بين أزمات وفضاءات مختلفة تنتهي في خروج الشخصية من جلدها فلقد حاول ان يقدم نفسه من خلال علاقات متناقضة تتراوح بين الرفض والقبول كان يسع في محاولاته هذه الإفلات من هذا العصر والزمن الصعب، الذي يتربص بالبشرية لأنه يعتقد أن الزمن الذي يعيشه والنظام الذي يتعامل معه هو عبارة عن ماكنة قمعية تشّل قدرة الانسان على مواجهة مصيره بدرجة عالية من الوعي بالذات, ومواجهة التحديات التاريخية. لقد قدم صورة الانسان المثقف العاجز عن مواجهة هذا القمع. وهو القائل:
( لقد أردت ان أكون نفسي، نفسي لا غير, ان سيرة حياتي ليست الا جسوراً تمتد ما بين العصور الجليدية والمستقبل ).
لذا سعى الى الحفر الدائم داخل ذاته محاولة منه للوصول الى هويته لا ليؤكدها ويعتز بهاو إنما كي لا يعود إليها مرة ثانية. وان يظهر تمرده من خلال قدرته على التواري في ثنايا النص بحيث يصبح من الصعوبة بمكان وضع اليد عليه من قبل الرقيب،
لقد استوعب الكثيرة من التجارب الطليعية ابتداءً ببريشت وانتهاءً بجان جينيه أن أهم ما أحدثه موللر من تغيير على البنية المسرحية هو خروجه على تقاليد الحكاية وجعل النص عبارة عن تشكيلة غير متكاملة, يحتمل الصور والاقتباسات والارتجال وكل ما يساعد على تجسيد موضوعاته. استخدم تكنيك المقاطع الدرامية وكان ينتقل من التقريرية الى الدرامية ويعتمد فيها على رسم الصور والرؤى المفزعة المستوحاة من الواقع أو من عالم الخيال كالأشباح مثلاً.
استفاد كثيراً من الأدب الكلاسيكي بالرغم من انه يعد أكثر الكتاب تجاوزاً لشكل المسرحية الكلاسيكية، حيث امتاز بلغة فصيحة وبلاغة عالية وأسلوبية منحوتة. فاللغة عند ” هاينر ميلر” تعني الكثير وقد تكون هي صورة الفعل أو ما يمكن أن نسميه بالإيماء اللغوي،وكتب أعمالا بدت وكأنها تمثل قطيعة مع الفكر التنويري للمسرح الوهمي فجاءت أعماله المسرحية أشكالا أدبية تتميز بصعوبة كبيرة خلال عملية التجسيد يتداخل في نصوصه وبالذات ( ماكنة هاملت ) السرد والوصف والحوار الذاتي وتوجيهات الإخراج.
حاول ان يمزج بين قصيدة النثر والقصة القصيرة وحتى الموسيقى ومسرح الصورة الذي يعتمد على التعبير الجسدي وفي إطار هذا التداخل ينقلنا هاينر مللر الى عالمه التمردي بين فضاءات مختلفة تتداخل فيها الحوارات والشخصيات فيما بينها، في محاولة جذرية لنسف كافة أطر المسرح التقليدي وأكرا هات القيود الإيديولوجية.
لا يمكن حصر0″ مللر” إذن داخل اتجاه فني او قالب درامي تقليدي، فهو يبتعد ولا يلتقي مع أي شيء ثابت يتخفى تحت الأقنعة واللعب بالألفاظ وتغيير الدوافع،
رغم ان الموضوعة واضحة محددة. مما يكسب أعماله ثراءً وسحراً، الا انه استطاع ان ينشي عالمه الفني وان يرسي له قواعد فريدة بعد ان خرج عن طوق التقليد والثوابت والقوالب الجامدة. يبرر هاينر مللر سبب تخليه عن العناصر والأشكال الدرامية التقليدية واستخدامه أشكالاً وصوراً غير مألوفة في الدراما بقوله أن العالم لا معقول وغير منطقي فلماذا نلتزم نحن بمعايير العقل والمنطق، لذلك اعتمد على الوصف في إبراز الصورة والتوتر الدرامي ولم يلجأ الى البناء التقليدي ولم يكتب دراما بالطرق المتعارف عليها. فمسرحه عبارة عن شخصيات محددة وحدث ينمو الى ان يصل الى الذروة.
فهو يكتب قطعاً مسرحية صغيرة ثم يضفرها معاً بمهارة عالية وبطريقة يتيح بها للمشاهد فرصة الاشتراك في إنتاج العمل.
ان المتابع لإعمال هاينر موللر سواء بالقراءة او المشاهدة يجد نفسه في حالة شعورية مزدوجة، فهو ينجذب الى أعماله وفي نفس الوقت يجد بينه وبينها حاجزاً فأعماله تقّرب وتبعد وتنفر وترعب، مما يوقع الانسان في حيرة من أمره لكنه يجد نفسه في نهاية المطاف مجبراً على المتابعة.
لقد كانت أعمال هاينر مللر تعلن عن سقوط المعنى وتشتت الهدف وضياع القصد. فهو يعتقد لقد حلّ زمن التراجع عن مسالة تفريغ العالم ولكنه لم يستسلم للموت لان حياته كانت الشيء الوحيد الذي يمتلكه حقاً.
وفي مسرحيات السبعينيات والثمانينات سيطرت عليه فكرة انتقام الضحية من جلاّديها، فحاول رسم أبطال مذنبون او مصابون بعقدة الإحساس بالذنب الندم وهو ما يعتبر بذرة أعماله الدرامية.لقد حاول دائماً ان يضع مسافة تفصل بينه وبين شخصيته ولا يضع حلاً أو إجابة لأزماته إنما يتركها مع صراعاتها دونما قرار أو نهاية معلقة.
. فشخصياته عبارة عن أناس محبوسين في متاهات العلاقات وتشعباتها، يعيشون حياة يومية مبتذلة ويجّترون فيها أحلامهم الخاوية، شخصيات تعيش مهزلة أبدية، عاجزة عن الكلام، تعيش مواقف اليأس والضياع الذي لا مخرج منه. لهذا نرى ان في مسرحياته لا توجد توقعات لنهايات سعيدة إنما يطل منها بصيص خافت من الأمل .
ان حلم هاينر موللر الى تغيير العالم لا يتوقف عند الانسان كفرد وإنما يتخطى ذلك الى تغيير الكون كله فهو يريد السيطرة على العوالم الثابتة في بنية التاريخ الحافل بالظلم والقهر. انه يريد ان يخلص العالم من القهر والاستبداد وإذلال النفس البشرية. وهو يعكس طموحاته نحو عالم جديد خال من ظلم الانسان لأخيه الانسان.وينتقد موللر ازدواجية الثورة التي قامت من اجل مقاومة الظلم فتحولت هي نفسها الى مصدر للظلم.
انه يحاول ان يترجم الفكرة الى صورة لأنه يعتقد ان الشيء الوحيد الذي يولده الفن هو أيقاظ الشوق الى وضع مختلف للعالم وهذا الشوق هو مصدر الثورية التي تعتمد عليها الروح المتمردة لأنه يعتقد أنه مادامت الحرية توازي المساواة والعكس صحيح فهناك ثمة ظروف تجعل من النجاة خيانة للموتى ومن ناحية أخرى سيكون استحسان الموت الذاتي ضرورة سياسية، فالواقع اشد سوأً ولكن ربما أكثر قدسية بالنسبة للسياسي الواقعي.
أنه يسعى في عروضه لان يتيح للمشاهد فرصة مراقبة اكبر كمية من الكوارث دون الإحساس بالثقل او الانزعاج.
انه يعتقد أن باستطاعة المرء استشراف الحياة المقبلة من خزائن الماضي لأنه يعتقد ان كل نص جديد يرتبط بعلاقة ما مع كمية من النصوص القديمة، وبمؤلفين آخرين، تتغير النظرة أليهم من خلاله ( أي النص الجديد). ان جميع مسرحياته مركبّة ولقد كتبت عبر مراحل مختلفة وبعض أجزاء نصوصه كتبت على مراحل استغرقت ثلاثين عاما فهو لا يهمه ان يستعير من مادة كتبها في أوقات لا تنتمي الى زمن الأحداث.
ان الصراع التراجيدي يتكون من خلال اختراق الزمن للعبة، لان هاينر مللر يعتبر المسرح لعبة ذات وقائع وان اختراق الزمن لهذه اللعبة فربما تنشا حالة تراجيدية ولكن خلقها ليس ممكناً لأنه يعتقد أن الجمهور أو مشاهدي المسرح يرفضون استساغة المسرح على كونه واقعاً مستقلاً ولا يتصور واقعه المكرر فهو يقف بالضد من المذهب الطبيعي او الطبيعية لأنه يعتقد أنها كادت ان تقتل المسرح باستراتيجيتها المزدوجة.
لقد أراد هاينر مللر لمسرحه أن يكون مزيجاً من كل الكّتاب المتمردين ابتداءّ من شكسبير وحتى بريشت وان يلتحق بهم متمرداً حزيناً متسائلاً يقول:
( اين ذلك الصباح الذي رأيناه بالأمس ؟). لقد عكست حياته تناقضات الحياة والتاريخ التي حاول ان تكون مادة إبداعية لإعماله.
قال بيتر بروك عنه
( لقد كان موللر ينظر الى العالم وكأنه ينظر الى أصدقائه، وكانت هذه النظرة مليئة بالسخرية والمرح والتفهم والشفقة، نظرة إنسانية عميقة تكمن قوتها أنها نظرة ستبقى لنا ومعنا).