الرئيسية / دراسات / الادب والسياسة عالمان لايلتقيان

الادب والسياسة عالمان لايلتقيان

الأدب والسياسة،عالمان لا يلتقيان!

                           

 

احمد جاسم العلي.             

 

مبدئيا، لا يصلح الأديب ان يكون سياسيا ولا السياسي ان يكون أديبا. وتأسيسا على ذلك، لا يمكن للكاتب الأديب ان يجمع بين الأدب والسياسة ولا يمكن للكاتب السياسي ان يجمع بين السياسة والأدب. هذه قضية أُثيرت ونوقشت مرات هنا وهناك بشكل من الأشكال ولكني أثيرها وأناقشها بصراحة ووضوح كافيين. ان الكاتب الأديب، كما أزعم، لا يعود أديبا حين يكتب في السياسة خارج الأدب إذا كان كاتبا، حقيقيا ومبدعا. كما ان الكاتب السياسي لا يعود سياسيا إذا كتب في الأدب داخل السياسة، وهو يستطيع اذا تخلى عن طبيعة السياسي الذي يرى الحق من وجهة نظر واحدة دائما. الأديب له عينان والسياسي له عينان ولكن الأخير لا يستعمل إلا واحدة إذا كانت الأخرى سليمة. والأديب يبحث عن الحقيقة وعليه ان يقولها حال ان يكتشفها والسياسي يعمى عن الحقيقة وإذا ما رآها يتعامى عن نصفها ويراها في النصف الآخر. والأديب يعبر عن الحياة كل الحياة ويعبر عن الناس كل الناس ويعبر عن الأشياء كل الأشياء والسياسي يعبر عن الحياة التي يراها هو ويعبر عن الناس الذين يراهم هو ويعبر عن الأشياء التي يراها هو. لذلك كله، فإن الأديب أديب والسياسي سياسي ولن يلتقيا! ولا يشفع للكاتب الأديب ان يكتب في السياسة بين الحين والحين لغرض يظنه خافيا عن الآخرين، فهو يكشف عن نفسه، ربما، ولو في مقالة سياسية واحدة ويخاطر بأن يجعل عمله كأديب غير ذي اهمية ولا فائدة ولا متعة بعد ذلك. فالكتابة السياسية هي كتابة تذهب مباشرة الى هدفها وتقول هذا خطأ او هذا صواب في أمر من الأمور بينما الكتابة الأدبية، الرواية والقصة والشعر.. لا تذهب مباشرة الى هدفها حين يريد المؤلف ان يقول هذا خطأ او هذا صواب. نجاح الكاتب الأديب، يتجلى في كيفية جعل القارئ يتوصل الى ان المؤلف يقول بشكل فني، موح وغير مباشر هذا خطأ او هذا صواب في العمل الأدبي، الروائي او القصصي او الشعري. فاذا كان هذا الأديب يكتب في السياسة خارج الادب ويطرح آراءه وافكاره ومواقفه بشكل مباشر ويقول هذا صواب او هذا خطأ في هذه القضية او تلك فهل تبقى اهمية وفائدة ان يعرف القارىء بشكل فني، موح وغير مباشر ان هذه القضية او تلك خطأ او صواب في أي عمل ادبي، روائي او قصصي او شعري… يكتبه؟ هذا جانب، الجانب الثاني، اذا كتب الأديب في السياسة خارج الأدب وداوم عليها فأنه سيكشف نفسه في  موقفه من الأحداث، موقفه من صانعيها، موقفه من هذا وذاك من الشخصيات السياسية الحاكمة في هذا البلد او ذاك وبالأحرى بلده، موقفه من التغيرات السياسية، موقفه من الصراعات والنزاعات الدائرة بين السياسيين، موقفه من الحاكم والمحكوم… هل يحتاج قارئ الأدب ان يقرأ لهذا الكاتب الأديب، ولنقل الروائي مثلا، بعد هذا كله رواية في موضوع سياسي نضالي، مثلا، وقد عرف عن المؤلف كل شيء في كتاباته السياسية؟ وهل تبقى اهمية وفائدة ومتعة ان يقرأ هذه الرواية حتى بشروط الرواية الفنية الناجحة؟. وإذا كتب أديب مقالة، او مقالات، سياسية، هاجم فيها نظام سياسي قائم في بلده، ثم كتب هذا الأديب بعد فترة رواية او قصة… تختلف شخصياتها وتتصارع بين مؤيد لهذا النظام السياسي القائم في البلد ورافض له، ماذا يحدث؟ هذا الروائي لن يستطيع ان يخفي تعاطفه عن القارئ مع من يرفض هذا النظام السياسي أو مع من يؤيده، ربما، مهما حاول ان يكتب بموضوعية وحيادية او وقف على مسافة كافية من كل الشخصيات، هذا اذا التزم بهذه الشروط في الكتابة الروائية، ولماذا؟ لأن القارئ يعرف موقفه تجاه هذا الأمر من كتاباته السياسية قبل ان يكتب روايته. إذن ما الذي بقي  في الرواية مما يمكن ان يهتم به القارىء ويستفاد منه ويتمتع به؟ أما اذا ذهب الروائي الى هدفه مباشرة في روايته كما ذهب إليه مباشرة في كتابته السياسية فهذا يعني أننا نقرأ مقالة سياسية في رواية ويعني إننا أمام كاتب أضاع (المشيتين) بل أضاع كل شيء! ماذا يعني كل ذلك…؟

… ماذا يعني كل ذلك، عندما يكتب الأديب في السياسة خارج الأدب، دائما او بين الحين والحين؟ يعني انه كان عنده توجه سياسي قبل ان يكون أديبا؟ يعني انه أصبح عنده توجه سياسي معين بعد ان صار أديبا؟ يعني انه اعتقد في البداية انه يستطيع ان يعبر عن أفكار وآراء سياسية خاصة به من داخل الأدب فلما لم يستطع لجأ الى الكتابة السياسية المباشرة، من خارج الأدب؟ يعني انه اعتقد أنه يستطيع ان يكتب في السياسة خارج الأدب ويبقى أديبا بشروط الأدب التي يجب ان يلتزم بها الأديب…؟ تولى الإجابة بنفسك!

نعم، يستطيع الأديب ان يكتب في السياسة سواء كان سياسيا منتميا او متعاطفا او لم يكن ولكن، داخل العمل الأدبي الذي يكتبه وبشروط العمل الأدبي الفني الناجح. ان يكتب، مثلا، عملا روائيا يدور كله او جانب منه في أجواء سياسية ويتبنى موقف شخصية سياسية فيها ويقف الى جانبها او يرفض موقف شخصية سياسية ويقف بالضد منها بشرط ان لا يظهر ذلك مباشرة أمام القارئ، ان يقف على مسافة كافية من باقي شخصيات الرواية، ان يكون موضوعيا، ان يكون حياديا، ان لا يتدخل في مجريات الأحداث، ان لا يتدخل في تصرفات الشخصيات وسلوكها واختياراتها، وان لا يضع على لسان تلك الشخصية المتبناة او المرفوضة من قبله أقوالا ولا يحركها لتأتي بأفعال تشي بتدخله في مجرى حياتها في الرواية. إنه بذلك يخبرنا انه سياسي، ملتزما او غير ملتزم، إذا أصر ان يخبرنا، الى جانب كونه كاتبا أديبا، ولكنه سياسي داخل العمل الأدبي وليس خارجه وسياسي بشروط العمل الأدبي الفني الناجح. إنه، أيضا، سياسي بمعنى آخر قد لا تكون له علاقة بمعنى السياسي الذي نتناوله في هذه المقالة! فهو سياسي ناجح إذا استطاع ان يتعامل ببراعة مع شخصيات روايته على قدم المساواة دون ان ينحاز بشكل علني ومباشر إلى إحدى هذه الشخصيات ومنها الشخصية التي يتبنى موقفها ويقف الى جانبها باعتبارها ممثلة له او تلك التي يرفضها ويقف في مواجهتها.

إذن، ما الذي يمنع كاتبا أديبا، ان يكتب في السياسة من داخل العمل الأدبي ويصر ان يكتب في السياسة من خارجه؟ بل ما الذي يجعله يكتب، أحيانا، في السياسة من خارج العمل الأدبي وهو قد كتب فيها من داخله في عدد من أعماله؟! ماذا يعني هذا؟ هذا يعني ان لدى هذا الكاتب الأديب توجه سياسي سابق استعاض عنه في فترة او مرحلة سياسية مضطربة، ربما، بتوجه أدبي غطى عليه ولكنه بقي يعتمل ويعتلج في العقل والقلب حتى اذا ما حانت فرصة او مناسبة في فترة او مرحلة سياسية جديدة ظهر الى السطح ثانية وأعلن عن نفسه بكتابات سياسية ينشرها هنا وهناك بين الحين والحين قد تسقطه وتقضي عليه، يدري او لا يدري، ككاتب أديب. وتجد كاتبا أديبا آخر ليس لديه توجه سياسي معين لا من قبل ولا من بعد ولكنه كتب في السياسة من داخل أعماله الأدبية وقال فيها دون ان يشعر القارئ انه يقول فيها بل ترك الشخصية او الشخصيات هي التي تتولى أمر القول والفعل أيضا. وبعمله هذا أدان نظاما سياسيا استبداديا وحافظ في الوقت نفسه على كونه أديبا حقيقيا ومبدعا. اقرأ أعمال الروائي والقاص الراحل فؤاد التكرلي مثل (الرجع البعيد) و(خاتم الرمل)  و(الأوجاع والمسرات) و(اللاسؤال واللاجواب) وعددا من قصصه القصيرة… ماذا تجد؟ في الرجع البعيد قدم مشهدا عريضا للوضع السياسي والاجتماعي في العراق بعد انتكاسة ثورة تموز 1958 وبداية نهايتها. وعرض في جانب منه شخصية (عدنان) نموذجا لطبيعة النظام الحاكم الذي سيحكم العراق أثر انقلاب 8 شباط 1963. وفي خاتم الرمل قدم شخصية (هاشم السليم) وعلاقته المتأزمة بالسلطة الحاكمة. وفي الأوجاع والمسرات سرد سردا فنيا تاريخ العراق السياسي والاجتماعي في مائة عام وقدم في جانب منه شخصية ( سليمان فتح الله) نموذجا للنظام الحاكم الذي تسلل الى حكم العراق ثانية في 1968. وفي اللاسؤال واللاجواب قدم لنا أسرة عراقية تعيش في ظروف الحصار الذي فرض على العراقيين في التسعينيات… إنها روايات اجتماعية تهتدي بفكر إنساني فلسفي تحكي عن مراحل من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي في مواضيعها المطروحة. وهي في جانب منها روايات سياسية بمعنى أنها تتعرض لنقد سلطة سياسية او فكر سياسي بعينه عبر شخصيات هي نماذج لتلك السلطة او ذلك الفكر. ولكن، لم يقل احد يوما ان فؤاد التكرلي كان سياسيا من قبل ومن بعد ولا قرأ احد لفؤاد التكرلي مقالا سياسيا في يوم من الأيام مدح فيه او هاجم سلطة سياسية قائمة او فكر سياسي معين، بل عُرف عنه الى يوم رحيله عزوفه عن الكتابة في أي موضوع سياسي، حسب علمي ومعرفتي،(إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الأجوبة المختصرة التي كان يضطر إليها حين كانوا يسألونه في مقابلات صحفية عن موقفه من النظام السابق بعد سقوطه في نيسان 2003!) او حتى الكتابة في أي موضوع آخر سوى ما يتعلق بمهنته، كاتبا أديبا، وفي هذا كان مقلا أيضا! وعلى سبيل الافتراض، لو ان قارئا قرأ كتابات سياسية مباشرة في أي مكان لفؤاد التكرلي قبل كتابته لتلك الأعمال الروائية لما اهتم ولا انتفع ولا استمتع بقراءتها بعد كتابتها بالتأكيد! وروايات غائب طعمه فرمان، (النخلة والجيران) و(خمسة أصوات) و(المخاض) و(القربان…) هي روايات اجتماعية تحكي عن مراحل من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي وتهتدي بفكر سياسي تقدمي أكثر قربا من الحياة والناس من فكر التكرلي الوجودي! وهي في جانب كبير منها روايات سياسية ولكنها مكتوبة بشروط العمل الأدبي الفني. ولو ان قارئا قرأ يوما كتابات سياسية مباشرة في أي مكان لغائب طعمه فرمان قبل كتابته لتلك الأعمال الروائية لما اهتم ولا أستفاد ولا استمتع بقراءتها بعد كتابتها بالتأكيد!… والأمثلة كثيرة لأنها تكاد تكون حالة عامة خاصة في الرواية العربية وعلى الأخص في الرواية العراقية! في المقابل تجد احد الكتاب الروائيين كتب عملا او عملين روائيين صبغتهما سياسية واضحة وكتب أعمالا روائية لم تخلو من أجواء سياسية او خط سياسي عام. وتقول، لا بأس، هذا اختياره وان لم تتوفر أكثر تلك الأعمال على شروط العمل الروائي الفني الناجح. ولكن، ان يكتب هذا الروائي بين الحين والحين مقالات سياسية هنا وهناك يفصح فيها مباشرة عن توجه سياسي قديم او تعاطف معه، إذا أردنا الدقة في القول، فهذا أمر يضره هو أولا كاتبا روائيا ويصرف عنه القارئ ثانيا، كما اشرنا من قبل. ولا ادري حقا، ما الذي يدفع روائي بنى شهرته وسمعته بجده واجتهاده طوال سنوات وأحب عمله الأدبي وثابر فيه لهذا السبب، ان يلجأ الى كتابة مثل هذه المقالات السياسية التي تضعف من مكانته كروائي معروف بدلا من الاهتمام بمهنته الأدبية التي قامت عليها شهرته وسمعته؟

ان عالم الأدب غير عالم السياسة والأديب غير السياسي ولن يلتقيا أبدا. علينا ان نفهم هذه الحقيقة جيدا إذا عرفنا طبيعة تكوين الأديب وعالمه وعرفنا طبيعة تكوين السياسي وعالمه!

 

 

ahmedjassimalali@yahoo.com

 

 

 

 

عن أحمد جاسم العلي

شاهد أيضاً

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي بقلم: شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر “رقص …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *