الصورة..والواقع
“..إن عرقا منذورا للقوة، هو عرق يائس..”
أندريه مالرو-
–
نعمان الحاج حسين
..في السجال المعاصر حول ( الذات/ والآخر)، تشير كلمة ( الذات) تحديدا إلى الغرب (الأوروبي/ الأمريكي) بينما تعني كلمة ( الآخر): الشرق..البعيد والقريب، و يكاد يختفي العالم الذي يصبح (شرقا ) مالم يكن أوروبيا أمريكيا.وليس ذلك بحسب الجهة المقابلة- فقط- بل بحسب الجهة التي ننظر منها نحن أيضا، نحن / الآخر..!!
عندما يتحدث الآخر عن ( الآخر)، فإنه يتحدث عن ( الذات) لأن حديثه يدور حول الغرب الأوروبي الأمريكي..الفاعل في المجال الذاتي ( مجال الآخر الذاتي)، أما حين يتحدث الآخر عن الذات- حيث من المفترض أنه يتحدث عن نفسه- فإنه يتحدث كـ( آخر ) لأنه يستخدم مصطلحات وقضايا وانشغالات ( الذات) الغربية، في الإثبات أو النفي؛ حين يعلن (بن لادن)- مثلا – الحرب على الغرب كله! أو حين يخطب شيخ معتدل عن (نوستالجيا) التسامح الإسلامي..
وعلى الجانب المقابل، عندما تتحدث ( الذات) الغربية عن ( الآخر) تبدو كما لو أنها تمارس سلوكا طبيعيا، إذ، من الطبيعي أن يكون لـ( الذات) مجال هو-بداهة- مجال الآخر.. الذي هو آخر.. وفي أسوأ الأحوال تبدو هذه الذات نرجسية ومركزية، وطاردة.. لكن الأمر ليس طبيعيا إلى الدرجة التي يبدو عليها، لأن ( الذات) الغربية حين تتحدث عن نفسها تظهر مريضة لأنها لم تحتل ساحة ( الآخر) بل..الآخر نفسه..ومثلما قاد هذا الأمر إلى أن الآخر لا يكاد يكون (ذاتا) فقد قاد أيضا، إلى أن ( الذات) الغربية لم يعد لـها- في الحقيقة– ( آخر)!! وليس ثمة داخل وخارج، ثمة داخل فقط حتى حين تركب ( الذات) البحر..إلى الخارج..!
لا تحضر حضارة ( الآخر) إلى العصر الحديث إلا من خلال ( الغرب) أي ( الذات)- العالمية- أما حين تقدم نفسها بنفسها فهي: تاريخ.. أما الغرب فهو يقدم نفسه بنفسه ولكن، حتى متى ؟!! تنجح الذات الغربية في التقدم طالما جوبهت بمقاومة ( الآخر) أما التقدم دون مقاومة، حين انهزم الآخر وغاب؛ فهو يفتح أمام الغرب هاوية العدم حيث يصبح العالم- في لاوعي الغرب- مأهولا بـ(ذات) موضوعها هو صورتها..و” لا شيء وراء المرآة ” – كما يقول لاكان- و يبدأ النكوص والإستيهام حين يجد ( الغرب) ذاته في كل مكان وهو ما يعادل عدم وجودها في أي مكان..وبدلا من أن تجد الموضوع في الخارج تجد ( الذات) نفسها في مكان ( الآخر) فتفتقد الموضوع..وتكتشف حياتها الداخلية الخاوية التي تحتلها صور ( الآخر)..الصور الإستيهامية..وكل ما أحالته أوروبا في مرحلة إلى صحراء النسيان يرتد إليها على شكل غابة من الذكريات، والشرق الذي عمل ( الغرب) على نفيه واستبعاده من الحضور يصبح هو ( الحضور ) حيث التركيز على الموضوع يجعله: ” يتفتح ويتكاثر أنه حي ولا يمكن السيطرة على انبعاثاته” – كما يقول يونغ حول التركيز على فكرة – وماهو خاضع للسيطرة هو ( الآخر) وحده..دون روحه وصوره .. هذا على مستوى( الوعي) أما على مستوى ( اللاوعي) حيث الحلم والأسطورة، الروح والإبداع، الماضي والمستقبل، اللذة والتجدد، فإن ( الذات) الغربية..تخلع عنها هويتها وتتقمص ثقافات الآخر: ” غوغان- دولا كروا- غوته- ماسينيون- لورنس العرب- فلوبير- أراغون-رامبو..”..
وهكذا..من منا يستطيع الجزم بأن إفريقيا على تخوم الوطن العربي، هي جزء من( الشرق الخيالي) ؟ومن منا على العكس يستطيع القول: أن الهنود الحمر أو المكسيك، على حدود الولايات المتحدة، ليست جزءا من هذا (الشرق) ؟ وهل تنتمي ( اليابان) إلى ( الذات) نظرا لكونها من أرقى نماذج الحداثة أم تنتمي لـ( الآخر) باعتبارها من أهم حضارات الشرق ؟؟
* * *
هناك ثلاثة مستويات تنتظم علاقة (الغرب) بـ( الآخر):
– الغرب: هو ( الوعي) حيث ( الآخر) هو ( اللاوعي) أو مادون الوعي.
– الغرب: هو الحاضر أما ( الآخر) فهو الماضي أو حتى المستقبل.
– الغرب: هو( الأنا) حيث ( الآخر) إما أن يكون( الهو) أو ( الأنا العليا) أو ( الأنا السفلى) لكنه ليس (أنا) لأنه ليس واقعا ولا حاضرا..
وهكذا يصبح ( الآخر) كالأوروبي الغربي إذا كان خطابه خطاب( الوعي والمعاصرة) أما خطابه المتمتع بالأصالة، فهو خطاب ماضوي، أو حتى مستقبلي .. خطاب ( اللاوعي) أو ما فوق الوعي( الرؤيا و الإستبصار )..
يقول الغربيون: ( إن الحضارات الأخرى كلها تبدو ساكنة بينما الحضارة الغربية وحدها تتحرك في كل الاتجاهات!!) يقول ( فلوبير) في رسالة يتحدث فيها عن العرب أثناء إحدى رحلاته إلى الشرق الأوسط: “.. لماذا هم صامتون ؟” دون أن يفطن إلى أن حديثه المتواصل عن العرب ليس حديثا معهم!! و يحدث في لحظة نادرة أن نسمع ما الذي يمكن لـ( الآخر) أن يقوله بهذا الشأن لو كان يتكلم كـ ( ذات) ؟..ولحسن الحظ لدينا هذه الفرصة، لأن المحلل النفسي وعالم النفس ( كارل غوستاف يونغ) كون صداقة مع زعيم ( البوابلو) – إحدى قبائل الهنود الحمر- وفي مكاشفة تظهر فيها ( الذات) و ( الآخر) الحقيقيان بحسب موقع كل منهما أمام الآخر يقول الهندي الأحمر لصديقه الأوروبي:”..أنتم الغربيون بقسماتكم الحادة وتعبيرات وجوهكم الجدية، دائما تأتون وتذهبون ودائما تبحثون عن شيء..عن أي شيء تبحثون ؟؟ نحن نعتقد أنكم أنتم البيض جميعا.. مجانيـن!!”..
يحول( يونغ ) كلام صديقه الهندي إلى( الغرب) طالبا منه أن يسمع – لمرة – كيف يراه الآخر..لكن اللحظة الحميمة تنقضي..وما ينبعث اليوم ليس الآخر بذاته بل..صور الآخر، ولا يحدث ذلك في لاوعي ( الذات) الغربية في الأدب والفن، بل في وعي ( الذات)، في السياسة والإعلام..و بعد أن كانت الصور الإستيهامية منفلتة، أصبحت منتقاة، صارت نوعا من ( الاقتصاد) تحت السيطرة..اقتصاد ( الحقائق والخيالات) وحيث الغرب يزعم أنه يجهل ردود فعل (الآخر) رغم أنه يعرفه، لأن الآخر كان خاضعا لاحتلاله أي أن الغرب يعرف ( الحقيقة ) التي يجهلها، والشعوب الغربية تشعر بالرعب من وحشية هذا ( الآخر ) الذي ( تجهله ) لكنها تجهل ( الحقيقة ) التي تعرفها في لاوعيها، أو التي يجب أن تعرفها لأن الآخر كان موضوعا لإستيهامها غير أن السياسات الغربية قلبت (خيال) الشعوب عليها.. وخلقت( الذهان) الجماهيري على الجانبين الغربي/ والشرقي..حيث المجانين _ هذه المرة _هم الشرقيون لا الغربيين وحدهم !! و” الوعي الشقي هو الوعي الذي يحمل حقيقة يجهلها ولامناص له من الاعتراف بها..”
واليوم يستطيع الغرب الأمريكي أن يتقدم من جديد وأن (يكتشف) ما تم اكتشافه سابقا على يد الغرب الأوروبي: أرض الآخر.. دون افتقار لـ (مقاومة) فولكلورية تتصدى له في كل مكان ، رغم أنه من المستحيل اكتشاف شيء مكتشف..وهذا يفسر السمات الهزلية التي تطبع الأحداث المأساوية الجارية: رسائل (بن لادن) و(الظواهري) وحتى خطابات (جورج بوش) التي تدعم بعضها بعضا.. لكن الأمر أكثر جدية من البلاهة التي يبدو عليها فهناك فيلم وثائقي أجنبي جديد عرضته قناة فضائية يسرد قصة المقاومة التي واجهها الغرب الاستعماري في المنطقة وقفز الفيلم خلال دقائق من المواجهة العنيفة التي أبداها (المهدي) وحركة الدراويش ضد المحتلين البريطانيين في السودان منذ مايقارب قرنا من الزمن..إلى (القاعدة)و ( الطالبان ) في أفغانستان، رغم الفارق الكبير بين المرحلتين، (…).
* * *
قد يكون (نص) ما غنيا بالدلالات، وقد يكون نص آخر فقيرا بها لكن المفارقة اليوم أن هناك حقل من الدلالات يفتقر إلى النص!!وبكلام آخر، هناك فرق بين أن يقوم إنسان بعملية استشهادية ضد المحتلين في المناطق المحتلة مما يمنح المقاومة دلالة رمزية تنبه الرأي العام وبين مئات العمليات الاستشهادية في أماكن متباعدة مما يعني استبدال الخطاب بفيضان من الرموز تفقد معناها..مثل الجنون!
في فيلم من إنتاج شركة (ديزني) مستمد من( ألف ليلة وليلة) يظهر (علاء الدين) الشخصية الخيالية المحببة، لكنه ينشد بالإنكليزية مع لحن أخاذ جميل يعزز الإحساس بـ(سحر الشرق).. أغنية تقول كلماتها: “..أنا قادم من بلاد يقطعون فيها أذنك إن لم يعجبهم وجهك..” مع ذلك، ربما بدا الأمر فيلما خياليا أمريكيا مستمدا من كتاب خيالي عربي، ولكن عندما يعلن( أبو حمزة المصري) شرعية الجهاد ضد اليهود والنصارى، جهارا نهارا في عاصمة (النصارى واليهود ): لندن..فهل يكون خطابه خطاب (الذات) أم خطاب (الآخر) ؟! بالإضافة إلى ذلك، (رغم الحرج الذي يشعر المرء به حين يتحدث عن هذا الأمر ) ورغم تعاطفنا مع ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لاذنب لهم لكنهم عرضة للاستغلال الإعلامي؛ فإن شكل المتحدثين باسم الإسلام حيث يوجد كلاّب معدني مكان راحة اليد وعين مريضة وذقن غير مشذبة؛ تجعل المتطرف الإسلامي شبيها بـ( القرصان) في مجلات الرسوم المصورة للأطفال التي كانت سائدة في أوروبا وأمريكا، فـ( الشرير ) في أفلام الرسوم المتحركة وقصص الأطفال يقول:” أنا شرير”!!
ويكاد المتطرفون الإسلاميون يهتفون: ” نحن إرهابيون..”!بل إن اسم تنظيم ( القاعدة) يعني بالإنكليزية: “أصولي”!؟
ومنذ السبعينيات، عندما كان يتاح للعربي مشاهدة فيلم معاد للعرب كان يضحك من سخافة الشخصيات التي من المفترض أنها تمثل العرب والمسلمين والقائمة على المبالغة غير المتطابقة مع الواقع.. لكن، لم نعد نضحك اليوم!..لا أحد يضحك عندما يشاهد أفلاما إخبارية قادمة من بلاد – هي بلادنا- يقطعون فيها رؤوس الرهائن..وتبح أصوات المتكلمين عن تسامح يبدو كالوهم..في مقابل أوهام واستيهامات غربية أمريكية، سينمائية وتحريضية تبدو كحقائق على أرض الواقع.. بل إن كاتبا عربيا سخر في مقالة منشورة في مجلة ( العربي) الكويتية (!) من فيلم (عام 1984) يدور حول غزو عراقي مفترض لدولة الكويت(!!).
مما يجعل الواقع الذي تعرضه التلفزيونات الغربية في نشرات الأنباء متطابقا مع الذاكرة التخيلية عند المتلقي الأوروبي والأمريكي، وهو أمر لايمكن أن يكون صدفة، لأنه مترافق مع خطاب متطرف يشبه سيناريوهات الأفلام المعادية للعرب! هذا التداخل لايقدر بثمن بالنسبة للإعلام المعادي للعرب والمسلمين وهو لذلك يسلط الأضواء على هؤلاء المتحدثين، بينما يتبرم من ظهور شخصيات مثل ( إدوارد سعيد) أو ( عبد الوهاب المسيري) أو حتى (محمد حسنين هيكل)، وقد انكشف حجم القلق الذي استشعرته الدوائر الصهيونية من ظهور ( إدوارد سعيد) ولغته الإنكليزية السليمة وخطابه العقلاني ودفاعه مع ذلك (…) عن القضية الفلسطينية والإسلام ( اللتان يفترض أن تكونا قضيتان لاعقلانيتان)..بدل اللغة الركيكة والانفعالات العاطفية المربكة التي يجب أن يبدو عليها المدافعون عن قضايا العرب، على الرغم من زعم الصهاينة انتظارهم لخطاب عقلاني متحضر مع خصومهم العرب!! كما انكشفت من قبل الاتهامات الرخيصة التي وجهها المستشرق (برنارد لويس) للمسلمين اتهامات تنطبق على اليهود أيضا لكنه يتجاهل ذلك عمدا..وبعدما كان مستشرقا ذا نشاط بحثي محض..أصبح عاملا مع المحافظين الجدد..
وقبل وفاة ( إدوارد سعيد) بعامين..قام المتطرفون الإسلاميون ( ؟ ) في الحادي عشر من أيلول/2001/ بتدمير برجي (نيويورك) أمام أنظار مواطني العالم، وأصبح سقوط البرجين رمزا عالميا للأصولية حين تضرب أعداءها (…) لكن (جان بودريارد) – وليس (ميسان)- يقول: “..إن السقوط الرمزي لبرجي نيويورك هو الذي أدى إلى سقوطهما المادي وليس العكس!!”..
على المثقفين أن يفككوا الشيفرة الإعلامية والسياسية المعاصرة،لا نصوص التراث وأن يلحظوا الحاجز الذي يضعه (الوعي) الغربي بين (الوعي واللاوعي) الإسلاميين.
Alhaj_naaman@hotmail.com