مجـرّد لعـبة حــظّ
رواية
إبراهيم درغوثي
تــذكـيـــــر
أمس الذي مرّ على قربه * يعجز أهل الأرض عن ردّه
« أبو العلاء المعرّي »
أنـا بثـيـنـة
أنا بثينة زوجة فائز الرّابحي.
أنا امرأة مصنوعة من نار البراكين ونور الشّمس.
امرأة عصريّة جدّا تلبس التّايور والميني جيب والدّجين الكابس على الرّدفين والمضغوط على الفخذين. ولا تخجل من النّظرات الّتي تعرّي لحمها كلّما هبطت من سيّارتها لقضاء شأن من شؤون الحياة.
أنا امرأة ترفع في وجه العالم إصبعها الوسطى ولا يطرف لها جفن. لأنّها تعرف أنّها أسطورة. أسطورة خارجة من بطون مدوّنات التّاريخ. هل صادف أن رأيتم سطورا تلملم ذاتها لتتحوّل إلى لحم ودم؟
أنا بثينة فائز الرّابحي سليلة تلك الأسطورة. سأحكي لكم حكايتي. سأقول كثيرا من الكذب وقليلا من الصّدق. سأخلط الحقّ بالباطل وأرمي به في وجوهكم. أرميكم بخليط من الأوهام والحقائق. أوهام كالحقيقة. وحقيقة أغرب من الوهم !!
أنا امرأة تخطّت التّاريخ يا سادتي الكرام. جئتكم من هناك. من صحراء نجد، من الرّبع الخالي ! من عرْق الرّمل الكبير في مشرق الشّمس! جاءكم صوتي مع ثغاء النعاج وصهيل خيل الفرسان. جئتكم بين دفّتي ديوان شعر أو في مخلاة راعي إبل.
أنا بثينة فائز الرّابحي. سأحكي لكم حكايتي. فلا تصدّقوها. هل تصدّقون الآن خرافات الجدّات بعد أن امتلأت البيوت بأجهزة التّلفاز والإنترنات والهواتف النّقالة؟ وأنا سأحكي لكم خرافة. سأقصّ عليكم قصصا عجيبة عن الإنس والجان وعلي بن السّلطان ومجانين بني عامر وعمران. سأوهمكم بأنّني صادقة. وسأصدقكم القول حتّى تتوهّموا صدقي كذبا.
أنا بثينة فائزالرّابحي أعترف بين أيديكم وأمام أبصاركم وفي حضرة الملائكة التي تسجّل خطاياي في كتاب مسطور لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه أنّني سأقتل زوجي هذه اللّيلة.
اللّيلة سينتهي كلّ شيء. فلن أعود على قراري. لن أتراجع أبدا. قبل طلوع شمس الصّباح أكون قد قتلته. لن أطلق عليه النّار. فأنا الطّالعة من بطون كتب التّراث ودواوين الشّعراء تأبى أن تدوّي رصاصة في حضرة الموت. أنا ابنة « الأصفهاني » سليلة كتاب « الأغاني » لن ألوّث يدي بدم طلقة مسدّس أعور يرى الموت بعين واحدة. سأستعمل في قتل زوجي فائز الرّابحي خنجرا يلمع حدّه لمعان عيون القطط البريّة. راودتني فكرة قتله بقبقاب. أضربه به على أم رأسه وهو يغطّ في النّوم ولكنّني استهجنت هذه الفكرة حين اكتشفت أنّني قادرة على خنقه بوسادة. أضع الوسادة على وجهه وأضغط حتّى تنْقطع أنفاسه ويسلم الرّوح. وألحّت عليّ هذه الطريقة إلى أن اكتشفت أنّ الجواري كنّ يستعملنها في القصور السّلطانية لقتل الملوك العاجزين عن إرواء شبقهنّ فتركتها جانبا. وقلت سأدسّ هذا الخنجر النائم تحت وسادتي في قلب زوجي. سأدسّه برفق حتّى لا أوقظه من النّوم. فهو في كلّ الأحوال زوجي. وبيني وبينه كثير من المودّة والحبّ. بيني وبينه « عيش وملح » وغرام ومرح ونكد كثير. سيواصل زوجي نومه حتّى الصّباح. ولكنّه لن يستمع فجرا إلى رنين المنبّه الذي أقلق راحتي على مدى عشرة أعوام. عشرة أعوام وأنا كاتمة غيظا لو وزّعوه على العالم لدُكّ دكّا دكّا. عشرة أعوام وأنا أتحيّن فرصة أفجّر فيها نيران الجحيم التي تملأ صدري. فرصة أشتعل فيها وأشعل العالم من حولي. سأنتظر دقّات المنبّه وسأرقب يده تخرج من تحت الأغطية لتكتم أنفاس رنين الجرس. لكن اليد لن تخرج هذه المرّة.
سيدقّ المنبّه لروحه هذا الصّباح ولن تردّ الرّوح على ندائه. فالأرواح لا تعرف أصوات الأجراس المصنوعة في « تايوان ».
أنـا فـائـــز
أنا فائز عبد الدّائم الرّابحي. جاء أجدادي إلى « الدّخلة » في منتصف القرن الثامن عشر بعد أن هجّجهم البايات من بلاد الهمّامة. فهربوا من مواجهة البحر واستقرّوا في القرى البعيدة عن الشواطئ. وظلّوا يحلمون بالصّحراء وبحليب النّوق وبالغارات على القوافل والأمحال.
عشت طفولتي في منزل تكتظّ مخازنه بغرائر القمح والشّعير والفول والحمّص واللّوبيــــــاء
والجلبان وبصناديق ملأى بالمشمش المجفّف وشرائح التّين وبخوابي زيت الزّيتون وبقوارير العطور المقطّرة.
تعلّمت في الكتّاب كلام الرّب. وحفظت عن ظهر قلب حكايات الأجداد. ثمّ ذهبت إلى المدرسة.
كم كان عمري يوم جلست جنب « بثينة » على طاولة الدّرس؟ عشر سنوات ! ربّما!
« بثينة » بنت الرّوميّة. طفلة لا تشبه بناتنا. شعرها قصير. وتنّورتها مزدحمة بورود الرّبيع. وصوتها يعلو دائما فوق أصوات أولاد الفصل. كانت الشّيطانة الّتي يهابها الأطفال ويخافون الاقتراب من ساحتها. هذه الشّيطانة أدخلتني دار والدها من الباب الخلفي. وفرّجتني على عرائسها التي تتكلّم وتغمض عينيها إذا وضعت يدك بلطف على بطنها وتبول على فستانها إذا قرصت حنكها الصّغير. تبول العروس عطرا لذيذا فتّانا. تضع بثينة بعضا منه على أرنبة أنفي وهي تضحك وتكركر وتخبط الأرض برجليها. وأنا الخائف الوجل لا أعرف بماذا أردّ على دعاباتها إلى أن تدخل أمّها الدّار فترطن بلغة عذبة وهي تشير بيديها إلى وراء الباب. فأعرف أنّ والدها قد عاد إلى البيت. وأعرف أنّ ساعة المغادرة قد أزفت. تضع هذه المرأة الغريبة في يدي تفاحة أو إجّاصة أو عنبا أو غلالا أخرى لا أعرف أسماءها وتطبطب على كتفي بلطف وتدفعني خارج الباب.
***
هذه الشّيطانة علّمتني كل شيء.
رأيت أوراق اللّعب أوّل مرّة في بيتها. حرّكت أمام عيني مجموعة من الأوراق الملوّنة فيها نسوة وشيوخ وشبّان. كلّ واحد منهم يحمل وجهين. سمّت لي شخصيّات اللّعبة: ريْ الكبْ، وكوّال الدِّيناري، وموجيرة البسطون، والسّبعة الحيّة ولص السّباطة والسّينكو والكواطرو والتّريس والدّو. وطلبت منّي أن أختار ثلاث أوراق. اخترت الأوراق فاختطفتها منّي خطفا وقرأتها كمن يقرأ في كتاب ثم صاحت: نُوفِي ! أنت سعيد الحظِّ يا صاحبي! أنت أسعد طفل عرفته! ثمّ اكفهرّ وجهها وتغيّرت سحنتها وبدأت تصغر وتصغر وتصغر إلى أن صارت في حجم عروس من عرائس الطّين التي تلعب بها أخواتي في البيت. وتحوّل وجهها إلى وجه عجوز شرّيرة. التفتت يمنة ويسرة فرأت مكنسة. اختطفتها وامتطتها. فطارت بها في أرجاء البيت. صارت تخبط الحيطان جيئة وذهابا وهي تلقي على مسمعي نبوءاتها:
« طرقنا ستتقاطع في يوم من الأيام يا صديقي وسيسيل فيها الدّم ».
ظلّت تردّد هذه الجملة أكثر من ساعة وهي ترغي وتزبد وأنا قابع في ركن من أركان البيت يأكل الذّعر من قلبي ويشرب من دمي إلى أن استعادت روحها القديمة فعادت إنسيّة كما كانت. تشرب الكوكاكولا. وتمضغ الشّوينقوم وتسألني:« لماذا أنا خائف هكذا؟ »
هذه الشّيطانة سأنتهي من أمرها هذه اللّيلة.
عند الفجر ستصل سيّارة مصحّة الأمراض النّفسية.
ستصل السّيّارة قبل طلوع الشّمس.
لقد حدّدت مع المدير ساعة الوصول.
قلت له:
– لا أريد أن يكتشف الجيران فضيحتي!
أريد أن يتمّ كلّ شيء بهدوء.
وتمنيّت على الممرّضين أن يخدّروها في بيت النّوم وأن يكمّموا فمها جيّدا قبل الخروج بها إلى الشّارع.
قلت لهم:
– لا تخافوا! سأدسّ السّم لكلاب الحراسة قبل الذّهاب إلى النّوم.
أنـا بثـينـة
هذه الدّنيا لعبة كبرى يشرف عليها ساحر ماهر يحرّكها كيفما يشاء وأين يريد. هي لعبة حظّ. « كَارْطْهْ ». فيها ما تحبّ وما تكره. فيها « القَرْعَه» وفيها « النّوفي ». تقمير يا عزيزي- تقْميرْ في تقْميرْ وأنت وسعْدك. مشْكي الأوراق وارشم. لا يهم أين يكون موضع الرّشم في كاغط رشّاحي، على زند فاتنة، فوق ردف مومس، على رمل الشاطئ، فوق ظهر رجل هوى، على اسفلت الشّارع الرئيسي لمدينة باذخة، بين شقوق حيطان سور رباط قديم، على صكوك بنكنوت، على كمبيلات… لا يهم فقط مشكي الأوراق وارشم. تعلّم كيف تستعمل « لصْ حفيّظ » واقدم ولا تتردّد. « فلص حفيّظ » يأكل ولا يشبع أبدا. يجمع كلّ ما يقع تحته « موجيرة السّباطة» و « الرّيْ ».
شكّبْ. وامض. لا تلتفت أبدا وراءك. فهذه اللّفتة قد تكلّفك حياتك. كأن يصدمك جرّار البلديّة مثلا أو يدهسك كمْيون مازوت تابع لشركة « طوطال ».
لا تلتفت، وارشم على الحيطان بقلم البيك الجاف، وعلى الأرض بالطباشير وعلى كاغط الكريدي بقلم الرّصاص وعلى سبورات الملاعب الرّياضية بالكهرباء. المهم في هذه اللّعبة الكبرى هو تسجيل انتصارات الأبطال وهزائم السّذّج الّذين يقامرون بالدّخول إلى هذا العالم العجيب باندفاع الأبطال وطموح الشّباب دون أن يخافوا سطوة هذا السّاحر الذي لا يطرف له جفن وهو جالس على قمّة « الأولمب » يحرّك بيادقة من بعيد مرّة بأشعة اللّيزر ومرّات بالضّغط على أزرار لوحة كمبيوتر جبّار.
وأنا. أنا « بثينة » بنت « الرّومية » صرت مجنونة بهذه اللّعبة. لعبة الورق المسكون بالنّساء والشباب والشّيوخ المتوّجين بالذّهب. تيجان عجائز الكارطة تدمي قلبي حين يغير عليها « لص » كب تافه. فأرفض انتصار إخوتي على أوراقي وأبعثر فرحتهم بالّصوص المرفرفة كالفراش بين أيديهم.
إخوتي علّموني اللّعب بالكارطة.
كنت الصّغيرة المدلّلة. وكانوا مهووسين بهذه الأوراق.
في الأوّل لم يلتفتوا لبكائي. قالوا أنت صغيرة لا تعرفين خلط الأوراق. وضحكوا على سذاجتي وأنا أزوّج الملكات بالخدم والملوك بالإماء وأفرّط في « السّبعة الحيّة » بسهولة. ولمّا أمضّهم إلحاحي وكثرت شكاياتي. وعلت نهنهتي. نهر أبي صلفهم وغلظة قلوبهم. فعلّموني لعبة « لص حفيّظ ».
قالوا: « الرّي » يأكل « الرّيْ »
و « الدّامة » تأكل أختها
و « الفالاي » يأكل أخوه
و « السّبعة » تأكل « السبعة »
و « اللّص » يأكل الكل.
فاحتججْت: « لماذا يأكل « لص » الكارطة كل الأوراق المعروضة أمامه؟
قال أخي الكبير: « لأنّه « لِصْ » يا عزيزتي.
وأضاف بفرنسيته الوافدة من وراء البحر:
C’est un voleur ma chère petite sœur !
حتّى صرت أكره « اللّصوص » وأردّد كلّما رماني الحظّ بأحدهم: ! – Te voilà, espace de voilaفيقهقه اخوتي. ويشتري الخاسر منهم ورقتي الملعونة بالحلوى والكلام المعسول.
وكبرت. وكبر معي هوسي بهذه الأوراق.
ذات صيف. وأنا أتخطّى مراهقة صعبة عاد أبي من إحدى سفراته مصحوبا بامرأة تضع في أذنيها حلَقٌ وعلى زندها أساور فضّة وتزيّن جيدها بعقود خرز وودع وأصداف بحرية صغيرة. ولا تملّ من تحريك أوراق الكارطة بين يديها. لم أرها أبدا فارغة اليدين. خلال الأسابيع التي قضّتها في ضيافة أبي حوّلت الغرف إلى حديقة تزدان بالأوراق الزّاهية الضّاجة بالملوك والملكات. كانت تبسط أوراقها أمام أبي وتقرأ له بخته وهو صامت كصنم من حجر الصّوان. وأنا أراقب المشهد من بعيد. إلى أن دعتني يوما لمشاركتها لعبتها. رأيتها تهمس في أذن أبي ورأيت الصّنم يبتسم. كانت ابتسامة غريبة فيها خوف وألم وسعادة ولذّة. وتمادت في الهمس فرفع أبي عينيه ودعاني أن تعالي يا صغيرتي.
اقتربت من المجلس وأنا أرتجف. كانت أمّي قد أخافتني قبل أيام من هذه المرأة الغريبة. قالت: لا تقتربي من تلك الغجرية حتّى لا تخطف قلبك كما خطفت قلب أبيك !
جلست على طرف الفراش فأوسعت لي المرأة الغريبة مكانا قرب والدي. ورمت لي الأوراق في حجري وهي تقول:
– أنت منذورة لهذه الأوراق يا عزيزتي فلا تهربي من قدرك!
وعلّمتني سحر اللّعبة. سبعة أيام وسبع ليال وأنا أقرأ في كتاب الغجريّة إلى أن حفظت السّر الكامن في الأوراق.
صباح اللّيلة السّابعة والفجر على الأبواب طلبت منّي أن أرافقها في جولة قصيرة في المدينة العتيقة.
قالت: زائر « الحمّامات » كشارب الماء الزّلال في يوم قائض كلّما استزاد منه ازداد عطشا.
أردت أن استأذن أبي في الخروج فمنعتْني من ذلك بخشونة بدعوى أنّه نام قبل قليل وأنّنا لن نبطئ في العودة. ووضعت رجليّ في خفيّن. ودفعتني أمامها. مشينا تحت أشجار الياسمين والبرتقال حتّى وصلنا الشّاطئ. وقفتْ طويلا وهي تستمع إلى صخب الأمواج ثم أشارت إلى بناية بين أقدام أسوار ” الرّبط” قلت: هذا جامع « سيدي بوحديد » قالت برأسها أن نعم. فذهبنا إلى الجامع. طافت بالتّابوت وهي تهمهم وتتمتم ثم وضعت على الخشب عقودها وخرزها وودعها وأساورها وحلقها وخرجت. تبعت خطاها فرأيتها تتّجه صوب البحر مغمضة العينين. في البعيد رأيت قرص الشّمس يخرج من الماء ويسكب فوق اليمّ حمرة قانية. ورأيت الحمرة تتحوّل تحت رجليْ المرأة الغجرية إلى بساط. مشت الغجرية على البساط باتّجاه الشّمس. رأيتها تبتعد وتبتعد إلى أن احتضنتها الشّمس. فأفقت من ذهولي وبدأت في الصّياح. صحت كالمجنونة إلى أن بحّ صوتي. فتجمّع حولي عدد كبير من الصيّادين. سألوني عن أمري فحدّثتهم بخبر الغجرية التي ابتلعتها الشّمس. تبادلوا فيما بينهم نظرات شكّ وريْبة. وقال كبيرهم أنا هنا منذ منتصف اللّيل وما رأيت أحدا يقترب من الشّاطئ. حلفت بربّ النّاس أنها خرجت من دارنا والآذان ينادي للصّلاة. وأنّني زرت وإيّاها قبر « حارس بحر الحمامات » قبل قليل. وتعالوا معي أريكم دليل صدقي. مشوْا ورائي وأنا أردّد: « سترون برهاني وستعرفون أنّني من الصّادقات » إلى أن دخلنا المعبد.
رأوا على التّابوت أسلاب المرأة الغائبة. ورأوا بريق الانتصار في عينيّ. اقتربت من التّابوت ومددت يدي إلى العقود والحلق والأساور. لففت العقود حول جيدي ووضعت الأساور في يديّ والحلق في أذني وجريت باتجاه دارنا.
في الصّباح، وأمّي توقظني للذّهاب إلى المدرسة رأتني مزْدانة بفوضى المرأة الغجريّة فارتاعت. سألتني عن هذه الزينة الغريبة التي أتزيّن بها فما وجدت لذلك سببا ولكنّني تثاقلت في التّخلّص من هذه الأدباش، حين رأيت نفسي جميلة في المرآة وأنا أغتسل.
ووضعت أمي فطور الصّباح على الطاولة.
فأفطرنا وأفطر أبي. وظلّ مكان الغجرية شاغرا.
ولم يسأل أحد عن غيابها.
من يومها ازددت جنونا بأوراق اللّعب. صرت لا أملّ من تحريكها بين يديّ. أقرأ من خلالها بخت صديقاتي وأحبّتي ولا أتورّع عن قراءة البخت لمجْهول يصادف طريقي.
أقف أمامه وسط الشّارع، فارعة كالنّخلة الباسقة. يكتظّ جسدي بفورة الشّباب ويملأ عطري ما بين السّماء والأرض.
أخرج من حقيبة يدي الأوراق. والرّجل يتابع حركاتي بعينيْن وجلتين ولسان حاله يقول: « ما هذه بشحّاذة فحالها أحسن من حالي ». أخلط الأوراق أمام دهشته وارتباكه، مرّات. وأمدّها إليه. أطلب منه أن يختار ثلاثا منها. يتردّد لحظة ثمّ ينظر في عينيّ فيبهره جمالي: شعر أصفر. وخال على الخدّ كنقطة عنبر في صحن مرمر. وغمّازتان لذيذتان. ونهدان نافران مستعدّان للعراك. وثغر باسم لا يترك له فرصة للمراوغة والهروب.
يمدّ الرّجل يديه ويختار الأوراق.
أخطفها قبل أن يتراجع وأقرأ النّتيجة:
«! Trois dames »… نهارك نساء يا سيّدي!
أهمس بهذه الكلمات في أذن الرّجل وأنا أعيد الأوراق إلى حقيبة يدي. وأمضي تاركة ورائي رجلا يسبح في ارتباكه.
يتمتم الرّجل بكلام بذيء ويمسح شعر رأسه ويسوّي ربطة عنقه ويعود إلى الطريق.
وأعود إلى عبثي ومجوني واستهتاري.
أقف وسط ساحة ملأى بالسّيارات والصّخب.
أختار رجلا وأقف في وجهه.
الرّجل أنيق ومهذّب.
Bonjour monsieur! –
ينتبه الرّجل مبهوتا. يدفع نظّارتيه قليلا إلى الوراء ويردّ على تحيتي:
– نهارك أسعد الأيام، آنستي!
أدفع له الأوراق دون أن أترك له فرصة للتّفكير.
– اختر من فضلك ثلاثا من أوراقي.
! Trois cartes s’il vous plait monsieur –
كالمسحور يختار الرّجل الأوراق فأخطفها منه قبل أن يعود إلى رشده. وأقرأ بصوت مرتفع:
” ستّة كبْ “
” تريسْ ديناري ”
و ” لصْ سباطه ”
يومك « قَرْعهْ 1» يا سيديٍ !
يدفع الرّجل مرّة أخرى نظّارتيه إلى الوراء ويبتسم ببلاهة.
وأهرب.
أتركه واقفا في مكانه وأهرب.
فجأة، يتحوّل هذا الرّجل الأنيق إلى مهرّج يجري ورائي ويقذفني بسباب ما كنت أفقه معناه في تلك الأيّام:
– يا بنت شارع سيدي عبد الله قش!
التفت إليه. أبوس السبّابة والوسطى والإبهام وأرميه بقبلة. وأمضي…
أنا فــائز
اجتمعت في قسمنا خلال السّنة النّهائية من التّعليم الثّانوي ثلاث جميلات: بثينة ( المذكورة آنفا ) وعزّة وهند.
عشق « بثينة » كلّ من رآها تلعب بأوراقها: شباب المعهد وروّاد المقاهي وأهل البلد والسّياح المارّون مرور الكرام فوق رمل الشاطئ وداخل قنّينة خمر معتّقة في غرف نزل “الحمّامات”. وكانت بثينة تتمنّع على الجميع. تعد ولا تَفي بوعودها. كانت برقا خلّبا في ليالي الصّيف. كلّ يوم تتأبّط محفظتها وتمرّ في طريقها على عزّة وهند. عزّة تحكي لها عن الرّسائل المعطّرة التي وصلتها من كُثيّر وعن غرامياتها معه. وهند تقرأ لها دون ملل: « ليت هندًا…» وتقول إنّ عُمَر واعدها هذه اللّيلة في قاعة سينما ” الفن السّابع “. وبثينة صامتة لا تتكلّم. تخلط أوراقها ولا تتكلّم. تتفرّس في وجوه الرّجال الشّرهين، الجوعى إلى بسمة ثغرها وتقول لرفيقاتها: لا! ما رأيت حتّى السّاعة وجه الرّجل الذي وعدتني به أوراقي! إلى أن طلع علينا « جميل ».
جاء هذا الرّجل إلى « الحمّامات » ليدّرس الأدب العربي في معهد الجميلات المضمّخات بعبق الحبّ التّالد فأربك سير الحياة في هذه المدينة الهادئة.
أذكر ساعة دخوله الفصل. وقف التّلاميذ ينظرون لهذا الرّجل اللّطيف ويتهامسون فيما بينهم: لن يقدر هذا الأستاذ على شقاوتنا هذا العام! طلب منّا الجلوس ونظر في قائمة الأسماء. قرأها مرّة أولى. وأعاد القراءة. كان وجهه يصفرّ وابتسامته تختفي كلّما أعاد القراءة إلى أن انفجرت بثينة في ضحك هستيري مجنون. ظلّت تضحك والدّموع تسيل من عينيها وجاراها التّلاميذ فضحكوا لضحكها. وامتلأت القاعة بالضّحك والجنون. وبثينة تصيح: أما عرفتني يا أستاذ! أنا بثينة! أنا بثينة!
ودعا الأستاذ تلاميذه إلى الكفّ عن هذا الهزل فصمتوا وأخرجوا كتبهم. وتناثرت أبيات الشّعر ذات اليمين وذات الشّمال غزلا وهجاء ومدحا ورثاء وتشْبِيبًا ونسبيا وجميل المسحور بألق بثينة يردّ على تسْآلها اللّجوج: لقد عشقت روحي روحك منذ الأزل يا حبّة عيني!
في الأوّل، ظنّنا الأمر مزاحا وترْويحا عن النّفس خاصّة بعد أن قالت لنا بثينة إنها تعرف جميلا منذ البدايات الأولى للحياة على الأرض وإنها التقته في طريقها عدّة مرّات. مرّة في بلاد الهند. وأخرى في غابات الزّولو. وقبل هذه التقته في صحاري العرب.
وقالت إنّ أوراق الغجرية وعدتها بلقائه هذه السنة. وحرّكت الأوراق بين يديها فاختلطت اختلاطا مُبيـنا. ثمّ طلبت منّي أن أختار ثلاثا منها. قالت: للتّجربة فقط يا صاحبي! اخترت أوراقي بتأنّ وبعينين مغمضتين. وبسطتها أمام الأصحاب فرأوْا مذهولين: « كوّال ديناري » يحمل وجه الأستاذ « جميل » ويبتسم تحت طاقيته الخضراء ابتسامته الدّافئة الحنون.
***
وصار الأستاذ يتغزّل بِبثينة ويقول لأصدقائه أساتذة المعهد إذا جمعهم مجلس في مقهى من المقاهي الممتازة على رمال الخليج:
” لقد فُضّلت حسنا
على النّاس
مثلما،
على ألف شهر
فضّلت
ليلة القدر “.
ويبكي بكاء مرّا.
وسمع أهلها غزله في ابنتهم فجنّ جنون إخوتها وأبيها. وحالوا بينهما. ولكن بعد فوات الأوان. فقد اعتاد جميل وبثينة على التّجوال في الغابة القريبة من “دار سيباستيان ” خاصّة مساء يوم الجمعة. تدّعي أمام أهلها أنّها ذاهبة للمعهد وتواعده على اللّقاء أمام الدّار. هذه الدّار التي عشقتها منذ أن حكى لها حكاية صاحبها « سيباستيان » الغجري المجنون بألق البحر، والتضادّ بين البياض والسّواد، بين الظّلمة والنّور… أوّل يوم دخلتْ الدّار لم تكفّ عن البكاء. قالت لجميل إنّني أسمع صوت روح معذّبة. روح تنتحب داخل رأسي ولا تكفّ عن النّواح. قال لها تلك روح “سيباستيان” يا حبيبتي. كلّ صباح تلملم جراحها وتحطّ داخل الغرفة السّوداء. ” سيبستيان ” يا حبيبتي لم يجد في كلّ هذا الفضاء الفسيح حفرة صغيرة تدفن فيها جرّة ملأى برماد عظامه. طلب أن يُدفن في داره فرفض مدير الدّار طلبه. قال لن أحوّل هذه البناية الجميلة إلى مدفن. فنثر أصحاب الوصيّة رماد الرّجل في مياه الخليج. من يومها وروحه هائمة تبحث لها عن مستقرّ.
وقال لها إنّ الأستاذ صالح القرمادي العائد من فرنسا نظّم زيارات لطلبته لهذه الدّار وحكى لهم حكاية الرّجل منذ أن وطئت أقدامه أرض تونس في أوائل القرن العشرين. قال إنّ الأستاذ كان يبكي أيضا كلّما جلس تحت الأقواس المطلّة على مسبح الدّار.
هل كانت روح ” سيباستيان ” تنوح داخل رأسه أيضا.؟
ربّما…
أنا بثينة
جميل أحبّني بعد أن خاصمته لأنّني رفضت أن أستعرض أمام التلاميذ قصيد: « هي البدر حسنا والنّساء كواكب ».
قلت له أنا بنت الرّومية، الشقراء، المغرورة بجمالها:
– أنا البدر يا أستاذ، والنّساء كواكب.
فغضب ودوّن أمام إسمي، في دفتر الأعداد صفرا.
فصرت أذكّره بليالي الكرى، وبوادي القرى، وبالوالي الذي أهْدر دمه، إلى أن وقع في الشّرك. أركبني على درّاجته النّاريّة وخرجنا نتفسّح فوق رمال الخليج.
ما رأيت « الحمّامات » جميلة، فتّانة، كما رأيتها في تلك الأيام.
كانت المدينة قد خرجت لتوّها من شرنقة القرن الخامس عشر. وتجرّأ أهلها على الخروج من « الرّبط » دون أن يخافوا صليل سيوف «النّورمان»
وقراصنة الرّوم وجنوة. تركوا وراءهم بيوتهم الصّغيرة العابقة بذكرى الزّمن القديم. وتجرّأوا على الجبل والغابة. افتكّوا منهما مواقع تطلّ على البحر، بنوْا فيها مواطئ قدم للجمال والسّحر الحلال.
وذاع صيت هذه المدينة في الآفاق البعيدة. حكت الجرائد والمجلاّت المصوّرة عن هذه الجنّة العذراء القابعة على مرمى حجر وراء صخور جزيرة مالطة. فتحرّكت ملايين الدّولارات تحت الأرض البور. وتحرّكت آلة الزّمن فنبتت القصور الفاخرة في كلّ مكان. وأينعت عشرات النّزل فوق رمال الذّهب.
في تلك الأيام كانت لذّة البقاء مع الأستاذ أثمن من العودة إلى البيت. كنت قد نسيت الخوف. ونسيت أهلي وسطوة أبي.
أبي الّذي دفن جدّه في الرّمل ثلاث بنات وأورثه عشق الرّوميات. قال إنّ واحدة من نساء الجدّ عشقت. بحارا روميا وهربت معه إلى « جنوة » فحلف أن ينكح هو وَأولاد سلالته نساء الرّوم إلى يوم الدّين. وأن يئد إناث البيت ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وظلّ الجدّ يبرّ بوعده إلى أن اشترى من سوق النخاسة في تونس امرأة يشعّ النور من جبينها. انجبت له بعد عام بنتًا كنور الضحى. رعاها وربّاها إلى أن بلغت ثلاث سنوات. ذات يوم سأل أمّها أن تلبسها أجمل ثيابها. وأن تزينها وتعطّرها وأن تسرّح لها شعرها إلى أن صارت البنت كملاك الجنّة. فأمسكها من يدها. وقصد كثيب رمل يبعد عن القرية عدّة كيلومترات. في الطّريق تعبت البنت فحملها على ظهره. وعطشت، فسقاها من ريقه. وجاعت، فأطعمها من لحم كتفه وغنّى لها إلى أن نامت.
حين وصل الكثيب، أنزلها، وبدأ يحفر. أحرقت الشّمس البنت فأفاقت. ورأت والدها يعالج الرّمل فأعانته على حفر قبرها. حفرت بيديها الصّغيرتين وهي تضحك وتغنّي إلى أن كبرت الحفرة فسقطت فيها. أهال عليها الجدّ الرّمل وعاد إلى البيت. وهو يدخل باب السّقيفة سمع رنّة خلخال ورأى البنت تجري باتّجاهه ففتح لها ذراعيه ودسها في قلبه. ونام ثلاثة أيام مسكونا بالحمّى والعرق الغزير.
حين أفاق طلّق نساءه وطلب من خدمه أن يحضروا له سفينته وأن يملأوا جوفها بعوين السّفر.
قال: سأذهب إلى الحجّ.
ولم يعد من حجّه. تواترت أخباره مع الحجيج العائدين من أرض رب الفلق سنوات غيبته الأولى. ثم طواه النّسيان. وظلّ أولاده ينكحون الرّوميات إلى يوم النّاس هذا.
نسيت سطوة أبي. ونسيت جدّتي الموْؤودة. وتعلّقت بصدر جميل. كان الرّجل قد خيّرني بين أهلي وبينه. فاخترت الهروب معه إلى السّماء السّابعة.
بعدمَا شبعت منْه وشبع منّي عدت إلى دارنا.
وجدت الفضيحة قد ملأت المكان. وكنت
أترقّب أن يحملني أبي إلى كثيب رمل الجدّات ليئدني فوق عظامهنّ.لكنّه كان قد بيّت أمرا آخر.
قال: لن تفوح فضيحتي مرّتين وأخذني إلى الطّبيب ليكشف عن عذريتي. فقال له إنّني معتادة على ممارسة الجنس منذ أمد بعيد. وإنّني مفضوحة البكارة منذ الأزل.
والغريب في الأمر أنّ أحدا ما مسّني بسوء قبل إصبع الطبيب.
فجميل كان عذريا في محبّته. ظلّ يشمّني ويقبّلني ويدسّني في قلبه ويقول:
« ألم تعلمي يا عذبة الريق أنّني، أظلّ إذا لم أسق ريقك صاديا .»
ولم يذق ريقي إلى أن مات مدهوسا بشاحنة ضخمة قادها أبي بنفسه.
ظلّ مدّة يفكّر. ثمّ فضّل أن ينصب له كمينا في الغابة السّوداء. وأحكم الطّوق على رقبته. اختار طريقا مسيّجة من الجانبين بأسلاك شائكة تزدهي وراءها أشجار العنب والبرتقال والفلّ والياسمين.
كان جميل يعشق الجولان في الصّباح الباكر على هذه الطريق. كلّ يوم قبل طلوع الفجر يركب درّاجته النّارية ويمرّ أمام أشجاره الحبيبة. يومها رأى شاحنة سوداء تسدّ عليه الطريق وسمع صوتا يناديه:
– أنا أبو بثينة يا جميل ! سأشغّل المحرّك بعد خمس دقائق فاهرب يا ابن القحبة! انج بنفسك إن استطعت فقد أهدر الوالي دمك!
هرب الدّم من وجه جميل ولم يعرف بماذا يجيب إلى أن عاد له صوابه فانطلق كحبّ الرّصاص. وأبي يعدّ الثّواني واحدة واحدة. لم يرعبه هروب فريسته فقد أعدّ لكلّ شيء حسابا. كان واثقا من قدرته على اللّحاق بصاحب الدّراجة النّارية. فأكمل العدّ حتّى النّهاية.
وزمجر المحرّك فانطلق الوحش من عقاله ينهب الأرض نهبا.
بعد دقيقتين ظهر في الأفق شبح الهارب فزاد في الضّغط على دوّاسة البنزين فارتفع زئير الوحش الحديدي وعظُم. وغطّت السّماء غمامة سوداء. وناحت يمامات على أغصان الياسمين.
بعد خمس دقائق، صارت الدّراجة النّارية في متناول عجلات الشاحنة. فأكل الحديد الحديد.
وقيّدت الحادثة في سجلاّت حرس المرور ضدّ مجهول. وطوى النسيان من جديد قصّة موت جميل.
ظلّت الحكاية منسيّة إلى أن اقترب أبي من أجله فقال لي وهو على سرير الموت إنّه قتل جميلا وإنّه سمعه يردّد وهو يحتظر:
خليليّ
فيما عشتما
هل رأيتما
قتيلا
بكى من حبّ قاتله
قبلي.
فلو تركت عقلي معي
ما طلبتها
ولكن طلابيها
لما فات من عقلي.
وأغمض عيْنيه.
ومات.
أنـا فـائـز
بقيت جثّة « جميل » في برّاد المستشفى أكثر من شهر. ترقّب المدير وصول من يطالب برفاة الرّجل ولكن دون جدوى. فاتفقت إدارة المستشفى والمعهد على إكرام الميّت. وسألوا أصدقاءه فوافقوا على دفنه في المقبرة البحرية بالحمّامات.
رافق نعشه التّلاميذ والأساتذة. واحتضنت عزّة بثينة وناحت معها. ومسحت دموعها. وجلستا على القبر بعد أن غادر الجميع الجبّانة. ظلّت بثينة مذهولة. فأهملت دروسها ونسيت أوراق اللّعب وسكنت المقبرة.
وظلّت « هامة » ترفرف بأجنحة من نار على القبر.
كلّ صباح تطلع من قلب الشّمس وتطير فوق المقبرة زاعقة بصوت منكر تتفجّع له قلوب الأمّهات.
دارت ” الهامّة ” في السّماء نائحة مولولة من شروق الشمس إلى مغيبها أربعين يوما إلى أن جاء « أبو بثينة » وأطلق عليها النّار من بندقية صيد. فسقطت بين رجليه. ترك الطّائر النّاري يتخبّط فوق الرّمل. وذهب إلى الشّاحنة. أخرج من تحت كرسيّ القيادة قارورة ملأى بالبنزين. وعاد. سكب البنزين على الطّائر وأحرقه حتّى تحوّل إلى رماد. جمّع الرّماد في كفّه وأطفأه في مياه البحر. وأمسك ابنته بيد من حديد وعاد بها إلى مقاعد الدّراسة.
***
هل نسيت بثينة جميلها؟
وهل نسيتني؟ أنا من سهّل لها لقاء الحبيب أكثر من مرّة !
كانت جارتي. وكنت أعشق دروس هذا الأستاذ الأنيق. وأحفظ أشعاره الرّقيقة. وحزّ في نفسي أن أراه يهيم بين الغابة والمقبرة. فقرّرت مساعدته. صرت أدفع لبثينة خاتمه كلّما رغب في لقائها بعيدا عن الكاشح المتربّص. وأسهّل لهما الهروب عن عيون الرّقيب. إلى أن افتضح أمري فكدت أفقد حياتي فداء للعاشقين.
هل نسيت بثينة جميلا فنجحت في امتحان البكالوريا آخر السنة؟ قلت لها ذلك فأخرجت من حقيبة يدها أوراقها. أفردتها أمام وجهي وطلبت منّي أن أختار ورقة.
كانت بثينة قد عادت إلى جمالها القديم. امتلأت بالصّحة والعافية ونَبَتَ الرّبيع فوق وجنتيها.
هل نسيت بثينة جميلها؟
رأيت مرّة وأنا أزور المقبرة البحرية طائرا من المرمر مزروعا فوق قبر جميل.
اقتربت أكثر وقرأت الفاتحة. ونفضت الرّمال التي تكدّست على جنبات القبر. فرأيت الطّائر الحزين يبكي بدموع من حجر.
سألت بثينة عن الطّائر. فقالت إنّها زرعت وردة فوق القبر وإنّ الوردة تحوّلت إلى ذلك الطّائر العجيب. وقالت إنّه يبدأ بالنّواح كلّما اقتربت من القبر، عند مغيب الشّمس. ولا يهدأ إلاّ بعد أن تجرح قلبها وتسكب فوق ريشه المتحجّر قطرات من دم فجيعتها.
هل نسيت بثينة جميلها؟
فأفردتْ الورقة أمام وجهي.
رأيت قلبا أسود مليئا بالدّود.
أنـا بثـينة
أنهينا دراستنا الجامعيّة معا.
اهتمّ « فائز » بالأرقام. واهتممت بالحروف. ولم يشبع نهمه علم المعاهد التونسية فشقّ بعصا التّرحال البحر المالح. وحطّ الرّحال في فرنسا.
وظللت في تونس أرتقب عودته. في النّهار أقرأ مع تلاميذ المعاهد الثّانوية غزل عمر بن أبي ربيعة وحكمة المعرّي وحكايات الجاحظ عن تماوت الذبّان وأستمع إلى قعقعة السّيوف اليمانية في حروب سيف الدّولة الحمداني وإلى نواح يمامة أبي فراس. وفي اللّيل أقرأ « سارتر » و « كامي » و « الحرب والسّلام » وأشاهد الأفلام على شاشة التّلفاز وأستمع إلى نشرات الأخبار المطوّلة.
وأترقب عودة « فائز ».
أربع سنوات وأنا على هذه الحال إلى أن عاد من « فرنسا » ومعه دكتوراه في علوم الاقتصاد وحقيبة ملأى برسائلي وبمشاريع طموحة.
قدّمته لأصدقائي فافتتنوا به هو الرّجل الأنيق: المهذّب العليم بأسرار البورصة وبخفايا العالم الحرّ.
اشترطت عليه أن يشاطرني مسكني فوافق. واقترح عليّ أن نكتب بيننا عقد زواج مدني.
أحضرنا شاهدين عدلين أرضيا مستشار بلدية العاصمة فكتب كتابنا. وخرج « فائز » من الباب الكبير يتأبّط ذراعي وفي جيبه عقد الزّواج وفي قلبه شيْء من حتّى.
في المساء دعونا الأصحاب إلى المنزل وأقمنا لهم حفلا لطيفا غنّى فيه الأصدقاء ورقصت الصّديقات وصفّق الجميع وهم يأكلون « الكسكسي » ولحم« العلّوش » والبقلاوة والموز والتّفاح ويكرعون « البيرة » و « سيدي رايس » و « الماغون » و « البوخا ».
بعد منتصف الليل، غادر الأحبّة الدّار. فأطفأت الأنوار. وتركت ضوءا خافتا أحمر أعرف أنّه مغرم به والتفتّ أبحث عنه. وجدته قد ذهب إلى بيت النّوم. التحقت به فسمعت شخيره قبل أن ألج باب الغرفة.
لم ألمه.
قلت هو التّعب والسّهر والكحول.
وهو ضعيف أمام ” دبابيز ” الماغون. يمسك القارورة بين يديه ويقرّبها إلى الضّوء ليقرأ طعمها من خلال انعكاس الأشعّة على حمرتها الدّاكنة. ويشرب ولا يرتوي حتّى يخرج عن طوره. فيبدأ في الهذيان.
تأكّدت من إغلاق الأبواب. وجئت أنام بجانبه. فلم يحسّ بوجودي. وتذكّرت نظراته خلال السّهرة.
كان في عينيه حزن كبير آلمني كثيرا.
حزن أعرف أنّه يسكن أعماقه منذ أمد بعيد.
حزن يعاوده كلّما اختلى بي.
حزن أقرأ آثاره على وجهه. ولا أجرؤ على نبش الذّاكرة.
قبل أن يرحل إلى « باريس » بأيّام لمواصلة دراسته في علوم الاقتصاد، كنّا نائمين في هذه الغرفة، تحرّشت به. لكنّه انطوى على ذاته وتقوقع كالحلزون العنيد.
في الصّباح، وأنا أودّعه في المطار. سألني إن كنت مازلت أحبّ جميلا العذري؟ قهقهت عاليا، فالتفت المسافرون الجالسون في قاعة الانتظار إلى صوتي المجلجل وإلى خجل صاحبي الأنيق في بذلته. ولم أعر احتجاجهم انتباها فواصلت ضحكي وأنا أقبّل هذا الرّجل المرتبك. وأمسح عن عينيّ دموع الوداع.
خلال السّهرة عاد إلى سؤال المطار:
– هل مازلت تحبّين جميلا يا بثينة؟
فغمزته بدلال ونظرت في عينيه ولم أردّ على السّؤال.
فأهْملني.
وتواصل إهماله لرغبتي أسبوعا كاملا حتّى ظننت أنّ ثلوج الشّمال أطفأت نيرانه.
صرت أتعرّى أمامه فيدير لي ظهره وينام.
أنا !
أنا من أحرقت قلوب أعتى الرّجال يدير لي زوجي ظهره!
أنا ! من تشرئبّ لها الأعناق عند مرورها لا يحفل بأنوثتها هذا الرّجل!
وندمت.
ندمت لأنّي ظننْت أنّ ثلوج الشّمال قادرة على إطفاء نيران ريح السّموم.
وندمت.
ندمت على الزّمن الذي أضعته وأنا حبلى بالسّراب.
وندمت.
ندمت وأنا أصعقه بسؤالي:
– أمازلت حقّا تغار من جميل العذري يا فائز؟
فلم يردّ.
ولكنّي قرأت في عينيه وفي تكشيرة فمه ألما يجرح.
وندمت.
وندمت.
وندمت.
ندمت. وهو يدكّ حصوني دكّا دكّا.
ندمت وهو يوجع صمتي الضّاجّ بالألم.
ندمت وأنا أستمع إلى صوته يردّد:
– أعرف أنّ جميلا طرق أبوابك. ولكنّي أردت أن أعرف إنّ كنت فتحت له الأبواب!
يا الله!
كلّ هذه الشّهائد ومازالت دماغك مسكونة بأشباح الأجداد. كلّ هذه الشهائد ومازلت تفكّر في غشاء من الجلد الشفّاف تمزّقه هبّة نسمة بين الأفخاذ.
يا الله!
أنسيت أنّ أبي قتل برصاص بندقية الصّيد طائر الثأر وأنّني إبنة الرّومية!
وقمت.
تبعثرت وأنا ألملم أشيائي الحميميّة وأذهب إلى الحمّام.
أغلقت الباب ورائي بالرّتاج.
وجعلت الماء ينهمر فوقي.
يبلّلني.
يبلّل رأسي والقدمين.
والقلب والشّفتين.
وشعر العانة والرّدفين.
والفرج والنّهدين.
يبللّـني.
ويمسح عنّي قذاراته.
يزيل بذاءة لسانه العالقة بجلدي.
وتمنّيت.
تمنّيت أن يفور الطّوفان من ثقب « البانيو »
فلا يبقي ولا يذر.
وندمت…
ظللت واقفة تحت بخّاخة « الدّوش » أكثر من نصف ساعة وأنا أحلم بالمطر وبالبلل.
رأيت ثيابي الخفيفة تلتصق ببدني فتبرز مفاتني.
ورأيت الجوع الكافر في عيون الشّباب.
عيون ذئاب ينهشها السّغب فتعوي بصمت. وتضجّ الصّدور بالحسرة.
وأنا أختال تحت المطر.
مهرة بألف جناح.
وندمت.
كلّ هذه السّنين وأنا البخيلة، ما فرّطت بشيء من كنوزي. أغلقت عليها بسبعة مفاتيح وترقبت الفارس الهمام.
ولمّا وصل حرن حصانه أمام أسواري.
ولم يلتفت لمائي وخبزي.
وتركني معلّقة بين اليأس والرّجاء.
تركت الماء يسيل برفق فوق الصّابون إلى أن فارت الرّغوة على جانبي الحوض الكبير. ومتلأ المكان بعطر أخّاذ. عطر الأرض العطشى بعد رذاذ خفيف، أواخر شهر سبتمبر.
اخترت خلطة فاترة يستلذّها بدني. واستلقيت داخل « البانيو ».
غمر الماء جسدي.
حاصر أحاسيسي من كلّ الجهات
خدّرني وبدأ في ولوجي وسط البخار والعتمة.
حفر في مسام بدني طرقا سرّية تحت الجلد. سرى فيها جيئة وذهابا.
وأنا أتابع سريانه ملتذّة حدّ النشوة الكبرى.
بعدها.
وقفت متهيّجة.
ملتفّة بالرّغوة المعطّرة.
فركت بدني.
مرّرت يديّ على ثمار الجسد.
التّفاح النّافر على الصّدر.
والكرز الخجول الكامن بين الفخذين.
وما بينهما جمّار النخلة الرّيانة.
تحسّست برفق هذه الكنوز.
فالتهبت.
اشتعلت في بدني نيران البراكين الهائجة.
فبدأت في الذّوبان.
سلت داخل حوض الاستحمام.
مشاعر،
وأحاسيس،
وسباب،
وبذاءات،
وتأوّهات،
واستعطاف،
ودموع،
وشخير،
ونخير، ارتفع إلى عنان السّماوات.
أطلّ على الأكوان المسيّجة برحمة الرّب.
ثمّ حطّ برفق كما تحطّ ريشة طائرة على زهور الرّبيع.
فهمدت وأنا أتحوّل إلى ذرّات من الرّماد البركاني.
أنـا فــائـز
عشت سنتي الأولى بعد العودة من « فرنسا » في منزل بثينة. في الصّباح، تذهب إلى المعهد، تدرّس الأدب العربي وتقرأ المجلاّت الثقافية. وفي المساءات الهادئة نسهر مع الأصحاب.
كنّا نأكل من رزق والدها الذي ذهب في جيوب الورثة بعد مماته ولحق بثينة منه نصيب حوّلته إلى سندات في البنك.
قرّرت بيني وبين نفسي أن أردم قصّة جميل في أخدود وأن أهيل عليه النّسيان بعد أن عرفت فداحة جرمي.
راقبت بثينة بعد أن رأيتها تبطئ في حوض الاستحمام. فسمعتها تدعو على هذا البيت بالخراب وعلى الأرض بطوفان نوح.
فحاولت استرضاءها.
طلبت منها أن تسامح بداوتي التي سافرت معي إلى نور العالم. وظلّت تعتّم أعماقي.
فقالت:
– المهم يا فائز أن ننسى الأساطير وأن نتوكّل على الله! فالحياة جميلة يا صاحبي!
– وصارت في كلّ ليلة تفتح بمفاتيح سرّية أبواب السّماوات في وجهي:
س…
وس… وس…
وس…
وس…وس…
ستمتلك معامل تكرير النّفط في سنغفورة.
ستقتني معامل السيّارات في كوريا الجنوبية.
ستشتري سلاسل النّزل الفاخرة في هونلولو.
وستمتلك بنوك سويسرا.
س…
وس…وس…وس…
ستصبح ميليارديرا يا عزيزي تتصدّق على الفقراء بالملايين.
وظلّت توسوس في صدري وسوسة الشّيطان لآدم. وتثْنِينِي عن الرّحيل والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمركية التي وصلني منها عقد عمل مغر.
وانشقّت السّماء في ليلة القدر استجابة لدعواتها.
ذات ليلة وأنا أكرع الخمر وأغنّي. سمعتها تقرأ عن ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. فعمّت الأنوار مشارق الأرض ومغاربها. وسمّي صديق حميم لوالدها على رأس وزارة « الاقتصاد الحر والمبادرة الشّجاعة».
قدّمتني لصديق والدها. وقدّمت له عقد العمل الواصل من « أمريكا ». وأرته شهادتي في العلوم الاقتصادية.
أرجع لي الوزير شهادتي وهو يقول:
– أمّا هذه، فلا حاجة لنا بها. وأما بثينة، فإكراما لوالدها سأسمّيك مديرا لمعمل « تاج العروس ومتعة النّفوس».
قبّلت بثينة يد الوزير. وشكرت له فضله. فمدّ لها مفاتيح المعمل الجديد.
واو! قالت بثينة.
وأضافت ونحن ندخل المصنع من أبوابه الواسعة:
– ها أنت يا عزيزي مدير لشركة للإستيراد والتّصدير. ومعمل خياطة يستورد الملابس قطعا من أروبا ويصدّرها جاهزة للاستهلاك، مكويّة، بأزرار لمّاعة ودبابيس من النّحاس البرّاق تحت الياقة.
واو! قالت بثينة مرّة أخرى!
صارت فتيات ضواحي تونس تصنع لعرائس أوروبا فساتينهنّ.
ولم تدر المسكينة أنّها أطلقت كلاب الجحيم من عقالها.
أنـا بثيـنـة
يتحرّك « فائز » فيئزّ السّرير.
يتقلّب ذات اليمين وذات الشّمال. وترمش أجفانه.
كم عشقت الكحل الرّباني على أجفانه.
كم بسته من عينيه وأنا أحاول استدراجه إلى كهوف علي بابا.
أكثر من مرّة .
أكثر من شهوة.
أكثر من رغبة جامحة.
أكثر من لهفة.
تمرّغت على صدره.
لاعبت أشياءه الحميميّة وتمسّحت بها.
كم مرّة قرّبته من حناني فأبعدني عنه.
أبعدني عن رحمة الجسد.
وها هو اللّيلة يتقلّب في فراشه.
يغطّي وجهه بالملاءة ويشخر.
ماله هذه الليلة!
فليس من عادته كثرة التقلّب في الفراش.
هو القادم من نعيم « بيوت اللّيل »
وعطور الحسان.
وروائح الجنس الفاضحة.
ليس من عادته التّقلب في الفراش!
هو النائم على أكفّ الملائكة.
لا يهمّ.
سأخفّف قليلا صوت جهاز التّلفزيون هذه اللّيلة فهي ليلته الأخيرة على هذا الفراش.
أنـا فـائـز
وأظلّ أتقلّب في الفراش
ويظلّ صوت جهاز التّلفزيون يحفر داخل أذنيّ حفرا.
أغان ومسلسلات وأخبار لا تنتهي عن كوارث.
حروب في كلّ بقاع العالم.
وفيضانات في بنغلاداش.
وهزّات أرضية غرب الجزائر.
وقتل في جنوب السّودان.
ومجاعة في أثيوبيا.
وضبط لشحنات مخدّرات على حدود النّيجر.
مالي ولهذا العالم المجنون!
مرّات عدّة حاولت الفرار من هذا السّرير فأشعلت حروبا في البيت. ظلّت بثينة تبكي وتخبط رأسها على السّرير إلى أن عدت إلى ملاءتها الحريريّة.
أنَامَتْنِي على صدرها وهي تنهنه:
– هل رخصت بضاعتي لديك إلى هذا الحدّ يا فائز؟ لماذا لا تطلّقني وتذهب مع الرّيح!
وسألت نفسي مرارا:
– لماذا لم أفكّر في طلاقها؟
ولكن هذا السّؤال كان يذوب مع لفحة شمس الصّباح.
وتمرق السيّارات من تحت شبّاكي.
تزمّر وتدمدم.
وتشخر وتنخر.
وأنا أغالب نفسي حتّى لا أكفر بهذا العذاب.
وتنبح كلاب الجيران.
أعرف جيّدا هذه الكلاب الشّرسة السّارحة في حدائق منازل الجيران. وأتمنى على الرّب أن يحوّلني إلى كلب: « un berger Allemand ». كلب في حجم جحش، ينام النّهار بطوله. ويصحو ليلا.
كلب يراوغ نوم أواخر اللّيل.
وينظر إلى نجوم الصّباح.
وتدقّ السّاعة المعلّقة في الصّالون إثنتي عشر دقّة. فينطلق النباح داخل صدري.
نباح أكتمه وأنا أعضّ بالنّواجذ على خيباتي الكثيرة.
أنـا بثـينـة
عدت إلى أوراقي:
السّبعة الحيّة.
وكوّال الدّيناري.
وموجيرة الكب.
ولص السّباطة.
وري البسطون.
أفرش أوراقي أمامي على الطاولة وأنادي على الحظّ. فتفلت من بين شفتيّ تنهيدة حرّى.
أشعل النار في كانون صغير. أراقب الفحم وهو يحترق حتى يتحوّل إلى جمرات تتلظّى. وأضع يدي على صدري فتحترق. أصرخ ملء صوتي. وأرمي على جمرات الكانون قبضة من البخور والجاوي. يعبق جوّ الغرفة بالرّائحة المخدّرة: رائحة الأسواق القديمة والدّكاكين المعتّقة.
أنظر في أوراقي المتناثرة على الطاولة وعلى الأرض.
يكشّر في وجهي كوّال الدّيناري. أتجاهل تكشيرته وأنظر للسبعة الحيّة. تعطيني السّبعة ظهرها. وتغمزني موجيرة الكب بتشفّ. وأخجل من استعطاف ريْ البسطون الوقور في معطفه المخملي. وأغطّي وجهي بيديّ الإثنتين. وأخرج إلى شمس
الشّوارع والساحات. استقبل المارّة بابتساماتي. وأعرض عليهم أوراقي. يتجاهلني البعض. ويقف آخرون أمام جمال الأصابع التي تحرّك أوراق لعبة الحظّ.
أنــا فـائـز
زوجتي مريضة.
زوجتي حوّلت حياتي إلى جحيم يومي.
عطّلت دروس المعهد وتفرّغت لاستقبال زبائن الوهم الجميل. صارت « شوّافة » تستطلع الغيب من وراء السّحب. وتقرأ الحظّ من خلال الكوّال والمجيرة.
نهارها للرّجال المهمّين والنّساء المهمّات وليلها لعذابي.
ما أن تفتح لي الباب حتى تعرض عليّ أوراقها.
– تعال أقرأ لك بختك !
تنظر مليّا في الأوراق وتهمس:
– في هذه الليلة أمر، وفي الغد خمر.
وأعرف أمرها وخمرها. فأهرب من جحيمها إلى رحمة السّماء.
أهرب من لهيبها إلى برد الفراش.
أتمطّى وأتثاءب وأبتسم لحنانها الجارف.
تلتهب النّيران في كامل بدنها. يحمرّ وجهها وترتجف:
– نساؤكم حرث لكم فآتوا حرثكم أنّى شئتم.
لست أدري من علّمها هذه الآية. ولا متى تعلّمتها. فليس من عادتها الاستشهاد بالقرآن.
أقول:
صدق الله العظيم. وصدق نبيّه الكريم.
فيحتدّ صوتها:
– احرث أيّها الرّجل أنّى شئت!
وأنا أعرف أنّني على مدى السّنوات الفارطة كنت أحرث في سبخة. أحرث الملح الصّلب. فأتأوّه:
-“أنّى” يا عزيزتي تعني “متى” ! أي آناء الليل وأطراف النّهار، في الصّبح والظهر وعند السّحر…
فيزداد احتدادها:
-هي أيضا تعني “أين”! وأنا على مذهب الإمام الفقيه، آية الله، روح الله « الخميني » كرّم الله روحه الزّكية!
احرث أنّى شئت يا ابن نعيمة فما عدت أفرض شروطي!
ويجيء ردّي ركيكا، فاترا، يخذل استعدادها النفسي لممارسة اللواط والفجور:
-“كيف كيف” يا عزيزتي!
المهم هو أن ينبت الزّرع وينمو ويزكو لتينع حدائقنا وتزدهي بالزّهور والورود، بالأقاح الفوّاح، والأقحوان، وبشقائق النعمان.
تسلّ جسدها من الفراش وتزفر والغضب يتطاير شررا من عينيها:
-أتسخر منّي يا ابن نعيمة! سترى!
وتهجر فراش الزّوجية أسابيع طويلة. تنام في قاعة الجلوس، على الكنبة أو على حشية على الأرض.
أقول: « تنام »! اعتباطا لأنّني كلّما خرجت من بيت النّوم وجدتها صاحية. تتصفّح كتابا أو تستمع إلى أغاني عبد الحليم حافظ أو تقرأ في أوراق الحظّ. أسلّم عليها فتتجاهل سلاماتي. وأناكدها فلا تردّ عليّ.
وأنسى أنّ لي زوجة في البيت فأعود متأخّرا.
أسكر في علب اللّيل مخاصرا حور العين. أطمث من شئت منهنّ وأدفع المهور بالدّولار وبقلائد الذّهب. وأعود إلى البيت متعبا. ثقيل الخطى. أعمى البصيرة. مهدود القوى. تتحرّك أشياء البيت أمامي كما يتحرّك الضّباب. ويملأ رأسي قرع طبول عنيف. تستقبلني بثينة مرّة في قميص نوم يفضح أكثر ممّا يغطّي ومرّات عارية. تتمسّح برجولتي. تترجّى. تتثنّى. تتأوّه. ولا مجيب. أتركها لحالها وأقصد سريري. أضع رأسي على الوسادة وأنام. تحاصرني الأحلام من كلّ الجهات. أحلام كابوسيّة رهيبة. نفس الأحلام تتكرّر كلّ ليلة مع بعض التغييرات الطفيفة. صحراء بلقع تمتدّ أمامي على مرأى البصر. وأنا وحيد أجوب كثبان الرّمل. تتحرّك الرّمال تحت قدميّ. وتفتح الأرض أشداقها لتلتهمني. فأقفز من كثيب إلى آخر طالبا النجدة بكلّ لغات العالم. وأظلّ في هروبي الأبدي إلى أن يدقّ المنبّه عند رأسي. فأفيق سابحا في بحر من العرق والخوف. أصبّ في حلقي الجافّ قدحا من الماء البارد. وأذهب إلى الحمّام فأستحمّ وأتعطّر وأنسى أحلام البارحة. أنزعها عنّي كما ينزع الثّوب البالي. وأرمي بها في بالوعة المرحاض. وأقصد وجه ربّي. أفطر كما أشتهي. وأشغّل جهاز الحاسوب، فيمتلئ رأسي بأرقام الصّادرات والواردات والرّبح والخسارة.
وتطلع الشّمس من وراء السّحب شابّة ريّانة فأهبّ واقفا. أفتح الباب وأتنفّس هواء اليوم الجديد. تستقبلني كلابي. ثلاثة كلاب شرسة تنبح وتقفز في الفضاء كالمردة من الشياطين. كلاب مستوردة من ألمانيا. أهداها لزوجتي واحد من مريديها وهي جرّاء. فكبرت في حجرها. تأكل من يديها. تنام على وسادتها. وتتفنّن معها في فعل الإثم. ضبطت زوجتي مرّات مع هذه الكلاب في مواقف حرجة. ليلة، جافاني الكرى على غير عادته. كنت أمرّ بصعوبات في العمل. اشتدّت قبضة العمّال على عنقي واشتطوا في مطالبهم. فأطردت فريق النّقابة من مكتبي وأنا أغلظ له في القول. وأقسمت بأن أغلق المعمل وأهاجر إلى أمريكا. وعدت إلى الدّار باكرا. وجدت الكلاب تتعشّى في قاعة الجلوس. أمام كلّ كلب قصعة بها لحم مفروم مستورد من إيطاليا. والخادمة تروح وتجيء بينها. تزيد لهذا شيئا من اللّحم. وتمسح عن ظهر ذاك. وتربّت على رأس الآخر. حين دخلت الدّار رفعت الكلاب رؤوسها هنيهة ثمّ عادت إلى وليمتها. شدّني جمال هذه الكلاب ونظافتها. وانبهرت بأحجامها فظللت مدّة أتملّى هذه الحيوانات التي تشاطرني البيت دون أن تلفت انتباهي. هذه الحيوانات التي تقف كلّ صباح أمام باب البيت لتحيّتي بأصواتها المدمدمة كرعود ليالي الشّتاء. اقتربت من أحدها. فبرقت عيناه. وحكّ رأسه على رجلي. ثمّ ذهب فأقعى على أريكة مقابل التّلفزيون. وتبعه الآخران فأقعيا قريبا منه بينما الخادمة تجمّع الأواني الفارغة وتستعدّ للخروج. سألتها عن سيّدتها فأخبرتني بأنها في الحمّام. وابتسمت. حسبت أنّه ذهب في ظنّ الخادمة أنّ بثينة تستعدّ لأحضاني فقرصتها من ذقنها. تأوّهت بمجون وخرجت وهي تهزّ ردفيها هزّا عنيفا. بعد قليل دخلت زوجتي قاعة الجلوس في روب حمّام وردي. فاجأها وصولي المبكّر إلى البيت. رأيت ارتباكا في حركتها وهي تطرد الكلاب. استجاب كلبان لصفيرها فغادرا المكان. وظلّ الثّالث قابعا على الأريكة. نهرته فهرّ وكشّر عن أنيابه الحادّة. فتركته في حال سبيله. وذهبت للنّوم. بعد منتصف الليل بقليل أحسست بمثانتي تؤلمني فنويت الذّهاب إلى الحمّام. وقفت لأشعل نور الكهرباء. لكن قبل أن تمتدّ يدي للزّر سمعت فحيحا وشخيرا وتمطّقا فعدت إلى الوراء وأصخت السّمع. كان الفحيح أقوى من المرّة الأولى وكان الشّخير عاليا لا يدع مجالا للشكّ. اقتربت من الباب بهدوء ووضعت عيني اليمنى في ثقب المفتاح. رأيت زوجتي ملقاة على ظهرها. ورأيت الكلب يلحس ما بين فخذيها وهي تدفع رأسه الكبيرة جيئة وذهابا. وتتأوّه مغمضة العينين واللّذة ترجها رجّا. ثمّ رأيتها تنقلب على أربع ضامّة ركبتيها إلى مرفقيها والكلب وراءها يرهز رهز عزيز مقتدر.
***
قصدت المرآب فلحقت بي الكلاب وهي تبصبص بأذنابها قافزة حولي في كرنفال صباحي بهيج. فامتطيْت سيّارتي وناديت الجنائني ليسدّ الباب ورائي حتّى لا يصل أذى هذه الوحوش خارج البيت.
وقطعت الطّريق إلى المعمل شارد الذّهن.
استقبلني عم « التّجاني » بالتّحايا الصّباحيّة البهيجة وفتح لي باب مكتبي. ثم وصلت فتيحة فعبق المكتب برائحة الرّبيع. صبّحت هذه المرأة الفاتنة ورتّبت الدّفاتر والأضابير أمامي وخرجت لتعود بعد دقائق حاملة قهوة فوّاحة وصدرا رحبا.
سألتها:
– هل تملكون كلابا في بيتكم يا فتيحة؟
فردّت بغنج:
– زوجي يكفر بدين الكلاب!
أنـا بثـينـة
سمعت جرس ناقوس الباب يدقّ بإلحاح غريب فذهبت لأفتح للطّارق. رأيت أمام الباب سيّارة فارهة. سيّارة ذات أرقام غريبة عرفت فيما بعد أنها تابعة لبعثة ديبلوماسية لدولة شقيقة.
كان سائق السّيارة يقف أمامي ببذلته المكويّة متأدّبا. وجهه صبوح. وعلى شفتيه تسآل:
– سيّدتي تطلب مقابلتك!
نظرت أمامي فرأيت داخل السّيارة امرأة تلتفّ بالسّواد.
قلت مستغربة طلبه:
– سيّدتك تريد مقابلتي!؟
فردّ في لطف جمّ:
– ألست بثينة فائز الرّابحي.
أومأت برأسي أن نعم.
فقال مستعطفا:
-هي تريدك في حاجة أكيدة! أرجوك لا تكسري خاطرها!
ازداد استغرابي ولكنّي أفسحت له الطريق فذهب يفتح الباب لسيّدته. نزلت من السّيارة امرأة ممشوقة القوام. تمشي مرفوعة الهامة بشموخ عجيب. كان وجهها ملفوفا بنقاب. وعلى رأسها غطاء أسود من الحرير. سلّمت المرأة ووضعت يدها الصّغيرة في كفّي. فرددت على سلامها. وسبقتها إلى الدّاخل لأرتّب فوضى قاعة الجلوس. لحقت بي المرأة. وعاد السّائق إلى السيّارة. فذهبت لأغلق الباب. حين عدت وجدتها قد رفعت النّقاب عن وجهها. فبدت رائعة الجمال. العينان مكحّلتان. والجيد من مرمر. والصّدر نافر. والثّغر يبسم عن أقاح.
قالت، وأنا أجلس على أريكة قبالتها:
-حدثني أكثر من واحد عن أوراقك. وأكّد لي سائقي نباهتك. أريد أن تنظري في طالعي!
ثمّ صمتت فلم تزد حرفا واحدا. وظلّت تراقب فوضى الغرفة وفوضاي. نظرت في عيني المرأة. رأيت وراء بريقهما السّاطع ولمعانهما ظلاما فظيعا. دقّقت النّظر وغصت في الظّلام. دخلت كهوفا باردة، لزجة، ما دخلها نور الشّمس منذ بدء الخليقة. تلمّست جدرانها فغرقت يدي في هلام وهباب. وعضّني ناب الألم.
قلت للمرأة عودي في الغد. لقد أزف وقت الذّهاب إلى المعهد. وأطفالي في شوق إلى حكم ” لزوم ما لا يلزم “.
قامت. غطّت وجهها بالنّقاب ومشت نحو الباب.
وقفت خلفها فجاءني صوتها من وراء الحرير:
– أرجو أن لا يكون حضوري قد أزعجك. أعرف أنّني جئت بدون ميعاد فاغفري ذنب امرأة أكل الذئب فؤادها. سأعود مرّة أخرى فلا تقفلي في وجهي أبواب السّماء. وذهبت ولم تعد. ولكنّ طوفانا من البشر زارني بعدها. جاءوا من الجهات الأربع يبحثون عن شفاء لدى بائعة الوهم الجميل بعد أن يئسوا من عيادات الأطبّاء. عرضوا على أوراقي مشاكلهم الكبيرة والصغيرة. بثوني شكاواهم ونفّسوا عن صدورهم. سألوا عن الفرق التي ستربح في «البروموسبور». وعن الزّوج الهارب من البيت متى سيعود. وعن الإقدام على إجراء عمليّة جراحية وعن النّجاح في دخول تشكيلة الوزارة القادمة. وطلبوا الحديث مع أرواح الموتى. أكثر من واحد طلب منّي التوسّط له في ذلك. ولكن أغرب حادثة وقعت لي مع شاب زارني منذ ثلاثة أيام. وجدته واقفا أمام الباب كنت عائدة من المعهد. وكان اليوم شديد الحرّ. حين رآني اندفع نحوي واحتضنني وكأنّ بيننا سابق معرفة
قال:
– رجاء افتحي الباب بسرعة فجسمي لا يحتمل هدّا القيظ.
فتحت الباب، فاندفع داخل البيت. تخفّف بسرعة من ملابسه دون أن يطلب إذني. فرأيت عرقا غزيرا ينزّ من جسمه الهش.ّ كان لهذا الرّجل جسم كالبلوّر المصقول. وكانت ثيابه الدّاخلية من الحرير الخالص.
قال أمام دهشتي:
– أما عرفتني يا سيّدة بثينة؟
قلت:
لا والله ! لم أعرفك يا سيدي!
فخبط كفّا بكفّ وردّد:
-ليت هنْدا انجزتنا ما تعد* وشفت أنفسنا ممّا تجد.
أنا عمر بن أبي ربيعة يا سيدتي! لقد ذكّرتني بهند هذا اليوم. سمعتك تردّدين إسمها في الفصل فعادت إلى القلب تدقّ على أبوابه.
وتذكّرت أنّ شخصا وقف واجما، أمام قاعــة
الدّرس وأنا أشرح لتلاميذي هذا القصيد. وظننت الرّجل قيّما جديدا يعشق الشّعر فلم أبال بحضوره إلى أن رأيته يبكي حين قلت:
واستتبدّت مرّة واحدة * إنّما العاجز من لا يستبد
وسمعته يقول:
– بلى ! لقد استبدّت أكثر من مرّة !
وغاب وراء عواميد الرّواق المؤدّي إلى إدارة المعهد.
وضعت يدي على كتف الرّجل وقلت:
-مرحبا بك يا عمر! كيف حال الحجاز؟
قال:
– على ما يرام يا سيدة بثينة! غير أنّ أصوات مكيّفات الهواء أزعجتني كثيرا فهربت إلى الصّحراء. ولمّا رغبت في العودة ما عرفت الطريق. فتهت وتاه دليلي!
ضحكت كثيرا من حديث ابن أبي ربيعة وقلت له إنّني أمقت مكيّفات الهواء ولا أستعملها إلاّ عند الضرورة القصوى فضررها أكثر من نفعها.وأردت مواصلة الحديث فرجاني أن أكفّ. ودعاني إلى ما هو أهمّ وقال:
-ماذا لو أحضرت لنا هندا إلى هذا البيت! أعرف أنّك قادرة على ذلك!
واصفرّ وجهه. واصطكّت أسنانه. وازدادت رقعة البلل على ثيابه الدّاخلية انتشارا فداخلني رعب حقيقي. أعرف أنّني تعاملت مع كثير من المجانين ولكن لم أر لهذا الرّجل مثيلا. وتذكرت نصائح فائز وتحذيراته:
-انتبهي يا بثينة! لقد كثر المجانين في هذه المدينة فلا تغامري كثيرا عند قبول زيارات الغرباء!
قال الرّجل:
-احضري أوراقك وكؤوسك يا سيدتي واسدلي السّتائر على الشّبابيك! إنّني أحسّ بحضور طيف في أجواء الغرفة!
فأطفأت الأنوار. ووضعت على الطّاولة كأسا فارغة. وبدأت في التّلاوة والهمهمة. ونظرت في أوراقي المصفوفة بيني وبين الرّجل. وعدت إلى التّمتمة وخلط الأوراق.
مدّ الرّجل يده واختار ورقة. كانت موجيرة ديناري. فصرخ صرخة عظيمة وأغمي عليه.
تركته ملقى على الأرض وذهبت لأحضر له كأسا من الماء. حين عدت وجدت كدسْ الثياب فوق الطاولة ولم أجد أثرا للرّجل. جمّعتها لأضعها في سلّة المهملات فوجدت داخلها ثلاث قطع ذهبية. تأمّلتها جيّدا فإذا هي دنانير مصكوكة في عهد خلفاء بني أميّة.
قال لي زوجي حين عاد إلى البيت تلك الليلة إنّه يشمّ رائحة غريبة. فقلت له إنّها رائحة عطر عمر بن أبي ربيعة الذي زارني طالبا منّي تسهيل لقائه بحبيبته هند.
فضحك زوجي حتّى دمعت عيناه وهو يردّد:
-يا الله! كم هو غريب أمر هذا الشّعب! إذا لم يجد ساحرا أو عرّافا صنعه بنفسه وشهّره ثمّ آمن بنبوءاته وصدّقها.
وعاد إلى الضّحك الماجن.
شممت رائحة الخمر في فمه حين قام مترنّحا فأردت إدهاشه. وضعت في يديه الدّنانير الذّهبية وسألته:
-كم تدفع فيها؟
دقّق النّظر في الدّنانير وعضّها بأسنانه ثمّ أعادها إليّ وهو يقول:
-هذه دنانير فاْلصُويبيعها البزناسة للسيّاح! من خدع بها نباهتك يا حبيبتي؟
واندفن في السّرير.
بعد تلك الحادثة. طلب فائز أن أمتنع عن قبول الغرباء داخل البيت. قال لي:
-أرجوك! مارسي هوايتك مع الأقارب والأصدقاء فقط. لقد كثر اللّغط حولك وكثرت تشكّيات مدير المعهد من تصرّفاتك.
وخرج غاضبا.
بعد أيام عدت إلى غرفتي فلم أجد أوراقي.
أصابني غمّ كبير فأضربت عن الطّعام وعن الكلام.
صمتُّ وأقسمت أن لا أكلّم إنسيّا حتى تعود عدّة عملي.
واشتطّ زوجي في شدّ الأنشوطة حول رقبتي.
تركني دون أن يكترث لحالي إلى أن أصبحت أخفّ من ريشة.
صرت كلّما فتح الباب أطير لأقع فوق كتفيه. فيصيح متذمّرا:
– ما أثقل حملك عليّ يا بثينة!
أنـا فـائـز
أعدَدْتُ لبثينة مفاجأتين:
الأولى، أوراق جديدة للعبة الكارطة وصلتني بالبريد العاجل من فرنسا المصونة.
والثانية، رحلة استجمام لمدينة الحمّامات.
فأبطلت صومها لتقول لي:
-لماذا ترفض أن أقرأ لك حظّك يا فائز؟
فصرخت أستحثّها:
-السيّارة جاهزة يا بثينة، جمّعي ما يلزمنا في حقيبة وتعاليْ بسرعة.
وخرجت إلى الحديقة. فتجمّعت حولي الكلاب تنبح وتعوي.
بعد وقت قصير وصلت بثينة تجرّ وراءها حقيبتين وتطلب منّي مقود السيّارة.
تركت لها مقعد القيادة وأنا أضحك. وشغّلت المسجّل فهزّها الطّرب.
لم أر بثينة على تلك الحالة من النّشوة منذ أمد بعيد. فرفعت صوتي أغنّي مع فيروز:
” لم يكن وصلك
إلاّ حلما،
في الكرى،
أو خلسة المختلس.
يا ليالي الوصل
بالأندلس”.
فحدجتْني بنظرة غريبة. وظلّت توقّع بأصابعها على المقود إلى أن غادرنا الطّريق السيّارة ودخلنا وسط جنائن الكروم والياسمين والبرتقال.
كنت اكتريت منذ أيام « فيلا » كبيرة تطلّ على أمواج البحر وهي تتكسّر على رمال الشّاطئ قريبا من البرج. وطلبت من صاحبها أن يعيد تأثيثها بالجديد من الأثاث والرّياش. ودفعت له مالا كثيرا. رأيته يعدّ المال مندهشا فسألته إن كان يطلب المزيد.
قال: « لا يا سيّدي! هذا أكثر ممّا توقّعت. »
فقلت له : « اجعل الدّار عشّا دافئا لعروسين. »
فانصرف يهذي بالشّكر والامتنان.
وصلنا الدّار عند منتصف النّهار. فرأيت في الحديقة طاولة كبيرة منتصبة وسط الفلّ والرّياحين، عليها ما لذّ وطاب من الأطعمة الشّهيّة.
فركنت السيّارة في المرآب. ودفعت بثينة إلى الطّاولة وأنا أقول:
-لن تدخلي الدّار قبل أن تذوقي من وليمة عرسنا!
رقصت البهجة في عينيها وهمست في أذني:
-لعنة الله على خبثك يا ابن نعيمة!
وطافت على الصّحون كالفراشة. أكلت منها جميعها كما لم تأكل من قبل. ثمّ شربت زجاجتي « بيرة » وذهبت لتنام.
تركتها في الفراش وخرجت أبحث عن أصدقاء الطفولة. امتلأت بهم السيّارة. وامتلأ القلب بمسرّة غابت عنه كثيرا. طفنا بالحانات الشعبيّة. وردّدنا مع البحّارة أغاني ماجنة. ورقصنا كالمجانين بدون حسيب ولا رقيب أمام دهشة الجميع. دهشة اختلطت بالخوف والرّيبة من هؤلاء الرّجال المحترمين الذين يكرعون الخمور الرّديئة داخل حانات الشّعب الكريم ثم يركبون سيّارة « مرسيدس » فارهة تنطلق بهم بسرعة فائقة في الإتجاه المعاكس لعلامات المرور.
عدت إلى المنزل مع ساعات الفجر الأولى بعد أن زرت مراقص اللّيل وخاصرت فاتنات من بلاد الشّمال امتلأت بهنّ أنزال مدينة الحمّامات.
دفعت لهنّ ثمن ثلج كؤوس المُدام. فألصقن نهودهنّ بصدري. وأنمن رؤوسهنّ على كتفي وأحتضنّني بالأذرع الحانية والأنامل اللّطيفة.
وجدت بثينة واقفة أمام الشبّاك المطلّ على نجوم السّماء ورائحة البحر. قالت: « هل جئت بي إلى هنا لتهملني يا فائز؟ »
فهمست في أذنها: « لقد وهبتك حرّيتك فافعلي بها ما تشائين في هذه المدينة الرّائعة يا عزيزتي !»
***
قالت بثينة ونحن على مائدة الإفطار إنها ستزور بقايا أهلها هذا اليوم. وإنها لن تتغدّى في المنزل. فطلبت من الطّاهي أن يكتفي بإحضار العشاء. وأن يشوي السّمك ويترقب عودتي من البحر.
لبست مايوه السّباحة وذهبت إلى البحر. توغّلت في اللّجة وضربت الأمواج بأذرعي ضربات عنيفة وكأنّي أقاتل وحشا أسطوريّا. ذهبت بعيدا داخل اليمّ إلى أن أحسست ببعض الإعياء فاستلقيت على ظهري وأغمضت عينيّ وتركت بدني تتلاعب به نسائم الصّباح.
هكذا كنت أفعل أيام الشّباب قبل أن تنزل على القلب مطارق الإلتزامات المهنيّة ومشاكل العمل وهموم الحرفاء الأجانب ونظرات الكلاب الشّبقة إلى ردفيْ بثينة وتنبّؤات هذه الزّوجة وقراءاتها للمستقبل.
ظللت هكذا أسبح كالطّوف الهرم إلى أن سمعت صراخ الطّاهي يأتي من بعيد:
-سيدي! لقد شويت لك السّمك على جمر الشّيح والعرعار! ارجع قبل أن تبرد فواكه البحر اللّذيذة!
فضربت الماء بيديّ ورجليّ قبل أن ترسو سفينتي على شاطئ السلام.
في اللّيل حكت لي بثينة عن المقبرة البحريّة. عن غارات الرّمال على القبور. وعن الآهات الحرّى الطّالعة من قلب الأرض. عن همس الموج وعن هسهسات نسائم البحر حول الشّواهد المنسيّة.
قالت إنها أمضت النّهار بطوله وهي تحاول استحضار أرواح من سكنوا القلب ثم بادوا ولكنّها عجزت عن اقتحام حدود العدم.
فقلت أواسيها:
-سأبحث لك عن خاتم جميل في صندوق الجدّة فلا تبأسي يا صويحبة!
قالت تحدّث نفسها:
-الكاسْ اللّي اتْكسّرْ
محال تصليحهْ.
فأغمضت عينيّ وتركتها لأوراقها وهمهماتها الخافتة.
***
قبل نهاية الأسبوع الأوّل من وصولنا للحمّامات، طلبت منّي ونحن نشرب قهوة الصّباح أن نعود إلى تونس.
فاجأني طلبها.
كيف نعود إلى جحيم تونس في هذا الشّهر اللاّهب. ونترك هذه الجنّة التي وهبها الله لمن يحبّ من البشر؟
قالت:
-لم أعد أطيق نزيف الدّم كلّ شهر.
أظنّ أنّ هناك خللاما.
ماذا لو زرنا طبيب نساء؟
لماذا ترفض زيارة الطبيب يا عزيزي كلّما ذكرت لك ذلك؟
كانت تتكلّم بعصبيّة
وكنت أبتسم.
بعد أن هدأت قليلا قلت لها:
-ماذا تساوي هذه السّنوات التي مرّت على زواجنا في عمر الزّمن؟
وأضفت وأنا أفتعل ابتسامة:
-أمامنا وقت طويل للإنجاب ولتربية الأبناء يا حبيبتي فلا تشغلي بالك بهذا الأمر ودعيه للأيام القادمة. سأعطيك سبعة أولاد وسبع بنات يا بثينة.
فسكتتْ !
وواصلتُ التّمتع بمباهج الحمّامات: البحر والخمر والوجه الحسن.
وواصلتْ زيارة الأطلال المعرّشة داخل القلب.
دعوت السائق بالهاتف. طلبت منه أن يستقدم لها سيّارتها الصّغيرة من تونس فوصل ولم أكد أنتهي الحديث معه.
قلت لها:
-هذه سيّارتك فاسرحي وامرحي وانفضي عن الروح غبار السّنين. فوضعت المفاتيح في جيبها ولم تفه بكلمة.
رأيت سيّارتها بعد ذلك وأنا أطوف بحاناتي وبمواطن البهجة، مركونة أمام ضريح الولي « سيدي بوحديد »
في تلك الأيام، نسيت أوراقها وأدمنت على زيارة أضرحة أولياء الحمّامات: سيدي عتيق وسيدي عبد الله وسيدي الدّمياطي وسيدي يوسف وسيدي الفنّيش.
وعشقت سيدي بوحديد القادم من السّاقية الحمراء حاملا في قلبه كلام الرّب وعلى لسانه جهاد الكفرة.
كلّ ليلة وأنا بين النّوم واليقظة كانت تحكي لي حكاية هذا الرّجل الذي مات فرمى طلبته بجثّته إلى البحر الهائج فتلقّفته عرائسه لتعْتني به ليلة كاملة. كفّنته عرائس البحر وضمّخن كفنه بالطّيب ووضعنه في تابوت من خشب التّاك حمله الخدم على ظهورهم. ثم حفروا قبره. وبنوا فوقه قبّة. وقبل أن يواروه التّراب طلب منه ملك البحر أن يتمنّى. فتمنّى أن يصير طائرا يخفق بجناحيه فوق الأزرق راميا سفن القراصنة النّصارى بحجارة من سجّيل.
وأفاق أهل الحمّامات صباحا فوجدوا بين أقدام السّورقبّة سيدي بو حديد وطائر البحر يحوم فوقها.
قلت لها مرّة قبل أن يغيّبني النّوم:
-لماذا لا تعودين إلى الحياة الحقيقيّة يا حبيبتي وتتركي الموت لربّ الأموات؟
فردّت ساخرة وهي تضع يدها على قلبها:
-كيف يحيا من يعشّش في فؤاده دود الجثث المتفسّخة من عهد هابيل حتّى الآن؟
فامتلأ البيت بروائح الجيف النّتنة.
***
عدنا إلى تونس، وفي قلبي حنين إلى سماوات الحمّامات الواطئة في ليالي الصّيف. سماوات قريبة من يدك وأنت تتمدّد على رمال الشّاطئ حتّى أنّه بإمكانك اقتطاف النّجوم ولثم القمر.
عدنا إلى تونس فعادت بثينة تلحّ على زيارة الطّبيب.
وماطلتُ.
فزادت في الحاحها إلى أن اتّفقت معها على زيارة مصحّة طبيب صديق.
ضرب لنا الطبيب موعدا قبل احتفالنا بعيد الحبّ.
قال:
-حتّى تطمئنّ « المدام » فتحيي لنا حفلا يليق بالمناسبة. وجدنا الرّجل أمام الباب في انتظارنا. فرحّب بنا ودعانا إلى مكتبه. شربنا قهوة معطّرة ثمّ اختلى بزوجتي. فحصها وهو يمازحها طالبا منها أن تكرمه بأجمل كأس في خزانتها يوم الاحتفال.
بعد ثلاثة أيام افاقت مذعورة.
أرتني ملاءة السّرير وهي ترتجف.
-هذا الدمّ اللّعين سيقتلني! أرغب أن تكفّ عنّي هذه العادّة الشّهرية!
وظلّت تهذي بكلام لم أسمع جلّه إلى أن همست في أذني:
-ماذا لو زرت صديقك الطبيب يا فائز؟
أيقظتني وشوشتها وأنا أحسّ بقشعريرة تسري في كامل بدني:
-ماذا؟ هل تشكّ هذه المرأة في رجولتي؟
هل تظنّ أن فحولتي ناقصة وأنّ مائي لا يسقي كما يجب زرعها؟
هل اكتشفت تلصّصي عليها من ثقب الباب؟
أحزنها صمتي فعادت تهمس راجية:
-ماذا يا عزيزي؟
هو فحص روتيني قام به زوج إحدى صديقاتي هذه الأيام وجنّبها إجراء عمليّة جراحية قد تكلّفها حياتها.
وارتمت في أحضاني تقبّلني بهوس. فخرج الرّجاء من بين شفتيها متقطّعا:
-إذا أزعجك طلبي، سأسحبه!
وقامت تجرّ وراءها خيبتها وبؤسي.
أنـا بـثـيـنـة
بعد العودة من “الحمّامات ” كبر الهمّ أكثر على القلب .
إزداد فائز بعدا عنّي . رأيته يتسرّب من بين يديّ تسرّب الرّمل من بين الأصابع ويضيع منّي ضياع طفل صغير في ساحة ملأى بالبشر.
صار يهجرني في الفراش.
بعد أن طلبت منه زيارة الطبيب تغيّر حاله.
صار رجلا آخر. فكلّما اقتربت منه ، ابتعد عنّي، وكلّما ازددت عريا ازداد هروبا من لهفتي لأحضانه.
أغريه بأوراقي:
السّبعة الحيّة.
وكوّال الدّيناري.
وموجيرة البسطون
ولص حفيّظ.
فلا يحفل بها.
يقول لي مغلّفا إساءاته بمسحة من الفكاهة:
– أنت غجرية يسيل في عروقك دم الغجر. وأنا سليل بغال بني هلال !
ماذا لو حوّلت أوراقك المعطّرة إلى ودع وقرأت المستقبل على الرّمل. أعدك وقتها بأنّني سأحملك على كتفيّ لأطوف معك مضارب البدو ومنازل الحضر.
وأخاتله فأضع فوق فراشه “موجيرة كب” و”كوّال سباطة”. فيبحث عن ديوان” أبى نواس” وسط كومة الكتب المكدّسة على طاولة ” الصّالون” ليغطّي بمجونه عري الرّجل والمرأة. ويكتب لي على ظهر الموجيرة.
“إذا عصيتم فاستتروا”
كلّ ليلة ، أترقّبه على مائدة الطّعام. أدعوه للعشاء فيقول إنّه أكل في المطعم مع أصدقائه.
ويرتمي على الفراش بثيابه
في بعض المرّات كان ينام قبل أن ينزع الحذاء عن رجليه لتبدأ معزوفة شخيره. ولا تنتهي المعزوفة إلاّ حين يبدأ في الكلام. يتكلم في نومه أكثر ممّا يتكلم صاحيا. يسرد على مسْمع ملاكيْ الميمنة والميسرة ما اقترف خلال يومه. فيسجّل الملكان على دفتريْهما آثامه وآلامه. كثيرا ما سمعت صريف القلمين على الورق. ورأيت مرّة قطرات حبر تندلق على غطاء الفراش الأبيض. وأترقّب انصراف الملكين لأذهب إلى الحمّام. أسمعهما يتبادلان تحيّة المساء. نفس التحيّة دائما.
يقول الأوّل : ” سلام عليك في الدّنيا والآخرة يا يموئيل”
فيردّ عليه الثّاني: “وعليك سلام الله ورحمته وبركاته يا شموئيل.”
ويعمّ الهدوء . فاتسلّل إلى الحمّام على رؤوس الأصابع .
أغتسل وأتعطّر .
وأضع الأصباغ على وجهي.
أزرق على الجفنين.
وأحمر على الشفتين.
ووردي على الوجنتين.
وأكحل العينين
وأمضغ السّواك.
وأضع على جسمي ملابس خفيفة:
قميص نوم من الحرير الدّمشقي يقف عند السّرة.
وسرْوال صغير مزيّن بالدّنتيلا ومخرّم بألف ثقب وثقب.
سروال يغوي الجن.
سروال يغري الملائكة.
وخواتم كثيرة.
خواتم على كلّ الأصابع.
فوق اللحم الطّري.
وعقد من الجواهر اللمّاعة يطوّق الجيد الأملس.
وأدفع الباب فيصفعني شخيره.
عادة يعود إلى الشّخير بعد أن يغادر الملكان السّرير. يشخر كالثّور المذبوح. فأكتوي بنار الهجران وأشعر بالمذلّة. أقترب منه. أدفع الغطاء فوق وجهه وأجلس على حافّة السّرير، مقابل المرآة الكبيرة المعلّقة على الجدار. أتأمّل حالي في المرآة هنيهة ثمّ أشغّل بواسطة آلة التّحكم عن بعد جهاز تلفزيون صغير مركون قبالة السّرير. وأندسّ تحت الفرش الدّافئة. أتحكّم بواسطة الجهاز في صور القنوات التلفزية. فيأتي العالم إلى بيتي على بساط من الأثير:
شبّان يلعبون كرة القدم أمام مريدين يسجدون لهذه الآلهة الجديدة كلّما ولجت الكرة الشبّاك.
كثيرا ما راودتني هذه الفكرة. لماذا تحوّل البشر من عبادة ربّ يسوع ومحمد وموسى وهارون وابراهيم واليسع إلى عبادة كرة القدم؟
وهل تحوّلت هذه اللعبة إلى دين جديد له رسله وحواريوه وجيوشه التي تدكّ حصون العالم فلا تبقي ولا تذر.
أتملّى هذه الأجسام الرّائعة. بحركاتها المتناسقة واندفاعها المحموم نحو المعابد الجديدة.
وأحلم.
أحوّل هؤلاء الشّبان إلى سريري.
وأحلم.
أعرّيهم من القميص والتّبان.
وأحلم.
أسمع صراخهم الهستيري
فوقي.
تحتي.
ورائي.
على يميني.
على شمالي.
وأراهم يجرون خلفي.
أتحوّل إلى كرة من نار تتآكلها الشّهوة.
فأسطو على جسدي.
أبدأ بالنّهدين.
وأنتهي بساقية العسل المصفّى.
هكذا كلّ ليلة.
أحوّل رسل العالم الجديد إلى خدم يقدحون زناد الشّهوة فوق سريري.
ثمّ أخرج إلى الصّالون.
أترقّب خربشة الكلاب على لوح الباب.
وأحلم.
أنـا فـائـز
زرت صديقي الطبيب .
بعد ثلاثة شهور، تذكرت كلام بثينة فقلت: لماذا لا أقطع شكّها باليقين . وألعب معها لعبة القطّ والفأر .
فاجأته زيارتي فطلب من الممرّضة أن تعتذر لبقيّة الزّبائن. وذهبنا إلى مقهى جميل.
قال:
– إكراما لك ، سنشرب قهوة في” ياسمين الحمامات”.
قطعنا الطريق من وسط المدينة إلى مرّكب سياحي ضخم زرته خلال الصّيف مع أصدقاء الطّفولة.
اخترنا طاولة تطلّ على البحر. وطلبنا كأسي شاي بالبندق.
ولم أترك الوقت يمرّ فحدّثته عن هواجسي.
أخبرته بدون مواربة أنّ زوجتي طلبت مني أن أجري فحصا عن مائي .
لم يفهم في بادئ الأمر مقصدي. فلما فسّرت له طلبها ظلّ يضحك مدّة طويلة. يهدأ لحظات ثمّ تنتابه نوبات ضحك هستيري أعتى من الأولى.
جاريته مدّة طويلة ثم كتمت أنفاسي لما أقلق ضحكنا الجالسين على طاولات قريبا منّا.
ولما هدأ، قال وهو يمسح عينيه :
– هل تظنّ تلك الفراشة أنّ غولا مثلك في حاجة إلى فحص مائه؟
ثمّ أضاف بعد هنيهة:
– إنّك والله لقادر على إرواء ” حرملك” السّلطان ” عبد الحميد ” برّد الله ثراه.
وعاد إلى الضّحك من جديد.
وخضنا في أمور كثيرة أخرى.حدّثني عن “المدينة “المدسوسة وراء أسوارها في قلب”ياسمين الحمامات” كمن يحدث عن فاتنة سرقت منه القلب و العقل. وقال إنه تتبّع إنجاز هذه التّحفة مند البداية ويتمنّى على الله أن يحضر يوم افتتاحها.
ثم سكت لحظات ليضيف:
– هي صورة مصغّرة من الجنّة كما تخيّلها مهندسو هذا الزّمان يا صاحبي بقصورها الأندلسيّة وأسواقها العربيّة ومركّباتها التّجارية ومقاهيها ومطاعمها ومراقصها ومتاحفها وحمّاماتها وبمدينة الألعاب “كرطاغولاند”. هذه المدينة هي جنّة عصريّة بنتها عقول أبناء هذا البلد . وقام . عرفت أنّ الزّمن سرقنا حين رأيت الأنوار تتلأ َلأُ داخل فوانيس الشّوارع . فتبعت خطاه وأنا أردّد:
– لقد فتَنَتْني مدينتك” قبل أن أراها
فقال:
– في هذه الصّائفة سترى الحور الحسان واقفات أمام “باب الجبلي” وفي” السّقيفة الكحلة” يدفعن بمفاتيح الذّهب وبرُقَع تمليك القصور إلى ” أصحاب اليمين” من وراء ظهر “مالك” النّائم في مقصورة من مقصورات السّقيفة.
وابتسم كالخائف المعتذر . فربتُّ على كتفه وسألته أن يتوسّط لي عند واحدة من هذه الحسان علّني أمتلك مفتاحا من مفاتيحها فقال:
– هذا غير ممكن يا صاحبي !فأنت من “أصحاب الشِّمال” !
وعدنا إلى الضّحك والصّخب إلى أن وصلنا أمام مصحّته. طلب منّي أنّ أترقّبه قليلا. وحين عاد، دسّ في يدي قارورة صغيرة من البلاستيك وهو يهمس:
– حتى يطمئنّ قلب فاتنتك ، جئني غدا صباحا بقليل من مائك.
ثمّ أضاف وهو يبتسم ويغمز بعيْنه:
-Ne touche pas à ta chatte cette nuit !
Faites l’amour demain matin !
Je veux que cette eau soit fraîche et que tes spermatozoïdes bondissent de part et d’autre des parois de cette bouteille.
Allez , bonne chance cher monstre !
بعد يومين وصلني تقرير من صديقي الطبيب يصف حيواناتي المنويّة بالخير والبركة. ويدعو الله أن يديم عليّ هذه النّعمة التي لو وزّعتها شرقا وغربا لملأت ما بين السّماء والأرض بشرا أسوياء.
في المساء عدت باكرا على غير عادتي. وجدت “بثينة” في قاعة الاستقبال مستغرقة في قراءة ديوان من الشّعر الحديث.
سلّمت عليها وقبّلتها” تسعا وتسعين قبلة ” واختطفت الكتاب من بين يديها لأقرأ لها أبياتا من الشعر .
انبهرت بما وقع. فظلّت جالسة في مقعدها. رأيت وجهها يشحب ورأيت ابتسامة صفراء ترتسم على شفتيها وسمعتها تقول:
– لقد وصل قطارك بعد أن أقفر الرّصيف. وذبلت أزهار الشّرفات. وبشمت الكلاب يا عزيزي.
فعدت إلى قاموس الكلمات اللّطيفة أختار منه ما يسْعدها. ولكنّها ظلّت باردة.
رأيت على مقربة منها طاولة قصيرة. ورأيت على الطّاولة الكتاب الذي اختطفته منها وأنا أدخل على وحدتها.
مددت يدي نحو الكتاب فشدّني منظر علبة مرصّعة بالصّدف.
فتحت العلبة فوجدت داخلها أوراق لعبة الكارطة.
قلت وأنا أمدّ يدي نحو الأوراق المبعثرة:
موجيرة على قفاها.
وري فوقها.
وكوّال يراقب المشهد بلا مبالاة ظاهرة.
– هل ترغبين في أن أقرأ لك بختك؟
فامتدّ الصّمت بيننا إلى أن ضجرت فعدت أدفع بسؤالي إلى الذّاكرة .
ردّت ساهمة:
– لا ليس الآن !بختي أعرف الطّريق إليه !
ثمّ مدّت لي ديوان الشّعر الّذي شغلتني عنه علبة الصّدف.
ورجتني:
– اقرأ ! اقرأ باسم الشّعر كما عهدتك في الأيّام الخالية !
هي تعرف موقفي من شعر الحداثة وما بعد الحداثة من “أدونيس” إلى ” أنسي الحاج” ومن ” بول شاؤول” إلى ” محمد علي شمس الدّين”. وتعرف مُنَاكَداتي حين أقرأ من أشعار ” منصف المزغنّي” الحديثة جدّا.
بسملت وحوْ قَلتْ.
وتعوّذت بالله من شياطين الشعراء.
ونظرت من فوق أنفي .
كانت تبتسم ابتسامتها السّعيدة الّتي أعرفها.
فقرأت لها الشّعر وأنا أمضغ الأسطر وكأنني ألوك قطعة ” شوينْقوم “. فهيجتها قراءاتي.
وقفت أمامي لتذكّرني بأيام الجامعة حين كانت تغرّربي وتدفعني دفعا لحضور الأمسيات الشعرية في دور الثقافة.
Tu te souviens de la cave d’Ibn Rachiq ?
فقلت لها وأنا أمازحها وأغازلها وأطريها وأوشوش لها بكلام تهتزّ له طربا:
– ألا لعنة الله على تلك الأيام !
أنا ابن هذه الساعة يا سيّدتي!
ورميت الكتاب أرضا. واحتضنتها من خلف .
قبّلت جيدها. ومسحت على شعرها وأنا أقودها إلى غرفة النّوم.
لمْ تعاند حين دعوتها للفراش.
رأيتها تستجيب استجابة الرّاغب في الماء الزّلال يوم قيظ.
مسحتْ على صدري بأنامل أرقّ من الحرير. وبحثت عن لساني وهي مغمضة العينين ، جعلتني أترشّف رضابها وأستزيد. وهي تعطي ولا تبخل. ثمّ بدأت تعضّني عضّا لطيفا. وتهرّ هرير الجراء. وأنا أسايرها في عضّها وهريرها إلى أن اشتعلت محرّكات صاروخ اللّذة فأقلعنا على جناح الشّوق العارم.
دام الطيران في ملكوت الهوى مدة حسبناها لعذوبتها دهرا. ثمّ حططنا الرّحال والنّفس تكاد تنفطر. ووجيب القلب يهزّ أرواحنا هزّا.
تركتها تستريح مدة لتسترجع أنفاسها. ثمّ قدّمت لها كأسا من عصير التّفاح وطلبت منها أن تعدّ نفسها لسهرة في مطعم ” الهناء”.
ووضعت بين يديها دعوة تشريفية لشخصين .
وقلت لها:
– وصلتني الدّعوة شخصيّا من صاحب المطعم وهو يلحّ على حضورك حفل افتتاح مطعمه الجديد مع عليّة القوم.
أعجبتها الفكرة فطلبت مهلة لتعدّ نفسها.
جاءت بعد نصف ساعة.
حين دفعت الباب ودخلت إلى الصّالون انبهرت بجمالها.
لم أكد أعرفها. فقد عادت إلى صورتها الأولى. لبست تنّورة الفجر. ولفّت حول جيدها عقدا من الخرز الملوّن. وضجّت أصابعها بالخواتم.
قالت وهي تضحك:
– أعرف أنّ صاحبك يحبّ أوراقي . وأعرف غرامه بعلم الغيب وبملكوت السّماء . زارني مرّة في غيابك. ظلّ يحكي وأنا أنظر في أوراقي أكثر من ساعة . قال كلاما كثيرا. ولما هممت بكشف المستور صار يرتعش كالقصبة في مهبّ الرّيح.
قلت:” مالك؟ هل أصابك مكروه؟ “
ردّ:” رجاء لا تقولي شيئا أنا أبحث عمّن يسمعني لا عمّن يتكلّم في حضوري.
ثمّ أضاف بعد وقت قصير:
– لقد قرأت كلّ شيء في عينيك!
وانصرف .
وظلّ يعرض عليّ حكاياته ويرفض الاستماع إلى ردّي إلى يوم النّاس هذا.
قلت:
Il aime beaucoup les dames carreaux , mais il a une peur mystérieuse de sa femme .
فزادت:
Sa femme aussi , aime les valets cœurs !
لقد رأيتها مع شبّان كثر ولست أدري إن كان على علم بذلك؟
فلم أعلّق على ردّها وأنا العليم بزوجة هذا الصديق.
وابتسمتْ، وتحرّكت. فشقشقت عقودها على صدرها.
وزمجر محرّك السيّارة. فأنّت ” أمينة فاخت ” وارتفع صوتها عذبا كالماء الفرات.
ظللنا صامتين إلى أن دخلنا السّهرة من بابها الواسع فاحتفل ببثينة أحبّتها وأجلسوها في الصّدر . وتداولوا على أوراقها حتى تباشير الفجر.
***
أعطيتها تقرير الطبيب وأنا أستعدّ للنّوم.
قرأته باهتمام شديد ثمّ وضعته تحت وسادتها.
ونامت .
في الصّباح ، قامت حزينة .
رأيتها تغلق باب ” التواليت” بنرفزة.
ورأيت على شراشف الفراش قطرات دم طازجة.
أنا بثينـــة
عذّبني تقرير الطّبيب وهزّ كياني هزّا عنيفا.
قرأته وأعدت القراءة إلى أن لعنت اليوم الذي تعلّمت فيه الحرف الأوّل من الأبجدية.
ولعنت كلّ الأبجديات المقدّسة والمنبوذة.
وعدت إلى قراءة التّقرير من جديد.
إذا كان زوجي فحلا. فأنا من تحمل بذور المشكلة.
لم تعد القضية إذن مرتبطة بالمحراث.
صار الأمر يهمّ التربة أيضا.
هل أنا أرض بوار؟
هل أنا سبخة مالحة ؟
هل أنا صحراء بلقع؟
وأضع يدي فوق بطني أعصرها عصرا. وأهمّ بالفتك بأحشائي ثمّ أعود إلى رشدي. فأقرّر زيارة طبيب نساء آخر. ولكن خوفا رهيبا يحطّ بكلكله على صدري يفتك بعقلي ويدمّر أفكاري يقول لي: ” ماذا يا بثينة يكون ردّ فعلك لو أقرّ الطبيب الآخر بأنك عاقر؟ ماذا تراك فاعلة بنفسك وأنت المغرمة بالأمومة ، المفتونة بكلّ أطفال العالم؟
وأتجاوز محني . فأضرب موعدا مع الطبيب. وأتهيأ للزّيارة وكأنّني ذاهبة إلى عرس .
يهزّ الرّجل جمالي. ويفتتن بأنوثتي المنفجرة. فيعرض عليّ أدواته الحديثة المستوردة من ” الخارج”. ويعدُ بأن تكون نتائج الفحوص بين يديّ في أقرب وقت.
وأتذكّر زيارتي الأولى للكنيسة صحبة أمّي. فيمتلئ رأسي برائحة عطور الدّير وبأدعية الرّهبان وبصور الملائكة المعلّقة على الجدران.
ملائكة صغيرة.
ملائكة يتيمه.
لها عيون حالمة.
لها عيون ناعسة.
وأجنحة صفراء وخضراء.
وأجنحة بنفسجية.
ملائكة حزينة.
تحاول الهروب من حيطان الدّير
لكن أجنحتها الصّغيرة
تخونها
فتقع في الأسر.
أركن السيّارة قريبا من البناية الصّغيرة. وأدقّ الباب.باب الكنيس البروتستنتي الواقف على رجليه، في الضّفّة الغربيّة لشارع محمد الخامس بتونس العاصمة. يفتح لي الباب شيخ لطيف في بذلة افرنجية عادية. التفت إلى الصّليب الصّغير المعلّق على صدره وإلى ابتسامته العريضة فأمدّ له يدي. يفسح لي الطّريق مسلّما مرحّبا فألج داخل البناية. أمشي بخطى مرتبكة نحو المذبح. أقف أمام الرّب المصلوب على خطايا الآخرين وأتمتم.
– أنا ابنة الرّومية يا سيّدي . هل عرفتني؟
والتفت فأرى الكاهن ورائي .
يضع الرّجل يده على كتفي بلطف ويقول:
– لا تيأسي من رحمة الرّب يا ابنتي.
امْلَئِي قلبك بحبّ الآخرين. وتوكّلي على أبينا الذي في السّماوات فلن تندمي.
وتركني واقفة وذهب في حال سبيله.
أمّي ظلت تقوم بصلواتها طوال حياتها. لم يعترض أبى على تديّنها. ولم تعرض هي دينها علينا. فعشنا في بحبوحة من السّلام والمحبّة بين ربّ تشرب أمي من دمه خمرا معتقا وربّ نأكل من لحمه في الأعياد.
والتفتّ أبحث عن الرّاهب فالتقت عيناي بتلك الطّيور الصّغيرة المعلّقة على الجدران.
اقتربت منها لأتأملها عن قرب.
فاختفت وراء العتمة.
***
عرضت بدوري على زوجي تقرير الطّبيب .
تقرير ممهور بإمضاءات جهابذة طبّ النساء في ” فرنسا”
رحمي سليم.
ولا عائق في جسمي يمنعني من أنّ أحمل في أحشائي بذور المحبّة.
عرضت عليه التّقرير فاندلعت في البيت ” أم المعارك”
حرك فائز مدافعه. و أطلق قنابله في كل الأتجاهات يحرث الأرض حرثا. و يملأ الصّحراء بالسّراب.
و يقول مجلجلا:
– محراثي مسنون يا بثينة. و قلبي من حجر الصوان.
فيأتيه ردي قاطعا:
– وأرضي خصبة لكن أمطارك حمض و كبريت.
و أبكي.
وأتحسر عليه، يتوسّد بطني و يهمس متوسّلا:
– اجعلي جبّ سيدنا يوسف مباركا يا بثينة !
فتزغرد ضحكتي.
و يمتلئ البيْت بالدفء.
و تطير عصافير الجنّة في السّماء.
و يزيد:
– أريد ن أسمع زغرودة الفرحة من القابلة لأدفع البشارة لكلّ ممرضات العالم.
فأهيم في ملكوت الرّبّ.
أرى أمامي على سرير من الآبنوس تزيّنه شراشف من الحرير، طفلا يبتسم في وجه الله.
طفل يكركر و يهزج فتتساقط على السرير ورود و أزاهير:
ياسمين و قرنفل و أقاح.
ويعبق البيت بالعطور.
و يضجّ قلبي بالفرح.
أنا فائـــــز
تركت لي السّرير و خرجت من دفء الفراش.
تركت الباب وراءها نصف مفتوح. رأيت ظلّها يقترب و يبتعد من رفوف المكتبة. ثم سمعت خبطا على أواني المطبخ و شممت رائحة القهوة. رائحة نفاذة جعلتني أتشهّى فنجانا من هذه القهوة البرازيلية الرائعة. لكنّني كتمت رغبتي و غالبت النّوم بعزيمة و عناد شديدين.
“ما عليش” قلت في نفسي. بضع ساعات و ينتهي كل شيء. فالسّاعة المعلّقة على الجدار تشير إلى الثّالثة صباحا.
و لكن بماذا سأفسّر غيابها لأصحابي؟ هل سأعلن لهم خروجها عن العقل و ذهابها بعيدا في متاهات الجنون؟
أم أدّعي أنها سافرت إلى فرنسا في زيارة لأخوالها الذين وعدوها بتسهيل إدماجها في المعاهد العليا للدّراسة و تحصيل العلم؟
ولكن من يصدّق إدّعاءاتي هذه و هم يعلمون تعلّقها بتونس و شدّة مقتها لرائحة الغرب.
تململت في الفراش. فأزّ السّرير. وامتلأت الغرفة بالضّوء وهي تفتح الباب واسعا.
وضعت فنجانها فوق منضدة صغيرة بجانب الفراش واتّكأت على مرفقها.
وترشّفت من القهوة فسال لعابي. وكدت أؤجل خطّة هذا الصباح إلى موعد آخر. لكنّني غالبت شهوتي مرّة أخرى ونظرت إلى عقارب الوقت.
كانت السّاعة تشير إلى الثّالثة والنّصف صباحا.
أنـا بثـينـة
وضعت قهوتي على المنضدة قريبا من الفراش ثمّ ألقيت نظرة على فائز النائم على جنبه. وقمت. تأمّلت السّاعة المعلّقة على الجدار. وأطفأت جهاز التّلفزيون. وضوء البيت. وعدت إلى مرقدي. تحسّست تحت الوسادة فوجدت السّكين في مكانها. وضعت رأسي على الوسادة واحتضنت فائز من دُبُر.
مرّرت يديّ الإثنتين حول رقبته. وقبلته قريبا من منبت الأذن . أحسست به سخنا وأحسست ببدنه يرتجف فدسست رأسه في صدري وأسدلت عليه الغطاء.
ومددت يدي للقهوة. رشفت رشفة سخنة وأعدت الكأس إلى المنضدة .
صباح هذا اليوم سيسيل الدّم سخنا كهذه القهوة على شراشف السّرير.
لن يتألم فائز حين تفاجئه طعنة السّكين بين الضلوع. فالنّيام لا يعرفون الألم. سيظنّ أنّ كابوسا حطّ بثقله على قلبه. وأنّه سيفيق منه بعد قليل كعادته كلّ ليلة .
لكنّ هيهات هذا الفجر سأزرعه قرب الياسمينة في الحفرة التي أعددْتُها لشجرة البرتقال.
البارحة دعوت الجنائني وطلبت منه أن يجعل حفرة هذه الشّجرة أوسع من الأخريات . كان كلما همّ بالخروج طلبت منه أن يزيد في الحفر إلى أن كلّت يداه. فأشفقت عليه ووضعت في جيبه عشرة دنانير.
بعد ذهابه ، تفقّدت الحفرة فوجدتها تليق بفائز.
قلت أحدّث نفسي:
– سينام فائز نومته الأخيرة متوسّدا عروق الياسمين. ولن أندم على قتله أبدا.
أنا فائـــز
صار معمل ” تاج العروس” درّة المعامل النّاجحة منذ أن وقع تعييني على رأس إدارته. ضربت بيد من حديد على أقفيه النفوس الخبيثة الّتي حاولت التّشكيك في خدمة ” الدّولار” لاقتصاد البلدان النّامية. ووضعت زعماء نقابة العمال في جيبي. فاستتب لي الأمر.
دعوت إلى المبادرة الحرّة وإلى الاتصال بدون واسطة بحرفائنا وراء البحر وإلى تشغيل الجنس اللّطيف. جعلت شعاري:” الصّدق في القول والإخلاص في العمل”. فانهالت على مشاريعي نجاحات الأرض قاطبة.
ألف إمرأة وإمرأة يعملن ليلا نهارا على قدم وساق على ” الماكينات” الجديدة المستوردة من إيطاليا. والشّاحنات الذّاهبة للميناء لا تكفّ عجلاتها عن الدّوران . والآلات لا تهدأ حركتها. وأرجل الصّبايا لذيذة. تتحرّك الأرجل الحافية ذات الرّبلات المكتنزة. فتئزّ المواتير. وتدفع الأيدي الحاذقة بقطـع فساتين العرائس إلى الأمام. دائما إلى الأمام فتتلقّفها أياد أخرى تدفع بها إلى الأمام. دائما إلى الأمام. إلى أن تخرج في أحسن صورة. فتعرض في صناديق أنيقة تُشحن من الميناء إلى عملاء في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهونولولو وجزر واق الواق.
فمشى الحال. وتكدّست الأموال. و راق البال. فقلت ما قاله السلف الصالح:
– النفوس إذا كلّت عميت ! ماذا لو روّحت عن نفسك بعض الشّيء يا فائز؟
وأدخلتْ بثينة في دماغي دودة الشكّ في نجابة مائي فراقت لي فكرة النّفس الأمّارة بالسّوء.
جرّبت فحولتي في حريمي. “حرملك” السّلطان عبد الحميد كما قال لي ذلك الصّديق.
صرت أختار من بنات المعمل أكثرهن فتنة و غواية فآكل من شهدهنّ أول الليل. و أسلّط عليهنّ سيف مسرور قبل طلوع الصّباح.
لا أدري لماذا كنت أختار نسائي من خلال أرجلهن؟
اشترطت على الرّقيبات إلزام العاملات بالتّشمير عن سيقان الجدّ و رفع الملابس حدّ الرّكبة حتّى أتملّى ربلات السّيقان كما أشتهي.
إلى أن اكتشفت السّبب. لم أكن أنظر إلى الوجوه.
فالوجوه لا تعنيني.
الوجوه نذير شؤم.
الوجوه شرّ مستطير.
في الوجوه عيون يغطّي على حورها حزن نازف و على زرقتها هيجان أمواج الشتاء.
الوجوه لا تعنيني.
في قسماتها يختلط النّفاق بالكذب. والفرح عند إقبالي بالاشمئزاز عند إدباري.
الوجوه عوالم قرّرت أن لاأقربها أبدا.
الوجوه أبواب أقسمت أن لاأضع في أقفالها مفاتيحي.
و اخترت بيني وبين نفسي طرقا أقطعها للوصول إلى البشر.
طرق أعرف مسالكها.
بين شعاب الجبال.
و في متاهات الصحراء.
و دوّختني بثينة بأوراقها في الأوّل ثم بكلابها في الأخير.
و دوّختني بثينة بقلبها الّذي ظلّ يضجّ بحبّ جميل.
و دوّختني بثينة بتقارير طبيبها الغامز في رجولتي.
فحوّلت بنات النّاس إلى إماء أشتريهن بعَقْد عمل.
كلّ أسبوع أقوم بجولة في المعمل أتفّقد الآلات و البشر. أهشّ بعصاي على غنمي و أختار عروس السّهرة.
في المرّات الأولى كان الأمر يبدو صعبا. ثم اعتادت العاملات على زياراتي فصرن يتفنّنّ في إغوائي.
وصرت أشتطّ في اختياراتي:
البيضاء الأملود والسّمراء الرّشيقة. والقصيرة السّمينة. والطويلة الشامخة في طولها كلهن وقعن في قبضة الدّولار. فأحكمت فضّ أختام قوارير عطرهن.
أتذوّق عُسيلة الواحدة مرّة ولا أعود إليها أبدا.
أتلهّى بها ليلة كاملة في طقس مجوسي عجيب تمتزج فيه الحكايات بالواقع.
أبعث بعروسي إلى النّزل مساء مع سائق سيّارتي الخّاصة. فتجد هناك من يعتني بها.
الحارزة تدلك البدن في الحمّام حتى يصير شهيّا.
والحلاّقة تكوي الشّعر.
والمزيّنة تضع الأصباغ على الوجه وتختار أثواب السّهرة. تتدرّج ألوان أثواب عروسي مع مرور الوقت من البارد اللّذيذ إلى الفاقع الصّارخ في شهوته.
وتتفنّن المزيّنة في تدليل رغباتي المجنونة.
تحوّل عروسي إلى حوريّة من حوريّات الجنّة. وتضع تحت يدي كؤوس الكريستال وقوارير الخمر المعتقة وأصناف من المكسّرات اللّذيذة : لوز وفستق وبندق وأجبان مستوردة من الخارج وتنادي على الطهاة ليفضحوا طاولة العشاء.
فتتعرّى الطاولة لتكشف عن لحوم وأسماك مشويّة ومقليّة ومتبلّة ببهارات الهند والسّند من كلّ الألوان والأصناف.
أتعشّى وأطلب من شهرزادي حكاية جديدة. حكاية لم يسمعها أحد قبلي حكاية الجسد المستثار في فحولته والجسد المستباح.
تحكي شهرزاد حكايتها الّتي تعلمتها من الجدّات والخالات والعمّات والجارات والصّديقات.
تحكي حكايتها التي تعلّمتها من ابن الجيران.
تحكي حكايتها الّتي تعلّمتها من خطيب الفرصة الضائعة. تحكيها باتقان . تحكيها برعونة. تحكيها بصخب . تحكيها بصمت.
تحكي شهرزاد حكايتها مرة باكية ومرات مسرورة.
وأنا أمضغ تحت أضراسي مراراتي وحزني. وأحلم بالطّفل الذي سيكون.
أحلم بالثّروة الّتي ستذهب في جيوب الورثة.
أحلم بالعمر الهارب والشّباب الّذي لن يعود .
أحلم ببثينة تزور “دار سيباستيان”. تجمع من فوق رمال الشاطئ خلايا الجسد المبذول للبحر.
أحلم بتمثال ” لسيباستيان ” داخل زاوية صغيرة في حديقة القصر وبزلزال يهزّ قبر جميل.
وأظلّ أحلم. وتظلّ شهرزاد ترضي غروري الكاذب بفحولة مفقودة. إلى أن ترنّ في مرقص النّزل دقّات منتصف الليل. فأغادر الحكاية من بابها الواسع.
في الصّباح أطرد عروس البارحة من المعمل
أطلب من المحاسب أن يدفع لها أجرة شهر كامل وأن يضع لها في ظرف خاص يسلمه لها عند الباب، إكراميّة المدير.
أنـا بثـينـة
كنت في قاعة الأساتذة وحرب الخليج الثالثة على وشك النّهاية. كانت الدّبابات الأمريكية تجوس في شوارع بغداد. وكان ” العُلوج ” يكفّنون وجه الرئيس صدّام حسين بخمسين نجمة ويضعون حبلا في عنقه. ويسحلون تمثاله على إسفلت الشوارع.
وأنا المريضة بعش عزيزا أتقلى على الشّوك بين مظاهرات التّأييد لأمريكا وقلوب النّخل المشويّة بنيران الصّواريخ. بين عظام المقابر الجماعية المفروشة أمام عدسات التّلفزيون وخرائب متحف بغداد.
بين متحدّ لطغيان أمريكا وشامت في هذه الأمّة الملعونة داعيا إلى وأْد رجالها أو تحويلهم في أحسن الحالات إلى مواطنين في مدينة النّحاس.*
في فورة غضبي رأيت معلّقة على جدار القاعة.
في الصورة تمثال لنصب الحريّة.
التمثال يمدّ يده رافعا شعلة النّار المقدّسة تهدي الضّالين إلى طريق الخير والسّعادة. انقضضتْ على الصّورة وأنا أصيح.
فكرّت في تمزيقها ثمّ تراجعت.
خيّرت أن أنهال على النّصب بجمع يدي.
ضربته بالجمعين حتى أدميته.
وهشّمت رأس المرأة الشامخ بكرياء .
وأطحت بشعلة النّار المقّدسة على الأرض.
دست الشّعلة برجلي حتّى انطفأت.
ووقفت ألهث وأتصبّب عرقا.
لم يجرأ واحد من الأساتذة على الاقتراب من غضبي.
ظلّوا صامتين إلى أن قطع صمتهم السيّد المدير الذي وصل وأنا أردّد بعنف المهان:
– لو كانت أمريكا رجلا لقتلته1 !
قال وشبح ابتسامة ساخرة يزيّن وجهه:
– لكن ما العمل يا استاذة وأمريكا امرأة مغناج
امرأة سادرة في غيها.
امرأة مستهترة ” بالجليل من الأمور وبالحقير2” بَايْلَهْ على الدّنيا وما فيها.
ونحن أهل الشرق ضعفاء أمام جبروت الأنثى.
ألم تقولي لنا في أكثر من مرّة إن ” الأنثى هي الأصل” 3
وإنّ أمّة العرب العاربة والمستعربة ما فتئت منذ بداية الخليقة تعبد الأنثى من ” عشتروت” و”تانيت” إلى “اللاّت” و”العزى” و”مناة” الثّالثة الأخرى.
وأمريكا هي ربّة هذا العالم المصنوع من “بسكويت” و”أتوم”. أمريكا هي الآن ربّتنا يا سيّدتي.
هي ربّة التّوحيد الجديد لأمم الأرض قاطبة .
ثمّ وهو ينهي حديثة بهزة من رأسه قال إنّ وليّا يريد مقابلتي في أمر يخصّني.
طلب منّي الرّجل أن نبتعد عن القاعة بضعة أمتار وهمّ بالحديث لكنّه تراجع في آخر لحظة.
رآني في حالة نفسيّة صعبة فارتبك وظلّ صامتا. ثم فجأة، أدخل يده في جيب حقيبة صغيرة معلّقة على كتفه ومدّ لي شريط ” فيديو” وهو يقول:
– توجد مع الشريط رسالة فيها عنواني ورقم هاتفي. اتصلي بي إذا رغبْت في ذلك . ستجدينني طوع بنانك. وانصرف دون أن يلتفت وراءه.
ودقّ الجرس فاعتذرت للمدير عن مواصلة العمل وعدت إلى داري مهدودة القوى .
أهملت الشّريط وإعداد دروس التّلاميذ ونظافتي الشّخصية وانهمكت في نوم مرضي طيلة ستّة أيام متتالية تقوّتّ خلالها بالحليب والبسكويت وبأخبار الزّلزال المدمّر الّذي هزّ كياني وأنا أرى دبابات المارينز فوق جسور دجلة. وأسمع عن جنود الحرس الجمهوري العتيد الذين خلّفوا بزّاتهم العسكريّة في الشّوارع وعادوا إلى ديارهم غانمين. كلّ هذا بعد أن وعدنا وزير الإعلام العراقي بدحر العلوج وتقتيلهم شرّ قتلة !
في اليوم السّابع هزمني الملل فقمت أتمشّى في البيت . ذهبت إلى المطبخ لإعداد قهوة وعدت إلى “الصّالون” فقابلتْني جقيبة المدرسة. وتذكّرت الشّريط. أخرجته من الحقيبة وأودعته داخل جهاز البثّ. وشغّلت التّلفزيون. اندلعت الصّور أمام ناظري.
صور اشعلت في جسدي نارا تلظّى
جعلتني هشيما كعطف مأكول.
حوّلتني إلى حطام امرأة .
فشربت قارورة من ماء ” الجافال” .
وعدت إلى النّوم.
وأرغمْت قلبي على الكفّ عن الحياة في أكثر من مرّة . لكن الأطبّاء كانوا يعيدونني إلى الدّار الفانية كلّما أمعنت في الهرب منها. وعاد ” ابن نعيمة” من رحلة قادته إلى بلدان شرق آسيا فأعلمته الخادمة بإقامتي في مصحّة ” الشفاء”. فجاء يسأل عن حالي ويتودّد إلى جثّتي المشدودة إلى الدّنيا بأنابيب من البلاستيك وخيوط كهرباء وأوراق كارطة مصفوفة فوق ” الكوميدينو” بطريقة بريئة جدّا في النّهار . أوراق كارطة تلاعبني بها الغجريّة صديقة أبي إذا جنّ الليل وقلت الحركة في عنابر المصحّ وبيوته.
يفاجئني دائما حضور تلك المرأة. استحضرها في ذهني. فتدقّ الباب وتدخل يسبقها رنين خرز عقودها وخشخشات أساورها. تسلّم وتجلس على جانب السّرير. تعرض عليّ ألعابها الجديدة وقراءاتها المبتكرة لمدلولات أوراق الكارطة. وتخرج قبل أن أطرح عليها أسئلتي الكثيرة. لم تترك لي يوما واحدا فرصة لطرح السّؤال.
أحسست بوجود ” ابن نعيمة ” داخل الغرفة المعقّمة. شممت رائحته، رائحة عفن ممزوج بعطر “كريستيان ديور”. فعادت روحي تخبط من جديد على بلّور شفّاف يؤدّي مباشرة إلى أبواب جسدي.
فتحت للرّوح الأبواب على مصاريعها. وقمت أنزع عنّي أنابيب البلاستيك وخيوط الكهرباء.
وتأبّطت ذراع فائز. وعدت إلى الدّار أمام أنظار الأطباء الفزعين الذين تهافتوا على غرفتي من كلّ أقسام المصحّ.
وقفوا مشدوهين ينظرون إلى هذه المريضة العائدة إلى الحياة. هذه المريضة العائدة من وراء أبواب القبر الموصدة بألف قفل.
مشوا ورائي خطوات فرفعت في وجوههم تحيّة وعدت إلى ذراع فائز أتأبّطها وأدقّ الجليز بكعبي العالي.
اشترطت عليه أن يضع بين يديّ ألف نوع ونوع من أوراق اللّعب حتى لا أعود إلى متاهات العدم .
فوافق.
وتحولت إلى ” دقازة” سوري.
أنا فائـــز
بعد أن عادت بثينة من رحلة الموت وشفيت تماما من مرضها. طلبت منها أن تستقيل من التّدريس في المعاهد الثّانوية. وعندما احتجّت وضعت بين يديها كنّش شيكات ممضى على بياض.
وعندما عادت إلى الاحتجاج قلت لها:
– غدا سنزور “ياسمين الحمامات” وبعد الزّيارة سيكون لنا كلام. نبتت على شفتيها ابتسامة. ولكنها انطفأت بسرعة حين التقت نظراتنا.
صبرت وأنا أترقّب ردّها الذي طال . صبرت إلىأن قالت .
– موافقة !غدا نزور الحمّامات الجديدة ! أليس كذلك !
فجاء ردّي سريعا:
– نعم ! لا شأن لنا بكوابيس الماضي! سنزور غدا ” مدينة جديدة طلعت من قلب الجنّة!
– وعدتني الغجريّة : سيّدة ألعاب الحظّ ، منذ أيام بحياة جديدة في مدينة جديدة.
– وعادت إلى الصّمت.
تركتها لصمتها المقدّس وذهبت أنام. لحقت بي بعد قليل. نزعت ملابسها. وارتدت منامة خفيفة. وتمدّدت بجانبي. أعطيتها وجهي فقبّلتني على الوجنتين ثمّ أطفأت الفانوس الصّغير المعلّق في متناول يدها. ودهمنا صمت ثقيل يقطعه بين حين وآخر صوت نباح الكلاب وعويلها. فنمت ورأسي على كتفها.
أفقت في الصّباح على رائحة القهوة النّفاذة. قدّمت لي بثينة فنجانا يعبق بالشّذى وأعلمتْني أنّ السّائق أخبرها أنّ السيّارة جاهزة. ترشّفت فنجان القهوة ثمّ قفزت من السّرير وذهبت إلى الحمّام. اغتسلت وتعطّرت وتأنّقت في ملابسي وسبقت بثينة إلى السيّارة. بعد دقائق لحقت بي يسبقها عطرها الشّهي. فدارت العجلات. وانطلقت السيّارة تنهب الأرض نهبا. بعد أقلّ من ساعة وصلنا إلى مدينة “الحمّامات”. حطّ النّدى على كتفيّ. وامتلأ الجوّ بعطر الياسمين. فلم أقف إلاّ أمام أسوار ” المدينة “. أطفأت المحرّك. ونزلت. فتبعتني بثينة. كنّا أمام باب شبيه ببَاب الدّيوان الحارس الأمين لأسوار صفاقس العتيقة.
اقترب مّني شابّ أنيق. سألني إنّ كنت فائز الرّابحي . أجبت أن نعم. فأعلمني أنّه الدّليل المكلّف بمرافقتي في زيارة ” المدينة”.
ثمّ أضاف وهو يسلّم على بثينة ويقدّم لها باقة ياسمين:
– أنتما في ضيافتنا هذا اليوم .
أعجبني تودّد هذا الرّجل فبادلناه الودّ. وسرنا وراءه.
قال: سنزور المركّب السّكني أوّلا ثمّ نعرج بعد ذلك على المركّب التّجاري وأماكن التّرفيه واللّهو والاستجمام والمطاعم. ولن يفوتنا متحف الأديان ورواق التّاريخ والحمّام العربي دار الزّربيّة وسننهي الزيارة بمدينة الألعاب “كرطاغولاند”.
قالت بثينة وقد لمعت عيناها:
– يا الله ! كل هذا في مدينة واحدة على مرمى قرنفلة من تونس.
فردّ عليها الدّليل وابتسامة واسعة تنير وجهه:
– نعم يا سيّدتي ! والخافي أجمل !
قادنا الشّاب الودود إلى حيّ يأسر بجماله . تناثرت مساكنه فوق زربيّة من الخضرة اليانعة. منازل على الطّراز الأندلسي ودور من النّموذج التّقليدي للدّار العربية المتناثرة فوق أديم تونسنا. جمّعت كلّ هذه الأشكال في مكان واحد وزيّنت بالحدائق الغنّاء والمسابح البهيجة. وقفت بثينة وسط حي”البستان” مذهولة تتأمّل هذه المباهج التي تنعش القلب الكليم بينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع الدّليل حول إمكانية شراء دار في هذا الحي فأعلمني إنّ ذلك مًمْكنًا ثمّ عاد ليؤكد بأنّ ملكية الشّقق قائمة على تقاسم الوقت بين المالكين لتعمّ الفائدة الجميع. ثمّ أشار لحَيّ آخر قائلا: ” أما هذا فحيّ الرّياض. وصمت أمام ذهولنا ودهشتنا.
ناديت بثينة فأقبلت تحجل. سألتها أيّهما تختار : حيّ “البستان” أم حيّ “الرّياض” فأجابت: “حي البستان فتّان وحي الرّياض روضة من رياض الجنّة. وأنا في حيرة من أمري. اترك لي فرصة أخرى لمزيد التفكير وإعمال الرّأي.
كان الوقت قد سرقنا قبل أن نصل الأسواق. فقادنا الدّليل إلى مقهى صغير. في ركن قصيّ من حديقة وارفة الظلال . جلسنا على الكراسي الخشبيّة الأنيقة المطرّزة الحواشي بخيوط فضّية. وانهمكنا في تناول القهوة التّركية والحلويات : بقلاوة ومقروض وأصابع علجيّة وآذان القاضي. والدّليل يسمّي الحلويات بأسمائها العتيقة ويعرضها على بثينة. وبثينة المفتونة بكلّ شي تأكل منها وتضحك وتنادي عن النّادل ليزيدها من خيرات ” المدينة “.
ثمّ قام الدّليل فتبعناه والنّشوة تغمرنا فقادنا إلى الأسواق.
دخلنا من خلال باب قديم يذكّر بباب البحر حتّى أنّني ظننته هو بذاته نقل حجرا حجرا من أمام أسواق تونس القديمة ووضع في هذا المكان. فبقيت مبهورا بهذا الشّبه إلى أن وخزتني بثينة من جنبي وهي تشير إلى أربعة فنادق.
قال الدّليل: هذه أسواق القلاّلين والجلد والنّحاس والبلاّر. في كلّ واحد منها تحف تغنيك عن سابقاتها. هل ترغبان في زيارتها.
فقالت بثينة: ” أتركها إلى فرصة أخرى. سأدمن زيارة هذه الأماكن لا محالة!
ردّ الدّليل:” كما يشاء السيّد فائز وحرمــه”
ومشى . فمشينا وراءه داخل أجواء العهود القديمة عدنا إلى زمن الحفصيين والمراديين. ورأيت وجوها أندلسيّة بيضاء مشربة بحمرة تعرض أنواعا من الأقمشة الحريريّة الراقية على واجهات دكاكينها.
وارتفعت طرقات المطارق على النّحاس. ونداءات الباعة على البضائع المستوردة من البندقيّة وبلاد فارس وأرض السّودان . مشينا داخل غابة من الألوان الزّاهية والرّوائح المُسكِرة تحت أضواء شاحبة تذكّر بالعهود الغابرة إلى أن خرجنا من الأسواق من خلال منارة رائعة التّصميم لنقترب قليلا من المطابخ التي تعجّ بها “المدينة”. مطابخ تسيل اللّعاب من فمّ الشّّبعان وتجعل البطون المتخمة تقرقر. منها الإيطالي والفرنسي واليوناني والمكسيكي والأغرب منها جميعا مطبخ الهند الصّينية.
دعانا الدّليل أن نختار فلم نجد أجمل من الكسكسي بلحم الخروف الطّري.
قالت بثينة سأكتشف المطابخ الأخرى خلال زيارات قادمة. أما الآن فأريد أن أطعمك من يدي قطعا من لحم العلّوش مع الكُسْ كُسْ يا عزيزي لعلّ وعسى !وغمزت بعيْنها. فانهمكنا في الأكل وكأننا جوعى منذ ثلاثة أيام. والدّليل يضحك ويتحفنا بالنّكات الّتي سمعها من ضيوف الشّرق العربي كلّما قدّم لهم صحن الكسكس.
قال يوشوشني في أذني إنهم يعشقون هذه الأكلة الّتي لا يعرفها أهل الشّرق. ويطلبونها مهمهمين، ضاجّين بالضحك فوق لحاهم الطّويلة .
– أيّ والله يا طويل العمر! هذا الطعام أحلى من كُسَّينْ إثْنَيْن!
– فضحكت ملء شدقي وفهمت معنى تقطيع بثينة للكلمة قبل قليل. فردَدْت عليها غمزتها. وقمت واقفا ابغي المزيد من المتع. وقفنا داخل متحف الأديان فاندهشت لقدرة الإنسان على تحويل الخيال إلى واقع. فهذا جامع عقبة بن نافع وهذه غريبة جربة معبد اليهود في تونس. وهذه كنسية سان لوي وكنيسة داموس الكرّيطة بقرطاج. ومعالم دينية إسلامية كثيرة أخرى في تجسيم رائع يخلب اللّب ويقطع الأنفاس.
وزاد الدّليل في إدهاشنا حين حدّثنا عن رواق التّاريخ. فقد قطع صمت الّلحظة فجأة زعيق فيلة حنبعل وحمحمة خيول فرسان العرب الخارجين من جزيرتهم قاصدين وجه الله الكريم. وصراخ القراصنة وسط أمواج البحر العاتية. وتكبيرات المجاهدين. وتسبيح الكهنة في المعابد الفينيقية. ودعوات الرّهبان في أديرة الرّومان.
قال : سنعرض هنا مسرحيات تحكي تاريخ هذه البلاد من عهد قرطاج حتى الآن. سنضع التّاريخ أمام الزّوار وسنمكّنهم من اكتشاف ماضيهم بتقنيات الحاضر صوتا وصورة.
التفتّ أبحث عن بثينة فوجدتها واقفة أمام لوحة تمثل الإله بعل حمّون صحبة الإلهة تانيت. كانا منهمكين في عشق إلهي مجنون . ربّ يعشق ربّة . يمدّ لها يده فتضعها على قلبها . وتمدّ له يدها فيضع عليها قبلته الإلهية.
كانت بثينة تزداد بعدا عنّي كلّما اقتربنا من التّاريخ القديم. أرى نساء أخريات يخرجن من تحت ثيابها العصريّة مرّة في زيّ نساء قرطاج ومرّات في أزياء غربية رومانيّة وإسلاميّة. أراها مرّة عارية تماما ومرّات تضع قطعا من جلود الغزلان والنّمور على جسمها الرّشيق . أراها مرّة في ثياب فلاّحة إغريقيّة ومرّات في زيّ أميرات الشّرق القديم.
فأكتم سرّي ولا أبوح بالرؤية لأنّ العبارة تضيق عن وصف ما أرى.
ناديت. فعادت إلى الحاضر عودة المتعب من رحلة شاقّة. ربّت على كتفها وطلبت منها العودة إلى السيّارة.
قال الدّليل:
– لكنّنا لم نزر “كرطاغولاند” والحمام العربي ودار الزّربية .
قلت :
– المدام تعبة! سنزور تلك الأمكنة مرة أخرى! استجابت بثينة لرغبتي بطواعية لم أعهدها فيها. وودّعنا الدّليل. وضعت في يديه ورقة نقديّة. حاول رفضها. لكنّني اشتددت في الإلحاح فقبلها شاكرا.
شدّ على يدي. ورأيت أنّه يشدّ أكثر على يد بثينة.
وغادرنا ليفتح الباب لزائر آخر.
أنا بثينــة
بعد أيام وجدت مفتاحا فتّانا ذكّرني بالمفاتيح الأندلسية التي رأيتها معروضة داخل خزائن بلّوريّة في متحف باردو. تحت المفتاح ورقة يقول فيها فائز إنه اشترى لنا” دار السّعادة” بحي الرّياض في ” المدينة”.
قلّبت المفتاح في يدي. ودسسته في قلبي. ثمّ كتبت ورقة الاستقالة من التّدريس. ووضعتها فوق السّرير.
ومن يومها تغيّر حالي.
صارت ” المدينة” إدماني ومتعتي وعذابي .
أوّل يوم وقفت أمام ” دار السّعادة ” وجدت الغجرية في استقبالي .
قالت وهي تضمّني إلى صدرها:
– ها قد تحققت نبوءتي ! وها أنت أمام دارك الجديدة !
اتركي لي المفتاح واذهبي أوّلا إلى الحمّام.
تطهّري من رجز الشيطان.
والبسي جلدك الجديد.
ثمّ عودي ستجدينني في انتظارك أمام الباب يا ابنتي.
ثمّ أضافت:
– اركني السيّارة هنا، واذهبي على قدميك!
تركت السيّارة في ظلّ ممدود ، تحت الحائط القبلي للدّار. وذهبت مسلوبة الإرادة إلى حيث لا أدري. مشيت في شوارع مزدانة بالأزاهير الفتّانة والاشجار اليانعة. وكلّما ازددت توغّلا في الحيّ ازداد عجبي لهذا الجمال.
مسابح تعبق بالروائح اللّطيفة في كلّ مكان وأطفال يلهون مع أمهاتهم وكلابهم وألعابهم. ورجال لا يلتفتون إلى العجب العجاب. كأنما صنعوا من طينة أخرى غير التي أعطتنا العقد الشرقيّة القاتلة.
تهت في هذه الشّوارع والسّاحات والحدائق إلى أن هزّ سمعي دقّ على البنادير والطّبلة وغناء رخيم فيه ترديد لذكر الله ورسله وملائكته والصّالحين من عباده. كانت الأصوات تقترب شيئا فشيئا من السّاحة العامّة حيث اجتمع خلق كثير احتشدوا يستمعون إلى التّرانيم الدّينية ويشاهدون بإعجاب تلويح الأعلام والصّناجق.
رأيت في أوّل الصّف شاباّ في كامل زينته: قميص أبيض تحت جبّة حريريّة. بينهما بدعيّة مزركشة بخيوط من الفضّة المطرّزة تطريزا غاية في الجمال والدّقة. وفوق كتفه إزار مطويّ من القماش الرّفيع المذهّب الحواشي. كان ينتعل بلغة من الجلد الأحمر ويضع على رأسه شاشيّة مجيدي يتدلّى منها عرف تهزّه النّسمات البحريّة ذات اليمين وذات الشّمال.
اقتربت من أحد المارة وسألته عن الحشد فأجابني:
– هذا احتفال “المدينة” بعرسانها.
قلت مستغربة!
– لكنّ النّهار مازال في أوّله.
فأردف :
– الجميع ذاهبون إلى الحمّام يا سيّدتي.
فمشيت وراءهم. وردّدت معهم المدائح والأذكار إلى أن حطّ بنا الترحال أمام بنايتين متجاورتين وسط غابة غنّاء تزدهي بالخضرة والنّضارة.
قصد المحتفلون بالعريس حمّام الرّجال . وقصدت حمام النّساء. وجدت في استقبالي امرأة كهلة. رحّبت بي. ورشّت على يدي الممدودة للسّلام قطرات من العطر الفوّاح. ومدّت لي كأسا به شراب لذيذ رطب حلقي وأنعشني. ثمّ قادتني إلى سقيفة بها دكك ومساطب من اللّوح المنقوش والجليز المحلّى بصور لحيوانات خرجت لتوّها من غياهب الماضي:انسيات يحملن ذيول حيتان ورؤوس نمور وأسود ونهود شهية لذّة للنّاظرين وانهار وأطيار وفنون كثيرة من السّحر الحلال.
نزعت ملابسي ووضعتها على واحدة من هذه المساطب. فجاءتني المرأة بكيس صغير فيه لوازم الحمّام: مكحلة وسواك وطاسة طَفَل وكاسة وصابون معطّر. ومشت أمامي. دخلنا بيوت الحمّام واحدة واحدة إلى أن سدّ الضّباب الكثيف الرّؤية أمامي فانسحبت الدليلة. وتركتني وشأني حاصرني الضباب من كلّ الجهات. كتل من الضّباب المخدّر للحواسّ. ضباب كالعهن المنفوش. تتلمسه باليدين وتشمّه وتملأ منه الأحضان.
مشيت وسط هذا الضّباب. فرأيت أشباح نساء.
رايتهنّ سابحات كالأسماك. طائرات كاليمام. طالعات. هابطات. ذاهبات في كلّ الاتجاهات. خفت أن تصدمني إحداهنّ فثبتّ في مكاني أمتّع النّظر بهذه الاجساد الخارجة من لظى النّار ونعيم قطرات الماء الصّغيرة السّابحة في جوّ الغرفة الواسعة.
بقيت واقفة مدّة طويلة إلى أن حطّت على قلبي سكينة. دبّت في أوصالي دبيب الدّم في العروق. فانتشيت انتشاء المخمور بمدام الجنّة. ونبت لي جناحان. أحسست بهما يخرجان من تحت الكتفين فبدأت في السّمو. طرت مع نساء الحمّام في لجج الهوى. فزدت انتشاء. وبدأت في الابتعاد عنهنّ إلى أن وجدت نفسي وحيدة في غرفة صغيرة بها سرير وطاولة عليها معدّات جراحة. جلست على السّرير فانفتح باب جانبي في وجه الحائط دخلتْ منه امرآة تلبس مئزر طبيبة. ورأيت في عيني المرأة حبّا كبيرا وحنان أم.
وقفت لها. فأجلستني وهي تضع يدها على كتفي العارية.
قالت:
– لا تخافي يا ابنتي! سأشرح لك صدرك وأضع عنك وزرك ! الّذي أنقض ظهرك
وزرقتني بإبرة في الرّدف.
حين أفقت. وجدت نفسي راقدة فوق سرير مرتّب.
ورأيت المرأة التي استقبلتني تبتسم وتعود للتّرحاب بي .
قالت:
– قومي يا عزيزتي! لقد انتهى الآن كلّ شيء!
ثمّ أضافت بعد قليل.
– لن تريْ بعد الآن هذه الدّنيا كما يراها كلّ النّاس!
لقد أصبحت لك عين ثالثة يا حبيبتي.
ووضعت فوق سريري الملابس التي دخلت بها الحمّام.
كانت ملابسي نظيفة ومكوية تفوح منها رائحة الصّابون وبخار الماء المعطّر!
أنا فائــز
زرت بثينة في دارنا الجديدة “بالمدينة” بعد أن غادرتْ تونس منذ أكثر من شهر. كنت بنيت خلال غيابها قاعة كبيرة في الحديقة لأعمالي الخاصّة.
أعرف أنّ هذه البناية لن تعجب بثينة. فشكلها مزعج. وأبوابها من الصّلب المصفّح. ونوافذها عالية تسيّجها أعمدة من الحديد المفتول. ولكنّني أصررت على بنائها كلّفني ذلك ما كلّفني . فأنا أعرف مصلحتنا أكثر منها. وأعرف مدى ضرورة هذه البناية لحياتي المهنيّة.
تركت البنائين منهمكين في أعمالهم الأخيرة وقصدت الحمّامات.
قلت سأفتعل لومها لإهمالي وعدم السؤال عن حالي حين ألتقيها. وسأدّعي الإنهاك والإجهاد. وسأطالبها بمصاحبتي في رحلة بحرية على زورق تكتريه من مالها الخاص حتى تكفّر عن ذنب المفارقة ولحظة المعانقة.
لكن وأنا أقترب من الباب. لم أسمع جلبة الأحباب. فركنت السيّارة وأشهرت العبارة. ناديت بصوت فصيح. وصرخت بكلام مليح.
لكن لا حياة لمن تنادي. فبثينة قصدت النّادي بعد أن علّقت على الباب الدّاخلي رسالة للمنادي.
قرأت العبارة فأسْرَجْتُ السيّارة. وقصدت مدينة الألعاب لعلني أظفر بالأصحاب. جلت في “المدينة” جولة المتعب. من الظّهر إلى المغرب. فلم أجد لها أثرا . ولم أعرف لها خبرا.
فلما هممت بالرّجوع، والقلب منّي موجوع، ونارها تصطلي في الظّلوع. حانت منّي التفاتة. فإذا بثينة تلعب العابها. وتعرض أوراق الحظّ على أصحابها. ناديتها فلم تسمع ندائي. ورجوتها فلم تسمع رجائي. فعدت إلى تونس. أبأس من نبيّ الله يونس.1
أنا بثينــة
زرت أماكن كثيرة في هذا العالم الفسيح ولكن لم أر في حياتي أجمل من”كرطاغولاند”
“كرطاغولاند” اللّهو والّلعب والثّقافة والأدب والسّياحة والجري وراء الاكتشافات والمتعة والمغامرات.
فليس من السّهل أن تتحدّى “عالم التانيت”
وأصعب من ذلك أن تكتشف ” كنز قرطاج”
لتجد نفسك بعد ذلك وسط الصّغار والكبار داخل معبد ” البعل”.
في كرطاغولاند” مارست عملي بشغف. لم يعترض أحد على ألعابي الكهنوتيّة. أقدّم نفسي للجميع على أنّني كاهنة معبد البعل وأعرض عليهم أوراقي فيسقبلونها بترحاب عجيب.
” دقازة، يقول الصّغار، فتنهرهم الأمهات:
– حرام ما اتقولش دقازة قول : Voyante
ويضيف الرّجال بحكمة:
– اتكونش مشاركة ربّي في علمو يا ولدي؟
– ولا أهتم . لا ألتفت لغنج النّساء ولا لحكمة الشّيوخ. أمضي من محطة ألعاب إلى محطّة لهو تسبقني شقشقة عقودي ورائحة عطوري وجاذبية لا تقهر.
كنت أبحث عنه.
أبحث عن رجل ضاع منّي يوم غادرت سفينة نوح وهي تحطّ على الجودي. عرفت أنني سألقاه هذه المرّة في “كرطاغولاند”
قالت لي عيني الثالثة إنّه هنا فظّلت ساهرة إلى أن لقيته في مرقص ليلي.
طلبت كأس “ويسكي” مع قطع ثلج، وانزويت في ركن قصّي من المرقص بعيدا عن الصّخب والعنف.
بدأت في ترشّف السّائل الّذيذ رشفة رشفة وفي النّظر إلى ظلال الرّاقصين والرّاقصات.
وطالت جلستي إلى حدود منتصف الليل.
أبدل النّادل كأسي أكثر من خمس مرّات وجاءني بطشت مملوء قطعا ثلجية ومازحني قائلا:
– هذا ” حبّ التبروري” * الذي تهوين. صنعته من بخار السّماء وخبّأته لك في الثلاّجة.
قلت شاكرة فضله:
-Merci , c’est un cadeau de l’au –delà !
فأمّن على كلامي بانحناءة رائعة ومضى إلى غايته.
ساعتها جلب انتباهي حضوره قريبا منّي.
بيني وبينه طاولتان وعمود من المرمر.
هزرت رأسي فالتقت الأعين.
نظرته جريئة تباغت القلب كحبّ الرّصاص.
ابتسمت. فردّ على ابتسامتي. ورفع في وجهي كأسه قائلا:
– في صحّة أجمل امرأة في العالم !
بادلته التّحيّة. فقام وحوّل جلسته من وراء عمود المرمر إلى أمامه.
جلس قبالتي وهو يقول:
– منذ أكثر من ساعتين وأنا أحاول لفت انتباهك ولكنّك كنت في مكان آخر فاين كنت؟
جرأته في الجلوس أمام طاولتي وفي انتهاك حرمة وحدتي أربكتني. فأنا لست معتادة على ردّ الهجوم. كنت دائما صاحبة المبادرة. أضرب ضربتي الخاطفة وأقف مستعدة لتلقي الرّد.
أمتصّّ عنف هجوم الضّحية بسهولة ويسر. ولا أبالي بالذّي يحصل بعد ذلك.
ولكنّ هذا الرجل فاجأني.
نادى النّادل وطلب” دبّوزة ” * ويسكي بشريطين أصفر وأحمر.
قال متودّدا:
– أنا أموت عشقا في التّرجي.
أنا مثلك أعشق الأصفر والأحمر” Sang et or ” وقهقـه بخبث وهو ينظر إلى تنّورتي الحمراء المرقّطة بالأصفر.
رمى نظراته فوق صدري. ونزل إلى بطني المدسوس في التّنورة دسّا عنيفا. ثمّ هبط إلى الفخذين. ووقف عند الرّكبة برهة. وواصل فحيحه المهتاج:
– اللّون الأحمر والأصفر يليق بالأميرات وأنت أميرة هذا المرقص.
ومدّ يده يطلبني للرّقص.
التفتّ ناحية الرّكح الضّاج بالحركة واعتذرت. قبل اعتذاري دون كلام. ثمّ همس بعد دقيقة:
– لا داعي الآن للرّقص! سنختار فرصة أخرى إذا هدأت الموسيقى وصفا الجوّ.
كنت ساعتها في منزلة بين المنزلتين.
لم أدر إن كان من واجبي صفعه على خدّه أو الاكتفاء بنظرة احتقار أسحق بها كبرياءه وعناده.
ظللت مدّة أحدّق في وجهه الأبيض الممتلئ وفي سواد عينيه وأتذكّر إن كانت هذه العين الحوراء التي تطلّ بتحدّ تحت حاجب كثّ ، هي العين التي أبحث عنها.
تلك العين التي نحرتني وذهبت.
فجأة أخرجت أوراقي من حقيبة يدي.
” مشْكَيْت” الكارطة بعصيبة وطلبت منه أن يختار ثلاثة أوراق.
في المرّة الأولى مدّ لي ” موجيرة” كبِْ فأنمتها على ظهرها قبالتي. ثمّ أخرج من الطيّة ورقة ثانية.
عرض أمام عيني “موجيرة ” سباطة فأرقدتها جنب أختها. ثمّ بعد أن تمهّل في اختياره هذه المرة . دسّ في يدي ” موجيرة” ديناري . قال وهو يضحك بصخب:
– ما رايك يا عزيزتي !
ثلاث نساء دفعة واحدة !
عرضت عليه الأوراق مرّة أخرى وطلبت منه أن يكمل اختياره بورقة رابعة.
تردّد لحظة . ثمّ مدّ يده نحو الأوراق . أشار إلى إحداها وقال :
– أخرجيها بنفسك !
فأطعته، وأخرجت من بين أوراقي ” كوّال” ديناري.
صاح مهتاجا:
– « Un valet carreau » هذا أنا يا عزيزتي !
صحّحت محتجّة:
– Mme , s’il vous plait ! Je suis une dame , monsieur !
وقمت .
غادرت الملهى دون أن التفت ورائي.
لكنّ صورة ذلك الرّجل ظلت تلاحقني
في منامي وصحوتي
ظلّت تملأ وحدتي
تشقيني وتسعدني
تدنيني وتبعدني.
إلى أن قرّرت العودة ذات ليلة إلى مرقص الملهى في “كرطاغولند “.
وعجبت.
فما كان مكاني شاغرا
من بعيد،
رايته جالسا إلى طاولتي.
وحيدا ، كما لك الحزين.
أمامه قارورة ويسكي.
وكأس مليئة بالنور.
وباقة ياسمين.
هززت رأسي هزّة صغيرة في وجه النّادل. وذهبت إلى الرّكن الخلفي. وقفت قريبا من عمود المرمر فأشار إشارة ودّ. وقام يفسح لي مكانا للجلوس.
لم أعاند فجلست قبالته.
مدّ يده بباقة الياسمين.
تريّث لحظة يقرأ ردّ فعلي ثمّ اختار منها زهرة.
رشق الزّهرة في شعري.
ثمّ أمسك يدي وضغط عليها بلطف
قال وفي عينيه لمعة برق خاطف :
أتدرين أنّني أعرفك منذ ثلاثة آلاف عام.
فارتفعت دقات قلبي.
وزها الورد على الخدّين.
قلت في سرّي:
– هو أنت إذن !
وسكتّ.
شدّ على يدي مرّة أخرى. وبدأ في سرد حكاية عن الفينيقين الذين جاؤوا من ” صور” في الألفية الأولى قبل الميلاد .
قال إنّه كان يعمل بحّارا في السّفينة التي هاجرت فيها من فينيقيا إلى بلاد البربر.
ثمّ أضاف وهو يختلج اختلاجا عنيفا:
– لقد أحببتك خلال تلك الرّحلة التي دامت شهرا كاملا.
هدّأت من روعه. وطلبت منه أن يكفّ عن هذا التّخريف.
فانفعل أكثر وقال بعد أن عقد حاجبيه:
– مثل المرّة السّابقة! ها أنت تعاملينني مثل المرّة السّابقة!
لقد أهملتني في البداية ثمّ عشقتني في النّهاية !
وأضاف سعيدا أمام ارتباكي وحيرتي:
– أنا أعرف جسدك معرفة العليم بالأمور الخفيّة يا عزيزتي !
صدمتني بذاءته. فطلبت منه أن يصمت قبل أن أجعله فرجة الملهى.
قال وهو يضرب بيده على صدره :
– لن تقدري يا أميرة!
وفرقع قنبلته في وجهي:
– أعرف أنّ لديك خالا زيتونيّا بين النّهدين.
خال هنا. وأشار إلى الجهة اليسرى من صدري.
خال فوق دقات القلب مباشرة.
يا اميرة!
وضجّت قاعة المرقص بالصّخب.
خرج رجال متنكّرون في أزياء حربيّة رومانيّة وقرطاجيّة. يحملون في أيديهم الرّماح والسّيوف والتروس. وصعدوا على خشبة المرقص في استعراض حربي ضاحك. انتهى بأن قبّل ” شيبيُون الإفريقي ” جبين ” حنّبعل” فمدّ قائد ” قرطاج ” يده لبطل ” روما” وتصافحا على أنغام الموسيقى التّونسية الرّاقصة وهما يشربان نخب ” كرطاغولاند”
أنا فائــز
ما عادت بثينة تزورني في دار تونس ولا في معمل ” تاج العروس ومتعة النّفوس ” بعد أن سكنت دارنا الجديدة في ” المدينة”.
أسعدني غيابها وأتعسني.
فأنا لا أقدر على فراقها. ولكنّني ما عدت قادرا على قبول حضورها الطّاغي في حياتي.
ما أن أدخل البيت الجديد الذي شيّدته في الحديقة حتى يمتلئ المكان بها. أجدها أمامي أينما التفتّ. فكأنها تحفظ مواعيد تنقلاتي عن ظهر قلب.
تحوّلت امرأتي إلى جنّية. تخترق الحيطان وتمشي على السّقف.
تنهر أفعالي ، فأرتجف.
أسمع صوتها النّاهر وأنا وحيد فوق وسائد سريري.
أسمع صوتها الزّاجر وأنا في معمل البيت أخرج الخير من الشّر.
أسمع صوتها القاهر وأنا وسط البخار ونار السّعير.
ملأني حضورها في غيابها .
صارت تخرج لي من قارورة “الويسكي “
أرى صورتها في مرآة زينة عشيقتي
تزلزل الأرض تحت رجليّ وتحوّل اتجاهات الشّاحنات الخارجة من داري . تقودها بعين في جبهتها إلى بحر الظّلمات . تملأها بالماء المالح. وتغرقها في جبّ بلا قرار.
صارت تنفخ في وجهي ريح جهنّم.
وتنزل فوق رأسي الأمطار الطوفانية بحركة من يدها .
هي جنّتي وجحيمي
هي موتي وانبعاثي
هي…
وتمنيت أن يغادر طيف هذه المرأة روحي.
تمنيت أن …
فامتلأ البيت الكبير الذي بنيته في الحديقة لأعمالي الخاصّة بوجه عريض.
وجه تشتعل فيه ثلاثة عيون.
عينان حوراوان مكحّلتان بالإثمد.
وعين ثالثة وسط الجبهة.
عين امتزجت فيها ألوان قوس قزح.
عين تطلق أشعّة كالنّار.
تقرأ السّرائر.
وتخترق الأسرار.
قالت لي مرّة : ( وكنت قد عرفت من النّادل الذي كلّفته بمراقبتها في المرقص ) إنّها اكتشفت كلّ خياناتي ما ظهر منها وما بطن.
– لماذا تدفع لقحابك ” كاشي” بالدّولار الأمريكاني؟
– لماذا لا تستعمل العملة الوطنية ؟
– فرددت عليها ساخرا .
– نكاية في …
ولم أكمل الجملة .
أنـا بثـينـة
وعدت من جديد إلى طاولة مرقص الملهى في “كرطاجولاند”. وظلّ صاحبي يقاسمني كل ّ ليلة شرابي ويحكي لي حكايات يصفو بعدها عقلي ويشفّ وجداني فأذكر ما فات من السّنين الخالية. يطلب الرّجل “دبّوزة ” “ويسكي” بشريطين: أصفر وأحمر ويكرع ويسقيني إلى أن يثقل لسانه. فتنهمر من فمه الحكايات:
هل تذكرين يا أميرة أنّ اسمك ” إليسار” وأنّ أباك أهداك إلى معبد الرّبة ” تانيت” في مدينة ” بعلبك ” وعمرك ثلاث عشرة سنة؟
هل تذكرين كيف بقيت في المعبد تخدمين الرّبة وكهنة الرّبة وضيوف الرّبة وعابري السّبيل خمس سنوات هلالا وراء هلال.
وفجّر في وجهي قنبلته الثّانية قال:
– أتدرين أن الرّجل الذي طحنه أبوك تحت عجلات الشّاحنة على الطّريق الرّابطة بين نابل والحمّامات هو الكاهن الأعظم ” عملقرت” ؟
فرددت عليه ساخرة:
– أخطأت المرمى يا صاحبي هذه المرّة . ذاك جميل بن معمر العذري عليه رحمة الله وبركاته !
أغمض عينيه وهمس كرفّة الفراش:
– جميل بن معمر العذري.
هو عملقرت الفينيقي.
هو مجنون ليلى.
هو روميو
هو ليوناردو دي كبريو.
هو أنا.
هو روح هائمة.
لم تجد إلى الآن ظلاّ تسكن إليه.
وترتاح.
وقرّب رأسه من وجهي ففاحت رائحة العنبر من خصلة بيضاء في شعره الأجعد.
وتذكّرت .
تذكرت أنّني شممت ذات مرّة منذ أمد بعيد في مكان شبيه بالدّير هذه الرّائحة .
ومسّني بعصا صغيرة في جبهتي فأظلمت الدّنيا أمامي. وتحوّل ركح الملهى إلى معبد فينيقي.
رأيت نفسي في المعبد.
كنت واحدة من العواهر المقدّسات.
أنا “إليسار” المقدسّة أمارس الجنس مع الكاهن الأعظم” عملقرت” في قلب الظّلام.
أحسست به يطعنني في وسطي بسيفه البتّار. فيتلوّى جسدي بين فخذيه. وأنهمك في رقصة مجنونة يصحبها نغم موسيقي يخرج من ثقوب في الجدران.
ويهطل من السّقف.
ويطلع من أعماق الأرض.
لحن متفرّد في حنانه.
لحن موجع في وحشته.
لحن مؤلم في عذوبته.
وفجأة ، انهمر الضّوء على المكان. فكأنّ شموس الدّنيا حطّت داخل المعبد.
امتلأت روحي بالنّور السّاطع. فقمت خفيفة من فوق المذبح أمسح بمنديلي قطرات دم جرت بين فخذيّ.
وأخرج الرّجل الجالس أمام طاولتي في المرقص منديلا. أخرج المنديل من جيبه وهو يقول:
– هاك منديلك يا أميرتي !
وأفرد فوق الطّاولة منديلا من الحرير الأبيض تزيّنه في الوسط زهرتا أقحوان.
أنا فائز
أخبرني نادل المرقص أنّ زوجتي مازالت تمارس لعبتها كلّ ليلة على الرّكح . تصعد فوق طاولة معدّة لعرضها. فتكفّ الموسيقى الصّاخبة عن رجم المكان بضجيجها. ويكفّ الرّاقصون والرّاقصات عن الهرج. ويعيد لاعب الثّعابين ثعابينه إلى صناديقها. وينزل “بوسعديّة” درجات الرّكح قفزا متبوعا بذيله وبقهقهات المتفرّجين. وتتسلطن بثينة فوق الطّاولة الرّحيبة. تخرج أوراقها من حقيبة يدها وتعرضها أمام المتفرجين بحركات استعراضية.
وتهمس في “الميكروفون”.
– من يحوز على “السّبعة الحيّة” يربح اليانصيب.
فتهطل بين يديها الدّينارات والدّولارات والفرنكات والرّيالات والماركات والسّوتيانات واللّيرات والكلاسين والدّراهم والخواتم والبوسات والغمزات والرّعشات والتأوّهات والتنهدّات.
تجمع “بثينة” هذا الكلّ في خلطة واحدة تضعها في صندوق أنيق من الذّهب الخالص المرصّع بالجواهر.
ويصعد شابّ وشابّة إلى جانبها: عزيز وعزيزة.
الشّابّ مخنّث وجميل كفلقة الصّبح.
والشّابة بهيّة . أحلى من كأس الآيس كريم .
يعصّب لها عزيز عينيها وينادي وهو يغنج أسماء المتسابقين.
يمرّ أمامها الجميع. يعرضون أصواتهم وسواعدهم فتختار في كلّ مرّة واحدا تضع بين يديه أوراق اللّعب.
ويختار الممتحَن ورقة يقدّمها لعزيزة.
وتقرأ عزيزة الصّورة
ويمرّ.
إلى أن تقع “السّبعة الحيّة” في يد المحظوظ.
فتزغرد عزيزة.
وتصبّ بثينة على رأس الفأئز محتويات الصندوق :
الدّولارات
والسّوتيانات
والكلاسين
والفرنكات
واللّيرات
والخواتم
والغمزات
والتأوّهات
والرّيالات
والتّنهّدات.
يقف الفائز مبهورا كأبطال الأساطير القديمة .
فتعرض عليه كنوزها
تقول له:
– اختر ما يغنيك عن الدّنيا وما فيها.
وتغمز الجميلة قلب الفائز.
ويغمز ” الدّولار” قلب الفائز.
وتصمت بثينة.
في العادة يختار الفائز الدّولارْ.
فتضع الجميلة على ظهره رزم الورقة الخضراء.
وتسوقه بسوطها : ” اِرْ…اِرْ…اِرْ…يا حِمارْ ”
وتهتز أركان القاعة على وقع هذه التّرنيمة
يرقص السّكارى وهم يردّدون:
” اِرْ…اِرْ…اِرْ…يا حِمارْ ”
وتنزل بثينة من فوق الرّكح.
فيعود “بوسعدية ” إلى ألعابه.
وصاحب الثّعابين إلى ثعابينه.
وتمتلئ القاعة بالمتنكرّين والمتنكرّات في حفل راقص لا أبهى ولا ألذّ منـه.
مرّة واحدة اختار فارس ملثّم بثينة.
أرقدها فوق الطّاولة . وطلب أن يمارس معها الجنس هناك
قال:
– لا حاجة لي بمال قارون!
أريدك أنت على ركح المذبح!
أريدك أنت أمام هذا الجمهور من المؤمنين!
صاح الحاضرون:
– على ركح الملهى يا كافر!
– فردّ على صياحهم:
– هذا معبد الآلهة “تانيت ” أيّها العميان !
وانصرف إلى غايته.
أنا بثينة
أدمنت السّهر في “المدينة ” لأنسى خيبات العمر ونسيت زوجي إلى أن أفقت من النّوم فوجته قد حوّل حديقة فيلتنا في أحواز تونس إلى معمل صغير. بنى قاعة فسيحة في ركن قصيّ من الحديقة وركّب فيها ثلاث غسّالات عملاقة وآلات تبخير وشفط. وصار يحوّل صناديق الأقمشة المستوردة من ايطاليا مباشرة من الميناء إلى الدّار. فتكدّس هذه الأقمشة في المخزن ثمّ تغسل وتشفط وترسل من جديد إلى مخازن المعمل.
حيّرني هذا الأمر وبلبل أفكاري.
وبقيت أعيش عذاب السّؤال إلى أن اكتشفت السرّ.
عرفت أن قطع الملابس تأتى من ايطاليا بعد أن تنقع في ماء مخلوط بمخدّر الشّيرة. فيعاد غسلها في المعمل الصّغير المدسوس في حديقة البيت ليستخلص منها المخدّر. ثمّ تبخّر وتصبغ من جديد وتعود إلى ايطاليا فساتين راقية مدموغة بطابع معمل ” تاج العروس ومتعة النّفوس”.
حدّثت زوجي بهواجسي فقال وهو يبتسم بخبث:
سأحقّق نبوءاتك يا عزيزتي:
معامل السيّارات
وبنوك سنغفورة
وفنادق هونولولو
أم تراك نسيت النّبوة!
فقلت حزينة.
قلت وأنا أرى العالم وقد تحوّل إلى جثّة عملاقة تنغل بالدّود :
– نسيت يا عزيزي !
وأخرجت من جيبي أوراق اللّعب .
عرضت عليه أن يختار ثلاثة أوراق .
أغمض عينيه ومدّ لي الأوراق الثّلاثة
قلت هامسة :
– قرْعة !
– ووضعت إصبعيّ السبابتين داخل أذنيّ وبدأت بالصّراخ .
أنا فائز
فتحت عيني ، فوجدت بثينة نائمة بجانبي . كان تنفسها منتظما . وكان صدرها يعلو ويهبط تحت الملاءات المزدحمة بورود الربيع . تمليت وجهها الصبوح وثغرها الباسم لملائكة الرحمان ، فنطت الفرحة داخل قلبي وغمرني فرح باذخ .
هي ذي ” بنت الرومية ” التي دست في جيوبي الصغيرة ، الحلوى والبسكويت وأصابع الشيكولاطة .
وبدأ الدق على الباب ، فانحنيت فوقها وأزحت بيدين مرتجفتين الملاءة التي تغطي صدرها الرحب ، فقابلني خال زيتوني بين النهدين .
ثنيت مرفقي ، وقبلت الخال ووضعت شفتين محمومتين فوق اللحم الأبنوسي ، فرمشت جفونها هنيهة لكنها عادت إلى السبات .
فعدت إلى لثم الخال والتمسح على عتبات الصدر الرحيب .
واشتد الطرق على الباب .
هي ذي بثينة بين يدي تغط في نوم عميق .
بثينة العاشقة .
بثينة المعشوقة .
يبثينة القاتلة .
بثينة القتيلة .
بثينة الموؤودة تحت ركام أحلام الأمومة .
بثينة المجنونة بطفل لم يعرف الطريق إلى رحمها .
بثينة العاقر .
بثينة الولودة .
وأنا فائز الرابحي .
أنا ذياب الهلالي .
أنا فارس العربان .
أنا الفارس الذي كبا حصانه ، فضاع عن الطريق التي تقوده إلى قلبها .
أظلني سراب الصحراء ، فتهت عند مفترق المسارب .
ولكنها ما يئست .
ظلت تنير لي الظلمة مرة بعد مرة ، لعل وعسى …
وازداد الدق على الباب عنفا وصخبا ، فغادرت الفراش وذهبت أفتح شباك ” الصالون ” ، فطالعني شبح قمر باهت يتسلق أعالي الأشجار ويغيب وراء سحابة كبيرة .
ولم أسمع نباح الكلاب .
فذهبت إلى المطبخ أتسلى بتحضير قهوة الصباح . تغالى الماء ، فصببت فوقه ثلاث ملاعق من القهوة التركية . وفار الخليط ، فامتلأت الغرفة بالرائحة الزكية .
ملأت كأسي وقصدت سرير بثينة . حركت كرسيا مركوزا بجانب السرير ، فأن وأحدث صريرا . فرأيت بثينة تفتح عينيها وتحدق في وجهي ، ثم تضع يدها تحت الوسادة .
قلت :
– يومك سعيد يا عزيزتي .
فابتسمت ابتسامة خفيفة ، وقامت تجلس فوق السرير .
انهمكت تزرر قميص نومها المفتوح على الصدر ، فذهبت إلى المطبخ .
أحضرت لها قهوتها ، ووضعتها أمامها على طاولة صغيرة بجانب السرير . وربت على وجنتيها .
قالت :
– أحس أن رأسي أثقل من جبل .
فقلت :
– قهوتي ستعيد لك روحك ، وتمسح عنك آلام الصداع .
فعادت إلى الابتسام وإلى دس يدها تحت الوسادة .
وعدت إلى التربيت على وجنتيها .
كانت مرتبكة . وكانت ترد على حناني بابتسامات خجولة ، فغادرت الغرفة وتركتها تتهيأ ليومها الجديد …
خرجت إلى الحديقة ، فتحركت حصيات الممرات تحت خطواتي ، وامتلأ صدري بالهواء البارد .
واقتربت من الباب ، فرأيت ورقة بيضاء كبيرة مشدودة بمسمارين صغيرين .
كانت نسمة الصباح تأرجح الورقة فتخفق كأجنحة الطيور الخائفة . اقتربت بخطى صغيرة ، فقرأت :
” وصلنا فجرا أمام الدار ، وضربنا الناقوس ، ثم دققنا على الباب أكثر من عشر مرات . ولم يرد أحد على ندائنا ” .
سحبت الورقة ، ومزقتها نتفا صغيرة ، ورميت النتف في وجه الريح ، فطارت كالفراشات المفجوعة .
وذهبت إلى المرآب ، فشغلت محرك السيارة .
أن المحرك وزمجر .
ولم تنبح كلاب الحراسة كعادتها كل صباح .
لم تنبح الكلاب …
قفصة / تونس : 2003/2004