يومي البعيد
زهير الهيتي
مقدمة
ارتبطت بالصديق زهير الهيتي بعلاقة صداقة توطدت في برلين بشكل أعمق وأصبحنا في أوقات الراحة نقضي وقتاً مشتركاً نناقش فيه هموم الثقافة والسياسة والغربة مثلما نناقش يوميات الحياة البرلينية ، وقد يحدث في كثير من الأحيان أن نتبادل الأخبار بعد السلام مباشرة وأدركنا مع مرور الزمن أن الهموم المشتركة تزيدنا ارتباطاً وتعمق موقفنا تجاه العمل الإبداعي والنشاط الفني ، وكأننا نحلم ونتمنى أن نحقق ما لم يتحقق بعد ، ونرغب أن نسابق الزمن بالرغم من مشاغل العمل والتزاماته ، ربما أكون أكثر أو أقل سعادة من صديقي زهير ؛ وذلك لأن العمل الذي أقوم به هو من صلب اختصاصي وهوايتي .. أقولها بكل ثقة لأنني في عملي ، والذي ربما أحسد عليه ، أمارس ما أريد في المسرح الذي أحببته على مدى عقود أربعة كنت منشغلاً فيه وبأسئلته وإنتاجاته المسرحية المختلفة ، وكذلك بالسفر وإقامة الورش المسرحية والكتابة المستمرة وأيضاً بأحزانه وآلامه وقلقه وكثيراً ما تصادفني الصعوبات والمشاق التي أعجز في كثير من الأحيان على تجاوزها ، ولكن الصبر والجلد الذي ابتليت به مرضاً إلهياً أنقذني من كل ظواهر اليأس ، فالمسرح يشكل هوايتي الأساسية ، وسر بقائي ووجودي ومنه أيضاً أعيش مما يجعلني متحرراً من أزمات نفسية .. قد تكون في بعض الأحيان أصعب من الأزمات المادية ، أما هو فأجده يبتعد قدر المستطاع عن مشاغل العمل اليومية ويحاول أن يدخل في الهم الثقافي والإبداعي؛ لأنه وللأسف الشديد لا يعيش من واردات عمله الإبداعي إنما عمله اليومي بعيداً كل البعد عن همه الحياتي ويشكل عبئاً ثقيلاً يتحمله بكل صبر مع ما يتحمله من آلام ومشاعر الغربة والاغتراب في المهجر ولكنه بالرغم من كل هذا ارتبط مع نفسه بميثاق العمل والتواصل والاستمرارية والتطور، وأقسم على عدم التوقف والجمود ؛ فالفنان في داخله لا يعرف الراحة أو التقاعد إلا في آخر لحظات الحياة . فالمطلوب منه الشهادة في مجال الأدب وهذا قدره إلى حين تطوى الصفحة الأخيرة من رواية وجوده ، معتقداً أن الموت في أية بقعة من بقع الكرة الأرضية لا يختلف ويتساوى بمعناه العبثي ، ولكن الحياة والبحث عن مساحة أوسع للإبداع قد تكون هي المبرر الوحيد لوجودنا في المهجر ، والإنتاج والتواصل هو الهوية التي تميزنا وتبعدنا قدر المستطاع عن حالة النكوص النفسي والبكاء على الأطلال .
إن بغداد لم تكن بالنسبة لنا ببعيدة لأننا كنا نردد البيت الشعري الذي كتبه الشاعر الألماني “جوته” قبل أكثر من مائتي عام تقريباً يصف عشقه لبغداد قائلاً : “إن بغداد عند الأحبة ليست ببعيدة” ، فكيف لنا نحن الذين عشنا في بغداد وشربنا من نهر دجلة الخير وعشقنا النخيل في أرضها وتمتعنا ورأينا العالم من خلال أشعة شمسها وسامرنا القمر من على سطوح بيوتنا في أجمل الليالي الصيفية ؟! فبغداد نرتبط بها وترتبط بنا عبر كل مراحل حياتنا، وتشكل المعين الذي لا ينضب لمخيلتنا التي نحيا بها الآن في المهجر المعزول، فالعمل والكتابة والتفكير بإنجاز ما هو مفيد وذو معنى ظل هاجس جميع لقاءاتنا ، وكأنه قربان نقدمه على مذبح حبنا لبغداد .
إن زهير الهيتي معروف كصحفي وكاتب مقال وله في مجال المسرح محاولات عديدة قرأنا بعضها . ولقد شجعته على إتمام البعض الآخر ووعدته بأنني على استعداد لإنتاج ما يمكن أن نتوصل إليه من قناعة حقيقية ، وبعد أن يمكننا أن نوفر شروط الإنتاج اللائقة .
إلى جانب هذا ، فهو قارئ نهم يقرأ بانتقاء ما هو ملح ومثير وجديد إلى جانب قدرته على ترشيح ما هو أكثر معاصرة وحداثة . ولكن المفاجأة الكبرى عندما قدم لي ذات يوم مخطوطته الأولى لكي أقرأها فاكتشفت أنه روائي متمكن وصادق مع موضوعاته .. ربما كتب شيئاً قبلها أو بعدها ، ولكن الفرصة لم تسنح لي بالاطلاع على ما كتب . لقد فرحت بروايته “يوم البعيد” أينما فرح ، لا لأنها تشكل عطاءً في الزمن الصعب ، إنما لأنها ارتبطت بظروف الغربة والمهجر ، هذه الغربة اللعينة التي تستهلك كل الطاقات والوقت والجهد. فكثيراً ما يعود الإنسان بعد عشر ساعات عمل لكي يجد نفسه أقرب إلى الجثة من الإنسان الذي يستطيع التفكير والتألق، وتتحول ساعات النوم والراحة إلى حلم بعيد المنال، وحتى إذا ما استطعنا النوم مبكراً فالنهوض في اليوم التالي هاجس يقلق حالة الصفاء الليلي، فالمنبه سوف يقرع لا محال وعلينا أن نستيقظ ونخرج من البيت في الوقت المحدد وإلا ضاعت علينا فرصة الالتحاق بالقطارات التي لو لم ندركها في الثواني المحددة ترهقنا كثيراً بالانتظار وتفقدنا الفرصة في الالتحاق بالعمل حيث إن كل شيء هناك يجرى بدقة شديدة قد يراعى فيها الجزء من الثانية . والزمن مع الوقت يتحول إلى سكين قاتلة لكل الأحلام التي تراودني .. قد يعتقد البعض أن فرصة الانتقال على مدى أكثر من ساعة عبر القطارات المتعددة فرصة مناسبة للتوحد مع النفس والتفكير والقراءة ؛ ولكن هيهات! حتى هذه الفترة التي تقتطع من حياتنا لا تكفي لمطالعة الصحف والمجلات، وكثيراً ما نعجز أن نقرأ ثقافة جادة، حيث يتطلب ذلك جهداً وتركيزاً من نوع خاص .. إلى جانب المضايقات وفضول الركاب إذا أدركوا أنك تقرأ كتاباً يختلف بحروفه عن الحروف اللاتينية.. وهكذا الحال مع زهير يومياً .. فكيف له أن يستثمر هذا الوقت في التخيل والتفكير والتأمل ومصالحة الذات إبداعياً والذهاب بعيداً بعيداً بسرعة فائقة تتجاوز القاطرة وصوتها الرتيب . إن زهير الهيتي يغرق في الأفكار والأماكن والشخصيات التي يستجمعها من الواقع ويمنحها الكثير من التجريد لكي تتكامل وتنضج بعيداً عن أماكنها الحقيقية وتواريخ أحداثها، ثم يعود إليها في بيته مساءً كي يحيلها إلى عمل إبداعي . وهكذا أتخيله يفعل.. يسرق الزمن من الزمن .. وإلا كيف .. متى .. وأين ؟؟ .. كتب هذه الرواية التي كنت سريعاً في قراءتها للمرة الأولى وشدتني لكي أنهيها في المرة الثانية حيث جاءت أكثر متعة ركزت فيها على أحداث وشخصيات ومعاني ورموز أحسست بأنني أقرأها لأول مرة، وكأنني أقرأ رواية جديدة وهذا ما أدهشني وزاد من تعلقي بها . لا أنكر أن بعضا من أجزائها قد تحول إلى كوابيس وبعض جملها أعدته كلازمة لا تفارقني وتراودني بين الحين والحين وأنا لا أعرف لذلك سببا ! .. هل كان هذا بسبب تركيزي أم من خلال صدق ما قرأت ؟!
لقد نذرت نفسي لكي أكون مربياً أكاديمياً . وأخذت على عاتقي عهداً أن أرعى وأشجع الإبداع مثلما كنت فيما مضى؛ أشرف على العديد من الأبحاث والدراسات العلمية والأكاديمية ، ولكنني لم أكن أتوقع يوماً ما أنني سأكون منشطاً ثقافياً، ومحفزا والباعث للآخرين لكي يواكبوا مراحل الإبداع وأشجع الآخر على الخوض في مغامرة الكتابة الروائية كائناً من يكون ، ربما في اللاوعي كنت أحلم أن أكون نموذجاً لبعض الشباب من المسرحيين، أحثهم على العمل والإنتاج والمثابرة والصبر، وأزيد من همتهم وقدرتهم على تحمل صعاب الحياة والوجود، وأنصحهم بالتأمل والبحث والاجتهاد. ولكن المهجر وظواهره المتعددة جعلتني أتأمل العديد من الظواهر التي لولاه لما توصلت إلى معرفتها ، فها هي الزهور التي تفتحت في العراق ذبلت وماتت وتحنطت ولم تعط ثمارها إنما دفعت بأصحابها إلى اعتقادات وتصورات وتوهمات خارج الطاقة والإمكانية . وربما المهجر كان سبباً في موتها ومحاصرتها؛ لذا كنت أكبر من يتحدى الموت وأكبر وأقدر من يتواصل ويستمر وينتج ويكون مجدداً وحداثياً فيما يذهب إليه .. لذا تعلمت خلال هذه الفترة أن التقييم يجب أن لا يكون قاسياً في معاييره، وأتفاءل وأستمد القوة ممن يرى أن الإبداع والموهبة لا تحدهما حدود، وأن الإرادة هي الأساس والطاقة في إيصال هذا المبدع أو ذاك وتواصل ذلك الأديب أو الفنان، وأن المجد ليس وهماً أو حالة نفسية .. كنت أعتقد أن الإنسان موهوب ولا زلت أؤمن بذلك، ولكن الفرد المبدع لا يمكن أن يكون فناناً بدون إرادة تدفعه لكي تظهر مواهبه وقدراته .. صحيح أن البعض يدفن هذه الموهبة مما نعجز أن نتعرف عليه عندما يتخلى عن إرادته في أن يكون خلاقاً ، كنت دائماً مع من ينتج ومع من يريد أن يوصل خطابه بأي شكل أو صورة أو يعبر عن حياته ويطلق لصوته العنان في أن يتكلم بكل وضوح ، كنت مع الاستمرارية مثلما كنت مع التأسيسية ، كنت أخاف على بعض الفنانين الذين أقر بموهبتهم وإبداعهم أن ينهاروا ويتحولوا إلى شخصيات تعيش الفن ولا تنتجه ، بل تحولوا إلى نماذج روائية يمكن أن نكتب حولها العديد من الروايات .. شخصيات فقدت الفعل واحتفظت بشاعرية الحياة .. بعيداً عن الواقع الملموس ، وحالة الصراع المعاشة . والحالة هذه راودتني وأنا ألتقي بزهير الذي لم يعش فن الرواية في الحياة ، إنما خلق من حياته وواقعه فناًَ إبداعياً فيه الفكرة النبيلة والموضوع المعاصر والأسلوب الشيق الذي ما أن تبدأ بقراءة أولى سطور الرواية حتى تبحر إلى نهايتها فتجد نفسك محملاً بالعديد من الأسئلة الجديدة عن ظواهر الحياة والمجتمع . وتدرك أن الواقع المعروض والمبني درامياً له ما يعادله في حياتك الشخصية . وكأنها تطالبك أن تكتب أنت أيضاً روايتك.
لا أستطيع أن أدعي بأنني ناقد فني في مجال الأدب وبالذات الرواية ، كما لا أحب أن أقدم رواية بعينها بعيداً عن مبدعها وعلاقتي به. فمنذ البدء أقول: “إن إنسان منحاز .. متضامن .. وما أكتبه في أحسن الأحوال سوف يكون انطباعياً يعبر عن رأي متلقٍ يتفاعل مع الظاهرة الأدبية من خلال ذاكرته وتجربته وذاته” .
إن هذه الرواية التي بين أيدينا لامستني من خلال العديد من الجوانب
أولا:أنها تهتم بالشأن العراقي بصورة عامة وتحاول أن تسلط الضوء على تجربة جيل لازال يعيش معنا ونعيش معه الحياة في جميع متغيراتها .. إنه جيل الحروب والموت والمجاعة والصراع والحصار.. [ استطاع الكاتب أن يتنبه من خلاله إلى حياته وواقعه ويسلط الضوء على أزمات الإنسان العراقي بكل صدق وشفافية، ويقدم نفسه من خلال روايته كشاهد على عصره. إنها وثيقة أدبية صيغت بأسلوب ولغة روائية حديثة فيها ملامح التاريخ والواقع، ولكنها تتجاوز اليومي والمألوف لكي تقدم الاثنين معاً بقسوة لم أعتد من قبل على تلمسها . إن”يوم البعيد” رواية تختزن تجربة إنسانية فيها خصوصية قد لا نراها في أي عمل أدبي آخر . ومن خلال صدقها تتحول خصوصيتها إلى عمومية تلامس القارئ أينما كان وتغني معارفه وتمنحه الخبرة والتجربة .
ثانياً : كاتبها يتمتع بلغة وشفافية وخيال عميق يثير في وجدان القارئ العديد من التساؤلات ، ويشده إلى الموضوع والحكاية ويقدم له شخصيات كتومة لا تبوح بما داخلها قد يصعب تحليلها من الوهلة الأولى، فهو يسبر غور نماذج اجتماعية تعيش على الهامش قد يتخيل الإنسان أنها لا تعنيه في الظاهر ، ولكنها في الأعماق تغوص في المخفي ، يصرخ من خلالها بصوت غير مسموع داخلي ، يضع القارئ أمام مسئولية اتخاذ موقف.. على الأقل، الموقف التضامني.
إن زهير يكتب بصدق وبراءة بعيداً عن التجميل والتلطيف والوهم يكتب ما يعرفه الآخرون ولكنهم لا يجرؤن على إعلانه وإذاعته فيصدمهم ويحيلهم إلى مراقبين لأنفسهم ومدركين لحجم الخوف من الوقوع تحت طائلة المسئولية السياسية أو الاجتماعية، إنه يعري شخصياته ويقدمها بدون زركشة تبعدهم عن الحقيقة، وإنما يقدم الحقيقة الناصعة والمؤلمة في آن واحد.
إنه لا يكتب عن نموذج بعينه إنما يسلط الضوء على فترة زمنية ومجتمع بعينه من خلال نماذج وشخصيات قد تبدو للوهلة الأولى أنها لا تصلح لكي تكون شخصيات روائية حيث إنها تقدم القسوة مما يدفعك إلى الخوف من استكمال مصائرها الروائية .. إنها شخصيات تخلت عن مسئوليتها في الحياة وكانت سبباً فيما آلت إليه الكارثة .
قد نتفق مع ما يكتب أو لا نتفق ، قد نحاول تجميل الصورة التي عشقها خجلاً من مرارة الواقع الذي ينبض بكل صدق .. قد نرغب في التكتم على ما عشناه ولكن النص الداخلي يصرخ إلى متى ؟! هل له حق فيما يكتب أم لا ؟! .. هل الخجل من الحقيقة يلغي وجودها؟! .. هل التستر على جوانب الضعف بطولة؟! أين حدود الأدب وأين حدود الواقع بعد أن تحول الاثنان لكي يؤكدوا سمات الإبداع والخلق في النص ، ويعلنوا عن موهبة، يجب أن لا تقف أمام حدود معينة بعد أن شقت لها آفاق بعيدة وتجاوزت هي الأخرى الحدود المرسومة أو المصطنعة . إلى أي مدى التحم المبدع مع وعيه وشعوره بالمسئولية؟ كل هذه الأسئلة جعلتني أقرر أن أكتب هذه المقدمة البسيطة متذكراً قول “برشت” : “إن الذي لا يعرف الحقيقة غبي أما الذي يعرفها وينكرها فهو مجرم” .
إن هذه الرواية تضعنا أمام هذا السؤال الكبير وتكشف لنا عن بعض أوجه الحقيقة التي يجب أن تخذ خلالها موقفاً كي لا نتهم بالغباء أو الإجرام في حق أنفسنا وحق إنسانيتنا وإنسانية الآخرين .
إنها شخصيات تعتصرها وتتجاذبها العواطف والأحاسيس.. تشعر بالتعب وتستمد منه القوة لكي تواصل ما بدأت به ، أو أن تصل إلى النهاية التي يجب أن تحدث يوماً ما .. ترفع عن كاهلها علامات اليأس والكسل وتحرق الذات قرباناً على مذبح الأمل والتفاؤل ، تعيش هاجس التواصل بعد أن أحرقت بأيديها السفن المتهالكة والأشرعة المتهرئة ، شخصيات لو امتلكت قليلاً من الهدوء فسوف تكتشف متطلبات الحياة ، ولكنها تفتقد البصيرة والإيمان بأن كل شيء سوف يأخذ مساره النهائي ، وأن تتوقع ما لم يكن متوقعاً ، وأن يحدث ما حدث أو ما سوف يحدث . شخصيات لم تفهم مسئوليتها كما يجب أعطت ، آخر ما عندها بإيمان وصدق ، وتركت ما عجزت عنه بسبب الظروف . لا تندم على شيء ما دامت الحياة تخفي وراءها حلم المجهول والأمل يتدفق عيوناً أليمة مادامت لحظة الحسم النهائي بعيدة المنال . شخصيات لا إرادة لها فيما هي عليه. ذنبها إنها لم تقل لا ، وذهبت ومازالت تذهب كقطيع بشري مهيأ للذبح .تبدو في الظاهر أنها غير مجبرة ، وأنها مخيرة فيما تفعل ، وقد يكون العكس صحيحاً ولكن يبقى السؤال لماذا تفعل وإلى أين تهرب ؟ إنهم يهربون إلى الأمام ، صوب الموت ، يتحملون المشاق ويقتربون من مواطن الخطر ، ويستبدلون الموت بموت ولكنهم رغم هذا وذاك ينتظرون الخلاص أو يسعون إليه . الآلام قادمة لا محالة ، ولحظات المخاض أصعب مما تتوقع .. كلهم يأملون في المستقبل ويخافون أن لا يمسكوا بتلابيب الحظ لأنهم يعتقدون حينها أن الوقت قد فات واللحظة ضاعت .. والبدائل سوف لا تكون كما توقعوها .. إنهم يخترقون المجهول ويطلبون المستحيل ويركبون المغامرة حتى الثمالة .
إن الملاحظة الأساسية التي يمكن أن تؤخذ على شخصيات الرواية أنها سلبية عاجزة ، وإن كانت تحلم بالمستقبل وفعل الحلم والبحث عن الخلاص قد يكون إيجابياً ولكنها تعكس صوراً مؤلمة قد لا يصدق المرء وقوعها أو حدوثها وكأن هذا الواقع قد وصل إلى أقص وأعنف أشكاله وقد نرفض أن نقرأ عن واقعنا ونستحضر من ذاكرتنا ما هو جميل ، إلا أن الرواية ترفض أن تقع في ضعف تجميل الواقع مما يدفعنا للتساؤل : ألا يمكن أن تكون الأحداث أقل قسوة والصورة أقل بشاعة ، وربما هناك من نسى الواقع ولا يريد أن يعترف . أقول إذا لم يكون هذا هو الواقع فلنقم بعملية تغييره أو السعي على الأقل لكي نحسنه ونطوره نحو الأفضل . إن هذا الواقع هو من فعل الإنسان وعليه إذا أدرك مأساته أن يغيره .
إن زهير قد يضعك في اللحظات الأولى للرواية أمام سؤال خطير، هل ستكملها أم لا؟ هل ستتوقف وتستكين للخوف والقلق أم تغامر معه في تكملتها وتتمتع بخوفك وعجزك ، ربما سينتابك الخوف أيضاً على ضمير الراوي وعندما تكتمل الرواية بحدودها تجد أنها قد فتحت أبواب الجحيم من جديد . فالخوف لا يكمن في الرواية إنما في القارئ . والقسوة لا تقرأها بين الحروف إنما موجودة بين طيات الواقع . فهل أن الخوف هو وسيلة من وسائل التغريب للكشف عن الواقع ذاته ؟! .. أم أن الخوف هو لعبة بوليسية تتطلبها صناعة الرواية ؟ أنا لا أميل إلى ذلك ، إلا أنني أؤكد أن القسوة والخوف في هذه الرواية لها بعد فلسفي ، وعلينا أن نعيشه . وقد نكون مع أنفسنا في حوار داخلي ، أكائن أنا، أم غير كائن .. تلك هي المسألة ، أي الحالتين أمثل بالنفس، أتحمل الرجم بالمقاليع، وتلقِّي سهام الحظ الأنكد؟ أم النهوض لمكافحة المصائب ولو كانت بحراً عجاجاً ، وبعد جهد الصراع إقامة حد دونها ، الموت ، نوم، ثم لا شيء . نوم تستقر به من آلام القلب، وآلاف الخطوب التي وكلتها الفطرة بالأجسام ، ونخشاه على أنه جدير بأن نرجوه، الموت رقاد، وقد تكون به أحلام، آه هذه عقدة المسألة! إنما الخوف من تلك الأحلام التي قد تتخلل رقاد الموت بعد النجاة من آفات الحياة، هو الذي يقف دونه العزم، ثم هو الذي يسومنا عذاب العيش ؛ فشخصياته لها أصداء وأصداء ، فلقد تفننت الرواية في الكشف عن المستور والمخفي الذي لا نهاية له.. فهي شخوص تتداعى مع نفسها وتقدم ذاتها العاجزة بشكل بطولي . إنها شخصيات تهرب إلى الأمام مسجونة في ذاكرتها ، يتداعى ماضيها كحاضر ولا تستطيع أن تستشف المستقبل ، تعيد إلى الواجهة الذاكرة المدفونة في اللاوعي لتعلن عن نفسها المفجوعة بالوهم .
هل كان زهير يختبرني عندما طلب مني أن أكتب مقدمة لروايته بعد أن أعلنت عن إعجابي بها وتشهد لكاتبها بقدرته على ممارسة هذا الفن الممتع . أم أنه أراد أن يجاملني لمعرفته الأكيدة بحرصي على عطائه ومحاولات المبدعين الشباب أو ربما يكون تقديراً منه لمسيرتي الفنية ، أم أنه أراد شيئاً آخر لم أنتبه له . أنا الذي لا يشك عندما يرى قدرة العمل الإبداعي.. فإنني أتواصل مع الإبداع والمبدعين وأحرص أن أدافع عنهم كما لو كان استمراراً لعطائي . أفرح للمبدع في عرسه . لم أرفض في البدء ولكنني تحججت بعدم ممارسة هذه المهنة من قبل وطلبت منه أنه يسمح لي باستئذان صديقي لي يقوم بهذه المهمة ، فوقع اختيارنا على الكاتب والناقد المهم في الثقافة العراقية ألا وهو ياسين النصير ، وبالفعل بعثنا بالمخطوطة إلى الأخ ياسين الذي كما عاهدته دؤوباً حريصاً على المواهب والطاقات الشابة، وأرسل لنا مجموعة ملاحظات مهمة حول الرواية كشرط من شروط موافقته المبدئية متحمساً لنشر هذا العمل. وبالفعل أخذ زهير بها ولقد وجدها ملاحظات نقدية تستحق التقدير والاحترام ، وكان علينا أن ننتظر المقدمة . ولكن ظروف النشر وصعوبة إيجاد من لايزال يعتقد بأن دور النشر هي المكان المناسب للمغامرة بطبع الروايات بعد أن احتل العنوان السياسي المكانة الرئيسية لعملها . متحججين بعدم وجود القارئ للأعمال الشعرية والأدبية التي يكتبها الشباب .. كل هذه الظروف أحالت فكرة كتابة مقدمة إلى شيء ثانوي .. ولكنه لم يؤثر على معنويات زهير في الكتابة .. فلقد استمر وربما هناك أكثر من مشروع مكتمل ينتظر فرصته للنشر مستقبلاً ..
وكانت الصدفة تقف إلى جانب الرواية حيث حدث أن توجهت إلى القاهرة أحمل معي المسودة على أمل كبير في النشر.. وبالفعل حدثت المعجزة فلقد مد صديق لي يده بكل نبل ، وعمل المستحيل بكل صبر وتأنًّ ألا وهو محمد الصواف الذي أتمنى أن تكون دار نشره الصغيرة كبيرة بمعناها يوما ما ، لهذا كان علي أن أعود لعهدي وأن أكتب المقدمة في القاهرة ، وفي داخلي رغبة لا تزال غير منطفئة في أن يكتب ناقدنا المهم ياسين النصير شيئا يناسبه عن هذا العمل ، فله الشكر.. أملاً أن تكون القاهرة محطة الانطلاق لهذا المبدع الذي يبشر بمشروع كاتب مبدع .
عوني كرومي
28/8/2002
مقتطفات من قصيدة أيوب البابلي
عقلك – ريح الشمال ، نسمات عذبة للناس
صديقي المصطفى ! نصيحتك غالية
اسمح لي أن أضيف كلمة واحدة
يسير في طريق الفلاح من لا يبحث عن الإله
هزل المتعبدون وذبلوا
طبقت تعاليم الآلهة منذ نعومة أظافري
سجدت خاشعاً ، أبحث عن الآلهة
فجنيت نار الجهد الذي لم يجد نفعاً
وهبتني الآلهة الفاقة بدل الرفاه
الغبي ، أمامي ، والدميم فوقي
كرم المحتال ، وأنا المحتقر
…………………
أريد أن أهجر البيت (…)
حسن ، لا حاجة إلى الثروة
أريد نحر ضحية للإله ، أريد خرق تعاليم الآلهة
سأنحر ثوراً (…)
سأمضي في سبيلي ، وأتوغل بعيداً
سأفتح السد ، وأبعث الطوفان
سأهيم في البراري الشاسعة كاللص
سأطوف من بيت إلى بيت لأطفئ الجوع
سأتشرد جائعاً ، وأجوب الطرقات
وسأدخل مثل أي تافه (…)
السعادة بعيدة (…)
1
آه لو تأتي السيدة أحلام الآن !!
انصرف أكثر الزبائن الباحثين عن رحلات سياحية رخيصة ، من مكتب الفردوس السياحي المتواضع ، والقابع بوسط البلد .. الحي الشعبي في العاصمة الأردنية عمان . أما الزبائن الحقيقيون فقد كانوا يجلسون في الطابق العلوي ، حيث يتألف من مجموعة كراس مريحة تتشكل على شكل الحرف ( L ) في نهاية كل طرف مكتب صغير ، يجلس خلف الأول عيسى الأمين وخلف الثاني د. كاظم.
أما الزبائن فقد كانوا جميعهم من العراقيين الهاربين من الجحيم نحو مدن الفردوس الغربي ، كان عيسى الأمين وهو صاحب هذا المكتب السياحي ، والمهرب الذي ذاع صيته بين أوساط الجالية العراقية الضخمة ، كأحسن وأأمن مهرب في عمان، يدرك بأن المفاوضات ستكون صعبة هذا المساء .. فكل طرف سيحاول قدر المستطاع أن يقلل من خسائره المادية والعلمية في النهاية ، ويقل اعتماد كل طرف على الآخر ، ولا يستطيع أي طرف أن يعيش أحلامه إلا من خلال الآخر !
كان يشعر بقلق غريب وعيناه تترقبان قدوم السيدة أحلام .. وبرغم كونه المهرب الذائع الصيت ،إلا أنه كان يحمل هموم حلمه الخاص .. حلم الهروب بنوعه المسيحي من الشرق المسلم.. كان يدرك بأن عليه أن يكون ثروة كبيرة تساعده وعائلته على الاستقرار النهائي والمريح في العالم الجديد .. أميركا أو كندا أو حتى أستراليا .. مع الاحتفاظ بموطئ قدم في الوطن الأم .. الأردن ! لكن حلمه الجميل هذا لم ينسه هاجسين كانا يعصفان به ، أولهما شعوره بالانتماء العميق لهذا الوطن .. وطن آبائه وأجداده ، وبالتالي اعتقاده الراسخ أن مسيحي الشرق العربي هم بقايا السكان الأصليين لهذه البلاد !! ومن ثم فهو يشعر بثقل الرسالة التي انتقلت إليه عبر أجيال وأجيال ، عبر أساطير وحكايات .. عبر الدم والدموع .. عبر صمود سلالته أمام عمليات التذويب التي تعرضوا لها طوال أكثر من ألفي عام ! فمن الرومان الذين أرادوا صهرهم في دوامة الخلافة الإسلامية الفتية والتي نجحت في إذابة أكثر بقايا النوع الأصلي للبلاد ولونته بلون الصحراء العربية ، لهذا لم يكن باستطاعته أن يوقف رنين الأجراس الحزينة التي كانت تقرع في أعماقه وشعوره بالذنب لكونه سيتخلى عن ميراثه بسهولة ، في حين صمد أجداده أمام كل الضغوط والتحديات .. لم يكن يستطيع أن يمنع إحساساً مذلاً بالهزيمة من أن يتسلل إليه ويقض مضجعه ، ولا أن يوقف نداءاً خفياً يتهمه بالخيانة !!
من جهة ثانية كان يحتله شعور مبهم بالخوف من المستقبل ، ليس فقط على نفسه ، وبشكل خاص على أطفاله ، ويشفق عليهم من البقاء في منطقة مرصودة للعنف والدم ! .. خصوصاً وأن الذاكرة مليئة بالجراح .. والعنف يمتد كالغول على امتداد المشهد الجغرافي والتاريخي .. فمن الدماء الأرمنية التي سألت في لحظات انهيار الإمبراطورية العثمانية الإسلامية إلى الأحداث التي عاصرها هو ، في الأردن والتي عرفت باسم أيلول الأسود ، حيث أراد الفلسطينيون الاستيلاء على السلطة السياسية .. وحدثت المواجهة العسكرية بين مقاتلي المنظمة والقوات الشرعية للملكة .. أخذ عيسى الأمين يدعك جبهته براحة يديه بقوة وكأنه يحاول أن يبعد شبح الذكرى المخيفة ..
لن أنسى أبداً ذاك الإحساس البشع الرهيب .. أن أفقد وطني ، وأن أصبح لاجئاً !! .. وهل يمكن لي أن أتجاهل تلك الحرب المجنونة التي اشتعل أوارها في لبنان ، وصار الوطن يختزل في الهاوية الشخصية وسار الموت على أساس الانتماء الطائفي العنوان البارز في تلك الحرب اللا مقدسة ! .. إن دورة العنف لا تتوقف أبداً في هذه المنطقة .. والمؤشرات تشير بوضوح إلى تصاعد خطر التيار الديني الأصولي هنا وهناك بسرعة تبعث على الدهشة ، وتبعث في الأوصال الرعب من المستقبل ! .. ماذا سيحدث لو استطاع أنصار التيار الديني المتشدد من الاستيلاء على زمام الحكم في الأردن ، كما حدث في إيران مثلاً ؟ أين سنكون نحن ؟ .. وهل سيحتم علينا أن نجتر التاريخ مرة أخرى ، ونجبر على ارتداء ملابس معينة وأغطية رؤوس مميزة لنفرق بها عن المسلمين كما حدث لأجدادنا !! وكما يحدث الآن في أفغانستان .. هل علينا أن نخضع لخيارين لا ثالث لهما .. الحرب الأهلية على الطريق اللبنانية أو الخضوع لسلطة الخوف على الطريقة الإيرانية أو الأفغانية !! لماذا أجبر أولادي على تلك الخيارات المرة ، وأنا قادر على توفير مستقبل أفضل لهم ؟!
كلا .. كلا .. لن أبقي هنا .. ولكني أيضاً لن أرحل تماماً.. علىَّ أن أسير على الخط الذي رسمته لنفسي .. ثروة كبيرة تحمينا من غدر الزمن .. أملاك هنا وجنسية أخرى من هناك تحمينا من جنسيتنا الأصلية الإصابة ! .. وعندما يكبر الأولاد سيقررون هم بأنفسهم مستقبلهم .. الشرق أو الغرب ..
كانت هذه الجدلية ترهقه وتسبب له التعاسة والقلق الدائمين بالرغم من النجاح الباهر الذي حققه في عمله وسيطرته شبه المطلقة على سوق التهريب في العاصمة الأردنية .. لهذا حاول أن يصرف ذهنه مؤقتاً عن هذا الموضوع الشائك ، وأخذ يتطلع في الوجوه الواجمة التي كانت تجلس في المكتب .. خمسة رجال وامرأة .. عبر هذه الوجوه بسرعة واستقرت عيناه على د. كاظم الذي كان يجلس بهدوء خلف المكتب الصغير الثاني الموجود في الغرفة ، هذا العراقي الجنوبي الذي استقر منذ أكثر من عشرين عاماً في يوغسلافيا ، والذي لم يفكر في زيارة بلده منذ أن غادره ولو لمرة واحدة ، بالرغم من أن العراق قد مر منذ ذاك الحين بحربين وهو يرزح تحت الحصار الآن ! .. لكنه لم يزل يحتفظ بتلك السحنة السمراء التي تحمل ألوان طيف الجنوب العراقي الحار ..
يبدو اليوم متوتر الأعصاب .. يعبث بالقلم ، كما هي عادته ، عندما يفكر بموضوع هام ، حيث يبدأ بكتابة جمل باللغة العربية وينهيها باليوغسلافية .. لا أعرف عن ماضيه ألا أقله .. قال لي بأنه من الجنوب العراقي ومن مدينة البصرة ، وهذا واضح بالنسبة لي .. التقينا في روما قبل عامين ، عندما كنت أقوم برحلة سياحية مع العائلة .. كان لطيفاً جداً معنا وقدم لنا خدمات كثيرة لإتقانه اللغة الإيطالية ، ولما عرف بأني أمتلك مكتب سياحة وسفر في عمان أبدي اهتماماً كبيراً بي .. ثم عرفني على طبيعة عمله بصراحة أدهشتني ! .. قال لي بأنه يعمل على تهريب الأشخاص من دول العالم الثالث إلى الغرب ، وذلك عبر إدخالهم إلى يوغسلافيا ، ومن ثم تهريبهم نحو الدول الأوربية لقاء مبالغ معينة، ثم عرض على التعاون بنفس الصراحة المدهشة .. وكاظم هذا أكثر من جواز سفر ، وأكثر من اسم بالتأكيد ! .. فالذي أعرفه هو امتلاكه لجواز سفر عراقي ويوغسلافي وآخر سويسري !! يتحدث عدة لغات بطلاقة ، اليوغسلافية والإنكليزية والإيطالية والعربية طبعاً .. بالرغم من مرور عدة سنوات على تعاملنا المشترك ألا إني لم أستطع أن أخرج بانطباع ثابت عنه ! .. لا يمكن أن يهزه أي شئ ، ولا يمكن استقراء أي رد فعل منه ! .. يمتلك نوعاً من تلك العيون الميتة ! .. جاء هذا الوصف الدقيق على لسان زوجتي عندما رأته لأول مرة في إيطاليا .. تقلقني هذه العيون التي من الصعب الوثوق بها ، لكنه حاد الذكاء وسريع البديهة ، مهما بلغت حراجة الموقف أو المأزق . أذكر تماماً اليوم الذي تم فيه تسفير ثلاثين زبوناً من مكتبنا على إحدي الطائرات المتوجهة إلى بلغراد ، وهناك رفض أحد المسئولين دخولهم إلى المدينة وتم حجزهم تمهيداً لإعادتهم إلى عمان .. عندما نفض عنه رداء اللامبالاة ، وتحرك شئ ما في عينيه ، تحول إلى شخص آخر لم أعرفه من قبل ! .. أرعبني منظره ، ولم يعد أحد قادراً على أن يكلمه ..
أمسك الهاتف وأجري عدة مكالمات ، عرفت فيما بعد ، عن طريق قائمة الهاتف ، بأنه قد اتصل بيوغسلافيا وإيطاليا .. وروسيا ! .. لا أعرف ما الذي قاله في تلك المكالمات ، إلا أني كنت أرقب رنين صوته الذي كان يشبه أزيز الرصاص ! .. تلا ذلك انتظار مقلق .. فعودة هؤلاء يعني أن نتحمل تكاليف سفرهم مرة ثانية إلى يوغسلافيا ، وتلك خسارة مادية كبيرة ، والأهم سمعة سيئة لمكتبنا الذي أصبح قبلة العراقيين الهاربين من الفردوس الثوري ! .. عاود الاتصال بعد ساعتين تقريباً ، وطوال هذا الوقت الذي كان يضغط على أعصابي بشكل لم أمر به من قبل ، لم أكن أجرؤ على طرح أي سؤال أو استفسار .. فأنا أعرف تماماً أن دوري في عمليات التهريب التي تتم عن طريق مكتبي ، ينحصر في توفير الغطاء القانوني لكاظم وجماعته بالأردن ، كما أقوم بجلب العراقيين بواسطة العديد من العملاء الذين أدفع لهم لبث الدعاية الملائمة والسرية للدخول إلى المكتب والذي يعتبر عملياً الخطوة الأولي نحو مدن الأحلام ! .. لم يفتح فمه بكلمة واحدة بعد اتصاله الثاني ، لكنه كان يردد بأتوماتيكية : هم ، هم ، هم ، هم ، وكانت خلاصة هذه الهمهمة المبهمة .. إن علت وجهه شبح ابتسامة .. وأوضح بأن المجموعة كلها قد تم الموافقة على إدخالها إلى بلغراد مع الاعتذار .. ! وأنه سوف يتم تهريبهم إلى إيطاليا أو النمسا في خلال ساعتين من الآن ، عكس ما كان مخططاً له على أساس مبيتهم ليلة أو ليلتين في بلغراد ..
ارتفعت سمعة المكتب بعد هذه الحادثة ، فالأشخاص المهربون قد اتصلوا بأقاربهم وقصوا لهم كيف يتم فتح المطار أمامهم بعد رفض أحد المسئولين إدخالهم في البداية ، وكيف أجبر هذا المسؤول فيما بعد على الاعتذار ! .. وهذا بالطبع لم يحصل ، لكن من المعروف عن العراقيين كثرة المبالغة ،لكنها كانت مبالغة جميلة أثمرت نتائج سريعة .. فازداد إقبال الناس وثقة بنا وصارت عملياتنا تشهد النجاح تلو الآخر .. لكني إلى الآن لا أعرف ما الذي حدث ، وما الذي قاله د. كاظم في الهاتف أو مع من تحدث ؟ .. لن أسأل لأني أعرف بأني سوف أتلقي الجواب غير الصحيح .. ودائماً أتساءل : من يكون هذا الشخص الذي يجلس في مكتبي بكل تواضع وأدب !! .. وما مدى التأثير الذي يملكه أو النفوذ ، حتى يتمكن من فتح مطار بلغراد الدولي بواسطة سماعة الهاتف الذي بمكتبي !.. الجانب الوحيد الذي أعرفه ، هو الذي يسمح به لكي أراه .. فأنا أعرف بأنه لوطي ، يعشق الفتيان الصغار ، ويمارس الجنس معهم بكثرة تثير التقزز ! .. المدهش في أمره بأنه لم يحاول أن يخفي هذا الجانب الذي يحرص أغلب الأشخاص الذين على شاكلته أن يخفوه ! .. يكاد لا يخطو خطوة بدون يوسف ، هذا الشاب العراقي المسيحي الجميل الجالس إلى جواره الآن .. أعرف يوسف منذ زمن ، عندما كان يتردد على المكتب جالباً إحدى العوائل العراقية الراغبة في الهجرة ، وعندما يتم الاتفاق كنت أنقده بعض النقود .. يقول بأنه في العشرين من عمره ، لكن أشك في ذلك ، وأعتقد بأنه قد تمكن من تزوير جواز السفر الذي خرج به من العراق .. له بشرة في غاية النقاء وملامح دقيقة تذكرني بجمال التماثيل الآشورية التي شاهدتها في العراق ومتاحف العالم الأخرى ، فلا عجب في ذلك ؛ فالمسيحيون العراقيون هم أحفاد تلك الحضارة وورثتها ، تماماً كما نحن مسيحيو الأردن !.. قتل والد يوسف في الحرب العراقية الإيرانية وتزوجت أمه من عراقي مقيم في أستراليا ورحلت معه تاركة يوسف في رعاية جديه .. واستطاع هذا بدهاء من إقناع جده بجدوى سفره إلى الأردن بحجة انتظار الدعوة التي وعدته الأم بإرسالها إليه والالتحاق بها هناك ، ومن أنه لا يريد أن يلقى مصير أبيه .. أثر هذا الكلام في وجدان العجوز ، خصوصاً وأن الحروب في العراق تبدو بلا نهاية ! .. ووافق على سفر يوسف إلى الأردن ، وهناك كان عليه أن يعيل نفسه ويعتمد عليها .. عمل صباغاً للأحذية بالساحة الهاشمية في وسط عمان ، هذا بالإضافة لما كانت أمه ترسله من نقود ، فعملية الهجرة إلى أستراليا تستغرق عملياً زمن طويل . عندما شاهده د. كاظم في مكتبي لأول مرة ، سألني بعض الأسئلة عنه والتي أثارت استغرابي ، لأنه عادة لم يكن يكترث بالذين يدخلون إلى المكتب أو بالذين يخرجون منه ! .. فوجئت بعد عدة أيام برؤية يوسف في شقة كاظم ، اعتقدت في البداية بأنه جاء للقيام ببعض الأعمال المنزلية كالتنظيف وتحضير بعض الوجبات الغذائية العراقية الخاصة والتي كان كاظم من المغرمين بها .. كنت ما أزال أحتفظ بمفتاح لشقة الدكتور لأنها شقتي أصلاً .. وفي أحد المرات ذهبت مبكراً إلى هناك ، وكانت صدمتي كبيرة عندما شاهدتهما عاريين في الفراش !! لا أعرف لماذا انتابني غضب شديد وإحساس غريب بأن يوسف ينتمي إلىَّ بشكل ما ! .. هل لأنه مسيحي مثلي . أم هو إحساس بالغيرة !؟ .. لا أعرف ولم أعرف حينها ما الذي يتوجب عليَّ فعله .. لكني ، وبعد التفكير ، قررت التزام الصمت وأن لا أثير الموضوع مع أي منهما ؛ فالقضية في النهاية تبقى شأناً عراقياً ! .. أنا لي هدف محدد ، وهم لهم أهدافهم .. فالمعروف هنا في الأردن أن الكثير من العراقيات والعراقيين قد باعوا أجسادهم بأبخس الأثمان قرباناً على مذبح الخلاص من جحيم بلدهم المحروق .
كانت دائماً عملية مراقبة الأشخاص الذين أقوم أنا بتهريبهم ، تعين لي المتعة الممزوجة بالألم ، أعرف تماماً بأن أستغلهم وأحاول أن استخرج قطعة نقود من جيوبهم .. لكني في نفس الوقت أعرف بأني أحقق أحلامهم .. الهدف الذي من أجله أحرقوا كل المراكب .. وبضعة آلاف من الدولارات لن يكون لها معنى في النهاية عندما تتحقق الأحلام ! .. نظر عيسى الأمين إلى ساعته التي كانت تشير إلى السابعة والنصف مساءً ، ثم توجه بالكلام نحو الوجوه المرصوفة بين دخان السجائر الكثيف .. لكنه لم يَعْنِ بالكلام سوي د. كاظم ..
– أعتقد بأن الآنسة أحلام قد تأخرت على الموعد .. سأذهب إلى الطابق الأسفل لأصرف السكرتيرات عدا ميرفت ، لقد انتهى الدوام ولا داعي لبقائهن .
هز د. كاظم رأسه موافقاً .. وقال بصعوبة :
– من فضلك أجلب لنا بعض القهوة !
– هل هناك من يرغب بشيء آخر ؟
ردت هناء بصوت يصعب سماعه :
– ماء من فضلك !
نزل عيسى الأمين الدرج الحديدي الضيق الذي يؤدي إلى الطابق الأسفل ، وهو يكافح في سبيل المرور بجسده البدين بين حديد الدرج ، ويصدر عنعنات مبهمة .. راقبه د. كاظم وارتسمت على شفتيه ابتسامة وديعة ، وفكر أن عيسى الأمين هذا طيب أكثر من اللازم لعمل كهذا .. كان من الأجدى له أن يجد عملاً في الكنيسة مثلاً ! .. أي عمل ، إنه يسبب لي الكثير من الإحراج مع الزبائن ، أنا أطلب مبلغاً معيناً ، فيلجئون إليه من ورائي لتقليل المبلغ ثم يأتي دوره لإقناعي .. لا يعرف بأني لست أطلب الكثير ، وأن هذه الأموال تذهب إلى أياد كثيرة لا تتوقف عن عد النقود ! .. يجهل هذا البدين الطيب أني مجرد حلقة صغيرة من مافيا واسعة تمتد أذرعها من الصين إلى إنكلترا ومن روسيا إلى نيوزلنده ! .. أظنه يعتقد بأني أملك الآلاف من الدولارات أو ربما الملايين ! .. إنه غبي وطيب ، ظروف العراقيين حولته من صاحب مكتب سياحة وسفر متواضع إلى مهرب للبشر !! .. من غير المتوقع أن يدرك بأنه قد تحول إلى حلقة من حلقات المافيا العالمية .. وأن اسمه قد أصبح معروفاً لديها ! .. لا يعرف بأني أرتعد خوفاً وأفقد إحساسي بلذة الحياة كلما تم تهريب مجموعة من البشر ، خصوصاً إذا حدثت عراقيل معينة هنا أو هناك .. قد أرحمه أنا إن هو أخطئ ، لكن لا أحد سيرحمني إن أخطأت ! .. الموت هو الذي سيكون في انتظاري .. لهذا عملت المستحيل من أجل الحصول على جواز السفر البرازيلي .. لا أحد يعرف بذلك .. أو هكذا أرجو ! .. لكني أثق بعيسى الأمين هذا ولا أدري لماذا ؟ .. عمري كله لم أثق بأحد .. ربما لأنه يحب المال ؟ .. كم كان منظره مضحكاً عندما دخل ذاك اليوم إلى شقتي وشاهد يوسف الجميل بين أحضاني عارياً .. أعتقد بأني لم أشعر به !
نظر د. كاظم إلى يوسف الجالس بجواره ، فازدادت دقات قلبه .. يا الله .. ما أجمل تقاطيع وجهه ، وما أروعه بين يدي وشفتاه تحت شفتي .. حبي الأخير .. لقد بلغت الأربعين من العمر وتعبت كثيراً خلال حياتي ، لن أدعه يذهب إلى استراليا ، بل سآخذه معي إلى البرازيل لنعيش هناك أحلي أيام العمر .. ذاك العمر الحقير الذي قضيته بالخوف والرعب والحرمان ، فلا تزال إلى الآن صفعات أبي تدوي في رأسي .. في الذاكرة وفي الوجدان .. عندما كنت صغيراً هناك في البصرة .. في منطقة المعقل .. كم كان قاسي القلب وعنيفاً ! .. لم ينس أبداً أحلامه الممزقة .. أحلام الشيوعيين التي مزقتها سياط السلطة ، ولم ينس أبداً الثلاث سنوات التي قضاها في السجن ، ثم اضطراره لتوقع التعهد الذي بموجبه أعلن الكف عن العمل السياسي والذي اشتهر باسم ( البراءة ) ! .. بعد إعلانه البراءة السياسية من حزبه الشيوعي ، لازمه إحساس دائم بالذل .. تحول إلى مدمن على الكحول ، ولم تكن تنتهي سهرته إلا بضرب أمي وجلدها بحزامه الجلدي ! وكأنها ممثل السلطة السياسية التي أجبرته على توقيع البراءة المذلة .. حول حياتنا إلى جحيم ، ولم يسلم من أذاه أحد ، كان يضربنا بشدة وقسوة غريبة .. كم أتوق إلى رؤيته الآن لكي أبصق في وجهه وأكيل له كما كان يفعل ، لكنه مات ، بعد أن قتل أمي من الضرب المبرح اليومي .. كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما اضطررت للعيش في منطقة الزبير مع أحد إلى اخوته ، والذي كان رحيماً بي بعد إحدى زياراته لنا ورؤيته بأم عينيه كيف كان يتعامل معنا خصوصاً وأنه لم يكن له ولد أو بنت .. كان عمي كامل يختلف عن أبي تماماً ، من حيث أنه لم يكن مهتماً بالسياسة ولا بالسياسيين ، وعندما كان يسكر يهمه جداً أن يمتع نفسه ويرفه عنها ، يغني ويرقص مع زوجته اللعوب والتي تعرف عليها في حي الطرب وهو من الأحياء المعروفة جداً في البصرة، بل وفي العراق كلها بأنه حي المومسات والقوادين .. كانت ساهرة ، وهذا هو اسمها ، ترقص له كل ليلة تقريباً وهي شبه عارية إلى أن ينام كالقتيل .. في أحد الأيام الصيفية الحارة كنت فيها نائماً على سطح الدار ، استيقظت وأنا في غاية العطش ، نزلت من السطح بهدوء ، فسمعت همساً غريباً .. ارتجفت واعتقدت بأن هذا الصوت منبعث من الملائكة الذين يأكلون في المطبخ ! .. بحسب ما كانت جدتي تخبرنا به عندما كنا صغاراً .. تملكني الفضول لرؤية الملائكة ، فنزلت على رؤوس أصابعي لألقي نظرة واحدة .. فقط .. لكني بدلاً من رؤية الملائكة الملونين بألوان الأساطير ، شاهدت امرأة عمي وهي رافعة ساقيها ، وشخص ضخم الجثة ، كثيف الشعر ، كما الغوريلا ، جاثماً فوقها يكاد يسحقها على الفراش والعرق يتصبب منهما .. لا أدري كم توغلت أو ربما أصدرت صوتاً ما .. فوجئت وأنا أرى كليهما يرفعان رأسيهما نحوي ! ..
كان الشرر يتطاير من عين الرجل الضخم الجثة كما الغوريلا ، صرخت هي بي بصوت خافت خائف ، بأن أعود إلى السطح مرة ثانية .. استدرت على عجل لتنفيذ الأمر ، ولما هممت بارتقاء الدرج ، طوحت بي على الأرض ضربة قوية أفقدتني اتزاني في الحال .. ولما أدرت رأسي لمعرفة من الذي ضربني هذه الضربة القوية ، وقد تبادر إلى ذهني لحظتها أبي ، كانت يد الغوريلا ترفعني من على الأرض .. كان عارياً تماماً ، ثم انهال على بالضرب المبرح والذي لا أدري سبباً له .. لم أكن أجرؤ على الصراخ خوفاً من أن يستيقظ عمي ويرى زوجته على هذا الحال ثم أكون أنا السبب في هذه الفضيحة والتي من الجائز بعدها أن أطرد من بيته الذي كان بالنسبة لي كالفردوس ، قياساً إلى بيت أبي المدمن للكحول والعنف .. جرني هذا الغوريلا إلى الغرفة وأنا أرتجف .. ثم أمرني بأن أنزع ثيابي ، جلس على حافة السرير وهو يرمقني بعينيه الناريتين منتظراً تنفيذ أوامره .. التفت حول ظهره امرأة عمي وهمست في أذنه بأن يدعني أذهب إلى سطح الدار وهي تتعهد له بأني لن أتكلم أو أفوه بحرف واحد من الذي رأيته .. لكنه استدار نحوها وقال بحدة لا تقبل الجدل : يجب أن ( أكسر عينه ) فهمت لحظتها بأنه يريد أن يمارس الجنس معي ، ليس للتمتع بقدر ما هي إهانة وضمانة لعدم تكلمي ، وإن فعلت فإنه سيفضحني وبالتالي ذاك يعني ربما الموت إن سمع أبي بذلك .. عندها توقفت يدي عن مواصلة عملية نزع الملابس .. حاولت هي أن تقبل رأسه وأن تثنيه عن عزمه .. لكنه عاد وأكد بحدة لا تقبل الجدل أيضاً ، بأنه يريد أن يضمن سكوتي من خلال ممارسة الجنس معي ، و حتى يتأكد من أني لن أنطق بحرف واحد ، وأمام إصرارها على منعه ، قام بتوجيه ضربة إليها وأمرها بمغادرة الغرفة ، وأرفق تهديده بأن سحب من تحت الوسادة مسدسه .. استجابت لأوامره وابتعدت خائفة وهي تتجنب النظر في عيني .. فبقينا وحدنا في الغرفة ، كان هو عارياً يسيل منه العرق الغزير ، فيصنع خطوطاً كثيفة على شعر صدره وساقيه .. كنت أمام خيارين .. أن أرفض وذلك يعني العودة الأكيدة إلى بيت أبي أو أن أرضخ لمطلبه .. وكان .
رضيت في المستقبل أن أكون غلامه ، أرتب له المواعيد السرية مع امرأة عمي ، وأن أحرص على توفير كل وسائل الراحة له عندما يأتي ، وأن أنام معه عندما يرغب في ذلك ! .. عرفت فيما بعد بأن هذا الغوريلا ، والذي يدعى ياسر ، إنه رفيق حزبي في التنظيم السياسي الذي يحكم البلد ، ولما أنهيت دراستي الإعدادية طلبت منه أن يساعدني في الحصول على بعثة دراسية في يوغسلافيا ..
وهناك .. عملت كل شئ من أجل عدم العودة إلى العراق .. عملت في المزارع وبيع العملة الصعبة إلى السياح الأجانب رغم خطورة العمل .. كل شئ في سبيل أن أديم حياتي التي اخترتها في الغربة ..
أمسك كاظم جبينه المتصبب عرقاً وألقى نظرة حنون نحو يوسف ، فعاد إليه بعض الاطمئنان .. حبيبه .. لكن ذلك لم يمنع شريط الذكريات من التداعي السريع ، وكأنه على موعد لأن يرى كل شئ .. كل العذابات .. المخابرات العراقية جندته للعمل في صالحها لنقل أخبار زملائه الطلبة !
كان سعدون ، المستشار الثقافي العراقي ، جالساً بكامل أناقته وتكشيرته الأمنية وراء مكتبه الذي تعلوه عدة أضابير ، وفوق رأسه صورة عملاقة لرئيس الجمهورية العراقية !! .. في البداية لم يسمح لي بالجلوس ، تركني واقفاً لمدة طويلة وأنا أرتعش من الخوف ، وكان يبدو متشاغلاً عني بتقليب الأضابير .. ممعناً في تحطيم أعصابي .. فجأة رفع رأسه نحوي وقال بهدوء :
– أنت كاظم جاسم النبهان .. أبوك شيوعي قديم من منطقة المعقل في البصرة .
– لكنه وقع البراءة وترك العمل السياسي منذ زمن طويل!
اعتدل في جلسته واتسعت تكشيرته الأمنية شراسة ، أذن لي بالجلوس بعد أن لاحظ بأن ساقي لم تعد تحملاني ..
– أعرف أيها الغبي .. لكني أذكرك فقط لأنك لم تعد إلى العراق منذ قدومك إلى هنا عكس بقية زملائك من الطلبة .. وأنا .. بكلمة واحدة إلى وزارة الخارجية اليوغسلافية أستطيع أن أضعك على أول طائرة عائدة إلى بغداد .
لم أنطق بحرف .. لم أكن قادراً على ذلك .. كنت أنتظر منه أن يدخل في صلب الموضوع الذي من أجله استدعاني ، ولقد هيئت نفسي سلفاً على قبول أي شيء يطلبه مني !
– لقد قمنا بمراقبة سلوكك عن كثب ، والحقيقة أنه لم تصلني أي إشارة تدل على عدم ولائك لبلدك وهذا الذي شجعني على ترشيحك للمهمة التي عارضني الكثير من أعضاء السفارة من إناطتها إليك ، وذلك بسبب تأكدنا من عدم ولاء أبيك للثورة .
– أستاذ سعدون ..
قاطعني بحدة وغضب شديدين :
– حمار .. كلب .. من سمح لك بالكلام ؟ .. دعني أنهي حديثي أولاً .
أشعل سيجارة وتعمد أن يتباطأ في الكلام .. لكني أشعر ببعض الارتياح ، لأني تأكدت بأنه ينوي أن يوكل لي مهمة ما .. وهذا يعني بأني قد نلت رضاه ، أو هذا على الأقل !
– نحن في السفارة لسنا راضين عن سلوك بعض الطلبة ، وأنا أريد أن أتعرف عن قرب عما يدور في أوساطهم ، وقد اخترتك للقيام بهذه المهمة .
نظر إلىَّ نظرة لا يمكن أن أنساها ما حييت .. لم يكن أمامي أي مجال للرفض أو التردد .. لقد أخبرني في بداية حديثه بأنه قادر على إعادتي إلى العراق متى شاء ، ولست أشك بذلك !
سأفعل أي شئ .. كل شئ .. علىَّ أن أعود للعراق ، وأن أرى أبي مرة ثانية !
– إني رهن لإشارتك أستاذ سعدون .
أبدى ارتياحاً لم يخفه عني ، وبدت تكشيرته أقل عدوانية
– هذا ما توقعته منك ، عليك أن تنصت جيداً لما يدور في الجامع والمقاهي التي يلتقي بها العراقيون والطلبة العرب .. اختك بهم واحرص على تكوين العلاقات الجيدة مع الجميع .. سنقوم بتدريبك على بعض الأساليب البسيطة التي من شأنها أن تعينك على مهمتك الجديدة .. كما أني آمرك بأن تترك عملك في السوق السوداء ، لأن الشرطة اليوغسلافية بدأت تشك بك .. من ناحية المصاريف لا تحمل هماً ، سنقوم بتغطيتها .. وكل ذلك بالطبع يعتمد على الجهد الذي ستبذله ، ومن الآن فصاعداً إذا صادفتك أي مشكلة سنتكفل نحن بحلها لك ، أعود وأؤكد بأن كل ذلك يعتمد على مدى التزامك معنا ولا داعي أن أذكر بما سيحدث في حال إفشائك للذي دار بيننا الآن .
تيبس اللعاب في فمي .. لماذا أنا بالذات مجبر على عمل الأشياء ولست مخيراً كبقية الناس ؟ .. متى أملك الخيار وأمارسه ؟ ..
حياتك الشخصية ملك لك يا كاظم .. أعني مسألة شذوذك الجنسي .. لا تهمنا متى لم تتعارض مع المهمة التي كلفناك بها .. هل عندك سؤال ؟
ازداد اضطرابي ، فآخر ما كنت أتوقعه هو أن تعرف السفارة بأسرار حياتي الشخصية والتي حرصت على إخفائها !! .. وقبل أن أجيب بأي شئ .. قال :
– سنقوم على تدريبك على بعض المهمات الصغيرة في مكان ما خارج بلغراد .
توالت الأعوام وكنت خلالها أقوم بأعمال التجسس حسبما تشتهي السفارة وأكثر! .. لقد مات ضميري ، هذا إذا كنت أملكه أصلاً ! .. لكن هل حدث هذا الموت الافتراضي للضمير عندما أجبرتني الظروف على النوم في فراش واحد مع المدعو ياسر ! .. أم أبعد من ذلك ؟ .. موت الأم التي لم تكن أكثر من إنسان مسحوق ومهان .. أم موت الأحلام الحمراء لأب مهووس بالعنف الثوري .. أم أبعد وأبعد .. لا أعرف ولا أريد أن أعرف الآن .. علمتني الحياة أن أكون أصلب من الصخر .. وأن أرى نفسي في كل المرايا التي في العالم .. أنا ومن بعدي الطوفان .. كتبت الكثير من التقارير وقدمتها للسفارة .. وأعرف أن البعض قد أعيد إلى العراق وأعدم على ضوء هذه التقارير .. أصبح اسمي مشبوهاً بين جميع العراقيين في يوغسلافيا .. لم يعد يثق بي أحد ، .. والآن لم يعد ذلك يحزنني أو يثير فيَّ أي إحساس !
2
كان صوت الهمهمات الصادرة من عيسى الأمين تعلن عن قدومه وهو في أسفل الدرج الحديدي محملاً بالقهوة الساخنة والماء البارد .. وضع الصينية على المكتب وتناول الماء البارد وقدمه إلى هناء التي طلبته ، بعد أن تمتمت بكلمات الشكر الخجول ..قال بصوت جهوري وكأنه يخاطب نفسه أو يحاول أن يقطع جدار الصمت المهيمن على الغرفة ..
– لم يبق أحد في المكتب السفلي ، عدا ميرفت .. الحقيقة إنها فتاة رائعة لقد رفضت الذهاب إلى البيت إلى أن ينفض اجتماعنا .. ولا أعتقد بأن السيدة أحلام ستتأخر أكثر .
ثم قام بتوزيع فناجين القهوة على الجميع .. شرب عماد قهوته بسرعة ثم التفت إلى سمير وقال وهو ينهض واقفاً :
– عزيزي سمير .. لابد لي من الرحيل الآن ..
كانت علامات الضيق بادية على وجهه ، لهذا لم يلح عليه صديقه سمير بالبقاء بالرغم من أنه كان بحاجة إليه في مثل هذا الموقف العصيب .. فمزاج الفنان مثل الريح العاتية ، لا يمكن التنبؤ باتجاهاتها .. أما عيسى الأمين ود. كاظم فقد شعرا بالارتياح لذهابه ، لأنه أصلاً ليس ضمن المجموعة المسافرة ، وكان حضوره فقط لأنه صديق أحدهم ! .. والحقيقة أن د. كاظم كان يفكر في طريقة للتخلص منه باعتبار أن ما سيقال بعد حضور السيدة أحلام من الأسرار التي يجب ألا تذكر لمن يهمه الأمر ! .. نزل عماد الدرج الحديدي الضيق بسرعة وكأن لعنة ما تطارده .. ألقى تحية على الآنسة ميرفت الرائعة كما يسميها عيسى الأمين وخرج .. استنشق هواء الشارع البارد وانتابه إحساس بالارتياح وهو يرى السيارات المسرعة وضوضاء المدينة .. إن إصرار سمير على اصطحابي إلى مكتب عيسى الأمين لا مبرر له ! .. فما الذي يربطني أنا بهذه المجموعة المتنافرة من الأشخاص والألوان ؟ .. لكن لا أخفي بأن هناك شئ ما في الجو العام لهذه الغرفة قد شدني لموضوع لوحة جديدة .. كيف لي أن أرسم كل هذه الوجوه الموزعة في ضباب الدخان ؟ .. د. كاظم ، عيسى الأمين ، صديق سمير ، هذا الشخص الغامض والمدعو داود .. يوسف الجميل ، إبراهيم .. وذاك الوجه الحزين المثير للاهتمام .. هناء ؟ .. عيون .. أفواه يمشي عليها الذباب والخوف .. أم مجرد علامات استفهام معلقة في الهواء ومن حولها ضباب أزرق ! .. هل أرسم الخوف أم الأمل .. أم اليأس ؟ .. سأترك هذا للمستقبل ، لكني لن أنساه عموماً كان هذا اليوم من الأيام القلائل التي طرق فيها الفرح المباغت أبواب قلبي الصدئة .. أنا أرثي لهؤلاء الذين ينتظرون السيدة أحلام حتى يبدأ تقرير مصيرهم ويعرفون السبيل التي عليهم أن يسلكوها نحو دروب الحرية التي ينشدون ، إن عيسى الأمين ود. كاظم لن يبدأ واحد الكلام حتى تشرف السيدة الغائبة .. أما بالنسبة لي فقد حفر هذا اليوم منذ صباحه في وجداني وإلى الأبد .. عندما جلست منتظراً في الملحقية الثقافية الفرنسية الواقعة في جبل عمان .. متأملاً الأثاث الأنيق والزهور الجميلة المنتقاة بعناية فائقة تدل على ذوق رفيع .. تتوسط الجدار المقابل لي لوحة كبيرة تمثل الثورة الفرنسية والتي رسمت طريق الحرية والعدل والمساواة للفنان [ delacroix ] تحت عنوان الحرية [ liberty ] . ثم أطلت عليَّ السكرتيرة لتخبرني بأن السيدة شوفاليه ، الملحقة الثقافية ترغب في لقائي وترجو مني أن أنتظر قليلاً .. فجلست في هدوء أحتسي قهوتي بتلذذ وأتأمل لوحة الحرية .. لقد نقلني مشهد القتلى أو الشهداء فيها إلى هناك ، بعيد .. ( الله أكبر يا عرب قتلوا شبيبتنا ) كان صوت الهاتف المدوي يصم الآذان ويشق عنان السماء الرمادية ، ممزقاً الخوف الذي ظل قابعاً لسنين طويلة كالحيوانات الأسطورية على أرواح الناس وعقولهم .. الجنون والعنف يتطاير من العيون ، وفوهات البنادق تدور في كل مكان وكل الاتجاهات .. متعطشة لهدف ما لكي تمزقه بلا رحمة .. النساء يتراكضن بلا هدف ، ناشرات الشعور ، كاشفات الصدور ، حافيات الأقدام .. متخليات عن الحذر التقليدي .. إنهن المظلومات المقهورات المسحوقات .. دائماً جاء الوقت الذي مزقن كل ذلك وسرن في الشوارع بلا هدف سوى البحث عن معنى ضاع منذ أجيال .. بعد أن ظللن لعقود طويلة قابعات في الدور المظلمة بالخوف ، يحضرن أنفسهن للحزن والندب والبكاء .. كل الرجال في خطر .. كل الأطفال معرضون للقتل .. من يقدر أن يوقف استبداد سلطة الخراب ؟! .. خرجن إلى الدروب وهن يصدرن أصواتاً أشبه بزئير الحيوانات المفترسة .. بين الصراخ والتهليل والهتاف والدموع والدم .. تحولن من مخلوقات رقيقة إلى شئ مخيف ومحير ! .. كن يتطلعن في الوجوه بكل جرأة ، فأي شخص غريب ، وبإشارة من إصبع إحداهن كافية لأن تنهال البلطات والرصاص على هذا الشخص المنكود ، والتهمة هي ، التعاون مع سلطات الخراب ! .. الأطفال يتقافزون هنا وهناك موزعين ما بين الفرح الطاغي من الفوضى التي مست المدينة ، وما بين الخوف من القسوة الجنونية التي مست ساكنيها .. كان الدرس الأول لجيل كامل من أطفال مدينة الناصرية ، هو إتقان فن القتل المجاني ! .. فبعد أن ينسحب الرجال المدججون بكل أنواع السلاح والحقد عن أي جثة .. يأتي دور الأطفال ليجتمعوا حولها متقرفصين ، يتبادلون الآراء ، يقتربون ويبتعدون عنها .. ودائماً هناك من يكون أكثر جرأة من زملائه الآخرين ، ليقترب قدر ما يستطيع .. ويمد إصبعه نحو الجثة .. يمسها ويسحب إصبعه الرقيق بسرعة نحو صدره ماسحاً بقايا الدم في ملابسه القذرة .. بين رعبه وفخره على زملائه .. يندفع بقية الأطفال .. يقتربون أكثر من الجثة التي فقدت قدسيتها بنظرهم ، وتندفع بقية الأصابع الرقيقة ليضرجوها بالدماء ، وليستوعبوا الدرس البليغ الذي يجب أن يتقنوه في مستقبل الأيام .. فهناك دائماً .. عدو يستحق القتل !!!
كان الجنود الممزقة ثيابهم وأحلامهم وكبريائهم .. هم الذين يقودون الثورة .. إن الموت التكنولوجي العجيب الذي جلبته طائرات التحالف والذي حصد أرواح زملائهم وسط ذهولهم وعجزهم التام والمذل ، ثم مجيء الدبابات والجرافات لتكمل ما عجزت عنه الطائرات واكتساح ما تبقى من الجيش العراقي ، تاركة الجثث تفترش الطرق على امتداد مئات الكيلومترات .. قد دفع بهم نحو الغضب العارم والعنف المنفلت .. توجه الغاضبون يتعقبون رموز النظام الذي خانهم وتركهم لوحدهم يواجهون إعصار الموت الحديدي .. وامتزج طعم الهزيمة بطعم الخيانة .. واختلط الغضب بالحقد .. كان دخول هؤلاء الجنود المهزومين إلى المدن الجنوبية .. الشرارة التي أشعلت كامل الجنوب العراقي .. اندفع الناس نحو المكاتب الحكومية والدوائر الرسمية والمدارس والمحاكم والسجون .. انهالوا تهديماً وتحطيماً وحرقاً .. كان منظراً يثير التقزز زائدة الحيرة والخوف من جنوح الغوغاء !!
وقفت أمام مدرسة ثانوية للبنات في منتصف مدينة الناصرية .. أخذت أرقب الناس الذين يخرجون منها محملين بالقرطاسية والأثاث ، بل و حتى المقاعد الدراسية ! .. لم يتركوا أي شيء .. وأخيراً أضرموا النيران فيها .. كانت في يوم قريب مركزاً لتجمع قوات الجيش الشعبي الموالي للنظام الحاكم ، فهي إذاً رمز لسلطة الخراب !! .. لكن السؤال الذي تبادر إلى ذهني : هل نحن لم نعد بحاجة إلى المدارس إذا ذهب هذا النظام وجاء غيره ؟! .. ما هي العلاقة بين المدارس وبين هذا النظام وذاك !!.. أم أنها بداية حقبة تحرق فيها المدارس والعلم قرباناً لإله جديد!! .. كان من الصعب أن أقوم بفرز المشاعر التي اختلطت بشكل عجائبي وظل الغد يقلقني ..
مضى اليوم الأول والثاني والفوضى تأبى أن تستكين .. فعمليات البحث عن المتعاونين مع السلطة ما تزال جارية على قدم وساق ، وكذلك عمليات السلب والنهب والحرق . كان القانون السائد في عرف هؤلاء هو .. يجب إزالة كل ما يمت بالسلطة وبسرعة ! .. تلي ذلك دخول أفواج من السيارات العسكرية من اتجاه الحدود الإيرانية وهي محملة بالمليشيات المسلحة .. عراقيين وإيرانيين .. ومع دخولهم الواسع ازدادت حدة العنف وارتفعت الشعارات الدينية .. وعلى نفس أشجار النخيل العراقي الصابر الذي انتزعت من على جذوعه ، قبل يومين لا أكثر ، اللافتات التي كانت تمجد سلطة الخراب ، ارتفعت لافتات تدعو لرموز جديدة .. وربما لخراب جديد !! ..
بدأت الآن تحدث عمليات القتل المؤدلج للثورة اليانعة ، لصالح القادمين الجدد ، وسيطر رجال الدين على الشارع الفوضوي ، والذين لكثرتهم اعتقدت بأن الأرض قد أنبتتهم بمعجزة سماوية ! .. قطفت ثمار الثورة لصالح رجال الدين وانتهى الأمر .
اختفت النساء من الطرقات .. عدن إلى التوجس والخوف والقلق ، وازداد عنف الناس بشكل مذهل ، وخبت علائم الفرح من وجوه الأطفال ، انتشرت الفتاوى الدينية بشكل عجيب تبيح القتل والسحل وكل أعمال الانتقام ، لا أحد يعرف مصدر هذه الفتاوى ولا مدى صحتها ، لا أحد عنده الوقت ليسأل أو يتأكد .. فالمعركة مع النظام المحتضر لم تحسم بعد ورجال الدين هم دائماً على حق ! .. ألا يوجد حل وسط ؟ .. أهو الانتقال من سجون القوميين الفاشيين إلى سيوف الإسلاميين المتعصبين المهووسين !!
يبدو لي بأن الحرية لا تنبت أبداً في أرض العنف الأبدي ، حيث الرحمة والغفران والإيمان والمحبة كلمات تذروها الريح بعيداً إذا ما جد الجد ! .. أمن أجل هذا الوضع الشاذ ثار أخوي ، نادر وجلال ، ودفعوا حياتهما ثمناً للفوضى ؟ .. أهما حقاً كانا ينتميان لهذه المجاميع الحاقدة عقائدياً ! .. هل كانا يحملان نفس القدر من طاقة القتل والتدمير ؟ .. لقد تحول القتل إلى حفلات هوس جماعي ! .. وحاولت أن أتقمص مشاعر محافظ الناصرية الذي أوثقه الثوار على مؤخرة شاحنة كبيرة ، من يديه وساقيه وطافوا به في الطرقات ! .. حاولت أن أمس الحد الأدنى من مشاعر الرعب التي تلبسته .. لم أستطع ! .. فكل الذي استحوذ على هو القرف والقشعريرة التي هزت بدني بشكل عنيف .. بعد أن مل الثوار من هذه اللعبة ، قتلوه ومثلوا بجثته !! .. شعرت بارتياح لمقتله ، فأحياناً يكون الموت أمنية حلوة المنال ، كما لهذا الشخص المنكود ! .. وأصبح أبدأ التعاطف مع موقف إنساني كهذا الذي حصل للمحافظ ، في عرف الثوار الذين جاءوا يبشرون بعهد جديد ، تهمة وخيانة للثوار الوليدة ! .. وبالتالي الموت على نفس منطق سلطة الخراب وبنفس الأسلحة الإرهابية وعلي عين الدرب الدموي الذي ثاروا عليه !
كم يبدو كلام ، نادر وجلال ، الآن أجوف وبلا معنى ، عن اليوتويبيا الدينية العادلة ، القائمة على أساس المثالية العائلية التي تظللها مبادئ المحبة والإيمان ! .. يا تري لو قدر لهما أن يشهدا هذه الفوضى الدموية الضاربة أطنابها في المدن التي وقعت تحت رحمة هؤلاء الثوار الجدد ، هل كانا سيحملان السلاح ويتحولان إلى وحشين كاسرين وأداتا قتل لا تعرف الرحمة .. أم كانا سيتوقفان مثلي والقرف يملؤهما ! .. لقد جئت إلى الناصرية وأنا أحلم باليوم الذي ينصفان به ، ويعاد إليهما الاعتبار .. اعتبارنا جميعاً .. لننتقل من لائحة الخونة التي صنفتنا تحتها سلطة الخراب إلى صف الثوار الأحرار ! .. أين الحقيقة ؟ .. إلى أين تمتد جذوري ؟ .. وهل المسميات تحجب الحقائق ؟ ..
عموماً هذا هو يومي الأخير في عمان .. لقد عبرت البرزخ الذي يفصل بين الجحيم وبين الفردوس كما جاء في الكتب المقدسة ، وليس علىَّ أن أنتظر كما يفعل الآن سمير ، ومع تلك المجموعة الغريبة في مكتب عيسى الأمين على أمل أن يتم تهريبهم إلى مدن الأحلام ،من تحت البرزخ .. أما أنا فسأمر من فوقه ! .. لكن السؤال الذي يقلقني هو : كم أحتاج من السنين والزمن لمحو الذاكرة السوداء والتي غطاها السخام والعفن .. هل هو نفس الزمن الذي أحتاجه نوح لبناء سفينته العجيبة ! .. كم أحتاج من الوقت حتى أولد من جديد ؟ .. وأشباح الماضي هل ستكف عن مطاردتي .. كما حدث اليوم أيضاً وأيضاً عندما جاءني ذاك الشخص المدعو سيد أحمد ، والذي لفرط نحافته شبهته بعصا الشيطان ..
أقدم لك نفسي .. أنا سيد أحمد الربيعي ، أحد قادة ثورة الجنوب العراقي ، كما يشرفني أن أدعي بأني أعرف الشهيدين ، نادر وجلال ، أخوة حضرتك يا سيد عماد .
– أهلاً وسهلاً .
قلتها بجفاف وكأني أحمله مسئولية إعدامهما .. تركت له الحديث الذي طال وتشعب ، لم أنطق خلاله سوى بالكلمات المبهمة التي كانت تصدر عني بين الحين والآخر .. كنت أريده أن يصل إلى النهاية المباشرة لهذا الحديث المؤلم .. لماذا لا ينتهي هذا اليوم الأخير الذي تمدد على طول مسامات عقلي وجسدي ! .. إنه يبدو كذاك اليوم الملعون .. الجمعة الكئيبة ، والذي بدأ منذ الساعة السابعة والنصف ولم ينتهي حتى اليوم ! .. كنت أتقلب في فراشي محاولاً بيأس أن أمسك بأطراف النوم الهارب من بيتنا منذ أن ألقت السلطات القبض على نادر وجلال ، قبل خمسة أشهر بالتمام .. لم أعبأ بالطارق المبكر ، فمنذ أن تم القبض عليهما وبيتنا لا يخلو من الزوار .. والجواسيس !
تنبهت على صوت ارتطام شئ ما على الأرض .. لا أعرف من أين تملكني هاجس بأن هذا الشيء هو جسد أمي ! .. نهضت مسرعاً ، ولقد أصدقني الهاجس المخيف ، حيث شاهدتها مرمية على الأرض ، خلف الباب الرئيسي للدار ، وأبي منحنياً فوقها بلا صوت ، متكوراً تحت أقدام أشخاص كثيرين يرتدون الملابس العسكرية الخاصة بأفراد الجيش الشعبي والرفاق الحزبيين ، وكانوا يحملون أوراقاً ، ومدججين بالسلاح والنظرات النارية ! .. نظر إلىَّ أحدهم عندما ظهرت من وراء باب غرفتي ، وصاح بي ..
– أنت أخو المجرمين نادر وجلال ؟
بانت إجابتي من خلال الصمت الرهيب الذي استولى عليَّ والهلع الذي بان في وجهي .. خطا فوق أبوي بخفة وناولني حزمة من الأوراق ، وقال بلهجة لا تخلو من الأمر ..
– وقع هنا !
كان القلم يرتجف في يدي وعيناي على أبي وأمي ، كان صمتهما يذكرني بصمت المقابر .. ولما رأى بأني غير قادر على التوقيع ، أمسك بيدي وأجبرني على ذلك .. كانت البرودة التي في يديه غير عادية .. هل هم أموات متنكرين في زي الأحياء ؟
اندفع بعد ذلك المزيد من الرفاق الحزبيين ، وهم يحملون جثتي نادر وجلال .. تجمع عدد كبير من الناس على باب بيتنا ، لكن الرفاق الحزبيين منعوهم من اقتحام الدار .. لم أعد أفهم أي شيء ، ولا حتى كلام الشخص الذي أجبرني على التوقيع وهو يقول لي بعنف ممزوج بالخوف وعيناه على الباب والناس الذين تجمعوا :
– الآن عليكم أن تدفعوا ثمن الرصاص الذي أعدم به الخونة .. إن الدولة لا تدفع ثمن رصاصهم .
استطاع أخيراً مختار المنطقة من الدخول إلى الدار وأن يدفع هو من جيبه المال الذي ، أرادوه استدار الرفيق الحزبي نحوي ، ومد إصبعه إلى صدري ، وقال بحدة وصوت عال :
– ممنوع إقامة الفاتحة لهما ، كما يمنع إصدار أصوات الصراخ أو البكاء أو أي مظهر من مظاهر الحزن .. مفهوم ؟
كان يوم الجمعة الكئيبة ذاك والذي بدأ ولم ينته إلى الآن ، ولا أظنه منتهياً .. ما يزال يسحق روحي بمزيد من القسوة ، وهذا السيد ، أحمد الربيعي يتكلم وهو يعتقد بأني مصغ إليه ، ويطنب في امتداح أخوي اللذين دفع مختار منطقتنا ثمن الرصاص الذي ثقب جسديهما من جيبه الخاص .. واصفاً إياهما بالشهيدين اللذين ينعمون بالجنة الآن ! .. كل حزب فرح بما لديه .. يملك مفاتيح الجنة والنار ، يدخلون من يشاءون ويحرقون في الجحيم كل من يعارضهم ! .. ترى أين يقف الآن نادر وجلال ؟ .. الدولة اعتبرتهم من الخونة الذين يجب أن يدخلوا الجحيم ، وهناك في العراق المئات من رجال الدين من يؤيد موقف الدولة ومنطقها ، وهذا الذي يقدم لي نفسه ممثلاً لحزب ديني معارض ، يعتبرهم من الأبرار الذين ينعمون بمزايا الفردوس .. وخلفه رهط من العلماء الذين يؤيدون دعواه .. ترى هل تقاعد الله عن عمله وسلم المفتاحين لنا ..!
ظل السيد أحمد يواصل كلامه المحموم عن الجنة والنار .. إلخ ، معتقداً أن صمتي الذي طال عليه ، موافقة على الهذر الذي يحكيه .. مما أعطاني فرصه أخرى للانزلاق في دهاليز الذاكرة وذاك اليوم الذي لا ينتهي ..بل وأبعد من ذلك .. فلقد كان أبي يملك عشيقة!.. أنا الوحيد الذي كان يعرف هذا السر الخطير .. اكتشفته بالصدفة ، فأمي المسكينة قد شاخت وأدركتها التجاعيد منذ سنين طويلة .. لهذا السبب أو غيره بحث أبي عن المتعة خارج غرفة النوم الشرعية !.. شاهدته يخرج في أحد الأيام من بيت لا يقع في منطقتنا .. طاردت الحقيقة حتى وقعت عليها فلقد هالني أول الأمر أن أراه معها ومعها طفل في الخامسة من عمره ، اعتقدت بأنه أخي الذي لم أعرف به من قبل !.. لكني اكتشفت بأنه قد تزوج منها زواج متعة من امرأة رجل استشهد في الحرب العراقية الإيرانية ، إن هذا الطفل هو ابنها وليس أخي !.. راعني مدى الزيف وعدم المصداقية التي يتمتع بها أبي، كما انهارت الهالة القدسية التي كان حريصاً على أن يحيط بها نفسه !.. لقد كان يرتدي معطف الورع والتقوى بمجرد أن يدخل إلى دارنا ، ويكثر من ترديد الآيات القرآنية والأحاديث المنقولة عن هذا الإمام أو ذاك !.. أجزم بأنه يعتقد ، وهو الستيني الذي ارتضي لنفسه أن ينام مع امرأة من جيل أولاده ، بأن الله يوجد فقط في هذا البيت ، أما في الخارج فلا رقيب ولا حسيب حيث لاوجود لله !.. ويمكن نسيانه بين ساقي امرأة عشرينية .. أم تراه كان يعتقد بأنه يلعب دور الإله في بيتنا !!.. نفضت رأسي بعنف لأطرد هذه الذكريات ، وانتبهت بأن السيد أحمد لم ينته بعد من حديثه الطويل والممل ، والذي كان يكثر من الاستشهاد بأقوال الأئمة والصالحين .. لماذا لا يتركون هؤلاء وشأنهم ؟.. لست على يقين سيتركني إن كان سيتوجه إلى أحد بيوت الله أم أحد بيوت الدعارة !.. إن مبشري الأحزاب السياسية المعارضة السلطة الخراب في العراق ، يدورون في عمان وغيرها من مدن الغربة .. حيث شعب الله المنبوذ ، مشرد ووحيد .. تقتله الغربة والهموم .. يبشرون بدور القاتل بدلاً من دور القتيل .. يعدونه بالعنف المضاد وأسطورة الثأر الخالدة .. يغذون فيه شهوة القتل الموعود باسم العدالة التي ستتحقق على أيديهم !!
– أعرف تماماً يا عماد بأن عائلتك قد ضحت بشهيدين ، وهذا وسام تفخرون به كما يفخر بهم الشعب العراقي ، وهذه تضحية كبيرة ، المهم أن لا يهنأ القتلة ، وأن نواصل الكفاح وإحلال العدالة الاجتماعية ، ونحن على استعداد لتقديم يد المعونة إليك حالما تصل إلى أوربا أو أي مكان تنوي الوصول إليه .. وبالتأكيد ستحتاج لهذه المعاونة و …..
– عليَّ أن أغادر الآن ، فلقد بدأت تثير قرفي يا سيد.
تركته وأنا أشعر بأن الهواء الفاسد كان يحيط المكان الذي يتواجد فيه هذا الشخص ..
حاولت أن أتذكر شيئاً جميلاً ، لأمحو من الذاكرة سريعاً صورة هذا القاتل الوديع الذي يبشر بالثار قبل العدالة التي تحدث عنها طويلاً .. تذكرت إطلالة مدام شوفاليه ، الملحقة الثقافية الفرنسية ، من وراء الباب وهي في أناقة باريسية مبهرة ، مع ابتسامة لم أرى أرق منها
طلبت أن أصحبها إلى غرفتها .. كانت تمشي أمامي وعطرها يملئ الجو ، فتبادر إلى ذهني المحموم سؤال : ماذا لو قدر لهذه المرأة الرقيقة أن تتواجد هناك .. في الجانب العراقي الدامي في غلطة زمنية أو قدرية .. هل يمكن أن تستوعب حجم العنف الدائر بين أبناء الوطن الواحد منذ أيام السومريين وإلى الآن !
أستاذ عماد ، لقد تمت الموافقة على منحك سمه الدخول إلى الأراضي الفرنسية ، وهي من النوع الاستثنائي لكونك فناناً معروفاً لدينا .. ورائعاً
آه .. كان من الصعب دائماً أن أتماسك أمام الجمال .. إن المرأة الجميلة تحولني إلى قطعة من المشاعر المضطربة .. لقد أحرقت بإطرائها الرقيق أعواد النرجسية في أعماقي مع إعلانها الموافقة على دخولي إلى أرض أحلامي .. باريس !
ثم بدأ الحديث عن الأعمال الفنية والتاريخ العريق للحركة التشكيلية في العراق وكان من أجمل الأوقات التي عرفتها ..
أتمنى أن تسير الأمور على ما يرام بالنسبة لسمير في مكتب عيسى الأمين .. لقد فاجأته بالأمس عندما تناولت الخمر معه .. كان الكأس الأول في حياتي ، وكان خمراً عراقياً حاد المذاق .. كشرت عن أنيابي وأنا أرتشفه ، كطفل يخطو خطوته الأولى أو كسقراط حينما تجرع السم في سجنه راضياً .. كذلك أنا .. كنت راضياً لأني أريد أن أمحو من الذاكرة الكثير من الأشياء .. أن أتحدى ، نادر وجلال ، أو ذاكرهما بعد الذي شاهدته في مدينه الناصرية من فوضى اختلطت بالثورة أو ثورة ذابت في الفوضى!! قال سمير وهو ينظر إلى كأسه الفارغة .. بألم :
– غداً سترحل يا عماد ، وأنا بعدك ، كذلك غيرنا .. كل العراقيين الموجودين في الأردن سيرحلون .. يأتي غيرهم ويرحلون أيضاً .. وهكذا .. إن البلد يفرغ بطريقة رائعة!.. قبل أكثر من ثلاثين عاماً لم يكن العراقيون يفكرون بالرحيل .. أما الآن .. علماء ، مثقفون ، خريجو الجامعات ، الغواني ، حتى اللصوص ، فلم يعد في البلد شئ يسرق !
سكب المزيد من الخمر في كأسه وتجرعه بسرعة ، وكأنه يريد أن يوقف هذه التداعيات المؤلمة .. أما أنا فقد بدأ كأس الخمر الأول يفعل مفعوله في عقلي ولساني .. أثارتني كلمة اللصوص ،فسألته عمن يقصد ؟.. قال وهو يمسح فمه ثم يلتهم قطعة من الخياأأااأأأأ ايابللتهخختتنمنحجحج-أر :
– اللصوص هم اللصوص !
– إن التسمية تختلف بفعل الزمان والمكان .. في العراق أعتبر أنا من المجرمين ، لأن لي اثنين من الأخوة اللذين أعدما بسبب انتمائهما لأحد الأحزاب السياسية المعارضة لسلطة النظام . أما هنا .. خارج العراق .. أعتبر من المناضلين الثوريين .. والحال لا يختلف كثيراً عن اللصوص ! سكبت مثله المزيد من الخمر في كأسي ، كنت مصراً على الإيغال في عالم اللامعقول ، أشعر بأن كل حواسي اليوم مستفزة وكذلك أفكاري .. فهذه هي أيامي الأخيرة في عمان ، في الأردن .. في كل العالم العربي .. وبعد أيام سأكون هناك بعيداً عن مراكز العنف ، والعنف المعاكس ، بعيداً عن عالم الموت المجاني تحت مذابح الشعارات المقرفة !.. آه لو أستطيع أن أجلس الآن أمام لوحة بيضاء ! .. أريد أن أفرغ الشحنات غير العادية التي تدور من رأسي إلى أخمص قدمي بسرعة الضوء .. صاعدة نازلة .. تبحث عن منفذ للخروج ، لخلاصها وخلاصي ! .. بعد أيام سأكون في باريس .. فردوسي أنا وكعبة أحلامي .. وليس الفردوس التي بحث عنها نادر وجلال .. أنا أكثر بساطة منهما ، وطموحاتي ليست في السماء .. منذ صغري وأنا أبحث عن جنتي في الأرض .. باريس كانت مرسى أحلامي والتي تسللت أضواؤها إلى أعماقي من حيث لا أدري ! .. نادتني كالمسحور ، فتبعت ذاك النداء .. درست تاريخها ورموزها وحكاياتها .. فنانيها وأدباءها .. أتقنت لغتها لأني لم أرد إزعاجها بدخول أجنبي لا يعرف لغتها على هامش نبضها ..
ذات يوم لا أجد تاريخه في ذاكرتي المتعبة .. جاء نادر وجلال من المسجد وهما يتأبطان كتاباً ومسدساً ! .. كنت قد فرغت تواً من ارتشاف الشاي مع أبي وأمي ثم استأذنتهما للدخول إلى غرفتي لكي أرسم .. كان دخولهما عاصفاً ، وسمعت حوارات حادة وعبارات تقريع من أبي موجهة إليهما .. حاولت تجاهل الموضوع ومتابعة الرسم .. لكني في النهاية لم أستطيع أن أمنع الأصوات المتصاعدة شيئاً فشيئاً من اختراق غرفتي ولا من منع أمي وهي تقتحم الغرفة والهلع باد عليها .. خائفة لكنها لم تنطق بحرف واحد ! .. لم يكن هناك داعٍ للإيضاح .. هناك مشكلة وعلي التدخل .. تبعتها إلى الخارج ولما صرت بينهم ، ران على الجميع صمت مطبق .. كانت نظرات نادر وجلال نارية موزعة في كل الاتجاهات .. أبي كان منفعلاً بشدة ، لم أستطع أن أميز من بين ملامحه .. سوى الخوف .. بعيون قلقة نظرت إلى كتاب ملقي على الطاولة التي تتوسطهم .. كان يحمل عنوان ( فلسفتنا ) للإمام محمد باقر الصدر الذي أعدمته السلطات في بداية السبعينات ! .. وكذلك في مكان قريب من نادر ، كانت هناك قطعة قماش مفتوحة بها مسدس ! .. إن وجود كتاب كهذا في أي بيت كفيل بجلب تهمة التآمر على السلطات والتعاون مع الإيرانيين ، خصوصاً وأن الحرب دائرة بين البلدين منذ سبعة أعوام ! .. فهمت على الفور القلق الذي انتاب أبي ، وله ما يبرره في ظل حملات المداهمة الروتينية التي تتعرض لها الأحياء الشعبية في مدينة الثورة والتي تسكنها غالبية شبه مطلقة من المسلمين الشيعة .. هذا بالإضافة إلى وجود المسدس ، وهي تهمة لا تقل عن سابقتها خطورة! .. بل تعزز الفكرة السريعة والواضحة ، من أن نادر وجلال قد اختارا طريق الانتماء إلى حزب ديني ، والكفاح المسلح لإسقاط النظام السياسي !
مالنا وهذه المشاكل ! .. صحيح أننا نعاني من الاضطهاد والفقر ، كعائلة من أغلبية الشعب ، صحيح بأن طالما حلمت بتغيير النظام ، لكن بأقل كمية من العنف والدم ! .. صحيح بأني دائماً أنظر بإعجاب إلى المناضلين الثوريين الذين رفضوا الإذعان للسلطة والخنوع لها واختاروا طريق الكفاح المسلح في الجبال أو في الأهوار .. لكنهم هناك ! .. بعيداً عن الأعين ، أجمع صورهم في مصاف واحدة مع أنصاف الآلهة وأبطال الأساطير ! .. لكنهم يبقون هناك بعيداً وليس بيننا ! .. يا إلهي .. ما أغرب أن تصحو على حقيقة غير مرغوب بها ! .. أبي مثلي ، كان دائم التذمر من الأوضاع السياسية للبلد .. يحلم كما غيره من الحالمين بالثورة التي ستقوم بها الملائكة في يوم ما ! .. فالملائكة ليسو أولاده !!
استنجد بي من خلال نظرة ذات مغزى عميق .. أردت من كل قلبي أن أقول شيئاً ما .. بدافع الرعب على مصير أخوي .. لكني بمجرد النظر نحو عينيها ، أيقنت عدم جدوى الكلام ! .. خسرت وإياك يا أبي المعركة إبقاء النار بعيدة عن دارنا .. إن الملائكة تنزل من السماء لتقاتل في معركتنا لتغيير النظام .. إن الذين يقومون بذلك هم بشر حقيقيون ليسوا في الجبل أو الهور .. بل هنا في قلب المدينة .. هنا في بيتنا .. في قلب أبي وأمي .. وقلبي !!
لا أعرف بالضبط أي تيار ديني هذا الذي أسلما إرادتهما إليه واقتنعا بصحة اطروحاته ! .. لم أفكر في سؤالهما .. فأنا مع الثورة ، لكني أكره الأحزاب .. علمانية أو دينية .. كرهت دائماً أن أحلم بثورة كالبقرة المدجنة التي يمتطيها ويجلبها حزب واحد مهما كان لونه السياسي ! .. حلمت دائماً بثورة كالحصان الجامح الذي يعشق حريته ولا يعيش بدونها ! .. ثورة لا تجلب الدم .. تنبت حدائق الورد .. لا تبرر وجود أعواد المشانق في ساحات الاحتفالات القومية أو الدينية ! .. ثورة بألوان قوس قزح في يوم ندي .. ضد الانتماء .. بلا حدود ..
كان مفعول الكحول العراقي القوي قد بدأ رحلته الغريبة في عقلي ووجداني ، وحرر لساني ، وكان سمير يصغي إليَّ وأنا أدلي بكل ذلك بدون أن يفتح فمه بأي حرف .. احترم وقت اعترافي ، وأدرك بأني أريد أن ألقي بكل ذلك قبل الرحيل .. أردت أن أتطهر ، وأن أرمي كل الأماني الزائفة بالثورة النقية .. كل الخيبات .. أردت أن أدخل باريس كما العابد في المعبد !! ليس في قلبي غير المحبة والخشوع .. ورغبة هائلة في النسيان ..
3
كان سمير يعبث بورقة أمامه ويصنع ثقوباً فيها بالسيجارة التي في يده .. رغم أن الرائحة المتولدة عن هذا الحرق المتعمد كانت تثير عيسى الأمين وتوتره ، لكنه لم يستطع أن يقول شيئاً ، لمعرفته أن الانتظار قد طال ، وأن الضجر قد بدأ يتسلل إلى النفوس .. كان بوده أن يحسم الأمر وأن يبدأ الدكتور كاظم كلامه .. لكنها لم تأت بعد ، وكاظم لا يريد أن يقول شيئاً حتى تأتي السيدة أحلام .. وفي الحقيقة إن سمير الذي كان يقوم بحرق الورقة بالجمرة الملتهبة لسيجارته ، لم يكن يدري بأن عمله هذا كان يثير أعصاب عيسى الأمين ، بل هي محاولة منه لاستدعاء تفاصيل ذاك اليوم البعيد والعجيب .. اليوم الأخير في بغداد ..
لقد كان الفجر ندياً وجميلاً ، عندما توقفت الديوك عن إصدار ذاك النداء الأزلي .. لكن زقزقة العصافير لم تهدأ بعد .. نظر نحو الخط البعيد الملون والذي يفصل غموض الليل عن النهار وشعر بالتوحد معه .. فكر بحزن .. لماذا ينام الناس ولا يستقبلون الفجر بكل إجلال ؟ .. لماذا لا يركعون له ويذوبون في جماله الأخاذ ؟ .. في كل الأحوال هم يركعون لمن يذلهم ويسحق كبرياءهم ! .. لماذا هو ينتابه شعور جميل بالتسامي ، وتكاد روحه تخرج من جسده وترقص معه وله .. رقصة شديدة العنفوان .. حيث لا حدود للانفعالات ولا حدود للتعبير .. ومع ارتفاع الشمس .. شيئاً فشيئاً .. تعود الروح إلى الجسد وتستقر منهكة ، تحلم باليوم الذي تخرج فيها بلا عودة ، والذوبان الأبدي بأشعة الفجر الذهبية !!!
كل شئ بداخله متوتر .. فهو يعرف تماماً بأنه يقف على سطح الدار للمرة الأخيرة ومتأكد من أنه يشهد الآن شروق الشمس الأخير من هذا المكان .. شمس تسبقها من جديد أشعة حارقة ، كما أنها ستدور دورتها البلهاء كما كل يوم .. تلقي بدفئها ونارها على الأرض والأشجار والإنسان المزروع كبقية الأشياء هنا .. رائحة البيوت العتيقة تمتزج في هذا الوقت مع رائحة نهر دجلة ذات العفن اللذيذ ، فيطبع في الوجدان إحساس بالانتماء لا ينسى .. في موسم تكاثر الضفادع هذا ، وضجيجها الذي تغلغل في وعيه قبل الولادة يضفي علي الإحساس بالانتماء ألوان قوس قزح وأسى عميق بضياع حياة كانت جميلة في يوم ما ! .. أراد أن يملأ الذاكرة بكل هذه التفاصيل .. أن يعبئها بكل ما يستطيع من الحواس والمشاعر التي سيفتقدها بعد هذا اليوم ! .. هل يمكن للإنسان أن يختزن هذا الكم الهائل من الحزن في الذاكرة ! .. وأن يجتزه فيما بعد ! .. أن يجتز خمسة وثلاثين عاماً انصهرت مع الأشياء وتكاملت بشكل غريب إلى أن أصبحت جزء لا يتجزأ من كل ممل !!
ألقى النظرة الأخيرة على السماء والأشجار ودور الجيران .. هذا هو بيت أم كمال ، أعز الجيران وأكثرهم قرباً إلى دارهم وكذلك أكثرهم حشرية في شئون الآخرين .. هناك في تلك الغرفة المظلمة الآن ، تنام نسرين ، زوجة كمال .. لقد مارس الجنس معهما فترة طويلة ! .. امرأة من نار .. قال لنفسه .. لقد حاصرته لفترة طويلة ، بالرغم من أنه كان يتغابى على الإشارات التي كانت ترسلها إليه ! .. إلى أن جاءته في يوم لا ينسى ، كان يوم 8/8/1988 في تلك الليلة التي أصيبت فيها مدينة بغداد بالجنون الذي رافق إعلان وقف إطلاق النار بين العراق وإيران .. تلك الحرب الغبية ! .. والتي لم يعرف أحد من الناس سبباً معقولاً لنشوبها ولا لوقوفها ! .. في تلك الليلة خرج الناس إلى الشوارع يرقصون بوحشية وثنية مثيرة ، لتوقف آلة الموت التي حصدتهم حصداً خلال ثمانية سنوات كاملة ! .. ولم يعرف إن كان رقصهم فرحاً أم إعلاناً تاماً بهزيمة إنسانيتهم وقبولهم بالذل سيداً متوجاً على أرواحهم الميتة !! ..
كان الغضب هو الشعور الذي احتل سمير في ذاك اليوم ، ويجلس فيه وحيداً أمام عشائه البارد الذي لم يمسه .. وكان صوت المذيع الذي يقرأ ، في إعادة لا نهاية لها ، وقف إطلاق النار في التليفزيون والمذياع وعبر مكبرات الصوت التي وزعت في كل مكان ، يحاصره ويدفع به بقسوة نحو الجنون ويحطم ما تبقى له من أعصاب .. فجأة اندفعت نسرين كالعاصفة عبر باب المطبخ ووقفت أمامه وفي عينيها رغبة لا تقاوم .. ثم تركت العباءة التي كانت تغطي جسدها تنزلق ، لتكشف عن تفاصيل جسدها الأبيض الجميل ، لم يكن يستره سوى رداء نوم خفيف ، بانت من خلاله أدق التفاصيل الحميمة لجسدها المحترق بنار الرغبة الجامحة ! بين الدهشة والتردد والرغبة .. تسمر ببلادة . أما هي فلم يكن في حسبانها سوى الرغبة .. فاندفعت نحوه كالطوفان ، وشعر بأنه مطوق بما يشبه الدوائر المغناطيسية التي يصعب الإفلات منها .. قدمت له جسدها على مائدة عشائه البارد .. لم يستطع أن يقاوم أكثر .. فدفن بين طيات جسدها الحار كل هزيمته وتقززه وانكساره .
قام بإعداد القهوة وكانت هي تدخن بشراهة لا تخلو من اللذة .. حاول أن يتجنب النظر المباشر نحو عينيها الوقحتين .. ويرقب بداية إحساس بالذنب ينمو في أعماقه ، فكمال زوجها ، هو جارهم ويندر أن يمر يوم ولا يراه فيه .. وتساءل بغيظ : كيف حدث كل هذا وبهذه السرعة !! .. وكأنها بغريزة الأنثى أدركت عمق المأزق الذي بدأ ينتابه ، فقالت وهي ترتشف القهوة التي قدمها إليها بارتباك .
– أعرف بأن تأنيب الضمير قد بدأ فعله لديك .. لكن صدقني يا سمير بأني أعاني أو قد عانيت نفس الإحساس عندما قمت بخيانة كمال لأول مرة .. وأحياناً أحاول أن أجد مبرراً لكل ذلك ، لكني في النهاية أعجز ! .. لقد مر على زواجنا عشر سنوات الآن .. مللت كل شئ في حياتي معه .. لقد كان قبل الزواج رجلاً آخر غيره تماماً الآن ! .. أحبه ..؟ لا أعرف ! قبل زواجنا أحببته واعتقدته فارس أحلامي .. لم أكتشف كل هذا الضعف فيه إلا بعد الزواج .. انهارت أكاذيبه الواحدة تلو الأخرى، ولم أعد أري فيه إلا ظل رجل أحببته في يوم ما .. وهاهو الآن يرتدي بدلة الجيش الشعبي ويمسك بندقية ويدور راقصاً في الشوارع فرحاً بانتهاء الحرب التي قتلت أخاه الصغير ! .. لم يفكر أن يسأل نفسه يوماً عن السبب والمسبب ! .. إنه بلا كرامة .. ومع بداية تسرب الملل وعدم الاحترام .. تسللت الخيانة !
لم يعرف سمير إن كانت نسرين تبرر فعل الخيانة أم هذا الذي قالته هو حقيقة مشاعرها نحو زوجها ؟ .. وفي الحقيقة لم يعد يعنيه أن يعرف أو يتأكد ! .. كانت سعاد زوجة محمد، أخو كمال تعرف كل الذي دار بين سمير ونسرين .. وكانت ترهقه دائماً عندما يلتقيان هنا أو هناك ، بلغتها المزدوجة والتي تحمل أكثر من معنى ودلالة ، والتي كان سمير يفهمها جيداً ! .. ولكن السؤال الذي بقي يحيره حتى يوم الرحيل هو : ماذا كانت تريد منه ؟ سأترك هذا اللغز الصغير وأرحل ، قال لنفسه .. في تلك الغرفة ينام حسان مع زوجته المتدينة ليلى والتي كانت تنظر إلى الجميع بريبة لا تخلو من استعلاء .. أما تلك الغرفة البعيدة فقد كانت تخص في يوم ما الأخ الأصغر مؤيد ، والذي استشهد في الحرب ، فبقيت مقفلة إلى الآن . هناك في طرف الشارع القريب بيت عبد الودود الضابط في سلاح الجو العراقي والذي كان يبدو منتفخاً كالطاووس عندما اجتاح الجيش العراقي أراضي الكويت ، وكم كانت إجابته مليئة بالغرور والوقاحة على سؤالي ..
– وماذا بعد الكويت ؟
– سنلقن الأمريكان درساً فيتنامياً جديداً !
ذاك هو بيت فخري .. وهناك بيت سامي ، وغيرهم وغيرهم .. سيفاجئون بخبر رحيلي ، الذي لم يعرف به أحد .. لا أطيق الفراق ، وأكثر من هذا ، لا أملك أية إجابة على أي سؤال !
هل أملك تفسيراً لما يحدث لي ؟ .. أملك يقيناً واحداً .. إننا لن نلتقي ثانية ! .. إنه يومي الأخير في بغداد .. منذ أيام وأنا أدور وأدور في الأزقة والحارات الضيقة التي طالما عشقتها وأسعدني الجري والتسكع فيها ، وتداول المواضيع السخيفة والمكررة مع الأصدقاء الذين لا يتغيرون والذين يبدون كالأعمدة المتآكلة في معبد قديم عبدت فيه آلهة منسية !
كم أحببت بغداد .. بغدادي أنا .. لا تلك المزيفة المزينة بالورق الملون الرخيص والذي يبدو كالسلاسل الحديدية في رقبة العبيد .. لا بغداد القادمين من وراء نهر الموت والعابرين على جثث محبيها .. إنه فراق حزين وأبدي يا جميلتي ..
في ذاك الفجر الندي .. انسابت بكل رقة .. سكينة غريبة على المدينة الحزينة الصابرة .. وبدا كل شيء هادئاً عدا العصافير التي تملك ذاك النشاط الأزلي ، تتقافز بين أشجار السدر العتيق محدثة دوياً محبباً إلى النفس .. كان يرغب في معانقتها عصفوراً بعد آخر .. وفكر إن كان بين هذه الطيور العجيبة التي اعتادت أن تحيا كما الآن منذ مئات السنين .. آلافها ! .. مجاميع وأنواعاً .. تولد وتموت .. إن كان بينها قادة ثوريون يوزعون الموت كما الخبز !!
هناك في السماء بعض من قطع الغيوم الصغيرة البيضاء، يدفعها نسيم بارد منعش ، تتقدم على المدينة التي تتصحر بحياء ! .. فالنهر الذي كان يشطرها إلى نصفين بعنفوان كبير تحول إلى خيط سرابي يلفظ أنفاسه ، والرمال تزحف نحو قلبه ! .. الشتاء على الأبواب وأيلول هو البوابة الخالدة الذي يدخل منها .. منذ أيام المعابد السومرية ، والشتاء وأيلول لا يخلفان ميعاداً ! .. من المكان الذي يقف فيه الآن ، سطح الدار ، كان سمير فيما مضى يستطيع أن يرى النهر .. دجلة .. النهر الذي عشقه إلى حد الهوس وحفظ كل منحدراته وشواطئه .. ثوراته ونوبات جموحه .. أصبح هذا الآن مستحيلاً عليه .. فالبناء الخرساني القبيح الذي لا يكف عن الارتفاع هنا وهناك .. قصور سوداء مرعبة لهذا القائد الثوري أو ذاك ! .. لقد حجبت الرؤية وأدمت الروح وجرحت العيون .. لقد تم الاستيلاء على نهر دجلة واحتلاله ! .. ذبحوه عندما لم يعد يرى المدينة التي أحبها والتي عشقته حتى الموت !
تذكر صديقه العزيز سامي ، ذاك الفنان المرهف الأحاسيس الرائع .. كم كانت سعادته عظيمة عندما تم اختياره مع بقية من أشهر فناني البلد لرسم ونحت بعض اللوحات والجداريات في أحد القصور السوداء التي تم بنائها على النهر القتيل ، دجلة .. وكم كانت خيبته كبيرة .. حادة ومؤلمة .. عندما دخل إلى القصر وشاهد الورود الصناعية القبيحة ، ثم أجبروه على رسم النساء العارية وأطباق الطعام !! .. تذكر سمير كيف أن سامي قد تجرع ما بقي من الخمر في كأسه وقال بحدة ممزوجة بالخيبة والمرارة :
كيف يريدون مني أن أرسم والحرس المدججون بالسلاح يقفون فوق رأسي وينظرون إلىَّ بازدراء ، هل لأنهم يعتبرون أن عمل الحراسات أهم بكثير من الرسم والفن بصورة عامة ؟ وأن حمل السلاح أكثر شرف ورفعة من حملة الألوان والأقلام ! .. كيف تراني أتفاهم مع شخص لا يعرف إن كان دافنشي هو مبدع الموناليزا أم إسكافي أرمني في حي الأكراد !! .. لقد طلب مني صاحب القصر أن أرسم فتيات عاريات ثم جاءني بعدة فتيات .. كما السبايا في سوق الجواري .. ولم يكن يخفي إحساساً هائلاً بالفخر لكونه يملك هذا الكم من اللحم النسائي ! .. قال بكل اعتزاز : اختر أي واحدة منهن أو كلهن ثم ارسم . قهقه بصوت فاجر قبيح وربت على مؤخرة إحداهن .. لم تكن أي منهن تملك ذاك الوهج الذي يشعل الحرائق في داخل الفنان !
تذكر كيف رد عليه في تلك الليلة وقال له : لا بأس يا عزيزي سامي ، فأنت تعرف بأن الجمال لا ينبت في قصور القبح، وأن القرار الصعب بالرحيل أصبح أكثر من ضروري ما دمنا غير قادرين على التغيير ! .. نظر إلىَّ من خلال غمامة السكر المسيطرة عليه ، بعد أن داخلته فكرة بأني قد قررت الرحيل ، لكنه لم يشأ أن يسأل ولو فعل لقلت له الحقيقة ! .. قطع خيط ذكرياته ، صوت زوجته ، فائزة ، وهي تجتهد لإخراجه من حنجرتها التي تتوق إلى الصراخ من الوجع والحزن .. كانت تقف خلفه كما الشبح .. نظر إليها وفكر .. من قال إن الحزن صفة وليس كياناً مادياً قائماً بذاته !
ثمة هاجس خبيث يتحرك في أعماقها يكاد يسمع له صوتاً ! .. ينبئها برحيله الأبدي .. لقد حاولت في الأيام الأخيرة أن تستنطقه وأن تنتزع منه ولو كلمة من فمه المغلق إزاء ذاك الهاجس المرعب .. كانت تريد أن تستدل بالكلمة على اتجاه بوصلته التي أصيبت بالجنون ! لم تنجح ، فلقد أحكم إغلاق الأبواب وتوقف عن إرسال الإشارات المفهومة .. فأوغلت هي في الحزن .. بين إنكار منه وبين الهاجس الذي تملكها والذي ينبئها برحيله .. ضاعت .. أمسك يديها بين يديه فوجدها باردة كالأموات ، ضمها إلى صدره وهي ترتجف برداً وحزناً .. أحس بدموعها الحارة وهي تنساب على صدره ، كانسياب الفجر الأخير على المدينة ، وهي علامة الحياة الوحيدة التي أبدتها ! .. قبلها من رأسها وضغطها بين ذراعيه بكل قوة .. كان يخشى أن يرى دموعها .. وخاف أكثر أن ترى أثر الدموع في عينيه ! .. يسمعها تسأل السؤال المدوي ، بدون كلام : هل فعلاً ستعود ؟ .. لم تكن تعرف بأنه كان خائفاً من هذا السؤال مثلها تماماً ! .. لم يكن يعرف إلى أين سيذهب .. لقد قرر أن يرمي بنفسه نحو المجهول الذي طالما أرعبه قائلاً لنفسه : ليحدث بعدها ما يحدث !
إن هذا المجهول الذي يبدو لي أسود من بئر الحكايات المخيفة .. عميق ومظلم .. أصبح رجائي الأخير ! .. إن فكرة اقتلاع جذوري وقطع أوردتي التي تربطني بأرض الآباء والأجداد منذ أيام كلكامش ، والبحث عن أرض جديدة لهي الرعب بذاته ! .. سبب واحد يمنعني من الاستسلام لدموعك يا حبيبتي .. إن لم أعد أطيق رؤية سلطة الخراب ورموزها أو حتى سماع أصواتهم التي تنعق كما صافرات الإنذار ! ..
كان سمير في الفترة الأخيرة قد بلغ به المرض حد الهلوسة ، لازمه الغثيان بشكل يومي فاعتقد في بادئ الأمر بأنه مصاب بمرض عضال في معدته ، لكنه وبعد الفحوصات التي أثبتت سلامة معدته وبطلان اعتقاده ، استعان بطبيب نفسي ، خصوصاً مع ازدياد نوبات الغثيان التي كانت لا تتركه إلا وعيناه جاحظتان في المرحاض ، واللعاب الأصفر ذو المذاق المر يتدلى من فمه ! .. وبعد عدة جلسات وتوطد العلاقة بينه وبين الطبيب ، نصحه ، وبحذر شديد بالسفر إلى خارج العراق .. كان الطبيب يقول هذا وهو يحاول أن يزن الكلمات بحيث لو خرجت خارج العيادة لا يمكن أن تفسر بعدم الولاء للثورة ! .. إنه كغيره ، يخشى البوح بالحقيقة ، وأن يقول له السبب الحقيقي الذي من أجله احتله الغثيان كما احتل غيره من العراقيين ! .. أصبح القيء اليومي يسبب له العذابات الهائلة وإحساس مستديم بالكابوس الذي يجثم على صدره ويأبى أن يفارقه ..
لم أعد أرى السماء ولا لون الشجر .. كل شيء بلون خاكي .. خاكي .. هذا اللون الذي يحاكي لون الخراء ! .. البيوت ، الناس ، الشوارع .. كل شيء بلون الخراء ورائحته ! .. لماذا نرضى أن نعيش في المراحيض ؟ .. هل تحولنا إلى صراصير وأصبحنا جزءاً من ثقافة الخراء !.. أحياناً يتحول لون السماء من الخاكي إلى الأحمر القاني .. لون الدم الفاسد المسفوك على الإسفلت والضارب إلى الزرقة .. حتى المطر الذي كان في السابق ينزل على المدينة ويمتزج بترابها فتفوح رائحة لذيذة مخدرة .. تحول إلى قيء من فم إله مرض !!
أما الليل فقد أصبح هلوسة وقلقاً مؤرقاً .. تتخللها ممارسات جنسية مع زوجته فائزة التي كان يحبها جداً .. لكنه كان يزداد عنفاً معها يوماً بعد الآخر .. لم يكن في البداية يدرك ذلك ، بل اعتقد أن هذا قبول منها ، إلى أن فاجأته بعد ليلة من الليالي التي مارس الجنس معها ، ببكاء حار وصامت ، فلما سألها عن سبب البكاء ، قالت والدموع تنهمر من عينيها الجميلتين واللتين لم تخفيا الدهشة الممزوجة بالخوف .. لقد آلمتني كثيراً وكدت تكسر ضلعي !! .. لم يكن للاعتذار معنى ولا للترضية أي دلالة .. أدرك أن العنف ينتقل إلى الجميع ومن الجميع كما الوباء .. الكل يمارس العنف ضد الآخر الممكن ، مهما كان هذا الآخر قريباً منا ! .. العنف ذاك الوحش الذي أطلق من عقاله وأخذ يجوب البلد والنفوس ويسحق كل ما تبقى من حب .. وكرامة .. !
كل هذا وفائزة ترصده يوماً بعد آخر .. تستشعر قدوم الكارثة بحدس المرأة المحير .. لا تعرف متى ولا أين .. إلى أن فاجأها يوماً بقرار السفر ، انهارت على حافة السرير ووضعت يديها الصغيرتين بين ركبتيها ، طأطأت رأسها وأخذت تردد بعض الكلمات المبهمة ..التي لم يميز هو منها سوى كلمة واحدة .. أعرف !
لم يخبرها بأنه ذاهب إلى حيث لا يدري ! .. أراد شيئاً من المنطق لإقناعها .. زعم بأنه ذاهب إلى الأردن للبحث عن فرصة عمل أفضل .. لكن سيل هذيانها لم ينقطع ولا كلماتها المبهمة ، لم تعد تستمع إليه .. بل استسلمت بكل جوارحها إلى هاجسها الداخلي المرعب والذي حذرها منذ زمن بعيد .. كما أنها كانت على يقين بأن توسلاتها لن تثنيه عما نواه .. لم يكن أمامها سوى الالتصاق به في الأيام الأخيرة ، وعندما كانا ينامان في السرير ، كانت تتكور بين ذراعيه كمن يبحث عن الأمان في صدر إله ! ..
– عليك أن ترحل الآن .. السيارة بانتظارك .
لا تعرف من أين واتتها الشجاعة لتقول له ذلك .. لكنها كانت وبدون وعي منها متشبثة بقميصه .. حتى خيل إلى سمير بأن أصابعها قد غرست فيه .. قبلها بين عينيها وحاول تجنب الكلام ، فالنطق بأي كلمة معناه البكاء الذي قاومه حتى الآن بصبر !
نزل السلم الحجري ، وكان بأسفله ، أمه وأخته وأمها .. كان نور الفجر لم يتسلل بعد إلى داخل الدار ، والتيار الكهربائي مقطوعاً ، وكن يحملن الشموع ، فبدين كعذارى أورشليم وهن ينعين السيد المسيح .. نظر إلى أمه التي لم يرها بغير الثياب السوداء .. منذ الأزل وهي تحتال على الحياة لكي لا تلبس غير اللون الأسود .. فكر إن كان هذا هو استمرار الحزن الأبدي على نزول الإله تموز إلى العالم السفلي وضياعه الأبدي ، حيث البرد والظلام والكلاب الجهنمية ، فبات الحزن هو الطبق المفضل على موائد العراقيين !!
أما أخته فقد أصرت على أن تترك بيتها وأطفالها لتبيت هذه الليلة المشهودة عندهم .. إنها كفائزة وكأمه موقنة بأنها ربما تراه للمرة الأخير ! .. لم تتمالك دموعها وهي ترى فائزة ملتصقة به كظل نابض بالأسى .. أدهشه تماسك أمه التي لم تسكب دمعة واحدة ! .. قرأ في عينيها شيئاً أشبه بالتشجيع أو هكذا تخيل ! .. أسعده هدوؤها وتماسكها للحظة .. لقد كانت تفهمه أكثر من الجميع .. أليس هو امتداداً لها ؟ .. كانت ترفع يديها في الهواء وتطوحها بلا معني ، تردد الآيات القرآنية وتهمهم بالأدعية .. وحده عرف معني هذه الحركات المبهمة والتي تبدو بلا معنى ، كانت تقول له بلا كلمات :
حزني بلا قرار .. لن يكون في حياتي معنى لرحيلك .. أخرج من وكر العقارب .. أخشى عليك الموت المجاني الذي يسير في ركابهم .. فبرغم الحزن الطالع من الأعماق ، إلا أني أريدك أن ترحل .. سأبقي بانتظارك !
أما حماته ، فقد كان في عينيها توسل أشبه بالتضرع الممزوج بالخوف والقلق ..
لا تطل غيبتك يا حبيب ابنتي ، لا تتركها وراءك وحيدة .. سيقتلها الحزن عليك .. إنها صغيرة ولا تستحق كل هذا الحزن يا ولدي .. فهي فلذة كبدي .. أمانتي التي سلمتها إليك .. لا تغرقها في الأسى والنسيان .. ارجع إليها بحق كل ما هو معبود .. أتوسل إليك يا حبيب فائزة !
أرهقته لغة العيون فحاول أن يهرب ببصره من كاهنات الحزن ، نظر إلى الجدران بحثاً عن معني آخر يلجئ إليه .. فاصطدمت عيناه بصورة أبيه التي كانت تتوسط أحد الجدران منذ زمن بعيد .. استولت عليه الدهشة لأنه لم يفكر بزيارة أخيرة للقبر ! .. مع أنه قام بالمرور على كل الأماكن التي يعرفها والتي تعني له شيئاً ما حتى يخزنها في ذاكرته ، قد تكون زاداً له في يوم بعيد ! .. وتساءل مع نفسه : هل يكمن السبب في كوني لم أعرفه جيداً ، وأنه لا يعني لي سوي كلمة غامضة هي الأبوة ! .. لقد توفي أبوه عندما كان صغيراً ، لم يكن يعني له سوي مجموعة من الذكريات المبهمة التي كان يرويها الكبار عنه . على الجدار الآخر كانت معلقة لوحة جميلة لنهر دجلة ، رسمها له صديقه سامي في يوم ما ، لمعرفته بمدي تعلقه بالنهر وعشقه له.
تشاغل بنقل الحقائب إلى السيارة التي كانت تقف في انتظاره ، حتى يبعد عن الجو المشحون بالحزن والمشبع بالأسى.. تبادل التحية مع السائق الذي كان يحتسي الشاي في الحديقة الأمامية .. لكن بعدها لابد من أن تأتي لحظة الوداع الأخير .. أراد اختصارها بمعجزة فبدت ثقيلة وبلا نهاية ! .. قبل أن يخرج من البوابة الرئيسية للدار وقفت أخته ورفعت القرآن لكي يمر من تحته حتى تضمن له السلامة .. أمه كانت تحمل الماء بكأس صغير لكي ترشه على الدرب وراءه بعد أن تتحرك السيارة ، حتى تضمن العودة السريعة والآمنة ! ..
قبلهن على عجل ، وعندها لم يستطع أن يحبس دموعه .. كان الموقف أكبر منه .. من صبره وجلده .. تشبثت فائزة بذراعه .. فتخلص منها ببعض القسوة ، والتي لم تكن كذلك ، بل هي الخوف من الحب الذي قد يصرعه في اللحظة الأخيرة .. قبل أن يصعد إلى السيارة نظر نحو بيت أم كمال .. فشاهدها وكناتها وأطفالهن ، مطلات من النوافذ العليا ، وشعورهن المنثورة دليل نهوضهن السريع من الفراش الدافئ ، لإلقاء النظرة الأخيرة على الجار العزيز الراحل .. وحدها نسرين لم تكن بينهن ، يعرف أن حزنها كبير عليه ، على الرغم من انقطاع العلاقة الجنسية بينهما منذ أن تزوج من فائزة ، لكنها تحولت إلى ما يشبه الصداقة الحميمة ، في تلك اللحظة العجيبة ، فاضت عواطفه وأحس بحب مبهم نحوهم.. كحبه للمكان والزمان اللذين سيفتقدهما إلى الأبد .. فهما جزء من العالم الذي سيغيب .
تحركت السيارة ببطء ، لم يعد يرى فائزة .. لابد أنها تبكي كما الطفل الذي فقد والديه .. أمه كانت ترش الماء على الدرب المترب ، وبصعوبة أسندت جسدها الموهن على حافة الباب الحديدي خشية السقوط .. آخر من رآه كانت أخته التي ما تزال حاملة القرآن وتضمه إلى صدرها .. تلوح له بيد متعبة من الحزن ، وكأنها تأمل بمعجزة أن تعيد أخاها الراحل نحو المجهول!
جاهد سمير في السيارة أن لا يرى السائق دموعه المنهمرة ، في ذاكرته تلك الصورة المؤلمة .. صورة الأم المهزومة في أمومتها ، المتكئة على حافة الباب العتيق .. كل شئ بدا مفهوماً من غير كلام .. إنه فراق بلا لقاء .. عندما قال لنفسه كان كمن يغرز سكين حاد في لحمه الحي .. فالبقاء يعني الموت الأكيد بدون فعل مقاومة كما حيوانات الأضحية في الأعياد .. إنه الهزيمة الساحقة .. لابد من الفرار بما تبقي من عقلي ! .. هكذا قال لنفسه وعض على جراحه .
تجاهل محاولات السائق في فتح حوار يبعد عنه الضجر ، لكن سمير كان آخر من يصلح لهذه المهمة .. التجأ هو أيضاً إلى الصمت وأدار جهاز التسجيل في السيارة فانبعث صوت آيات قرآنية ، لم يجتهد سمير للتركيز على المعاني ، لكنها أحدثت في نفسه أثراً طيباً .. أما السائق فقد انساب في دهاليز عوالمه الداخلية ، وكف عن محاولاته في إيجاد حديث مشترك مع هذا الراكب الذي يحاول جاهداً لأن يخفي دموعه ! .. وفكر بحزن ..
شاب آخر يرحل ، أعتقد ومن خلال طريقة الوداع الحزين بأنه راحل إلى الأبد .. نعم ، فلقد أصبحت له خبرة لا يستهان بها، فبمجرد أن أنظر إلى المسافر ونوع وداعه لأهله ، أستطيع أن أخمن إن كانت رحلته طويلة أم قصيرة .. يا الله .. أحياناً أشعر بالذنب لأني أساهم بنقل هؤلاء إلى المجهول .. من الذي سيبقي في البلد إذاً .. ؟ آلاف .. بل إنهم يقولون أكثر من مليون قد رحلوا من البلد ، والنزيف مستمر ..إلي أين ؟ .. استغفر الله العظيم .. انهم راحلون نحو اللا شيء .. لكن يبقي هذا اللا شيء أفضل من البقاء في هذا البلد الذي يأكل أبناءه .. سافر .. سافروا جميعكم واتركوني وحيداً لعل هذا يرضي زوجتي القبيحة ، فخرية ، فهي تفرح كلما جاءتنا طلبات خصوصية كهذه ، تريد جمع المال بأي طريقة ، إنها امرأة بلا مشاعر .. فهي تجلس في الدار وأنا من يتحمل عبء هذا الطريق الطويل .. وتحت كل هذا الحزن الضاغط .. كم كنت غبياً عندما تزوجتها قبل أكثر من عشرين عاماً .. اللعنة ! .. أفضل أن أنقل التجار أو موظفي الدولة ، فهم تافهون وكثيرو الثرثرة ، كما أنهم لا يجعلوني أقف طويلاً في الحدود والجمارك ، فالتاجر يعرف كيف يدفع وأين .. موظفو الدولة لا أحد يجرؤ على تأخيرهم .. أما هذا الشاب وأمثاله ، فيتعرضون لمعاملة مهينة جداً ، لأن الجميع يعرفون أنه لن يعود ، سيعاملونه كخائن للدولة وعميل وووو .. اللعنة ، ربما سيأتي اليوم الذي أرحل فيه أنا أيضاً .. لم لا؟ .. أترك فخرية وموظفي الدولة وألتحق بالسرب المهاجر ..!
تنفس سمير الصعداء مع ازدياد سرعة السيارة .. كانت الشوارع خالية تقريباً في مثل هذا الوقت المبكر .. تلوح بين الحين والآخر سيارة عسكرية مكشوفة ، عليها مدفع رشاش وثلة من الجنود .. إنهم يطاردون الأشباح .. الخوف الساكن في الزوايا المظلمة .. الزلزال الآتي لا محال ..! إن الأمريكان لم يحتاجوا إلا بضع ساعات في الليلة الأولي ليدكوا العراق من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه حتى غربه .. أغبياء هؤلاء الجنود ، لا يعرفون من وماذا يحرسون !؟
كان السائق لا يتوقف في الإشارات الحمراء .. نبهه سمير إلى هذه المخالفة، فرفع هذا ذراعه في الهواء علامة الازدراء .. تراخي في المقعد ، تاركاً المجال لشعور جديد ليستولي عليه .. إنه شعور من يقدم على مغامرة لا يعرف أدني نتائجها !! .. فهو لا يعرف إلى أين سيذهب في عمان ، ولا يمكنه تخيل المرحلة التي وراءها ..
كل ما أبغيه هو أن أنقذ عقلي من الجنون ، فنوبات الغثيان اليومية قادتني بقوة نحو فكرة الانتحار ! .. أسعدتني الفكرة جداً ، الموت أسهل من الحياة بكثير .. لكني توقفت عن التنفيذ لأني لم أرد أن أسبب الحزن والألم لكل الذين يحبونني وأولهم أمي وفائزة .. إذاً هو الرحيل .. هناك حيث المجهول سيصبح الموت أسهل ، بعيداً عن عيون الأحبة .. بعيداً عن عيون فائزة ..
نظر بشرود من النافذة ولقد استمد الشجاعة من فكرة الموت البعيد .. كانت الأشجار وأعمدة الكهرباء والبيوت تقذف خلفه بسرعة مريحة .. آخر مرة .. آخر مرة .. هكذا كل شئ لآخر مرة .. صور رموز النظام .. اللون الخاكي المبثوث كالخراء الشيطاني في كل مكان .. كانت تقذف خلفه بسرعة مريحة .. جثث الجنود المقطعة أوصالها والمنثورة من السماء إلى الأرض .. أصوات البكاء والعويل المبهم المبعث من الأماكن .. أجساد النساء العاريات والأثداء التي تنزف دماً .. الجرذان التي يبلغ أطوالها عشرات الأمتار والتي تقضم أطراف الأطفال وتدحرج الرؤوس البشرية .. المدن الحزينة الكئيبة والتي لم يدخلها الفرح منذ قرون طويلة .. تقذف خلفه بسرعة مريحة .. كل شئ إلى الوراء .. كاهنات بيتنا المتشحات بالسواد ، والحاملات الشموع والحزن الأبدي .. إلى الوراء .. الدم الذي أغرق الطرقات كما الطوفان ، والذي يأبى أن يفارقها نحو محيط النسيان .. إلى الوراء .. بل إلى الأبد ..!
4
نظر سمير في وجوه الحاضرين في مكتب عيسى الأمين .. د. كاظم وحبيبه يوسف ، هناك إبراهيم الدنماركي ، كما يطلقون عليه .. داود الذي يأبى أن ينطق بكلمة واحدة إلى أحد ! ثم هناء وأنا ..
الكل يدخنون السجائر بنهم ويحتسون القهوة المرة أو المحلاة ببعض السكر ، حسب المزاج .. حتى تشكل جدار من الدخان الرمادي المتطاير من الأفواه والأنوف ! ألفي الدخان الكثيف لغة العيون التي كان سمير لا يحبها ، وولد لديه شعوراً عاماً بالارتياح لقيام هذا الحجاب الوهمي .. الغامض .. الذي بدأ يفصل الواحد عن الآخر ويزيد المسافات بين الجميع ! وليمنح في الآخر إحساساً مريحاً بالعزلة والانطواء ..! فكل واحد من هؤلاء الموجودين غارق في همومه وأحلامه ، لهذا لم يبادر أي واحد منهم إلى فتح النافذة للتخلص من هذا الجدار الوهمي المريح !!
كان وجه هناء المضبب بالدخان والناحل .. يذكر سمير رغماً عنه بفائزة .. شيء ما .. ! ربما كان يجمعهما نفس الانكسار .. الحزن العميق الذي يوغل في زمن العراقيات ، ماضياً وحاضراً ومن يدري ، ربما إلى الأبد المقدر ! .. حاول جهده أن يبعد نظره عنها .. لكن دائماً ذاك الانكسار الحزين في وجهها الناحل الجميل .. يعيده إلى نفس المكان .. تذكر كيف حكت له حكايتها .. زوجها الراحل إلى الدانمارك منذ أكثر من عامين .. تركها في عمان وهو يقول لها :
– حبيبتي هناء .. أعدك بأن أعمل ليل نهار، كما لم أعمل طوال حياتي حتى أتمكن من جمع المبلغ المطلوب لكي تلحقي بي .. لن يهنأ لي عيش في الدانمارك أو غيرها من دول العالم الواسع ما لم يضمنا من جديد بيت واحد .
– وكيف سأتمكن من العيش هنا بدون عمل وبالقليل الذي ستتركه لي يا آرمين ؟
– لن يطول الغياب صدقيني .. أكيد ستمرين بأوقات عصيبة ، لكن بالقليل من الصبر ، سنذلل كل الصعاب .. أعدك !
مرت الشهور الطويلة الباردة والمتوحشة ، وبدأ بعدها عد السنين .. لا شيء يربطهما الآن سوى خيط الهاتف الرفيع .. نفس الكلام ونفس الوعود .. الأسطوانة التي لم تعد تطرب ولم يعد بينهما ذاك الوهج القديم ، والذكريات بدأت تغور بعيداً في الذاكرة شيئاً فشيئاً ! .. قالت لسمير :
– لا أعرف الآن إن كان يرقد بين ذراعي امرأة دانماركية شقراء ، زرقاء العيون بيضاء كما حورية البحر الأسطورية التي يتوسط تمثالها كوبنهاكن حيث يوجد هو ! لم أعد متأكدة ! .. لا أعرف ؟ .. لكن ماذا عني أنا .. جسدي المحترق بنار الرغبة .. هنا في الأردن .. هذا الشرك الكبير الذي وقعت فيه ؟ لست بقادرة على العودة إلى العراق .. لم يعد لي شيء هناك ، فقد بعنا كل شيء .. كل شيء .. الأثاث ، المصوغات ، الأسطوانات الموسيقية التي كنا نستمع إليها .. الأيقونات الدينية ، المسبحة ذات الصليب المصنوع من العقيق الأحمر النادر والذي كان هدية زواجنا من أبيه !! .. بعنا حتى الذكريات والرغبات المؤجلة والأحلام الصغيرة التي ربينا حبنا عليها ! .. كلها تبددت على إيقاع رنين ضحكات المهرب ، عندما قال بأن الخمسة آلاف دولار ، والتي هي كل ما كنا نملكه ، غير كافية لتهريب شخص واحد ! .. كم كانت لحظة قاسية ومؤلمة .. نظرت إلى عينيه وأنا أتساءل بصمت : ما العمل الآن ؟ .. كان آرمين يبدو مغيباً في تلك اللحظة الملعونة ، شاهدت نظرة في عينيه لم أراها في السابق أبداً .. وأنا التي كنت أعتقد بأني أعرف كل خبايا الرجل الذي أحببت وتزوجت ! اقترحت عليه العودة إلى العراق .. بلدنا .. قلت بأننا نستطيع أن نبدأ من جديد ونعيد كل ما هدمناه .. لكنه رفض بكل إصرار
– لن أعود إلى العراق مهما حدث .
– وما العمل الآن ؟
قال بأنه سيذهب أولاً ، بحجة أنه قادر على العمل في بلاد الغربة ، وبالتالي جمع المبلغ الذي به أستطيع أن ألتحق وأسافر إليه .. وأنا الآن على الانتظار ! .. لقد وضعني أمام خيار لا ثاني له .. إنه الانتظار القاتل الممل .. وافقت وأنا لا أملك خيار الرفض .. قرأت ذلك في عينيه وإلا كان الفراق النهائي إن أصررت على العودة إلى العراق ! .. اتصل بي بعد أن وصل إلى الدانمارك ، ثم انقطعت أخباره عني .. ثلاثة شهور .. وجاء الاتصال الثاني ، قال بأنه لا يستطيع العمل هنا ، فذلك غير مسموح به الآن وأن علىَّ أن أعمل في الأردن !! .. محاولاً أن يغلف هذا الواقع الجديد الذي فرض نفسه علينا بكلمات من الغزل الباهت ، والذي لم يعد كافياً لحجب الحقيقة المروعة ، من أن لقاءنا أصبح بعيداً ! .. ماذا أستطيع أن أعمل في الأردن حتى أتمكن من جمع مبلغ الخمسة آلاف دولار ! .. بالتأكيد لم يسأل نفسه هذا السؤال .. أو لعله فعل وتهرب من الإجابة !!
لكن لم أملك سوى التعامل مع هذا الواقع الجديد ، ولم أستسلم له ، بقيت متعلقة بحبال الأمل الواهي ! ..لم يكن أمامي سوي أن أخدم في البيوت ، حتى عثرت على منظفة في إحدى العمارات الكبيرة في ضاحية الرابية .. كنت من الصباح المبكر ، أكنس وأمسح إلى المساء .. وبعد مرور الأشهر الأولي ، اكتشفت أن ما أقوم به لا يكفي لسد الرمق ! ..
كان الوكيل المكلف بإدارة شئون العمارة ، يعرف بأنه لا يحق لي لأني عراقية العمل بصورة رسمية ، وبالتالي لا يحق لي المطالبة بالأجور العادية ، وأن أي اعتراض من طرفي على قلة الأجور معناه الطرد من العمل ومن ثم رحلة شاقة جديدة للبحث عن عمل ! .. وربما الإبعاد إلى العراق !
استطعت بعد مرور فترة من أن أتفق مع بعض المكاتب الموجودة في العمارة الكبيرة لتنظيفها ، وكان هذا رغم العمل المضني ، دخل إضافي .. وكان مكتب السيدة بشرى ، وهي امرأة في العقد الرابع من عمرها ، هو أحد أكثر المكاتب التي كنت أحصل منها على أجر جيد .. السيدة بشرى لا تزال تحتفظ ببقايا جمال لابد وأنه كان كبيراً في شبابها .. وهي تدير مكتب متخصص بالتعامل مع الجامعات في كافة أنحاء العالم ، وكان الطلاب يتدفقون على مكتبها من أجل الحصول على القبول الجامعي وإكمال دراستهم في الخارج .. ولطالما أبديت دهشتي من رؤية العدد الكبير من الطالبات الراغبات في إكمال دراستهن في الخارج .. ففي العراق يبدو هذا الأمر شبه مستحيل ،ولم أسمع عن فتاة غادرت البلد من أجل الدراسة !.. كانت هذه السيدة الأنيقة ، بشرى ، تحييني دائماً وتمنحني بعض النقود ، وفي أحد المرات قالت لي وهي تضع الحجاب على رأسها كعادتها عندما تريد الخروج إلى الشارع :
– هناء .. تعالي غداً إلى المكتب بعد الظهر، عندي حل قد يساعدك على لقاء زوجك في وقت قريب .. ربما !
ألقت بكلمتها هذه وعلي شفتيها ارتسمت ابتسامة ساحرة .. تركتني وأنا ارتجف من الفرح والقلق ، فهي تعرف تفاصيل قصتي ،وربما رق قلبها لي .. من المؤكد !.. وقبل أن تغادر الباب الخارجي التفتت نحوي وقالت بحزم :
– أرجو أن تأتي بغير هذا المظهر .
نظرت إلى ثيابي القذرة ، وتكورت على السلالم وأنا أبكي حسرة وغضباً .. فأنا لم أكن هكذا في يوم من الأيام .. ما الذي جرى لي حتى قبلت الانحدار إلى مثل هذا الوضع المزري ! هل يستحق آرمين كل هذه التضحيات ؟ .. غريب كيف خضعت لمنطق الأيام الجائر ، وقبلت ما لم أفكر فيه حتى ! .. لكن لا يهم ، يجب أن أنسى الغضب الآن ، وأتمسك بهذا الأمل المفاجئ والذي زرعته فيَّ هذه السيدة الساحرة ..
في اليوم التالي كنت أكثر اضطراباً .. كان قلبي يخفق بشدة .. يا إلهي أرجو أن يتحقق الحلم ، فما زال قلبي ينبض بالحب لآرمين! .. يا إلهي لا تخضعني لتجربة جديدة ، لم يعد قلبي قادراً على تحمل الألم .. لا أستطيع أن أتحمل المزيد من الخيبة والانكسار ..
تمتمت ببعض الأدعية وأنا أرتقي درجات السلم باتجاه مكتبها ، ولقد بذلت ما بوسعي لاستعادة مظهري الجميل الذي كان لي في يوم من الأيام ! .. كنت أقف بين الحين والآخر على درجات السلم حتى أهدأ من خفقان قلبي المضطرب .. أضغط على حديد السلم البارد وأضع جبهتي المشتعلة .. أنقل إليه حرارتي وآخذ منه البرودة ! .. أخيراً سأتخلص من هذا العذاب والوضع المزري المهين .. كنت دائماً وأنا أمسح السلم الخارجي للعمارة أخفي وجهي بشال طويل ، خوفاً من أن يراني بعض العراقيين الذين قد يتعرفون عليَّ !.. فبالشال الصوف الطويل وملابس الخادمات ، لا أحد يمكن أن يتعرف على هناء خريجة كلية التجارة والموظفة في البنك الزراعي بالموصل !! .. ليس هذا فقط .. لن أرى متعهد العمارة التي أعمل بها الآن .. هذا الوضيع القاسي القلب والذي كان في كل يوم ألتقي به يقابلني بابتسامة تنضخ شماتة ، مردداً بصوت عالٍ قبيح :
– أهلاً بالعراقية الماجدة !
– سخرية وتشفي لا حدود لهما .. من قال إن العرب ينتمون إلى أمة واحدة أو حتى يحبون بعضهم البعض !! .. لقد خدعنا لزمن طويل ..
دخلت مكتب السيدة بشرى وأنا أكثر ثقة ، متخذة قراراً لا رجعة عنه .. مهما كانت نتيجة المقابلة مع هذه السيدة ، فإني لن أعود للعمل مع هذا المتعهد الجلف القاسي القلب والطباع .. كانت السيدة الأنيقة في انتظاري وعلى شفتيها ذات الابتسامة الساحرة الواثقة .. أمسكت بيدي بعد أن جعلتني أرفع ذراعي وأدور حول نفسي ، وهي تطلق صفيراً خفيفاً :
– هل هذه هناء حقاً ؟
– نعم .. هذا ما كنته في يوم من الأيام يا سيدتي .. لقد نسيت نفسي في دوامة الانتظار والخوف من الشتات القادم ! ..
دخلنا المكتب الذي كان خالياً من الزوار في مثل هذا الوقت ، حيث تبدأ الاستراحة من الساعة الواحدة بعد الظهر وحتى الثالثة .. ولكن قبل دخولنا إلى المكتب الخاص بها ، لمحت في إحدى الغرف المجاورة شخصاً يصلي .. اعتقدت أنه أحد الموظفين .
بعد أن قدمت لي المشروب البارد ، وسيجارة رفضتها بأدب في أول الأمر ، لكن وبعد إلحاح شديد قبلتها وأنا لم أدخن في حياتي أبداً ! .. جلست هي على كرسيها ، ونظرت مباشرة في عيني ، ثم قالت بصوت فيه الدلال المتعمد والكثير من الافتعال :
– الحقيقة يا عزيزتي هناء إن وضعك الصعب بل والغريب ، أثار حزني وحفزني على مساعدتك ..
أردت أن أشكرها ، لكنها واصلت الكلام ناظرة إلى ببعض الحدة ، غير راغبة في مقاطعتها :
– لكن قبل أن أبدأ أنا .. عليك أن تكوني راغبة في مساعدة نفسك وفي انتشالها من الوضع الشاذ الذي تعيشينه .
– بالتأكيد .. لكن السؤال الصعب هو .. كيف ؟
– لهذا استدعيتك .. أين هو زوجك الآن ؟
– في الدانمارك .
– وتريدين الالتحاق به ولكنك لا تملكين المال الكافي لذلك .. والواقع يقول بأنك لو عملت هنا سنوات طويلة لن تتمكني من جمع المبلغ المطلوب ، لأسباب كثيرة أنت أعرف بها مني .. والواقع يقول إن هذه السنوات لن تمر بلا ثمن ، الذي سيكون ضياع أجمل سنين عمرك وأهمها .. والنتيجة هي ضياع العمر في الوهم !
غاص قلبي بين ضلوعي وأنا أسمع بكل قسوة ووضوح الحقيقة التي جاهدت وكابرت من أجل عدم التفكير فيها .. أعرف بأني أركض وراء سراب ، وأن كل يوم يمر عليَّ في الأردن وعليه في الدانمارك .. يبعد المسافة التي أصبحت أصلاً بعيدة ! .. لن أتمكن من إمساك دموعي التي خانتني بسهولة على وجنتي .. نهضت من مكانها ، ووقفت خلفي ، ثم طوقت عنقي بذراعيها .. أصابني الخدر اللذيذ عندما استنشقت عبير عطرها الفواح وأحسست بدفء صدرها على رأسي ..
– الحل بيدك يا صغيرتي .. أنا لم آتي بك إلى هنا لمجرد تذكيرك بالحقائق ، أو لأنك لا تعرفينها .. أنا هنا لمساعدتك !
نظرت إليها من خلال الدموع وأنا كلي امتنان .. عادت إلى مكتبها بسرعة وقالت :
– أنا سأدلك على الدرب الذي منه ستصلين إلى كل ما تريدين .. سواء كان ذلك رغبة إلى الوصول إلى حيث زوجك ، ولو أن لدي اعتراض على سلوكه الأناني معك .. أو عن طريق إيجاد مسار خاص بك والذهاب إلى مكان آخر !
أجبتها وأنا كلي إصرار على إطاعتها :
– ما الذي عليَّ فعله ..؟ وعن أي درب تتحدثين يا سيدتي ؟
– الزواج ..
– زواج من .. ؟
نهضت ثانية من خلف مكتبها واقتربت مني واضعة يديها على شعري مداعبة ، ثم خفضت رأسها وأدنته من رأسي الملتهب .. وهمست :
– زواجك أنت .. ! من يعرف بأنك متزوجة ..؟ أستطيع أن أدبر لك زوجاً غنياً يستطيع أن يدفع لك مهراً يعادل ثلث المبلغ الذي تطمحين إليه .. إنه زواج إسلامي .. متعة يعني ..!
أخذ جسمي في الارتعاش الشديد وأحسست بالشلل يصيب عقلي والحمى تحتلني .. لم تعطني فرصة للرد ، أو لعلي أنا لم أكن قادرة على الكلام واستيعاب هول الصدمة :
– الآن .. سيفتح الباب وسيدخل منه زوجك ، كبير في السن بعض الشيء لكن هذا ليس بالشيء المهم .. المهم أن تعرفي كيف تسعدينه عندما ستأخذين كل ما تريدين منه .
– لكني مسيحية يا سيدة بشرى .. ! لا زواج متعة لدينا .. إنه ارتباط أبدي !
بان الارتباك عليها قليلاً .. لكنها تغلبت على الموقف الذي لم تحسب له حساباً وقالت ببعض الحدة ونفاذ الصبر :
– اسمعي يا صغيرتي .. أنا استدعيتك اليوم بعد أن رق قلبي لوضعك المزري .. لا ناقة ولا جمل كما يقولون .. وبصراحة مؤلمة لا سبيل أمامك سوى هذا الحل الذي أقدمه لك سيان إن كنت مسلمة أو مسيحية أو يهودية .. في النهاية أنت امرأة سُدَّتْ كل المنافذ أمامها .. أنت عراقية ووحيدة في بلد غريب .. صحيح بأن لا أحد يستطيع الاعتداء عليك لكنك ستبقين دائماً هدفاً لصياد ما .. ! وكلما طالت غربتك قلَّت مقاومتك .. أنا امرأة مثلك وأعرف تماماً ما يعنيه الفراش البارد ! .. والفرصة التي أقدمها لك أفضل من أن تتحولي مع الأيام الطوال وازدياد الحاجة إلى عاهرة رخيصة !
كان كلامها كالمسامير التي تدق في لحمي الحي .. رباه .. كم كان مؤلماً هذا الكلام الذي لا يخلو من بعض الصحة ..! لا أعرف إن كنت لغبائي أتجنب التفكير في هذا الموضوع وألجأ إلى الأحلام أخدر بها نفسي .. أتخيل آرمين وهو يعاني من بعدي ويحرم نفسه من كل شيء حتى يجمع المبلغ الذي قد يساعد في لم شملنا..! الآن عرفت مغزى تلك النظرات الحقيرة التي كان متعهد العمارة دائماً يرمقني بها .. وأنا أتساءل ببراءة غبية : ماذا يريد مني أن أعمله أكثر من الذي أعمله ..؟ إنه ببساطة يريد أن ينام معي ..! هذه هي الحقيقة التي وضعتها السيدة بشرى أمامي بكل وضوح وبلا رتوش .. كالقتل البارد ! .. من الذي يستطيع أن يحميني من الذل والفقر وانكسار الأحلام . ومن جسدي ..؟
ازدادت حدة في كلامها بعد أن لمست مني الصمت الطويل ، أوغلت في جرحي المفتوح :
– حتى لو عدت إلى العراق يا هناء .. صدقيني مصيرك هناك ليس أفضل من هنا .. بل لعل الوضع هناك أسوء بكثير من هنا .. على الأقل هنا يوجد قانون ، أما هناك فلا قانون ، شريعة الغاب هي التي لها اليد الطولى.. وإذا كان يربكك هو ما تعتقدين أنه الحب .. فصدقيني يا عزيزتي بأن زوجك لا يحبك .. أنا أكثر خبرة منك في الحياة ، والرجل الذي يأخذ مصوغات زوجته ليسافر بها وبلا عودة ، فهو بالتأكيد ليس بالرجل المحب ولا بالزوج الوفي ..! إنه أناني خدعك وأنت زوجته ، فلماذا تبقين على العهد ولقد نكثه بكل خسة ؟
مسمار آخر يغرز في لحمي الحي .. بل لعله الأكثر إيلاماً .. كنت أيضاً أبعد تفكيري دائماً عن هذه المنطقة الخطرة ، وأتجنب الإصغاء إلى الهاجس الملح الذي طالما أخبرني بيقين أن آرمين لم يعد يريدني أن ألتحق به .. أو رؤيتي !
يا إلهي ، كم كنت مغمضة العينين ! .. هل أنا بحاجة أن آتي إلى هنا .. مكتب هذا الداعرة هذا حتى أفتح عيني بكل هذا الاتساع …؟ هل أنا رخيصة إلى هذا الحد بعينيك يا زوجي العزيز ..؟ هل كانت أيامي معك مجرد وهم .. ! لو تدري يا آرمين كم هو مؤلم أن تنهار أحلام الفتاة في فارسها الجميل .. لو تدري !
في هذه الأثناء دخل علينا رجل في الخمسين من عمره ، تتقدمه بطن ضخمة بشكل كبير وبشع .. يرتدي دشداشة خليجية ، والعقال العربي على رأسه الكبير أيضاً .. أما يده فقد كانت تتدلى مسبحة سوداء طويلة ! .. وقف أمامي هنيهة يتأملني ، وعيناه تمسحان جسدي بشكل أحسست معه بأنه يجردني من ملابسي .. انتابتني قشعريرة حادة ، اضطررت معها إلى أن أخفض نظري بطريقة مخزية .. ولا أعرف لماذا تذكرت حكايات الحواري والحريم في قصص ألف ليلة وليلة ! .. لكنه لم يكن الشاطر حسن ولا السندباد ولا حتى زوجي الذي فقد أثره في برزخ العبور نحو دن الخلاص ..!
ألقى التحية بكل برود ، ثم بدأ يتداول الحديث مع السيدة القوادة حول أشياء تافهة لم أكن أستوعبها أو حتى مهتمة بمتابعتها .. ثم اجتاحتني رغبة في الضحك الهستيري الذي يصيب الإنسان المهزوم عادة كما الزلزال ! .. تخيلت هذا الوحش الآدمي الجالس أمامي الآن بكل وقار ، وهو يفترش الأرض وأمامه خروف كامل مشوي وعدة أنواع من الدجاج والطيور الأخرى ، في أطباق ذهبية وفضية ، محمرة وجاهزة للالتهام .. عبدان أسودان يقفان خلفه ، أحدهما يحمل سيفاً طويلاً وحاداً والآخر يحمل مروحة يدوية طويلة يدفع بالنسمات الباردة نحو الوحش الذي يلتهم كل شيء وعيناه علي وأنا أرقص أمامه شبه عارية :
طال الحديث التافه بينهما .. أو هكذا اعتقدت .. لكن من المؤكد أن الحديث الأهم بينهما كان يجري في صمت مريب !.. من الواضح أنهما كانا ينتظران مني أي كلمة يستدلان منها على حقيقة موقفي من العرض الذي قدمته لي السيدة القوادة ..! لكن فاتهم من أني أنتظر الرد مثلهم تماماً .. إن لم أكن أكثر إلحاحاً ! لقد شل عقلي ولم يعد يستجيب لتوسلاتي بأن يشير عليَّ بموقف أو كلمة ! .. معلقة ما بين السماء والأرض .. أي شيء ينقذني من الحرج والقلق والألم في مواجهة السؤال الذي يشبه حد الشفرة .. أن أكون عاهرة أو لا أكون ! .. لقد وضعت اليوم الحقائق كلها أمامي وبصورة قاسية جداً .. لقد نزعت عني السيدة بشرى غلالة الأحلام الوردية التي كنت أنظر إلى العالم من ورائها بكل سلبية .. زوج غاب في الزحام الكبير والتهمته الغربة .. وطن رمى بي على قارعة الطريق كما الطفل اللقيط .. غربان وضباع تحوم حول جثتي التي تلتقط أنفاسها الأخيرة .. تنتظر لحظة السقوط الكامل والاستسلام التام .. عقل أصابه السؤال بالشلل الذي يشبه حد الشفرة .. ورائحة المال ..!
فاجأني صوتها الناعم .. وأنا لم أصل بعد إلى أي جواب بعد .. مما زاد من ارتباكي !
– إن السيد عبد العزيز ينتظر الجواب .. فهل نقول مبروك ؟
……..
كان حضور هناء إلى مكتب عيسى الأمين بسبب أن سمير قد أبلغها في الصباح بوجود شخص دانماركي من أصول عراقية في عمان ، فأصرت على لقائه به ولو لنصف ساعة . قدر سمير اللهفة والحيرة التي تسيطر عليها وغالب الحرج ، فاتصل بإبراهيم ، كان لقاؤهم في أحد المقاهي التي تعج بالعراقيين من جميع الأشكال .
كان إبراهيم ، بشعره الذي يبدو كعش العصفور ، كسول ، ونظراته شاردة، محرجاً للغاية ويستمع لقصة هناء وآرمين من فمها ، مع علمها شبه اليقيني بأن ما تسأل عنه .. زوجها .. أصبح مع مرور الوقت غائماً وضبابياً ، لكنها لم تكن لتملك أكثر من السؤال ! .. أراد سمير أن يستأذن وينصرف بعد أن عرفها على إبراهيم ، معتقداً بأن دوره قد انتهى بمجرد التعارف .. لكنها أصرت وبشكل غريب على بقائه ، مع أنه كان يفضل الهروب من مواقف إنسانية مؤلمة .. خصوصاً وأنها دائماً تذكره بفائزة التي هجرها وتركها نهباً للهواجس .. والانكسار الحزين !
الغريب أن هناء بدأت حديثها مع إبراهيم بسؤال أبعد تماماً عما جاءوا من أجله .. ربما لأنها لم تكن تريد أن تفاجأ بالجواب الذي قد يأتي على لسان إبراهيم .. حول زوجها !
– ما الذي جاء بك إلى عمان ؟
ابتسم بمرارة ونظر إلى الأفق الذي يقع خلفه العراق :
– جئت أبحث عن أهلي الذين لا أعرف عنهم شيئاً منذ خمسة عشر عاماً !
ران صمت ثقيل ، يعكس حجم المرارة التي كان جوابه مثقلاً بها .. عاد وابتسم قائلاً :
– يبدو الأمر غريب حقاً .. لكنه بالنسبة لي يعني الألم والإحساس بالذنب !
– أنا آسفة حقاً .. لم أكن أقصد أي شيء معين ، لكني أردت فقط ..
– لا داعي للأسف .. سمير يعرف قصتي ، باختصار وحتى تكوني في الصورة .. أنا من عائلة تنتمي بأصولها إلى الأكراد الأفويلية .. كنا نسكن بغداد في منطقة باب الشيخ، بعد أن أنهيت دراستي الثانوية سافرت إلى بولونيا لإكمال دراستي في مجال الهندسة النفطية .. اجتزت السنة الأولى بنجاح ، وتعرفت على فتاة دانماركية سائحة أقنعتني بالذهاب معها إلى بلدها .. تزوجنا واستقريت في كوبنهاجن .. لم أستمر في الدراسة واضطررت للعمل هنا وهناك ، ثم بدأت أغرق في حياة الليل الأوروبي ، الذي قادني في النهاية إدمان على المخدرات ! .. كان أبي قد غضب عليَّ بشدة لأني تركت الدراسة ، قابله عناد مني انتهى إلى القطيعة ، في هذه الأثناء اندلعت الحرب العراقية الإيرانية ، وسمعت بعدها أن الحكومة العراقية قد قامت بتسفير جميع العراقيين من ذوى الأصول الإيرانية هكذا ! .. طبعاً في هذه الفترة الحرجة من حياة عائلتي كنت ما أزال غارقاً في عالم المخدرات الذي كاد يقضي على حياتي .. أجبرت على الدخول إلى أحد المصحات الخاصة بمعالجة المدمنين ، واستطعت أن أقلع عنها بعد ثلاث سنوات ، استعدت وعيي المغيب وعادت الذاكرة إلى ، فكان أول شيء تبادر إلى ذهني هو تحقيق اتصال مع العائلة التي انقطعت أخبارهم عني لمدة خمسة عشر عاماً ! .. حاولت المستحيل للحصول على أي خبر عنهم لكن بلا جدوى ! .. حتى أني أرسلت أحد الأصدقاء إلى بغداد لتقصي الحقائق لكنه عاد صفر اليدين .. مع الكثير من الرعب !
– لماذا لم تذهب إلى العراق بنفسك ما دمت حاملاً الجنسية الدانماركية ؟
جر نفساً عميقاً وعيناه ما تزالان تجوبان هناك .. ناحية الأفق العراقي .. وقال :
– لهذا السبب قلت إن الصديق الذي أرسلته قد عاد بالكثير من الرعب .. كان أول شيء قاله لي بعد أن خرج من العراق .. أنه لن يعود إليه ولو ملكوه إياه ! ولما سألته عن السبب قص لي ما جرى له على الحدود العراقية الأردنية .. فبعد دخوله ، وهو مثلي لم يدخل إلى البلد منذ زمن طويل .. سأله موظف الجوازات بعض الأسئلة الاستفزازية فحدث بينهما ما يشبه الجدل وهو يعتقد بأنه متسلح بالجواز الدانماركي ، عندها أمسك هذا الموظف الوقح بجوازه وتحت يده سلة الزبالة وفي عينيه كل حقد الدنيا..قال له:
– إذا رميت بهذا الجواز الذي تعتز به والذي تعتقد خاطئاً بأنه قد يحميك في سلة الزبالة هذه ، فإنك ستعود أتوماتيكياً إلى هويتك الأصلية .. عراقي .. أليس كذلك ؟
فر الدم من وجه صديقي المسكين هذا ، وأخذ يرتعش من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ، مدركاً بأنه قد دخل إلى وكر الضباع ، لم يعرف كيف يرد على هذا الموظف الوقح ! .. لكن قارب النجاة جاء من الموظف نفسه ، عندما قال له مازحاً بعد أن أدرك بأن التهديد قد جاء بالنتيجة التي كان يبغيها .. قال له : ساعد أبناء وطنك بما تجود به يدك .. ! نقده المسكين بعض المال وهو غير مصدق بأنه قد نجا ! .. هذا بالنسبة لصديق ليس لدى الدولة ما تحاسبه عليه ، فما بالك بالنسبة لي وأنا ذو الأصول الإيرانية كما يدعون والأهل مسافرون إلى حيث لا يعلم أحد ! .. ليس من المستبعد أن أتهم بالتجسس لصالح هذه الدولة أو تلك ! وهذا كما تعلمين غير غريب على دولة بلا قانون منذ زمن بعيد .. وهناك من أخبر صديقي بأن عائلتي قد سافرت مع آلاف العوائل العراقية باتجاه الحدود بعد اندلاع القتال بين البلدين ! .. اتصلت بالسفارة الإيرانية الموجودة في كوبنهاجن فلم أحصل على أي رد ، والذي عرفته بأن هذه العوائل لم يسمح لها بالدخول إلى الأراضي الإيرانية لأنهم عراقيون !
– هل راجعت الصليب الأحمر ؟
– فعلت .. ولقد وعدوني بالبحث عنهم ، لكنهم أخبروني بأن الأمر قد يطول ؛ لأن الموضوع ليس بالسهل خصوصاً مع بلدان كما العراق وإيران .
أحس سمير بأن الموضوع قد طال وتشعب ، وابتعدوا عن ما جاءوا ينشدونه عند إبراهيم ، نظر إلى هناء نظرة ذات مغزى، عندها توجهت بالسؤال عن زوجها الغائب ، وكم كانت الحقيقة مرعبة بالنسبة لها وقاسية بالنسبة لسمير .. فلقد قال إبراهيم وبكل برود بأنه يعرف زوجها الذي يلهو هناك .. وذكر لها بعض الأشياء التي بعدها أيقنت بأنه يتحدث عن آرمين وليس عن شخص آخر ! .. الشيء الذي أدهش سمير هو أن إبراهيم لم يتوقف عن الإدلاء بالمعلومات وهو يرى انهيار هناء الذي أوشك أن يكون تاماً .. هناء التي كانت بارعة دائماً في إيجاد الأعذار لذاك الزوج المستهتر الذي تركها منذ سنين .. لم تكن تريد أن تعرف بأن هزيمتها قد أصبحت كاملة .. كزوجة وكامرأة وإنسان .. !
بين سؤال باهت منها وجواب حاد وقاس منه ، حول بعض التفاصيل التي لم تعد تهم أحداً في الحقيقة .. كانت روح سمير تنسحب منه رويداً رويداً .. إلى هناك عبر الحدود .. إلى بلد العنف المجاني والقسوة المفرطة .. هناك حيث فائزة والآخرون .. فشعر بأشلاء زوجته تتناثر على آلاف الكيلومترات والسنين .. فأثناء حديث إبراهيم القاسي شعر بالبرد ، بل بالصقيع يتسلل إلى أعماقه ويسحقه ! ..
هل يمكن أن أنسى أنا .. بالبرد والمنفى .. شكل النخيل .. وجه فائزة .. دعاء أمي التي كانت تترك في ماء نهر دجلة ، كرب النخيل ، وقد أوقدت عليها الشموع قرباناً لخضر إلياس ! .. هل يمكن أن أنسى أنا أصوات المؤذنين عند الفجر أثناء الصيف التموزي ! .. هل هذا ممكن ؟! عاوده الغثيان بقوة كلما استمع إلى قصص العراقيين المتقيحة .. لقد اعتقد بأنه تخلص من هذا الداء بعد أن غادر العراق ، لكنه يبدو الآن كاللعنة الأبدية .. رائحة القيء لا تبارح ذاكرته .. تسائل مع نفسه : هل يمكن أن يختزل الوطن داخل الأطر التي نسور بها الأحبة .. العادات .. أم أن الوطن خرافة جميلة !!
عاد وينتبه للحديث الباهت .. مشكلتها ومشكلته .. في الحقيقة إنها مشكلة جميع الباحثين عن الخلاص في غابات الوهم ..!
انتبه إلى هناء لم تبك رغم مظاهر الانهيار .. بل كان في عينيها نظرة غريبة .. باردة بعض الشيء .. تنظر إلى نفس الأفق الذي يقع خلفه الوطن الخرافي .. في نفس الاتجاه الذي كان إبراهيم يرنو إليه طوال الوقت ! .. تنحنح قليلاً وقال لها :
– إذا كانت المسألة قضية نقود .. فأنا أستطيع أن أساعد .
لم ترد ولم تنزل نظرها عن ذاك الأفق الخلاب .. لكن سمير التقط الفرصة بدلاً عنها ولم يدعها تفلت .. فقال :
– هي تملك بعض النقود .. وشيء رائع أن تساعدها في مثل هذه الظروف
– من قال لك بأني أريد المساعدة ؟
تملك الارتباك سمير وإبراهيم .. استردت تلك النظرة الإنسانية وقالت :
– أنا شاكرة لكما ما بذلتماه من أجل مساعدتي .. لكن ألم ترى يا سمير بأن السبب الذي من أجله كنت أريد أن أسافر قد انتفى!
– هل يعني هذا أنك تنوين العودة إلى العراق؟
قال إبراهيم بعد أن فهمنا الرد من صمتها :
– لكنك تقولين بأن لا أحد لك في العراق الآن!
ابتسمت بمرح طفولي ، وقالت له :
– هل تدلني على مكان في هذه الأرض ، يعيش سكانها بلا كذب؟!
– للأسف .. لا يوجد ذلك إلا في الكتب المقدسة.
– وأنت يا سمير؟
– أنا خارج للبحث عنها.. تعالي معنا.. فالبحث خير من اليأس ، حتى لو كان في أعماق الموت !
وهكذا يجلسون الآن.. سمير وهناء وإبراهيم.. في مكتب عيسى الأمين، بعد أن دفعوا المبالغ المترتبة عليهم .. رسوم صكوك الغفران، لا لحجز أماكن في الجنة.. لكن لشراء الأمان والكرامة!.. إبراهيم قام بدفع المبلغ بالنيابة عن هناء التي قررت السفر إلى أستراليا.. أبعد ما يكون عن الكذب الذي كانت تراه الآن متمثلاً في زوجها آرمين!..
أما سمير فقد اتخذ قرار اكثر تصميماً من قبل.. سيعمل المستحيل على أن لا يكون آرمين آخر .. وأن لا يترك فائزة تمر بنفس الأزمة التي مرت بها هناء .. تذكر اليوم الذي وصل فيه إلى عمان وكيف كان منهاراً بشكل شبه كامل وفكرة الانتحار البعيد عن أعين الأحبة مستولية عليه ومستحوذة على تفكيره.! كان همه الأول أن يجد مكاناً يبيت فيه إلى حين تدبر أمره بشكل أفضل.. وكانت المصادفة هي التي قادته إلى فندق في منطقة سقف السيل، وهي من المناطق الشعبية الشديدة الازدحام، وكان معلقاً على باب الفندق التعس، يافطة كبيرة – فندق خالد ابن الوليد يرحب بكم! – استفزه الاسم الرنان. فهاهو القادم من زمن الانكسار الأكبر ، يبيت في ضيافة هذا القائد العظيم، رمز العنفوان .. أو لعلها رغبة للاختباء في طيات التاريخ الأسطوري الذي يحتاج إلى المراجعة !..
نظر إليه صاحب الفندق من خلال نظارته السميكة نظرة مريبة، من فوق إلى تحت وبالعكس وكأنه كان يبحث عن علامة فارقة.. ثم لوي فمه المحتفظ بالسيجارة المشتعلة وقال بقرف واضح :
– أجرة المبيت في الليلة الواحدة نصف دينار أردني مقدماً.. الغرفة مشتركة والحمام أيضاً!
– كم شخصاً في الغرفة؟
رد باشمئزاز وعدوانية :
– في الليل ستة أنفار.. في النهار لا يوجد أحد، كلهم عراقيون يدورون على أبواب السفارات الأجنبية يستجدون سمات الدخول إلى هذا البلد أو ذاك .
كان الكره مجسداً في الوجه القبيح والعبوس .. هذر ببعض الكلمات التي تشجب رحيل العراقيين بشكل جماعي من بلدهم، مع أنهم، أي العراقيين ، يملكون أحسن القيادات السياسية في العالم العربي كله .. أو حتى في بقية العالم!.. وتساءل لماذا يذهبون إلى دول ومدن الغرب اللعين ، وما الذي يوجد هناك ولا يوجد في العراق!!
لم يشأ سمير الدخول معه في نقاش سياسي غير مجدٍ .. فهو لا يستحق ذلك.. وتساءل مع نفسه .. لولا العراقيين الفارين من بلدهم من سيدخل إلى هذا الفندق القذر!.. وانتبه سمير إلى هذا الكم الكبير من الكره الموجه نحو العراقيين من قبل سائق التاكسي والبقال الذي اشترى منه علبة السكائر أو حتى المارة.. والآن هذا الموتور.. لكنه لم يجهد نفسه لإيجاد جواب مقنع .. حمل حقيبته وذهب ، كما الطفل في يومه الدراسي الأول خائفاً من شئ ما .. إلى الغرفة التي دفع بابها ببطء ، فواجهته ستة أسرة مرصوفة كما الثكنات العسكرية.. خمسة بشكل عمودي، وواحد بشكل أفقي .. صدمته رائحة العفن الشديدة ! وضع حقيبته على الأرض واتجه نحو النافذة الكبيرة المطلة على الشارع الرئيسي المزدحم وفتحها على مصراعيها.. اندفعت الضوضاء والنور والهواء نحو الغرفة العفنة، وأحس وكأنه جالس في الشارع نفسه!.. لمح الحقائب وهي موضوعة تحت الأسرة، حيث لا يوجد دولاب لوضع الملابس!.. ما عدا أحد الأسرة الذي لم يكن تحته شئ فخمن أنه السرير الشاغر وبالتالي فهو له!.. جلس على حافة السرير متعباً، عندما دخل صاحب الفندق وسأله بود هذه المرة ، إن كان يحمل معه من العراق بعض السجائر أو المشروبات الروحية أو الأجهزة الكهربائية؟.. هز سمير رأسه علامة النفي، ولم يكن يرغب حتى في الكلام معه.. تمدد على السرير وتذكر ما بين النوم والصحو، صورة أمه المنهارة على حافة الباب الحديدي والتي لم تكن لتفارقه أو تمنحه فرصة النوم الحقيقي!..أقتحم الغرفة بصورة مفاجئة، شاب يبدو على هيئته الاستعجال، في نهاية العقد الثالث من عمره.. كان يبدو غير مكترث لملبسه أو حتى تصفيف شعره الكثيف.. بان عليه الانزعاج لمرأى سمير، وقال بسرعة :
– من أنت؟.. أأ أنت الساكن الجديد.. إن ابن القحبة هذا، لن يهنأ له بال حتى يؤجر السرير الفارغ.. جشع وكلب ابن كلبة!
– إذا كان بقائي هنا يسبب لك كل هذا الإزعاج.. فأنا مستعد للمغادرة!
– عفواً.. عفواً.. اعتذر بشدة، لم تكن أنت المقصود بكل تأكيد.. إنه ابن الزانية أبو طارق،صاحب الفندق!
ثم تقدم بسرعة من سمير ومد له يده ليحييه بحرارة وكأنه يعرفه منذ سنين طويلة، ورسم على محياه ابتسامة وديعة :
– أياد العقراوي ، خريج معهد التكنولوجيا في السليمانية عام 1979، في عام 1981 تم أسري من قبل القوات الإيرانية في الحرب التي دارت بين البلدين!.. قضيت في الأسر الإسلامي ثماني سنوات!.. لا تسألني كيف ولماذا أو متى.. فبالتأكيد أنا آخر من يعلم.. وبالتأكيد لم تكن حربي أنا!
لم يتمالك سمير نفسه من الضحك.. فشكل أياد، مع طريقة حديثه العفوية والسريعة، أدخلت البهجة المفاجئة إلى قلبه الحزين .. أحب البراءة التي كانت بادية عليه ومرحه غير المتعمد .. كان أياد هو الحدث الأكبر الذي لازم سمير طوال تواجده في عمان ، وأصبح له الصديق النصوح العالم بكل خفايا المدينة من أمور السفر والهجرة ومكاتب المهربين وأسعارهم!.. وخفف وجوده المكثف إلى جواره ، شعوره الدائم بالحزن.. نشأت بينهما صداقة مريحة منذ اليوم الأول.. لكن السؤال المباغت الذي وجهه إليه أياد :
– إلي أين تنوي السفر؟
جعل سمير يشعر بالخوف لأول وهلة.. ثم تحول الخوف إلى غضب من نفسه، ووضعه أمام السؤال المنطقي .. لماذا أنا خائف؟.. فأنا لست بعالم في الذرة أو خبير في أسلحة الدمار الشامل أو أحد أقطاب النظام السياسي في العراق ، حتى تطاردني أجهزة الاستخبارات العراقية أو غيرها!.. بل أنا إنسان عادي جداً، خريج كلية الإدارة والاقتصاد، لم أنتمي إلى أي حزب سياسي ولا حتى حزب السلطة!.. لم أشتغل في دوائر الدولة، وحتى أثناء خدمتي العسكرية لم أكن في سلاح مؤثر، فقد كنت جندياً في المشاة!.. لكن الخوف يبقى مطلاً من أعماقي بوجهه البشع ويجعلني مضطرباً وغير طبيعي بالمرة!.. هل أن كل جريمتي أني لم أعد قادراً على احتمال ما يجرى في البلد من مهازل ؟.. وبالتالي تملكني هاجس الهروب بما تبقى من عقلي ، وقبل أن يقضي علي مرض الغثيان؟.. قد أموت في الغربة وبدون أن يتسنى لي مرة ثانية رؤية أمي أو زوجتي .. أو أي من الناس الذين أحبهم والذين فارقتهم حتى من غير وداع.. قد لا يتسنى لي مرة ثانية أن أرى وطني.. بغداد المدينة التي أحبها إلى حد العشق والهوس.. أو نهر دجلة الذي يجري في عروقي .. لكن على الأقل هذا هو اختياري الذي لم يفرضه على أحد!.. لم يبق لي سوي حرية اختيار الموت بعيداً، ولقد صممت على أن آخذ هذه الفرصة مهما كان الثمن باهظاً!.. يجب أن أواجه إرهاب الخوف.. فسلاحي هو الموت اختياراً..
لماذا أنت خائف يا سمير؟.. تعال معي إلى النافذة وانظر لهذه الحشود البشرية التي تمشي في الشارع .. أمواج وراء أمواج.. أكثرهم من العراقيين الراغبين في الهجرة من البلد وإلي الأبد.. يجب أن تردد معي ومعهم : أنا فلان الفلاني قررت أن أهجر العراق ، في الصباح تراهم وهم يتزاحمون على أبواب السفارات، يشكلون الصفوف المنتظمة، ينتظرون سمات الدخول أو استمارات الهجرة .. لا يهم إلى أين .. المهم هو الخروج!.. لا تخش شيئاً وقل ما تريد.. فلم يعد هناك مبرر للصمت الذي مارسته بحرفية عالية طوال حياتك.. تماماً كما نحن جميعاً.
لم يترك له أياد أي فرصة للاختباء خلف المخاوف الكثيرة.. أخرجه من الصمت الذي مارسه بحرفية عالية طوال حياته كما قال له! أخبر أياد كيف أنه كان يخشى البوح بأفكاره حتى إلى زوجته ، لا خوفاً منها ولكن خوفاً عليها!.. فهي تعرف خطورة الفكر الحر في العراق، لهذا تخشى عليه من البوح بهذه الأفكار خارج مخدع الزوجية ، ثم تبدأ بالتوسل لكي لا يبوح بما يؤمن به!.. مع أنه لم يكن يحلم بأكثر من العدالة والحرية!.. تلك الأفكار التي زرعها في وعيه ثوار فرنسيون قبل أكثر من ثلاثة قرون!.. وتساءل مع نفسه : لماذا كنا ندرسها في مادة التاريخ الأوروبي في المدارس الحكومية، إذا كان الحديث عنها في المقاهي العامة محظوراً..!
فاجأته نوبة غثيان رهيبة.. فاندفع نحو الحمام وتقيأ المرارة.. ولأول مرة فكر سمير بأنه ربما قد تقيأ خوفه..!
– أنا أنتظر الموافقة على طلب الهجرة إلى نيوزلندا.
– نيوزلندا..! إنها الأبعد عن العراق!
ضحك أياد بمرارة.. وقال وهو يعني كل حرف :
– وعن إيران.. وهذا ما أريده بالضبط .
– أتفهم سبب هجرتك من العراق.. لكن من إيران؟
– عندما تقضي ثماني سنوات من عمرك داخل السجون الإسلامية.. أحلى سنين العمر.. عندما يصبح الموت أمنية ، والأمل كلمة تعذبك ليل نهار.. عندما يكون الهروب من مراكز الرعب الأشد في العالم خيار.. والموت انتحارا هو الخيار الثاني .. ربما تعرف لماذا!
بعد رحيل أياد إلى نيوزلندا، ترك لسمير رسالة قصيرة : “عزيزي سمير.. كانت رفقتنا التي كانت مصادفة في هذا البلد من أجمل الأشياء في حياتي .. لكني لا أرغب في تبادل الرسائل معك أو مع غيرك .. ببساطة .. لا أرغب في الاتصال بأي شخص .. أريد أن أبدأ حياة جديدة، بعيداً عن الجميع وأولهم أنا .. فعذراً يا صديقي” .
رحل أياد وقد ترك في سمير الشيء الكثير من الشجاعة، فقد ولد في أعماقه شيئاً غير الخوف.. شيئاً يدب في دمائه كما أسراب الفراش الملون .. يكبر وينمو ويحتله.. لم تعد تخيفه الشعارات القومية الفاشية..
أرى السماء الزرقاء التي لم أرها منذ الزمن العابر البعيد.. سأترك هذا الإحساس الجديد يقودني إلى هناك.. بعيداً نحو السماء.. الحرية .. الحقول الخضراء المنسية .. أحلام تركتها هنا وهناك .. أمل بلقاء فائزة تحت أشعة شمس نقية غير ملوثة بالكراهية والحقد والعنف .. سأترك هذا الإحساس يقودني إلى حيث يشاء .. لأنه بالتأكيد لن يقودني مرة ثانية نحو هاوية مركز الرعب.. العراق!
5
نظر داود إلى ساعته المرصعة بالألماس، والتي تتوسطها صورة لملك العراق فيصل الأول.. لقد شعر بالجوع، لأنه قضى معظم اليوم في مكتب السيد عيسى الأمين، كما أن دخان السجائر بدأ يخنقه .. وبدا متضايقاً من الصمت الذي لف الجميع، لكنه أقنع نفسه بالتحمل .. فغير عيسى الأمين ، لا أحد يستطيع أن ينقله إلى كندا.. صحيح أن طريقه سيكون إلى أوروبا أولاً، لكنه تعهد له بأنه سيوصله نحو هدفه.. فكر داود وهو ينظر إلى كرش عيسى الأمين وشريكه المدعو د. كاظم..! وذاك الفتي الصغير الجميل يوسف..
السفلة.. لقد طلبوا مني خمسة عشر ألف دولار، وكأنهم شموا رائحة المال عندي !.. لا يهم .. المهم أن أصل .. آه كان من الممكن أن يكون هذا الغبي قاسم معي الآن.. منتظراً دوره ، كما نحن للهروب من العراق!.. لكنه اختار الموت.. غبي .. غبي .. غبي ، إن ذكراه تنغص على كل متعة منذ انتحاره وإلى الآن ، ولعل هذا الشعور سيلاحقني مدى الحياة!.. لماذا بدأ موت هذا المخلوق الهزيل يشكل لي ناقوساً مرعباً هائل الدوي .. هناك في أعماقي ، فيحطم أعصابي ويلملم شتان شئ اعتقدت أنه قد زال إلى الأبد .. الضمير!! حدث كل شئ بسرعة عجيبة!.. بضع سنين .. ثلاثة.. أربعة!.. لكنها تختصر في ساعة أو دقيقة.. في ذاك اليوم.. في تلك المزرعة ..!
كان داود يتلفت حوله بخوف ممزوج بالفرح الوحشي ويمثله الترقب.. يكاد صبره ينفد ، يود لو يستطيع دفع عجلة الزمن ولو لساعة واحدة !. كلما تملكه هذا النوع من الانفعال ، شعر بضغط على مثانته، وهذا يعني المزيد من التبول، والذي كان يقوم به في وسط المزرعة، ويراقب البخار المتصاعد من السائل البولي!.. تمنى لو يستطيع أن يساعد العمال في إنجاز المهمة الصعبة التي يقومون بها، لكنه لم يكن يقدر على ذلك، لهذا تذرع بالصبر وفي الحقيقة لم يكن يملك سواه.. فإن هي إلا ساعة ويتم تحميل جميع الآثار في بطن الحاوية، عندها يستطيع أن يطمئن من أن الخطر قد زال، وأن المهمة الصعبة قد انتهت..! حيث لن يعودوا إلى مثل هذه العملية إلا في الأردن، وهي ليست بالخطورة التي عليها الآن .. لكن الوقت يأبى أن يمر بسرعة.. بل كان ثقيلا.. ثقيلا، أخذ يتمشى على الأرض المزروعة بالمحاصيل الزراعية، وبدأ يتلذذ بإحداث الفجوات العميقة في تلك الأرض المزروعة بقدمه ، تملكته رغبة هستيرية بالتدمير.. وتساءل! لماذا تزرعون أيها الأغبياء.. ولمن؟.. منذ آلاف السنين والعراقيون يزرعون.. سنين بعد سنين، أجيالاً وراء أجيال، والمحصلة صفر!.. لا شئ غير الجوع والفقر الدائمين وعبودية بلا نهاية!.. أليس من الأفضل لكم هو الانتحار الجماعي.. التوقف عن الأكل والشرب والتناسل، بدلاً من هذا الذل الذي تخضعون له.. مرة كإله.. مرة كإمبراطور وتارة كملك ومستعمر ثم رئيس عشيرة أو جمهورية!!
كانت أعماقه تغلي.. لم يكن أي شئ في مكانه الطبيعي !.. فقط كان يشعر بأن لديه طاقة هائلة تود أن تنفجر في أحد الاتجاهات، ولا يعرف أين أو متى..! أخذ يدندن بلحن أغنية قديمة عندما اقترب منه قاسم، صاحب القامة القصيرة والرأس المستطيل ، والأذان متنافرة إلى أقصى حد ممكن في رأس بشري ، وكأنها تريد أن تطير..!
كان قاسم يضع وشاحاً أحمر حول فمه وأنفه.. بدا مضحكاً تحت ضوء القمر، كمسخ خارج من أرض الحكايات الخرافية!.. انتابت داود رغبة هستيرية بالضحك، لكنه قاوم الإغراء، إذ إن صدور أي صوت مهما كان خفيفاً، في هذه الأرض المفتوحة، وفي ساعة متأخرة كهذه، كفيل بجلب انتباه كلاب المزارعين والتي لا تتوقف عن النباح، وهذا ما كان يقلق داود بعض الشيء ، لهذا بادر بالسؤال..
– هل من الممكن يا قاسم أن يكون نباح هذه الكلاب موجهاً إلينا ؟
ضحك قاسم وأزاح الوشاح الأحمر من حول فمه، ثم أشعل سيجارة عب منها نفساً هائلاً وقال بصوت مرتفع وكأنه يتعمد إثارة داود :
– ربما تنبح هذه الكلاب لتداري خوفها منا.. فإن مهربي الآثار هم أخطر أنواع اللصوص.. أليس كذلك يا أستاذ داود؟
أقلقت داود هذه النبرة الساخرة التي كانت جلية الوضوح في كلام قاسم، فحاول أن يجرجره إلى المزيد من الحوار حتى يقف على حقيقة ما يدور في رأس هذا المسخ البشري :
– وهل تعتبر تهريب الآثار عملاً لصوصياً ؟.. وإذا كان كذلك فلماذا أنت هنا الآن؟
لم يجب قاسم، بل واصل امتصاص السيجارة بنهم غريب، فزاد داود استفزازه :
– كلنا في الرذيلة سواء يا عزيزي .. ولا تعزف الآن على الوتر الوطني ، فهو الأشد مللاً في هذه الليلة المقمرة .. إن البلد معروض للبيع في المزاد العلني منذ عشرات السنين، وهاأنت تدع ضميرك يصحو في الوقت الخطأ.. نحن عراقيون .. والآثار عراقية، وهذا وحده كفيل بأن يجعل لنا حصة في ميراث الأجداد.. ومادام النفط سرق منا، فلنا الآثار .. وإذا لم تنل حصتك الآن فغداً ستصحو، لتجد لافتة في منتصف بغداد مكتوب عليها .. هنا كان المتحف الوطني !!
واصل قاسم صمته وعيناه تنضحان بالاحتقار الذي لم يحاول أن يخفيه عن داود.. فنور القمر في تلك الليلة الجميلة، كان يفرش الأرض برداء فضي خلاب، يكشف فيه كل شئ. آثر داود الصمت أخيراً، وتجاهل مشاعر الاحتقار التي كان قاسم من الواضح يكنها له وبالتالي تجاهل كل ما من شأنه أن يصرفه عن صفقة العمر التي عمل لها طويلاً .. تخطيطاً وتنفيذاً .. ولا مجال لافتعال أي توتر أحمق الآن .. فهو يعرف تماماً بأن هذا المسخ البشري هو صمام الأمان في هذه المزرعة النائية.. فلو حدث واكتشف المزارعون الذي يحدث في أراضيهم، وخصوصاً الحاوية التي تحمل الآثار ، فقاسم وبحكم القرابة التي تربطه بهم، قادر على فعل شئ من شأنه أن لا يصل الأمر إلى الشرطة على أقل تقدير!!
وفكر داود.. أنه حتى لو حدث شئ ما ليس في الحسبان، فلا قوة في العالم قادرة الآن على إرغامه كي يتراجع !..
– لقد تعبت جداً وكانت رحلتي طويلة وشاقة.. فمن مدرس بائس في المدارس الحكومية إلى مهرب آثار!.. رحلة عجيبة!.. قالها لنفسه وابتسم بثقة.. ثم عاد ليدندن اللحن القديم.. رفع بصره نحو السماء الصافية، وضوء القمر الذي يغمر الكون كله.. وتسائل عن أي العوالم ذاك الذي يقدر أن يحتويه مع كل هذا الكم من الأحلام والشر ، اللذين أوجدهما القهر والإحساس الدائم بالمهانة !.. ممكن أن يطول الأمر سنة على أبعد تقدير ، عندها سأجد وأصل ذاك العالم.. وأترك ورائي كل الذل الذي تمرغت فيه طوال حياتي!.. هل يمكن أن أنسى اللحظة التي غيرت مجرى حياتي!.. والتي كان لهذا المسخ البشري المدعو قاسم أثر لا ينكر فيها !.. يوم كنت أقف في حافلة نقل الركاب.. يا إلهي.. كم كان الحر شديداً في ذاك اليوم الذي كان عرقي ينزف فيه حتى من الروح!.. عائداً من المدرسة وفي يدي دفتر الخطة المدرسية والذي طالبني المفتش العام في مديرية التربية بتغييره..! قال لي وهو يقلبه بين يديه ويهز رأسه الكبير مستهزئاً بي :
– هل تسمي هذا الدفتر الهزيل بالخطة المدرسية !.. إني لا أرى سوى كشكول عادي لا يليق أبداً بمدرس لغة إنكليزية في مدرسة ثانوية .
ثم طوح به نحو الطاولة بحركة ملؤها الاحتقار .. وقال بلهجة جافة :
– اكتب خطة مدرسية سنوية متكاملة، واترك تدوين الملاحظات الشخصية .. في الأسبوع القادم سأعود وأريد أن أرى الخطة التي طلبتها منك .
كانت كلماته النارية ترن في أذني وتشترك مع الحر الشديد في اغتيالي .. مسحوق حتى القاع.. لست المسئول عن هزيمة الجيش العراقي حتى أنال كل هذا التقريع من أجل دفتر خطة مدرسية!.. بل كذلك!.. فأنا مهزوم من الداخل ككل العراقيين والجيش يتكون منا، فنحن مسئولين بشكل ما عن هزيمته، لكن من المسؤول عن هزيمتنا؟.. آه أكره أن أفكر بهذه الطريقة المتعبة ، لكن هذا الحقير الذي وبخني لا من أجل الخطة .. ولكن ليثبت لي ولبقية المدرسين بأنه مفتش !!.. التافه .. يريد أن يثبت بأنه على صواب ولهذا أنتخب في هذا المنصب المتسلط ، وليس لأنه من جوق الطبالين والزمارين المنافقين!.. إن إعجاب العراقي بنفسه لهو في الحقيقة إخفاء للجانب الذي يحرص دائماً على نفيه وإبقائه في الظلام .. إنها الأنانية المطلقة والزيف وعدم الاتزان المؤدي للعنف الأعمى.. ودائماً كان هناك سؤال يطاردني بقسوته .. هل حروب العراق ضد الآخرين هو الهروب من استحقاق حرب العراقي ضد الآخر العراقي !؟.. هل كان العنف الموجه إلى الخارج هو الهروب من العنف الداخلي الحتمي ؟!.. هل السلطة فعلاً هي التي قادت الشعب المسالم نحو الحروب !.. أم هو حق، كيف ما كنتم يولي عليكم ؟!..
كانت رائحة الأجساد النتنة في الحافلة المزدحمة ، يبعث بي نحو القيء .. ألقيت نظرة إلى النافذة وحاولت الاقتراب منها ، فشد بصري أذنان نافرتان بشكل عجيب، عرفت صاحبها على الفور.. إنه قاسم زميلي في الجامعة والذي كان من المتفوقين .. حاولت تجاهله لعدم رغبتي في الحديث معه، فهو من الأشخاص الذين قلما أثار اهتمامي في أيام الدراسة.. لكن حدث ما كان لابد أن يحدث في هذا اليوم الذي يأبى أن ينتهي بسلام.. شاهدني وأشار لي لكي أجلس بقربه ، ففعلت على مضض ، أخبرني بأنه لم يقبل بالتعيين في المدارس الحكومية كما فعلت أنا كالأبله .. لقد تربيت منذ الصغر على أن أكون موظفاً حكومياً .. إنه ليس حلمي بالتأكيد .. كان حلم العائلة! فأنا أنحدر من عائلة تعتبر الخدمة لدى الدولة من تقاليدها العريقة التي لا تقبل حتى النقاش! وكان تقدم أي شخص للاقتران بفتاة من عائلتنا مشروطاً بأن يكون المتقدم موظفاً..! وهذه التقاليد التي توارثتها العائلة أباً عن جد ، ليس في حسبانها من تكون هذه الدولة .. أو من هم الأشخاص الذين يقودونها!.. وكبار المعمرين في العائلة الكبيرة يقولون بأن هذا التقليد بدأ منذ أيام الفتح الإسلامي للعراق!! وخلال كل هذه السنين الطوال .. العابرة .. خدم أجدادي لدى مختلف الأقوام التي تتالت على احتلال العراق.. العربي، المغولي، الفارسي ، التركي ، الإنجليزي ، الشيوعي .. القومي .. وأخيراً البعثي ..! وإلى الآن لا أعرف لماذا نفتخر بهذا التاريخ المخزي!!
الآن أشعر بالحزن والغضب والتمرد على هذا القانون القاسي والظالم .. تحت هذا الشرط الدكتاتوري ، تمت الموافقة من قبل مجلس العائلة الموقر على زواج أختي الكبيرة ، من موظف كبير في الدولة ، وكانت فرحة عظمي بانضمام مثل هذا الموظف الكبير إلى عائلتنا .. لكن الذي حدث بعد انقلاب عام 1963 أن أعدم هذا الموظف الكبير للاشتباه بانتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي ، وهكذا أصبحت أختي أرملة ولم يمض على زواجها سنة واحدة.. وجنينها في بطنها لم يتشرف برؤية الموظف المهم !.. أما أختي الصغرى فقد تزوجت هي الأخرى من موظف ، رغم أنفها ، فالمسكينة كانت تحب شخصاً آخر رفض عندما تقدم إليها، وسافر إلى أمريكا ولم يعد بعدها .. أما الموظف المحترم الذي وقع عليه الاختيار فقد ألقت السلطة القبض عليه في عام 1977 للاشتباه بانتمائه إلى حزب الإخوان المسلمين!!.. وتكررت المأساة .. كل هذا والعائلة لم تتعلم الدرس ولم تستوعبه ، ومازال تزويج البنات إلى الموظفين قائماً على قدم وساق !.. ولم أكن أريد أن أكون الولد العاق وأخرق التابوت المقدس.. وهكذا استعرت الحلم وأصبحت موظفاً .. لكن ذلك لم يمنع أحلامي الصغيرة من التسرب إلى عقلي بين الحين والآخر.. كنت أحلم بأن أعيش حريتي الكاملة .. على هيئة بحار يجوب البلدان والمرافئ .. أو على هيئة مغني في فرقة غجرية لا تستقر في أي مكان أكثر من أيام !! لكني أبداً لم أخرجها من نطاق الأحلام المستحلية..
وبمرور الأيام والسنين أخذت هذه الأحلام في الاختفاء والتواري بعيداً جداً عن الوعي !.. تهدم الحلم ، وبقى حلمهم ، فصرت مدرساً حكومياً أحظى باحترام العائلة، لكني فقدت وإلي الأبد احترامي لنفسي!.. لما سألت قاسم عن نوعية العمل الذي يزاوله، فاجأني بأنه يعمل الآن في سوق لبيع السجائر الأجنبية ، ثم خفض صوته وهمس في أذني .. وكذلك بيع وشراء العملات الأجنبية الصعبة !.. كانت عيناه تدور في محجريهما دورات سريعة دليل على أهمية وسرية الحديث الذي يدلي به!.. فلم أتمالك نفسي من الضحك ولا من الدهشة !.. فالمعروف بأن مهنة التعامل بالعملات الصعبة ، مهنة محظورة وخطرة في الوقت نفسه ، وتصل عقوبة المتعاملين بها إلى حد الإعدام إذا لم يكتفوا بقطع اليد!.. لأنهم يعتبرون في نظر الدولة المسئولين عن تدهور الاقتصاد الوطني !.. وكان قاسم هو آخر من تصورته يصلح لهذه المهمة الخطرة .. فلقد كان من المتفوقين جداً في الجامعة، وفي الحقيقة إنه كان الأفضل بيننا .. ولم أكن لأستغرب أن قال لي بأنه يعمل معيداً في الجامعة أو أنه يكمل دراساته العليا فيها !.. لم تَخْفَ دهشتي عليه، وقال بمرارة وبما يشبه جلد الذات .. من أنه يعمل أجيراً عند أحد التجار الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة !.. ولما سألته عما يقبضه نظير عمله الخطر هذا ، بانت أسنانه السود من كثرة التدخين وانفرجت أسارير وجهه الغريب ، ثم ذكر مبلغاً يعادل عشرة أضعاف المبلغ الذي أقبضه أنا نظير عملي لدى الحكومة في الشهر الواحد!!..
أصر على أن أصحبه إلى مقر عمله وتناول الغذاء سوياً.. قبلت بعد تردد والحقيقة أن الفضول قد تملكني أكثر بعد أن ذكر الاسم المضحك للسوق الذي يعمل به.. إذ ذكر اسم ( أبو دودو ) !.. ظننت في بادئ الأمر بأنه يسخر من اسم المكان الذي يعمل به أو أنه يمازحني .. لكنه أجاب بثقة ، بأن هذا السوق من الأسواق البغدادية العريقة والمشهورة ..!
يقع هذا السوق في جانب الرصافة من بغداد وفي شارع الملك غازي سابقاً، والذي تغير اسمه بعد ثورة 1957 إلى شارع الكفاح!.. وأن اسم ( أبو دودو ) يعود إلى أحد التجار اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل في منتصف القرن العشرين .. كم هو غريب أمر العراقيين في التمسك بالماضي القديم والإصرار عليه مع أنهم هم الذين قتلوا الملوك وأنهوا الملكية في العراق.. وأنهم هم الذين سرقوا اليهود العراقيين في الأحداث التي عرفت باسم ( الفرهود ) ، الآن يصرون على استعمال أسماء الضحايا !!.. وينظرون إلى الماضي بالكثير من الحنين وكأنه الفردوس الذي فقد .. يحلمون بالمهدي المنتظر الذي سيخلصهم من ظلم الآخرين لهم !.. والسؤال : من يخلص من ؟.. حتى المحاولات المستميتة للحكومات المتعاقبة منذ مقتل الملك وسحل رموز الملكية في شوارع بغداد ، لم تنجح في تغييب الماضي ومحو آثاره الدموية فها هو الإيقاع التجاري يعود إلى أحد الأسواق العراقية القديمة!.. لا أعرف لماذا سمى هذا السوق باسم هذا التاجر العراقي اليهودي أو من هو .. لكني لم استطع كتمان ذهولي عندما فوجئت بالحركة التجارية الهائلة الدائرة في شوارع وأزقة هذا السوق العجيب..!
لقد كانت الأموال تنتقل من يد إلى يد، ومن محل إلى آخر، وهي محملة بأكياس سوداء كبيرة مخصصة لنقل الزبالة!.. والتي كانت أمانة بغداد قد وزعتها للمواطنين بأسعار رمزية.. وهنا في هذا السوق العجيب تغيرت مهمة هذه الأكياس، فمن نقل القمامة والقاذورات إلى حمل الملايين من الدنانير العراقية!.. وإزاء تدهور الدينار العراقي أمام العملات الأجنبية ازدادت حمولة هذه الأكياس والتي بدا منظرها مضحكاً ومحزناً في آن واحد !! ظللت لمدة لا أستوعب ما يحدث أمامي وأصابني دوار لذيذ مدهش .. أين أعيش ؟.. هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني وأنا أرى كل ذلك.. لقد قضيت عمري متنقلاً بين المدارس وكراريس الامتحانات ورعب الفشل من عدم تحقيق حلم العائلة الوظيفي!.. كنت أرتاد المسارح ودور السينما والمتاحف.. ألتهم الكتب كدود العث!.. وأنظر باحتقار متوارث عن العائلة لكل شخص لم يكمل تعليمه الدراسي!.. لم أكن أتخيل أبداً وجود مثل هذه الحياة الملتهبة التي تشتعل في هذا السوق كما البركان ، وتمنح إحساساً حقيقياً بنبض الحياة العملية !.. أيقنت لحظتها بأني قد أمضيت حياتي السابقة في الاتجاه الخطأ..
بدأ العرق يتصبب من كل مسامات جسدي وعقلي .. أما عروقي فلم تعد تسيطر على فورة الدماء فيها!.. أمعنت النظر في الأشخاص الذين يجوبون السوق العملاق وأصحاب المحلات.. حاولت أن أطابق الصورة المنطبعة في ذهني عن التجار مع صورة هؤلاء، فكانت المحصلة المزيد من الارتباك والحيرة!.. فأغلب المتعاملين الذي أراهم الآن هم عبارة عن مراهقين وأناس واضح من خلال تصرفاتهم وألفاظهم وطريقة اختيارهم لألوان ملابسهم وحتى طريقة تصفيف شعورهم ، أن أغلبهم من الأميين والذين لا يزيد معدل تحصيلهم الدراسي على التحصيل الابتدائي!.. فالصورة غير مألوفة، حيث لا وجود لأولائك التجار الأنيقين والمتعطرين المبتسمين بوقار والذين تفوح من محلاتهم النظيفة والمرتبة رائحة البخور!.. هنا تشم رائحة المال على الفور، وكل الذين يعملون هنا يملكون هذه الحاسة وخاضعين لها بكل استسلام ، كما أنهم يملكون الشجاعة من خلال تحديهم لقسوة مطاردة الأجهزة الأمنية لهم باستمرار .
هل أملك أنا هذه الشجاعة التي يتحلون بها ؟.. لم أجرب أو حتى أن أفكر في الخروج عن القانون ولو كان جائراً !.. لقد ربيت على احترام الدولة وقوانينها .. أما هؤلاء فإن أخر شئ يفكرون فيه هو احترام القانون والخضوع له!.. لقد أيقنوا بإدراكهم الغريزي وليس التعليمي من أن الدولة لا تصدر قراراً لصالحهم أبداً ، لهذا حسموا الموضوع وحلوا رموز المعادلة الصعبة ، بكل سهولة، ولم يعد الأمر يعنيهم ، فهم في واد والدولة في واد آخر ، ومادامت الدولة لا تحترمهم ولا تحترم شروط حياتهم الطبيعية والإنسانية فهم بالمقابل لا يفعلون!.. ارتضوا بأن يكونوا طرفاً رئيسياً في لعبة القط والفار.. ولم تنفع الدولة كثرة المطاردات ولا حملات السجن وقع الأيادي ولا حتى الإعدامات !.. لم يعد هناك شئ يرهبهم ، فالمسألة بين الطرفين هي مسألة بقاء ، كما أخبرني قاسم .. أحسست بالخجل من الذات وبالاحتقار لها.. ماذا يمكن أن يقول لي جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وابن خلدون وعلي الوردى، روايات بلزاك وماركيز ومحفوظ!.. رسوم دالي وسيزان وبيكاسو!! كل هؤلاء لم يساعدوني في حل رموز المعادلة التي عقدت حياتى.. ولم يستطيعوا أن يملأوا جيبي الخاوي .. انتبه قاسم لاضطرابي فذهب لجلب الماء البارد لعله ينعشني في هذا الجو الملتهب .. كنت أقف إلى جانب حاوية كبيرة للقمامة ، اقتربت منها وأمعنت النظر إلى محتوياتها .. أحذية ممزقة، بقايا طعام لا يمكن التكهن بأصله!.. أكياس وخرق بالية.. زبالة.. زبالة.. زبالة، نظرت إلى دفتر الخطة المدرسية والذي لم يعجب الأستاذ المفتش، فسارعت إلى رميه في الحاوية مع الأزبال .. انتابني شعور هائل بالارتياح وأحسست بالتحرر الكامل ، وبالهواء البارد يندفع من اللامكان في هذا الجو الخانق !.. اقترب مني قاسم وكأس الماء البارد في يده ، كان قد لمحني وأنا أرمي دفتر الخطة المدرسية ، فسألني عما رميت .. فقلت بتحدٍ ممزوج بشعور التحرر الذي لم أجربه من قبل : زبالة !
طلب داود من قاسم أن يصحبه في جولة داخل السوق ، الذي تتفرع أزقته بشكل شيطاني وكأن الذين بنوه في السابق كانوا يعرفون بأنه سيتعرض باستمرار إلى المداهمات سواء من العسس أو الدرك أو الجندرمة أو الأمن الاقتصادي .. تختلف المسميات عبر الدهور ولا تختلف المهمات !..
كانت الأزقة تكبر ، تصغر ، تضيق حتى يصل عرض بعضها إلى متر واحد أو أقل ! وكانت هذه الطريقة في البناء تساعد على اتقاء الشمس العراقية الملتهبة .. كانت مليئة بالأقذار والنفايات والمياه الآسنة .. أما الروائح فلا تطاق .. البيوت مهدمة ومشرعة الأبواب .. الناس يدخلون ويخرجون منها زرافات !.. الغرف في هذه البيوت المهدمة ، مؤجرة لهؤلاء الناس المتعاملين بالسوق .
كان الدخول إلى أحد هذه البيوت تجربة مثيرة للغاية بالنسبة لداود ، والتي أتاحها له قاسم بواسطة معرفته بأكثر هؤلاء المتعاملين ..
كان المشهد العام غريباً بشكل يصعب استيعابه !.. إن كل هذه البيوت من النوع الذي يسمي بالشرقي ، وهو عبارة عن غرف متراصفة على شكل مربع ، تتوسطها باحة كبيرة تسمي (الحوش) ليس لها سقف ، والطابق الثاني هو نسخة من الطابق الأرضي ، وهي وسيلة عمرانية تتبع في البلاد الحارة كما العراق .. كان الأطفال يلعبون في باحة الدار والتي تسمي (الحوش).. الأم تطهو الطعام في مطبخها ذى الإنارة السيئة والقذر.. الزوج نائم على إحدى الحصائر ، والتي لا يمكن تمييز لونها الأصلي من كثرة البقع السوداء عليها ، مفروشة إلى جانب جدار المطبخ ، يغط في نوم سعيد وهانئ رغم الضجيج العام !.. أما بقية الغرف فقد كانت تعج بالحركة والحياة ، وكأنها خلايا النحل !.. أكياس الزبالة المليئة بالنقود ، تصعد وتنزل ، تخرج وتدخل ، في إيقاع شديد السرعة ، وهم غير عابثين بسكنة الدار ولا هؤلاء مهتمون بهم !
من خلال هذا التجوال المبهر في عوالم السوق العجيب، لفت قاسم انتباه داود إلى التواريخ المدونة على نواصي الأبواب، والتي أغلبها تعود إلى التقويم العبري .. فلما سال داود بانبهار.. جاءت الإجابة المتوقعة.. إن هذه البيوت تعود ملكيتها إلى اليهود العراقيين الذين هاجروا عندما أعلنت دولة إسرائيل ، وأن الحكومة قامت بإسكان ذوي الدخل المحدود فيها، ولهذا بقيت على وضعها الأصلي ولم تمتد يد الترميم والتجديد .. كان قاسم سعيداً بأداء دور المرشد السياحي .
– إن سوق أبو دودو هو البورصة الحقيقية لمعادلة أسعار الذهب والعملات الصعبة ، ليس في بغداد فقط ، ولكن في عموم العراق ، بل في المناطق غير الخاضعة لسلطة النظام في شمال العراق ، لكنها خاضعة لسلطة أبو دودو !.. هنا يتم تحديد سعر الدولار صعوداً وهبوطاً ، فالبنك المركزي العراقي مازال يحدد سعر الدينار العراقي بثلاثة دولارات ، في حين أن سعر الدولار الواحد هنا يساوي سبعة آلاف دينار !.. إنهم كأهل الكهف.
– لكن هذا ممنوع !.. والدولة لا ترحم المتعاملين بالعملات الصعبة ؟
– إن الدولة لم ترحم هذا الصبي الذي تراه الآن ، حينما قتل أبوه في الحرب ، وجعلته يترك مقاعد الدراسة ليعيل عائلة كبيرة ، إنها لم تقدم له البديل الإنساني أو الأخلاقي أو المادي ، فكيف تنتظر منه أن يحترم الدولة وقوانينها !
– لقد راودتني نفس الأفكار والتساؤلات التي تدور في عقلك الآن حينما وفدت إلى سوق أبو دودو لأول مرة .. لكني ومع مرور الوقت وبمزيد من الاحتكاك بهؤلاء الناس ، عرفت ما كان على أن أعرفه منذ زمن بعيد .. عرفت كم كنت مغيباً وهامشياً بل ومخدوعاً !.. لقد خدرونا بالوعود الوردية ومسحوا أدمغتنا بالمقولات الثورية الكاذبة .. حصلنا على الشهادات الجامعية وفي الحقيقة نحن أميون !! غذوا عقولنا وأرواحنا بالكراهية والعداء وأوهمونا بأننا قادرون على صنع المعجزات .. وفاتهم أن زمن المعجزات قد ذهب إلى غير رجعة !.. جعلونا نحارب العالم كله ونحن غير قادرين على زراعة قمح نأكله .. زمن المجاعة !!
كان كلام قاسم كالمطرقة التي انهالت على الكلس الذي كان يغلف عقلي ، ويتطابق بشكل كبير مع الحقائق التي بدأت أكتشفها بنفسي .. حزنت وشعرت بالرثاء على نفسي وبالقهر المريع .. هنا يجب أن أدفن داود القديم .. ذاك المثقف الموءودة أحلامه .. يجب أن أرميه هناك مع دفتر الخطة المدرسية ، في تلك الزبالة !.. يجب أن أتعلم عدم احترام قوانين اللصوص ..
كان الغضب يتصاعد من رأسي كما البركان المتفجر ، وأنا أتذكر مستوى الذل الذي وضعتنا فيه الدولة .. كان الراتب القليل المعشق بالمهانة الذي كنت أتقاضاه ، لا يكفي حتى للمواصلات ، مع أنهم قادرون على رفع هذا المستوى ، لكنهم في الحقيقة يريدون للجميع أن يتمرغوا بوحل الذل والمهانة وخصوصاً المثقفين منهم .. لم يقدموا لنا غير الوعود الثورية الكاذبة ، والهزيمة النكراء الناتجة من جراء سياسة القتل الثوري ، والتقاليد القبلية .. يا إلهي كم كنت مغفلاً !!
وقفت في منتصف أحد الدروب الملتوية ، والذي كانت أشعة الشمس تصب عليه كما الشلال الضوئي .. رفعت رأسي نحو السماء البيضاء من شدة الوهج ، أردت لهذه الشمس أن تتغلغل إلى أعماقي كما الرماح النارية ، أن تطهرني من العفن الذي غلفوني به طوال عمري .. أن تغسل روحي بعرق الندم .. أن تكون شاهدة على الوعد الذي ألزمته على نفسي .. بأني سأكون من أساطين هذا السوق .. أقسم أيتها الشمس.. أقسم ..
اقترب مني قاسم ونبهني إلى أن الجماعة قد أوشكوا على تحميل الحاوية بالآثار ، لكن هناك مشكلة .. إن أحد التماثيل البابلية يأبى الدخول إلى الحاوية بسبب كبر رأسه!..
– هذا ما كان ينقصنا..
اقترب داود وقاسم من العمال الذين كانوا يحملون الآثار، وكانت القطعة الوحيدة الباقية ، هي تمثال لأحد الملوك البابليين والذي كان ينقصه أصلاً الذراع الأيمن .. نظر داود إلى التمثال المسجي على الأرض المزروعة والعمال من حوله متحلقون ، وقد جلس على رأسه أحدهم وكان قد أشعل سيجارة والعرق يتصبب منه بغزارة بالرغم من برودة الجو .. سأل بعصبية :
– والآن .. ما العمل؟
– إن هذا التمثال أهم قطعة في المجموعة كلها.
نهض واقترب من داود، نافخاً دخان سيجارته في وجهه.. وقال :
– حاول أنت بنفسك أن تدخله إلى الحاوية!
– مهلاً.. ما المشكلة بالضبط؟
– إن هذا السافل يرفض الدخول إلى الحاوية، فرأسه أكبر مما ينبغي .. يجب قطعه !
قالها ساخراً.. اقترب قاسم من رأس التمثال المسجى ، وانحني عليه ، واضعاً يديه برفق على الرأس الملكي .. قال كمن يخاطب نفسه :
– أو لعله يرفض أن يغادر الأرض التي حكمها قبل أكثر من أربعة آلاف سنة !!
تجاهل داود الملاحظة الغريبة التي قالها قاسم.. ووجه كلامه إلى كبير العمال :
– أنت قلتها بنفسك.. يجب قطع رأسه.
– ماذا؟
– لا حل آخر.
– لكني كنت أمزح حينما قلت ذلك!.. هذا بالإضافة إلى إن العملية شبه مستحيلة ، لأنها ستجلب الضوضاء التي تجنبناها طوال الوقت اللعين الذي فات !.. ثم إن الساعة الآن تقترب من الثانية بعد منتصف الليل ، وهؤلاء المزارعون سينهضون بعد ساعات قلائل للعمل في حقولهم !.. فماذا سيكون رد فعلهم وهم يروننا ونحن نقطع أوصال هذا الملك ، على أرضهم المزروعة والتي دمرناها لهم تقريباً ؟
– ذكاء منك أن تقدر قيمة الوقت ونوع المخاطر التي يمكن أن تصادفنا إذا ما تم اكتشاف الأمر، لهذا اطلب منك أن تسارع قدر الإمكان لتنفيذ ما طلبته منك.. فوراً .
ابتعد قاسم عن المجموعة التي بدأت تناقش أفضل السبل لقطع رأس الملك البابلي ، وأقلها ضوضاء !.. آثر الابتعاد بعد أن عصف في أعماقه شعور بارد مؤلم بالعبثية ومرارة السقوط نحو أعماق الابتذال، وإحساسه المهين بالموت الأبدي لكل القيم التي آمن بها طوال حياته!.. هناك يد خفية عبثت بقدره الذي اعتقد يوماً بأنه قادر على رسمه بكل الألوان الجميلة الواضحة !.. لم يخطر بباله أبداً بأنه من الممكن أن يسقط إلى هذا الدرك الآسن !.. كيف تم الانتقال من الحلم إلى الكابوس !.. بل كيف سمح لنفسه بالانزلاق من انحطاط إلى آخر، وتحت أي مبررات !!
هل كانت البداية منذ عامين عندما زارهم عباس البريكي ، أم أبعد من ذاك اليوم الحزين ؟.. يوم جلس عباس البريكي منتفخاً كالطاووس في غرفة الضيوف الضيقة وعلي وجهه ترتسم الوقاحة بأوضح ما تكون !.. لم يكن عباس في الحقيقة قبيح الوجه، بل على العكس، كانت له وسامة لا تخطئها العين.. لكنه كان رخيصاً.. في كل شئ .. صحيح أنه كان يرتدي أغلى أنواع الملابس، إلا أن الألوان المتنافرة كانت تصعق العين الذواقة ببشاعتها ، والعطر الذي كان يفوح منه ، فقد كان شديداً يبعث على الدوار ، كما أنه لا يلائم وقت الظهيرة التي جاء فيها .. أما سلوكه والذي كان يحاول أن يضفي عليه جاهداً تصرفات البرجوازي العريق، لكنه في الحقيقة كان يكرس لدى الآخر صفة محدثي النعمة !.. و حتى حركاته المصطنعة والتي من خلالها يريد أن يكون إنساناً مرحا ً، قد أضفت عليه صفة المهرج الثقيل الدم !..
عموماً عباس البريكي لم يكن يحظى بأي نوع من أنواع الاحترام لدى أهل قاسم ، وزيارته التي حدثت قبل عامين من الآن.. لقد استطاع عباس هذا ، أن يجمع ثروة هائلة خلال سنين الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد احتلاله للكويت.. لقد قفز من عامل في مقهى شعبي يلتقي فيه تجار سوق الشورجة ، إلى مليونير في سوق أبو دودو!! لا أحد يعرف بالضبط كيف استطاع أن يجمع كل هذه الملايين في غضون السنوات القليلة المنصرمة؟..
في ذاك اليوم كان عباس يراقب قاسم ، وكان هذا ينظر إليه باحتقار ، ليس لشخصه الذاتي ، وهذا أيضاً لا يستحق التقدير ، بل لأن قاسم كان يرى فيه تجسيداً حقيقياً للزمن الرديء الذي يمر به البلد وبكل ما تعنيه الكلمة من مدلولات !.. كان هناك الكثير من الإشاعات المتداولة عن ثروة عباس البريكي .. هناك من يقول بأنه ومن خلال عمله في المقهى الشعبي ، والذي كان ملتقى كبار تجار الشورجة العريق ، استطاع أن يلتقط بعض المعلومات عن بضاعة قيمة ترقد في الجمارك .. وببعض المال الذي استدانه من هنا وهناك ، استطاع أن يشتري هذه البضاعة ومن ثم احتكرها ، ليحقق ضربة تجارية ناجحة نقلته إلى مصاف التجار الكبار!.. وهناك من يقول ، بأنه قد تزوج من عاهرة مشهورة ، وعمل قواداً لها ، وكانت هذه تزوده عن طريق علاقاتها مع كبار رجال الدولة ، بأخبار البلد التجارية ، وعن التوجهات العامة في هذا المجال ، وبالتالي استطاع أن يوظف هذه المعلومات لصالحه ، كما استطاع عن طريق زوجته الجميلة أن يتغلغل بين أصحاب النفوذ لكي يمرروا له بعض الصفقات الاحتكارية ، فتمكن من أن يوطد نفسه بين كبار التجار والسماسرة المعروفين في السوق .. أما الرأي الآخر فهو يؤكد أن البريكي قد عثر على كنز في خرابة مهجورة تابعة لأحد اليهود المهاجرين من العراق ، عن طريق عراف يمتهن السحر وكشف المستور!!.. وهناك وهناك.. الخلاصة هي كم كبير من الأخبار والإشاعات.. وتبقى الحقيقة غائبة كالعادة في بلد مثل العراق !.. لكن الثابت أن لغز البريكي قد أصبح أصغر من أن يتذكره أحد الآن مع الازدياد المهول في ثروته التي أصبحت أسطورة هي الأخرى !.. بدا التجار يحسبون له ألف حساب ، لهذا لم يعد للسؤال عن مصدر الثروة أي معنى !
في ذاك اليوم ، كان البريكي يزور بيت أهل قاسم لأول مرة في حلته الجديدة ، في الماضي البعيد ، كان يفعل لوجود علاقة قربى بين الطرفين ، وكان والد قاسم يمدهم ببعض المال بين الحين والآخر.. أما الآن وبعد الثروة الأسطورية التي هبطت عليه فلم يعد أحد قادراً على تخمين السبب الحقيقي لهذه الزيارة الغير متوقعة !.. ولقد بقى الأمر سراً لدى أهل قاسم لأكثر من ساعة تخللتها المجاملات الفارغة ومحاولات جس النبض ، خصوصاً وأنه قد أكثر من الهذر والحديث الأمجدي .. كان قاسم يشعر بأن بقاءه معهم في غرفة الضيوف واجب ثقيل لابد منه، فقد كانت فجاجة لهجته الشعبية وكثرة أغلاطه اللغوية ، تكاد تقضي على ما تبقي لدى قاسم من الصبر .. ثم رويداً رويدا بدأ البريكي يقترب من السبب الحقيقي لهذه الزيارة الثقيلة ، عليه وعليهم ! بدأ يتكلم عن ضرورة التكاتف العائلي في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها البلد والضائقة المادية التي سحقت أغلب العوائل وهشمتها بدون رحمة .. خصوصاً طبقة الموظفين التي ينتمي إليها قاسم وأهله .. أراد قاسم أن يرد عليه ويقول له فاتك أيها المهرج أن سقوط الطبقة الوسطي إلى مستنقع الفقر وبدون أي إسناد من الدولة قد تم بتدبير متعمد منها ، حتى يتسنى لمن هم على شاكلته تسلق السلم الاجتماعي الجديد ، ليكونوا رموزاً يدينون بوجودهم لصانع نعمتهم ، إنه لا يشعر بأنه مثال حي على الزمن الرديء .. ولكن هل يهمه أن يعرف !.. التزم قاسم الصمت احتراماً لوجود والده ، لكن هاجساً ما قال له بأن سبب الزيارة هو …
كان أشد ما يؤلم قاسم تصرف أبيه الغريبة !.. كان يرى في تصرفات أبيه نوعاً من الخضوع والاستسلام للتفاهات التي كان البريكي يتفوه بها !.. ثم انتقل الألم إلى مرحلة القلق وهو يرى أن أباه يتصنع الابتسام ويجامل بشكل لم يعهده فيه من قبل ، منتظراً من ضيفه الثقيل الدم أن يأتي بالنجوم في رابعة النهار !! تساءل مع نفسه ، لماذا لا يقوم بطرده؟.. مسكين أبي هذا بل كل إنسان على شاكلته ، فقد تعب طوال عمره في زراعة قيم العفة واحترام الذات وصون الكرامة من كل ما من شأنه أن يخدشها، وتقديس قيم الجمال.. وهاهو يرى بأم عينيه كل هذه القيم وهي تنهار بشكل درامي سريع أمام الظروف التي يمر بها البلد والتي لم يحسب لها حساب ولا في أسوأ كوابيسه !.. فمن الذي فكر من آبائه وأجداده في مثل هذا الحصار الجهنمي !.. والذي وضع الجميع بين شقي الرحى ، وكانت أول ضحاياه هي القيم النبيلة والمثل العليا .
كان البريكي قد وصل أخيراً إلى نقطة مبتغاه ، عندما اقترح على الجميع بأنه يرغب في توظيف قاسم مشرفاً على مصالحه الجارية العديدة والكبيرة والتي تقع أغلبها في سوق أبو دودو .. مبرراً طلبه في احتياجه الشديد إلى شخص يجيد التحدث بلغات أجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والتي كان قاسم يجيدها ، هذا طبعاً إلى جانب توفر شرط الثقة !..
فكر قاسم.. هانحن عدنا من جديد ، بعد قرون ، نحو التجمعات العشائرية والقبلية والعائلية !.. كنت أعتقد بأن هذه الآفات الاجتماعية تسير في طريقها المحتم للزوال لكنها كما العنقاء ، تنهض من بين رماد البلد المحتضر !.. وهاهي القوى العشائرية والقبلية تعيد أمجادها وتجمعاتها بشكل عجيب حقاً ، ابتداءً من النظام الذي يحكم الدولة مروراً بالوزارات والجيش ، بل وحتى المحلات التجارية وبيوت الدعارة !..
انتبه قاسم إلى أن كل العيون باتت شاخصة إليه ، على أعقاب السؤال الذي ظل من المفترض أنه قد طرح عليه ، والذي يجب أن يجيب عليه!.. كان البريكي قد أخرج من علبة أنيقة نوعاً من السيجار الهافاني الغالي الثمن وأشعله بكبرياء وشماتة ، مختلساً كاللص النظرات إلى وجه قاسم ليتسنى له قراءة رد الفعل على الموضوع الذي طرحه .. لكن قاسم حاول قدر الإمكان أن يتجنب النظر إليه ، وأن يقاوم كل انطباع يحاول الزحف على تقاسيم وجهه البشع .. في داخل الصمت المطبق رن صوت البريكي البارد .. إني أعرض عليك فرصة ذهبية .. لم يدري قاسم إنكان الكلام موجه إليه أم إلى أبيه ؟.. لكن الجواب لم يأتي من فم أبيه ، بالرفض أو القبول ، كما تمنى .. تسارعت دقات قلبه بشكل كبير ممزوجة بألم لم يكن يقدر أن يحدد مصدره ، كما لم يُعرف له مثيل من قبل ..
لقد أوغلت نتائج الحصار في إهانتنا بشكل موجع جداً .. هكذا قال لنفسه .. الأعين كلها متجهة نحوي .. منتظرة الإجابة على السؤال الذي لا يزال معلقاً في جو الغرفة .. إن أبي لن يجيب .. هذا واضح ..
دقائق مرت .. لكنها بطول العمر كله .. عمر كنت فيه مستمتعاً بالدعم الذي قدمته لي العائلة كلها لبناء حلمي شبراً شبراً.. حلم حملته بسعادة لا توصف ، إلى أن أكملت تخصصي الجامعي باللغة الإنجليزية .. منذ طفولتي وقد أستولى على حب طاغي لم يعلو عليه أي شئ آخر في حياتي .. شكسبير .. هذا المارد الذي أسرني بعبقريته الفذة وبجميل عباراته .. هو ذاك القادم من العالم البعيد والذي قادني إلى اكتشاف العوالم المبهرة !.. قررت أن أتخصص في حياته ومسرحه ، وتحول حلمي إلى حلم عائلي .. اشترى لي أبي أغلب أعماله المطبوعة وكذلك الدراسات التي كتبت عنه .. لم يكن يفوتني أي عمل قدم له على مسارح بغداد .. كنت مصمماً على أن أحج إلى وطنه .. أكون أقرب في تصوراتي عنه ، ولم يكن ليثنيني عن حلمي أي عقبة أو صعوبة .. في الجامعة أبهرت أساتذتي بقدرتي على الولوج إلى عوالم شكسبير العميقة وتخرجت الأول على دفعتي بأعلى الدرجات التي من الممكن لطالب الحصول عليها.. استطعت الحصول على منحة دراسية من إحدى الجامعات البريطانية عن طريق المعهد الثقافي البريطاني في بغداد.. وكان من المقرر أن أسافر إلى لندن بتاريخ 1-1-1999 نصحني أبي أن أسافر قبل الموعد الدراسي بشهرين حتى أتمكن من التأقلم مع الجو العام هناك قبل بدء العام الدراسي ، لكني رفضت مفضلاً قضاء العطلة المدرسية بين العائلة .. فجأة .. حدث الزلزال الذي روع الجميع .. الجيش العراقي يدخل الأراضي الكويتية ليبتلع هذه الدولة في ست ساعات!! كان ذلك في 2-8-1999 ثم تلا ذلك سيل البيانات الحربية الهستيرية، وإعلان التجنيد الإجباري لكافة المواليد القادرة على حمل السلاح ، وإغلاق الحدود ومنع السفر !.. تناثر حلمي كما تناثر بعد ذلك الجيش العراقي والبلد بأكمله .. العالم كله قد شارك في قتل حلمي وتحطيمه .. حلم عائلتنا الجميل .. تناثر على مذبح الكراهية ودوامات الحقد غير المفهوم ؟!.. ويبدو أن الأسلحة الفتاكة التي استعملتها قوات دول التحالف ، كانت تستهدف الأحلام فقط !.. وأن سلطة الخراب التي تحكمنا قد تحالفت معهم في إعطائهم إحداثيات أحلامنا .. لتدمر حلماً بعد آخر !..
لا أعتقد أن أبي يحلم الآن أن يراني وأنا عائد من إنكلترا حاملاً شهادة الدكتوراه !.. فما نفعها الآن وأصحاب الشهادات يتضورون من الجوع والقهر .. وأمي تلك الرائعة التي نذرت نفسها لخدمتي وإخوتي ليتسنى لنا التفوق في دراستنا، والتي كانت تقول لي مازحة، بأنها محتارة كيف تختار الثوب الذي سترتديه حين عودتي المظفرة من الغرب حاملاً الشهادة الكبرى! لكن كل شئ تناثر على أرض الكراهية والدم الرخيص.. أغلق المعهد البريطاني أبوابه، وبذلك أغلقت النافذة التي كنا نتنفس منها عبير الحرية البعيد!.. صدر أمر تعييني في مدرسة ثانوية بقضاء المسيب العائد إلى محافظة بابل كمدرس لمادة اللغة الإنجليزية.. ذاك القضاء البائس والنائم على الجوع والألم والقهر والحقد.. هو كمثل الكثير من المدن والأقضية العراقية المنسية على حواف شواطئ النسيان منذ أزمان موغلة في القدم!.. يدب على وجوهها الذباب كما يفعل على الجثث النتنة، ويسيل من فمها اللعاب الأبيض المرضى.. مدن تنبئ الزائر منذ الوهلة الأولي عن الأمراض المزمنة وغير القابلة للشفاء التي تلازمها.. تنتظر رصاصة الرحمة حتى تعلن انضمامها إلى المدن الأسطورية التي سادت ثم بادت !.. يبدو أن الكل قد نسيها أيضاً وليس الزمن وحده.. مدن ينخر الدود جسدها المتعفن وهي غير قادرة على فعل أي شئ من أجل إنقاذ نفسها !.. حتى الطيور الجارحة والحيوانات المفترسة تمر بها بلا مبالاة .. إنها أكثر من جثث نتنة ، إنها شئ مهلهل تسري فيها الخرافة!.. ويبقى الانتظار هو الحارس الأمين والعملاق الذي لا تطال هامته.. يحرس هذه المدن والعلامات التي كتب عليها – مقابر أهلها أحياء! – والزمن لا يمر على الأموات!!
أصبت بإحباط شديد ورفضت التعيين .. ولأن يأتي هذا العباس ، الذي يشرب السيجار الهافاني في زمن البطون الخاوية والأحلام المهشمة ، لينثر في الرياح ما تبقى من إنسانيتي وقيمي .. وربما .. ما تبقي من الحلم المهشم !.. كان يعرف مسبقاً بأني لن أرفض ، ليس حباً في ماله المشبوه المصدر ، لكن لكونه على يقين بأني لن أتخلى عن واجبي اتجاه عائلتي في مثل هذه الظروف .. وبأني سأقبل أن أكون كاتبه الوضيع الذي يجيد القراءة والحساب واللغات ، وربما ليثأر من أيام الذل التي كان يقاسيها في سابق حياته، لكونه عديم التعليم والثقافة والسلوك الحسن!.. لقد تعمد أن يلقي بعرضه على بهذا الشكل الاحتفالي في وسط العائلة التي هي على وشك الانهيار، حيث لم يعد الراتب الذي يتقاضاه أبي يكفي لسد الاحتياجات العائلية.. عائلة كانت تنتظر، كما أغلب العوائل العراقية، معجزة يأتي بها السيد المسيح أو المهدي المنتظر.. فإذا بها تأتي عن طريق عباس البريكي!!
أعلنت موافقتي بهدوء.. لم أنظر إليه، بل نظرت إلى أبي بما يشبه الاعتذار عن هذا الانحدار الذي أصاب قيمنا التي آمنا بها!.. أردت أن أنعي إليه بموافقتي على العمل مع هذا الآفاق تاريخ القيم النبيلة.. أن أعلن موت الحلم الرسمي !.. فرأيت في عينيه غلالة دمع .. اعتذار .. مع عرفان بالجميل.. أما أمي ، فلم تكن عيناها تعكس سوي المرارة والحزن العميق.. تماسكت أشباح مشاعرنا بما يشبه رقصة الخوف التي تسبق السقوط في الجحيم والتي لا تحدث إلا في الأساطير الدينية!!
إن النزول إلى مستنقعات الوحل والاشمئزاز.. يقتل في أعماقي شيئاً ما!.. وهاأنا، وبرغم الجهود المضنية التي بذلتها خلال عملي مع عباس البريكي في السوق كل هذه السنين، كي أبقي جذوة الخير في أعماقي ، اكتشف أخيراً بأنه الشيء الذي قتل!.. وأنا متورط الآن في تهريب الآثار العراقية!.. وعلي أن أري بأم عيني رأس الملك البابلي وهو يحز بالسكين.. لكن هناك شعور بالألم.. أن رقبتي هي التي تحز!!
اقترب داود من قاسم، وقال :
– لقد تم فصل الرأس عن الجسد، وسيتم تحميلهما بعد قليل وننتهي .. ما بك يا قاسم؟ أراك ترتعش من البرد .. هل أنت مريض أم خائف؟
– أرتعش؟.. ربما.. لكن ليس مرضاً أو خوفاً.. بل تقززاً من الوضع الذي وصلنا إليه.. من الوضاعة التي نتمرغ بها تحت هذا المبرر أو ذاك!.. لم نكن هكذا، لم ندرس لكي نتحول إلى مهربين وخونة لتاريخ بلدنا!..أليس هذا عجيباً ومحتاجاً إلى تفسير كبير؟
– أجل إن الأمر محتاج إلى تفسير.. لكنه ليس بالصعوبة التي تتخيلها يا قاسم.. المشكلة أننا غيبنا تحت يافطات الشعارات الثورية الزائفة ودفع بنا نحو التطرف ، حتى لا يتسنى لنا أن نري الواقع على حقيقته.
– وما هو هذا الواقع؟
– إن العراق عبارة عن كيس كبير، مكتوب عليه بخط عربي جميل.. خردة للبيع!.. وأن المزاد مشتعل، والدمار الذي حاق بالبلد هو جزء من عملية المساومة بين البائع والمشترى!
– لقد تغيرت كثيراً يا داود!
– لا يهم.. المهم أن نتغير.
ابتعد داود عن قاسم لأنه لم يكن يرغب في مواصلة الحديث اللا مجدي .. لقد فات أوانه ولا داعي لفلسفة الأمور الآن، أو فصل الحق عن الباطل.. لقد تم خلط كل شئ ، حتى بات الأمر بحاجة إلى طلسم رباني لفرزها !..
فكر داود في كلام قاسم، ورنت عبارته القاسية في ذهنه – لقد تغيرت كثيراً يا داود! – محدثة ألماً خفياً لكنه موجع!.. أنه لا يستطيع أن ينكر بأن لقاسم اليد الطولي في التغيير الذي طرأ على حياته، وبأنه المفتاح الذي بواسطته استطاع الولوج إلى عالم المال وأسراره.. لقد ساعده في البداية كثيرا ً، عندما كان يزوره كل يوم تقريبا ً.. وكان داود يجلس لساعات صامتاً يرقب الناس ويستمع إلى الأحاديث التافهة والجادة منها.. يتجول في تفرعات السوق ويحفظها عن ظهر قلب والعاملين فيها.. بل إنه تمادى في التحدي الذي قطعه على نفسه وترك الأزمة المادية التي كان يمر بها تسحقه إلى حد البكاء والرثاء على النفس !..
لم يكن ذلك في الحقيقة يقلقه حتى عندما وصل به الأمر بأنه لم يعد قادراً على شراء علبة سجائر يدخنها ، بل زاده ذلك تصميماً وقوة داخلية ممزوجة بالكثير من القسوة والتحدي المخيف لكل من ينوي الوقوف في وجه طموحاته المستقبلية.. وكان دائماً يردد لنفسه ولقاسم.. بأنه سيكون من أساطين هذا السوق مهما كلفه الأمر!
عثر داود على غرفة صغيرة في أحد البيوت التي كانت تؤجر الغرف بالباطن ، وساعده قاسم في إقناع السيدة العجوز التي تملك هذا الغرفة بتأجيرها له ، وكانت المشكلة الثانية هي في رأس المال الذي يبدأ به.. لم يطل التفكير بعد أن عاد إلى البيت ونظر إلى المكتبة الضخمة التي ورثها عن أبيه، والتي واظب هو على تغذيتها خلال السنوات الفائتة بكل ما هو جديد ونفيس .. وفعلاً لم يطل التفكير، بل ولم يبد الندم عندما شاهد المشتري وهو يحملها إلى حيث لا يراها مرة ثانية !
لم تصادفه صعوبات جدية في السوق، ومن خلال المهنة الجديدة عليه وعلي كل تراث عائلته !.. عرف دكانه الصغير باسم، دكان الأستاذ!.. وأصبح خلال فترة وجيزة من الوجوه المعروفة في سوق أبو دودو العجيب !.. وكان هو حريصاً على ترسيخ ثقة الجميع به .. واستطاع أن ينمو بأسرع مما توقع هو نفسه !..
بدأت ثروته تكبر بشكل مضطرب ، لكن هذا لم يعد يرضيه، وأن التحدي الذي أطلقه بوجه الجميع ، كان أشبه بالمارد المرصود في قمقم الحكايات الأسطورية.. كان يعرف وبالرغم الكثير الذي حققه، بأنه مازال يجهل مفاصل السوق الحقيقية وأسراره التي لا يعرفها إلا العدد القليل جداً من المتعاملين في هذا السوق!.. أراد أن يغوص إلى العوالم السفلية لأبو دودو ويكتشف أسراره المخيفة التي يتم التلميح إليها هنا وهناك.. فقاسم مثلاً لا يعرف مصدر ثروة مخدومه عباس البريكي !.. فمن غير المعقول الآن أن يقتنع بالمقولة السائدة في السوق ، التي تقول بأن المضاربة بالعملات الصعبة والسجائر الأجنبية ، تكسب كل هذه الملايين !.. كان من الممكن أن يصدق هذا في البداية أما الآن فلا .. لابد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها كما يقولون !..
لم يهنأ لداود بال حتى ولج البوابات الخفية لهذا السوق العجيب.. كانت البداية مع عباس البريكي نفسه !.. كان الانطباع الأول عنه، مختلفاً تماماً عن الصورة التي صورها له قاسم .. صحيح أن البريكي يبدو رخيصاً في محاولته تقليد أبناء الذوات والطبقة البرجوازية، لكن هذا ليس الجانب الوحيد الذي فيه .. والذي على أساسه كان قاسم يعامله بخفاء واضح !.. إنه إنسان شديد الذكاء ، بل من النوع الذي يبهر !.. يملك نوعاً من الإحساس المتناغم مع إيقاع السوق الأهوج ، والتي من الممكن أن تسمي بالحاسة السابعة!.. كان يضارب عندما يحجم بقية التجار عن المجازفة، وبذلك يحقق أرباحاً خيالية.. لم يكن يخيفه أي هبوط مفاجئ في الأسعار ، وخصوصاً أسعار العملات الصعبة، وكان دائماً رائداً في فتح العديد من المجالات التجارية التي لم يفكر فيها غيره من التجار .. باختصار كان عقلية تجارية صرف، وأصبح العديد من التجار مجرد مقلدين له ومتتبعين أسلوبه الفذ!..، ولم يكن هذا ليدهش أي شخص لو كان البريكي خريج إحدى الكليات الاقتصادية ، أو أنه قد أكمل تعليمه الثانوي !.. لكنه لم يكن شيئاً من هذا.. وربما هذا هو الذي كان يغيظ قاسم وأمثاله من المتعلمين الذين دخلوا السوق التجارية لهذا السبب أو ذاك.. أما داود فلم يتعامل معه من علو بحكم الشهادة الجامعية التي يحملها، بل إنه تعامل معه كمعلم ينهل منه في العالم الجديد الذي اقتحمه ألا وهو السوق التجارية!.. خصوصاً أنه سوق لا تتحكم به قاعدة أو أسس، إنها فوضى ضاربة أطنابها ، والأسعار في صعود وهبوط دائمين، وعلي أثر كل بيان سياسي أو تصريح لأحد رموز النظام، وأثر كل غارة جوية من طائرات التحالف التي تخرق المجال الجوي العراقي كل يوم، يتأثر السوق وتعلو الأسعار وتهبط حسب قوة التصريح أو الغارة!.. بل إن الشائعات التي يطلقها النظام بشكل مدروس، أو التجار بشكل مضاد، تحدث نفس النتيجة، وتخلخل الأسعار، فيفقد الناس العاديين الذين بات أغلبهم يعيش على هذه الشائعات، مدخراتهم ومعهم الكثير من التجار، من النوع الذين لا يملكون أعصاب قوية تلائم هذا السوق الجامح ولا يستطيعون أن يتعايشوا مع هذا القلق والتوتر الدائمين!.. أما البريكي فقد كان دائماً واثقاً من نفسه وقدرته على التعامل الصحيح والناجح مع جميع أنواع الاهتزازات المالية والسياسية، وكان الدرس الأول الذي تعلمه داود منه عندما قال له :
لا تثق بالدينار العراقي وبالسياسيين العراقيين أبداً، وحول كل ما تملكه من نقود إلى الدولار الأمريكي .
لكن داود لم يكن يريد منه النصائح فقط، بل أراد أن يربط عجلته به، حاول ذلك في البداية عن طريق قاسم، لكن هذا لم يكن يملك أي نوع من أنواع الطموح ليترك دور السكرتير العارف، والذي ربما كان يري فيه نوعاً من التعويض عن المكانة العلمية التي فقدها!.. لهذا قرر داود أن يقتحم عالمه بدون الاعتماد على قاسم، الذي كان البريكي يحبه جداً ويحاول أن يرضيه بكل الوسائل، فقاسم أصبح ذراعه الأيمن والأمين على كل أمواله وأسراره..
استطاع داود أن يطور العلاقة مع البريكي إلى ما يشبه الصداقة، وكان يعرف منذ البداية إنه يتحمل التفاهات التي من الممكن أن تصدر عن رجل مثل البريكي ، تنقصه كل أنواع المعرفة العلمية والأدبية، والتي كان يصر على أنه يعرفها ويتقنها!.. وكان أكثر ما يقزز داود هو فجاجة أسلوب البريكي من حيث المأكل أو الملبس أو كثرة علاقاته الغرامية ومغامراته في أحياء وبيوت الدعارة المنتشرة في بغداد على رغم المنع العلني لها من قبل الدولة!.. استطاع داود أن يتجاوز كل ذلك بعكس قاسم، لأنه كان يهدف إلى الدخول إلى السوق الحقيقي عن طريقه.. وبدأ البريكي فعلاً يسند إليه بعض المهمات التجارية المربحة على سبيل الاختبار، ولم تفت هذه الحيلة على داود، فقد كان واعياً بشدة إلى ما كان يرمي إليه!..
كان الخيط الأول الذي استطاع داود أن يمسك به بشدة، في خلال السفرة الأولي لهما معاً إلى عمان عاصمة الأردن.. فقد أصطحبه يوماً البريكي معه إلى أحد المكاتب التجارية، وهناك استقبلوا بحفاوة زائدة عن حدود المألوف من قبل السيد نبيل، مدير ذلك المكتب الصغير الأنيق، والذي عرف أنه من المهتمين بالآثار وله اطلاع واسع فيها، كان داود يحمل نفس الاهتمام وله خبرة لا بأس بها في هذا المجال، لهذا جري بينهما حديث شيق عن أهمية الآثار العراقية.. في ذلك المساء فاتحه البريكي عن نشاطه السري في تهريب الآثار من العراق إلى الأردن ومن ثم إلى أحد الدول الأوروبية.. ووجد فيه ضالته بعد أن لمس غزير اطلاعه في هذا المجال !..
في اليوم التالي انتقل به إلى أحد المزارع الواقعة خارج عمان، وهناك شاهد داود منظراً لم يتسنى له نسيانه أبداً !.. فقد كان المخزن الموجود في تلك المزرعة مليئاً بالآثار العراقية من بابلية إلى آشورية إلى إسلامية !.. ثروة هائلة لا تقدر بثمن أو مال على الإطلاق !.. وكان السؤال الذي تبادر إلى ذهنه كيف استطاع هذا البريكي إخراج كل هذا الكم الهائل من الآثار من العراق ؟.. انتابه في البداية إحساس غريب .. الأسف .. وأن شيئاً على غير ما يرام في أمعائه !.. لكنه حاول التماسك ويرسم ابتسامة الدهشة على وجهه!.. ثم لما سال عن رأيه في تقدير قيمة هذه الثروة المهولة لم يتوان عن ذلك ، فقد كان عزمه على الدخول إلى العالم السفلي لسوق أبو دودو وكشف أسراره لا يضاهيه شئ آخر على الإطلاق !..
وهكذا توطدت العلاقة بينهما وكشف له البريكي مجيباً على السؤال الذي ظل يلح على داود في كيفية إخراج هذه الكنوز من العراق بكل بساطة، بأنه شريك مع أحد المسئولين في الدولة بهذه التجارة القذرة!.. لكنه رفض أن يفصح عن اسم هذا الشريك المهم!.. أدرك داود عندها أن العملية هي أكبر من عباس البريكي نفسه، وأن هذه التجارة مزدهرة منذ زمن بعيد، وأن الكثير من كنوز البلد قد بيعت بأبخس الأثمان!!.. وكان عليه أن يتخذ قراراً خطيراً وصعباً، عندما طلب منه البريكي أن ينضم إلى أسطول العاملين معه في تجارة التهريب!.. كانت الصعوبة متأتية من إحساسه بأن تهريب الآثار من أبشع الجرائم على الإطلاق، ولا تعادلها في مخيلته سوي جريمة التجسس على نفس البلد الذي يعيش فيه !!
في لحظات التردد التي انتابته، تذكر المعاملة الحقيرة التي تلقاها طوال حياته من الدولة ورموزها.. سواء كان ذلك في الجامعة، عندما كان يجبر على الذهاب إلى معسكرات الجيش الشعبي ، ومن ثم إلى جبهات القتال، وكيف كانوا يطردون الطلبة الرافضين للذهاب من الجامعات، حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الرافضين لعسكرة المجتمع!.. أما المعاملة الأسوأ فقد كانت خلال الخدمة العسكرية النظامية، وفيها كان يتم الفرز إلى الوحدات العسكرية على أساس الانتماء الطائفي والقبلي والسياسي ، ومن لم يتمتع بأي من هذه فيكون مصيره الخطوط الأمامية وبالتالي الموت المجاني !..
أما في الوظيفة الحكومية، فقد كانت عبارة عن مسلسل طويل من العذاب اليومي واللانهائي !.. فالمدرس غير المنتمي إلى تنظيمات الحزب الحاكم أو المشكوك في حقيقة انتمائه ، يكون عرضة دائمة للمساءلة والاستجواب والمراقبة حتى من قبل الطلبة!..
قبل داود المهمة التي كُلِّف بها ، وأصبح المثمن الأول في العمليات الجديدة، وأصبح الكل في الكل، وبدا المال ينهمر عليه من حيث لا يدري ..
لكن قاسم بتقاطيع وجهه الغريب ظل دائماً يذكره بماضيه، ودَ داود من كل قلبه أن ينساه .. كان قاسم قد تحول إلى صوت الضمير الذي غيبه!.. صحيح أن قاسم قد سبق داود إلى السوق العجيب، لكنه لم ينجرف مع تياره الصاخب نحو المديات الأبعد .. وكان داود يتساءل دائماً في ذهنه من غير أن يجرؤ على طرح السؤال مباشرة خوفاً من الجواب القاطع.. هل إحجام قاسم عن الإيغال في المديات الأبعد كان عجزاً أم لا تزال تلك القيم التي تعلمناها ذات يوم تشتعل في داخله ؟؟..
في هذه الأثناء ، وفيما كان العمال قد انتهوا من تنفيذ المهمة التي كلفوا بها، وتم تحميل كل الآثار في الحاوية الكبيرة.. حدثت حركة غير عادية من جهة بيوت الفلاحين.. كان ضوء الصباح المسرع قد بدا يلقي بنوره على الوجود وعليهم.. تلفت داود والذعر بادي عليه في كل الاتجاهات بحثاً عن قاسم، فلم يجده.. اقترب منه رئيس العمال على عجل وقال بلهجة ملؤها الخوف :
– الشرطة!.. سيارات الشرطة تقترب منا!
فجأة ظهر قاسم من حيث لا يدري أحد .. انتاب داود إحساس لم يمكنه أن يتجاهله، ربط بين قدوم سيارات الشرطة وبين ظهوره المفاجئ !.. لكن لا وقت للتفكير الآن بهذا الهاجس .. عليه الآن أن يتصرف وبحكمة وإلا ضاع كل شئ !..
– كم عدد السيارات؟
– اثنتان.
فكر بهدوء .. إذاً هناك ستة أفراد من الشرطة، ونحن عشر رجال مسلحين.. المواجهة هي الطريق الوحيد للنجاة، وإلا كان مصيرنا السجن أو الإعدام .
أبلغ الجميع أن يشهروا أسلحتهم ، بعد أن استطاع أن يقنعهم بالمصير الذي ينتظرهم في حال استسلامهم .. الغريب في الأمر أن قاسم كان من أشد المؤيدين لهذه المواجهة ، بل إنه بدأ في إصدار الأوامر وحمل مسدسه وتقدم باتجاه الشرطة .. التفت نحو داود وقال بلهجة لم تزل ترن في أذنه :
– نكون أو لا نكون.. أليس هذا ما قاله هاملت؟
رفع مسدسه باتجاه أشباح الشرطة المتقدمين ، وأطلق بعض الأعيرة النارية ، والتي على أثرها اتخذت الشرطة مواقع دفاعية، ولاذ بعضهم بالفرار!.. ازداد ضوء الصباح ، وعما قليل سيكون كل شئ واضحاً .. انزل مسدسه والتفت نحو داود من جديد كان في عينيه هذه المرة بريق غريب أضفى عليه مسحة من الجمال الوحشي ، أدهشت داود ، وأشعرته بحب جارف لهذا الكائن الغريب !..
– اهرب برجالك يا داود .. أنا كفيل بمواجهة هؤلاء الجبناء الذين اعتادوا على تعذيب أرواحنا وأجسادنا ومطاردة أحلامنا.
– وأنت؟
– عليَّ أخيراً أن أتحرر من الخوف الذي لازمني طوال حياتي.
استدار نحو الشرطة مرة ثانية وبدا بإطلاق النار عليهم .. التفت داود بسرعة نحو الرجال وأوعز إليهم بركوب السيارات ، بعد أن قاموا جميعاً بإطلاق الرصاص على الشرطة وهم يرون قاسم يتقدم نحوهم .. نادى داود على قاسم بأعلى صوته أن يرجع .. خائفاً .. لكنه كان قد بدا يدرك الهدف الذي بات قاسم يسعى إليه ، إلى أن شاهده وهو يسقط مضرجاً بدمه .. ركض نحوه وترجل الجميع من السيارات وبدأوا يتقدمون نحو الشرطة إلى أن أجبروهم على الاستسلام .. كان قاسم يسبح في بركة من دمه.. مات من دون أن يطلق صرخة أو صيحة ألم .. انحني عليه داود منذهلاً من قسوة الموت وروعته ..
آه لو تمنحني فرصة للاعتذار .. لو فقط بقيت إلى أن أقول لك بأن قلبي أنا الآخر قد أوجعني عندما حززت رأس الملك البابلي !.. مات بدون أن يمنحني فرصة التبرير ، كنت دائماً أؤجل ذلك إلى فرصة مناسبة لكي أقول لك بأني لست كعباس البريكي ، وأني أحمل له نفس كمية الاحتقار التي كنت تحملها !.. مات قبل أن يشرح لي لماذا قال .. نكون أو لا نكون ؟.. بالتأكيد لم تكن تريد أن تكون من الذين قالوا .. لا نكون !..
بدأ العرق يتصبب من جبين داود بغزارة، وهو يتذكر كل ذلك في مكتب السيد عيسى الأمين، الذي كان الآن يصعد الدرج الحديدي الضيق بصعوبة شديدة ، حاملاً القهوة الساخنة للمرة الرابعة هذا اليوم !..
نفض داود رأسه بهزة عنيفة ، وكأنه أراد أن يسقط شبح قاسم من ذاكرته ..
كان من الممكن أن يكون جالساً هنا معي في هذا المكتب .. منتظرين المهرب الذي سينقلنا إلى هناك .. حيث لا وجود للخوف .. كان من الممكن أن ينتظر قليلاً ليرى بأم عينيه هذا الكم الكبير من المهاجرين العراقيين، عندها سيعرف بأنه ليس الضحية الوحيدة في بلاد النهرين!.. قال لي قبل أن ينتحر برصاص الشرطة ، إنه أخيراً يريد أن يتحرر !!.. هل فعل ذلك حقا ؟.. وأنا متى سأتحرر من ذكراه.. إلى متى سيبقي في داخلي .. هل سيتحول قاسم إلى لعنة تطاردني في حياتي كلها ؟..
قطع سيل الأسئلة المنهمر عليه من الذاكرة الملطخة بدماء قاسم الذي أراد أن يكون .. وكان !..
تقديم القهوة الساخنة اللذيذة ، مع الاعتذارات التي قدمها عيسى الأمين ، معللا التأخير الذي يحصل ، بسبب عدم قدوم السيدة أحلام بعد ..!
6
كان خبر انتحار العائلة العراقية المكونة من أب وأم وطفلين ، أحدهما في الخامسة والآخر في الثالثة من عمريهما .. قد هز المجتمع الأردني وسكان مدينة عمان على وجه التحديد .. كل الصحف نشرت الخبر المفجع على صفحاتها الأولى وأسهبت في ذكر التفاصيل وتحليل أسباب انتحار العائلة الصغيرة ، ولم تخلو معظمها من المبالغات !..
الرسالة المختصرة التي تركها الأب، ذكر فيها بأنه وبعد فشله في تأمين مستقبل آمن له ولعائلته وشعوره باليأس الكامل .. فقد قرر قتل العائلة والانتحار ، وبهذا فهو يبرئ الجميع من المسئولية ..!
بعد أن فرغ رعد من كتابة الرسالة.. سألته أمل وهي إلى جانب أطفالها، على السرير القذر، والخوف مرتسم على تفاصيل وجهها الجميل الشاحب..
– والآن؟
نظر إليها رعد والعرق يتصبب من جبينه بغزارة رغم برودة الجو في الغرفة القذرة..
– لا شئ.. سأذهب لأدور قليلاً في شوارع المدينة حتى ينام الأطفال .
وقبل أن يغادر الغرفة، اندفعت نحوه أمل وعانقته بحرارة.. دفنت رأسها الصغير الشاحب تحت إبطه.. وهمست بوجل..
– هل سيغفر لنا الرب؟
– لا أعرف!
دفعها بعيداً عنه ونظر إليها نظرة ذات مغزى التقطته.. غادر الغرفة بدون أن يلقي نظرة أخيرة على أطفاله!.. مسحت أمل دموعها ورسمت على شفتيها الذابلتين ابتسامة باهتة قبل أن تلتفت إلى طفليها، اللذين كانا جالسين في الفراش بانتظارها لكي تقص عليهما قصة الأميرة النائمة..
اتجهت إلى المطبخ وتناولت قنينة الشراب المحلى، الذي كان زوجها قد وضع فيه كمية كبيرة من الحبوب المنومة، ثم صبت منه ثلاثة كؤوس .. كان فرح الأطفال كبيراً وهم يرون الأم تتقدم إليهم وفي يدها الشراب الذي يحبون.. وبعد أن انتهوا منه، تمددت بينهما وقد زال عنها أثر التوتر، وأخذت أيديهما الصغيرة ووضعتها على صدرها.. قالت وكأنها تخاطب شبح زوجها الذي غادر ولن تراه بعد الآن ..
– اليوم سأغني لكما بدلاً من الحكاية التي وعدتكما بها..
حدر التراجي برد
والكنطرة بعيـدة
وامشي واكول اوصلت
والكنطرة بعيـدة
نكضني مشي الدرب
والشوك هز القلـب
وامشي واكول اوصلت
والكنطرة بعيـدة
حلمانة برد الصبح
رجف خلاخيلـي
يا دفو جمـل دفو
يا كمر ضويلـي
يا ذهب خيط الشمس
طوكين سويلـي
لا يكلي طوك الذهـب
والدغش ما أريــده
وامشي واكول اوصلت
والكنطرة بعيـدة
نام الأطفال على الصوت الحزين ، وصارعت هي النوم قدر الإمكان ، على أمل أن يفتح زوجها الحبيب الباب لتلقي عليه النظرة الأخيرة !.. لكن النوم غلبها ، ومع إغفاءة جفنيها، فتح رعد الباب وشاهد السكون الذي كان يرنو على الجميع في الغرفة القذرة.. جلس على الكرسي المقابل لهم يتأمل وجوههم البريئة التي صرعها النوم المدسوس في الشراب المحلى، وأخذ يبكي بحرقة شديدة.. هل سيغفر لنا الرب ؟.. لا أعرف يا عزيزتي.. وإذا لم يفعل فهل تتخيلين جحيماً أكبر من الذي عشناه في هذه الحياة القذرة؟.. هل تتخيلين عقاباً أكبر من أن نعيش وسط عالم مليء بالحروب والغدر والكذب والغش والرعب الدائم ؟.. هل جئنا إلى هذه الحياة لكي نتعذب ونعذب الآخرين ؟.. هل من العدل أن نكون لاعبين في ملعب بدون أن نعرف قوانين اللعبة ؟.. وإذا كانت هذه هي التجربة ، فأنا أعترف بأني قد فشلت ولا قدرة لي على النجاح!.. أما الموت.. ذاك الشبح الغامض والذي لا يرقص رقصته الجميلة الأخاذة إلا متى شاء.. فاليوم سأجبره على أن يرقص معنا في هذه الغرفة القذرة.. سأمنحه الفرصة لكي يرقص على مسرح الأجساد الأربعة حتى الكلل.. سأمنحه فرصة البكاء مقابل خلاصنا!..
نهض نحو الجارور المجاور للسرير الذي يرقد عليه الثلاثة .. وأخرج مسدساً باعه إياه مناضل قديم !.. أخذ المسدس ، لكن العرق الغزير كان يتصبب منه حتى بات من الصعب عليه أن يمسك بالمسدس بالطريقة الصحيحة ، وضعه على السرير ومسح يديه بقوة في ملابسه ثم عاد وأمسكه مصوباً إياه على فوهة فمه.. كانت الحمي تلهب جسده وتجعله يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.. لن يكون الأمر سهلاً.. لن يكون الأمر سهلاً !.. لو كنت أنا الذي يرقد الآن بين الطفلين وهي التي تمسك بالمسدس، هل كانت ستستطيع أن تنجز المهمة الأصعب؟!.. هل أقبلهم الآن أم لا داعي لذلك!.. تباً لهذا الضعف الذي من أجله كرهنا الحياة.. فلترحلوا نحو الصمت الأبدي .. ثم دوت الطلقة الموعودة، وتزامن معها دوي الأيادي على باب الغرفة القذرة ..
قرأ عيسى الأمين هذا الخبر في جرائد الصباح، شعر بالدم يفر من جسده الممتلئ!.. اعرف هذه العائلة.. يا يسوع ارحمنا وارحمهم.. سامحني يا إلهي !.. لقد جاءني هذا المنكود قبل عدة أشهر.. أذكر تماماً.. كان يحمل معه ستة آلاف دولار، طلبت منه أن يكمل المبلغ إلى ثمانية آلاف حتى أستطيع أن أهربه إلى أوروبا .. لقد كان حاد المزاج وعصبياً في البداية لكنه انهار وتوسل بي ..
– أرجوك يا سيد عيسى .. لا أستطيع أن أعود إلى العراق ، الموت هناك في انتظاري .. لقد كنت مهندساً في مؤسسة التصنيع العسكري ، وبأعجوبة هربت من العراق .. دفعت الكثير من الرشاوي حتى تمكنت من الوصول إلى هنا .. لا أستطيع أن أنتج الموت أكثر من الذي فعلت.. هل شاهدت الفيلم الوثائقي عن مأساة حلبجة ؟.. هل شاهدت الموت الجماعي الذي اجتاح المدينة؟.. انظر إلى هاتين اليدين، انهما ساهمتا في صنع هذا الموت الأصفر!.. صحيح أني مهندس من ضمن مئات آخرين، لكني لم أستطع تحمل المنظر، عندما جاء الضابط المسئول عن المعمل الذي كنت أعمل به.. جمعنا وهو في غاية الفرح وقال : “أزف إليكم اليوم خبراً عظيماً.. بل إني سأريكم – لوح بكاسيت فيديو – ثمرة جهودكم الرائعة أيها الرفاق!” ثم عرض الفيلم الذي يجسد مأساة المدينة التي اجتاحها الموت الذي صنعناه بأيدينا مع تعليق : “لقد تم ضرب أعداء الحزب والأمة العربية وعملاء العدو الإيراني الحاقد بالسلاح الكيماوي ، وتمت إبادتهم إبادة تامة”. كنت أنظر إلى الشريط وأنا أتساءل : أين هم هؤلاء العملاء؟.. لم يكونوا في الواقع سوي نساء وأطفال وشيوخ كبار في السن!.. متكورين على بعضهم البعض، وآثار الألم الرهيب بادية على وجوههم.. وكذلك الفزع!.. أحسست بالمسئولية الكاملة عن هذه المجزرة المروعة، شئت أم أبيت، فلقد ساهمت في صنع هذا الموت الأصفر، كل هؤلاء هم ضحاياي أنا، انتابني الرعب وأنا أواجه السؤال الذي تبادر إلى ذهني : كيف تم تحويلي من مهندس طموح إلى مجرم وقاتل؟.. أرجوك يا سيد عيسى، ساعدني كي أرحل عن هذا العنف الذي يجتاحنا ويحولنا إلى قتلة بدون وعينا!.. أن المبلغ الذي لدي قد بدأ ينفد ، فأنت تعرف بأن الإقامة في عمان مكلفة وخصوصاً وأنا لست وحدي بل مع عائلتي !
لم أستجب لتوسلاته.. يا يسوع ارحمني !.. الرجل انتحر وقتل عائلته يأساً .. كنت أستطيع أن أساعده .. لكنه الطمع.. أو الخوف من المستقبل في ظل العنف المزمن الذي يجتاح المنطقة بين الحين والآخر كما الوباء ، هو الذي جعلني أقتل ضميري وأحاول جمع المال بكل السبل وأسرعها.. هل هي حجة أخرى؟.. والأساس هو حبي للمال ؟.. لماذا انتحر هذا الغبي ؟.. لماذا لم يعد إلى المكتب مرة أخرى ؟.. لقد قتله تأنيب الضمير بعد الذي حدث في حلبجة .. فهل سيبقي شبحه وأطفاله يطاردونني ، كما طاردته أشباح المدينة المنكوبة ؟..
تذكر عيسى الأمين وقائع صباح هذا اليوم الذي يأبى أن ينتهي وهم منذ ساعات في انتظار السيدة أحلام.. أراد لهذا اليوم أن ينتهي بأي طريقة حتى يعود إلى بيته ويري أطفاله والخوف على مستقبلهم يحثه للعمل بدون توقف، وربما لقتل ضميره.. أراد هذا اليوم بعد الحزن وتأنيب الضمير أن يشارك أحداً في هذه المصيبة، فذهب إلى بيت الدكتور كاظم، الذي وجده جالساً في الدار ويوسف بين يديه :
– كاظم.. هل قرأت الصحف هذا اليوم؟
– نعم.
– وهل تعرفت على العائلة العراقية التي انتحرت في جبل اللوبيدة؟
– وهل من المفروض أن أعرف جميع العراقيين الموجودين في عمان؟
– بل تعرفهم!.. لقد زارنا هذا الرجل في المكتب من بضعة أشهر.. اسمه رعد، قال بأنه مهندس كان يعمل في مؤسسات التصنيع العسكري في العراق!
– آآآ… أجل لقد تذكرته الآن.
لم يبدُ على كاظم أي تأثر أو حتى إحساس بالدهشة .. ظلت عيناه الميتتان بلا مشاعر.. حاول عيسى الأمين أن يوغل أكثر في تفاصيل الفاجعة ، عله يسمع شيئاً من ضميره .. نداءً ما .. كالذي سمعه هو !..
كان في إمكاننا أن نمد له يد المساعدة يا كاظم.. كان بإمكاننا أن ننقذ هذه الأرواح البريئة من الموت على هذه الطريقة البشعة!.. رباه، كم أشعر بتأنيب الضمير، بل بالذنب!.. لقد وقع الخبر علىَّ كما الزلزال الذي يقتلع مدينة في ثوان !
اهدأ.. اهدأ.. فلا ذنب لنا ، نحن مهربين من ضمن عشرات المهربين الذين يعملون في هذه المدينة .. لكل منا طريقته وأسعاره .. أعتقد بأنه قد عرض علينا ستة آلاف دولار فرفضنا ، لكن هناك غيرنا من يقبل بمثل هذا السعر وأنت تعرف هذا تماماً .
شعر عيسى الأمين ببعض الارتياح من هذه البديهة التي عرضها عليه كاظم ، والتي هي حقيقة، فهناك من يقبل بأقل من هذا السعر .. لكن السؤال الذي يؤرقه يبقى : هل كان شعوره بالارتياح نابعاً من هذه الحقيقة ، أم أنه كان كإبرة المورفين التي تعطى للضمير حتى يغرق في السبات الأخرس!!.. لكن من يستطيع أن يصمت هذا السؤال الملعون !
اسمع عيسى .. لسنا المسئولين عن العالم ، وكذلك لسنا بالمصلحين الاجتماعيين .. نحن نعمل سوياً منذ عامين بنجاح .. ويجب أن تتعلم كما تعلمت أنا .. إنه في عمل كهذا الذي نقوم به لا وجود لشيء اسمه الرحمة !.. نحن نعرض بضاعة غالية الثمن اسمها .. الحرية .. ومن يرغب في شراء حريته عليه أن يدفع ، حتى هذا الرجل الذي قتل عائلته وانتحر ، قد دفع ثمن الحرية التي أرادها حتى لو كان هذا الثمن هو الموت نفسه!.. ليس هذا شأننا .. هناك الكثير من المهربين غيرنا يعرضون أسعاراً أقل لنفس البضاعة التي نروج لها .. الحرية .. لكن طريقتنا هي الأكثر ضماناً ونحن لم نغش أحداً أو نسلبه ماله .. أليس كذلك ؟
أجاب يوسف مؤيداً ولو بخجل، بعد أن شاهد أن عيسى الأمين قد ألجمه الصمت.. مد كاظم يده مداعباً رأس يوسف، كما الكلب المدلل. قال عيسى الأمين لنفسه – إذا كان د. كاظم العراقي المسلم، ويوسف العراقي المسيحي ، لم يبديا ذاك التأثير والحزن ولا حتى التعاطف مع الحدث.. فلماذا ينخر النمل في ضميري ولا يجعله يهدأ؟..
أسمع يا عيسى.. لقد استجدت بعض الأمور غير السارة!.. مما يحتم علينا أن نكثف جهودنا ونسابق الزمن، فلقد اتصلت بالأمس مع جماعتي في بلغراد، وقالوا بأن الأحداث السياسية هناك تتسارع بشكل لا يبشر بالخير بالنسبة إلى عملنا.. الحرب الأهلية اليوغسلافية قادمة بلا شك، لكن السؤال متى؟.. على هذا الأساس أرجو منك أن تهيئ لنا أكبر عدد من الرؤوس البشرية خلال هذا الشهر، وإذا خدمنا الحظ، الشهر الذي يليه أيضاً.
– يا يسوع!.. لماذا تتسارع الأخبار غير السارة هذا اليوم؟!
– كما أني أود أن أخبرك بصفة صديق، أني قررت الاستقرار بعد الانتهاء من عملنا هذا في سويسرا بصورة نهائية..
استدار نحو يوسف، ولأول مرة يشاهد عيسى الأمين بريقاً ما في عينيه الميتتين ، أشبه ما يكون ببريق المحبين!
سآخذ يوسف معي .. سيرحل مع أول مجموعة إلى بلغراد.
انتفض يوسف الجميل كالطائر المبلل من الفرح .. فكاظم لم يبلغه أي شيء طوال هذه الفترة ، وهذا هو أسلوبه .. في اللحظة الأخيرة !.. غشى الحزن على عيسى ، فهو لا يستطيع أن ينكر بأن كاظم هو شريك رائع في العمل ، ولولاه لما استطاع أن يجمع كل هذا المال في خلال سنتين اثنين !.. نظر إلى يوسف وشعر بالأسى على هذا الفتي الجميل .. فيا ترى أي مصير ينتظره مع هذا الشخص المجهول .. والخطر!!
– صحيح يا كاظم؟.. هل سأرحل مع هذه المجموعة؟
– أجل لقد آن أوان رحيلك إلى يوغسلافيا ، وهناك سيقوم بعض الأصدقاء لي بتهريبك إلى سويسرا ، حتى تحصل على الإقامة .. لن أتركهم يأخذونك إلى مخيمات اللاجئين ، بل ستسكن في شقتي حتى أنجز أعمالي هنا وألتحق بك .
أراد يوسف أن ينفجر من الفرح ، لكنه قرر أن يسيطر على أعصابه قدر الإمكان .. فهذه هي الفرصة التي انتظرتها طويلاً.. على أن أحافظ على هدوئي ولا أبدي أي اعتراض على كلامه.. يجب أن لا أدعه يلحظ أي انفعال أو أي كلمة يستدل بها على حقيقة نواياي !.. إنه في غاية الذكاء، وأكثر ما أخشاه منه هي عيناه اللتان تتوغلان في أعماقي كما تمضي السكين في قالب الجبن الطري !.. سأتظاهر بالفرح وحسب ، وبمجرد وصولي إلى سويسرا .. سأهرب !.. لن يوقفني أحد عندها ، المهم الآن أن يبقى هذا المعتوه على اعتقاده الراسخ بأني أبادله الحب وبأني أريد أن أبقي معه إلى النهاية !.. لا بأس أن يبقي على اعتقاده بأني راضي أن أذهب معه إلى الفراش كل ليلة كما الجارية .. هناك عندما أحصل على حريتي ، سأنتفض على هذا الدور .. هناك سأكون أنا .. يوسف .. سأذهب إلى المدرسة وأدخل إلى الجامعة .. سأكون الشخص الذي أريده .. سأرفض وصاية الجميع ، حتى أمي التي اضطرت للزواج من رجل يكبرها كثيراً في العمر .. لن أعود إليها .. لن أضطر بعد يومي ذاك البعيد أن أمارس اللواط.. لم تمنحني الحياة فرصة لأن أكون رجلاً حقيقياً.. أكاد أختنق تماماً من الدور الذي وضعني فيه الجميع كل حسبما يشتهى!.. كم بكيت وصليت لأمنا العذراء أن تنقذني من جحيم الأردن وجبروت كاظم.. يبدو أخيراً أنها قد استجابت لدعائي وسمعت صوت بكائي .. أحب أمي لكني لا أريد الذهاب إليها.. لا أريد أن أعود طفلاً صغيراً.. أريد أن أكبر.. أن أكون رجلاً.. سأمنح نفسي فرصة معاشرة النساء هناك.. أحلم أن أعيش في بلد يمنحني فرصة لأكون إنساناً .. فتاة جميلة أحبها.. أمارس الجنس معها واسحقها بجسدي بعد أن مللت أن السحق تحت أجساد الآخرين!.. يجب أن أسيطر على توتري وأن أبدي الطاعة التامة، ليبني خططه ويشيد أحلامه فوق جسدي المسحوق المهان.. لكنه سيدرك معني أن تتحطم الأحلام في لحظة.. سأعلمه كيف يحزن عندما يسمع خبراً مؤلماً كخبر انتحار العائلة العراقية والذي برأ نفسه من ذنب دفعهم نحو هاوية اليأس .. أقسم بك يا سيدة العذارى!
نظر عيسى الأمين إلى ساعته التي كانت تشير إلى الثانية عشر ليلاً ، وهو الذي وجد في يومه هذا أطول أيام حياته والذي كان راغباً في إنهائه بأي شكل .. ثم تطلع إلى الوجوه التي بدأت تتلاشى داخل الستار الكثيف من دخان السجائر .. وقال بشيء من الاعتذار :
– يبدو أن السيدة أحلام لن تأتي هذا اليوم !
التفت نحو د. كاظم يسأله رأيه .. فقال هذا وهو ينهض..
– بدونها لا نستطيع السفر.
برلين
28/12/2002