أقبلت أخيراً سيارتهم الصغيرة تتهادى فوق الشارع النحيف الممتد حتى أكثر الأماكن وحشة ، في قفر مغبر في ديالى حيث كانوا : الرجل القصير الأربعيني العمر ، والثلاثينيان الملتحيان النحيف والبدين ، والشاب اليافع ذو العينين الواسعتين ينتظرونهم وقت الغروب على جانب الطريق ، وأسلحتهم تحت ثيابهم منذ نحو ثلاث ساعات. وسيارتهم مركونة في مكان قريب بعيداً عن الأنظار .
ما إن لمحوا السيارة تقبل نحوهم حتى طار منهم تململ ساعات الإنتظار ، في حر تموز الشديد . هب الثلاثينيان من جلستهما على مقربة من الشارع ، واستعد الرجل القصير الذي لمعت عيناه متحسساً مسدسه ، أما الشاب فقد ارتعدت أوصاله .
في ما كانت السيارة تزداد اقترابا وتتضح منها شيئاً فشيئاً ملامح راكبيها الأربعة توزع الرجال على جانبي الشارع ، الرجلان القصير و البدين إلى اليسار والآخران إلى اليمين . في تلك اللحظات هبت ريح خفيفة حارة حركت اطراف ملابسهم ، وبعضاً من الرمل حولهم ، والغبار من على الإسفلت .
انكمش الشاب على نفسه أكثر ، وهو يقف إلى جنب الرجل النحيف ويتطلع بعينيه الواسعتين إلى رفاقه تارة ، وإلى السيارة التي باتت على بعد أربعين متراً تارة أخرى .
أخرج الرجل القصير مسدسه ، وهيأه للاطلاق ، تبعه الملتحي البدين بأن أخرج بندقيته الأوتماتيكية الصغيرة ، فعل ذلك النحيف أيضاً ، بلع الشاب ريقه وأخرج مسدساً من حزامه كان يخفيه تحت قميصه الكالح، استعدوا جميعاً للحظة الصفر ، السيارة الآن على بعد عشرين متراً ، خمسة عشر ، شهر الرجال اسلحتهم على الراكبين ، صاح الرجل الصغير بصوت عال جداً ، وهو يوجه سلاحه صوب السائق :
– لا تتحرك … وجه الملتحيان سلاحيهما على السيارة ، وتبعهما الشاب .
أوقف السائق السيارة أمام المسلحين وجعل ينظر إليهم ، هو والثلاثة الآخرين بنظرة تنطوي على ذعر ، وإندهاش بالغين .
عاد القصير إلى الصياح :
– انزلوا …
كان المسلحون قد أحاطوا بالسيارة ، وأنزل كل منهم راكباً ؛ القصير انزل السائق ، كان شاباً في منتصف العشرينيات ، وسيماً ، أسمر ، معتدل الطول ، يرتدي نظارة طبية خفيفة ، في حين انزل النحيف الراكب الى جنب السائق ؛ كان يشبه السائق شبهاً كبيراً ، ذات الوجه ، والقسمات ، والهيئة ، ويبدو بالعمر نفسه إن لم يكن أصغر بسنة ، أو اثنتين . أما الثالث الذي وضع الملتحي البدين المسدس على صدغه في ما كان ينزل من مقعده خلف السائق فكان أصغر بنحو خمس سنوات من الأثنين السابقين، كان طويلاً وأكثر سمرة منهما لكن له الملامح ذاتها . الرابع تولى أمره الشاب كان صبياً في التاسعة أو العاشرة ، أسمر كالآخرين ، ضعيف البنية ؛ أقتاده الشاب ذو العينين الواسعتين إلى حيث أوقف المسلحون الثلاثة الأخرين على جانب الإسفلت .
لم يكن الركاب الثلاثة قد تلفظوا بأية كلمة لكن أكبرهم ، السائق الذي سقطت نظارته الطبية حينما كان الرجل القصير يقتاده من السيارة سأل -وهو يتوسط الثلاثة الآخرين بعد أن انضم إليهم الصغير – المسلحين الأربعة الذين وقفوا قبالتهم عن ما يجري.
– أسكت …
صاح القصير بقوة ، وبغضب ، وسأل السائق بعد أن غير نبرة صوته لتغدو تقريرية حيادية :
– أنت بهاء نوري حسين راضي ؟
– نعم . أجاب الشاب
– وأنت علاء نوري حسين راضي ؟
سأل الشابَ القريب من عمر بهاء
– نعم .
– وأنت لقاء نوري حسين راضي ؟
سأل الشاب الطويل
– نعم .
أجاب لقاء ، وعاد القصير ليسأل بهاء ، وهو يؤشر بمسدسه على الراكب الصغير :
– وهذا الصغير ؟
– أخونا نورس .
هزَّ القصير رأسه هزة لم يكن لها من معنى محدد ، نظر إلى الشاب المسلح وقاده بعينيه الى نورس الذي كان بمواجهته ، كان الصغير ينظر إلى ما حوله برعب وفزع، أخذه الشاب من جوار الثلاثة الآخرين إلى المكان الذي كان يقف فيه جنباً إلى حنب مع المسلحين الآخرين ، تراجع الرجل القصير أربع خطوات فتبعه الملتحيان و الشاب الذي كان يمسك بذراع الصبي ، باتت المسافة بين الصفين نحو سبعة أمتار ، عادت الريح الخفيفة في ثانية صمت إلى الهبوب وهي تحمل معها حرارة الأرض التي كوتها شمس تموز في حين غاب نصف قرص الشمس فأحمر افق ذلك القفر حيث كانوا. زاد انكماش الشاب على نفسه وانتصب شعر جسده .
فتح الملتحيان نيران سلاحيهما على الشباب الثلاثة بإشارة من القصير، استمر إطلاق النار بضع ثوان ، سقط الشباب بعد أن اهتزت أجسادهم وتضرجت بالدماء، كان صوت الأسلحة وهي تطلق الرصاص قوياً ، اختلط بصيحات الضحايا التي نخرها الرصاص . في أثناء ذلك كان القصير يتابع ما يجري بعناية ، فيما كان الملتحيان يوزعان الرصاص على اجساد الثلاثة بالتساوي. أما الشاب فكان مذهولاً إزاء المشهد الذي يرتسم أمام عينيه الواسعتين فيما شلت الصدمة والخوف الصبي الذي ترقرقت الدموع من عينيه وهو ينظر الى اخوته يقتلون .
تقدم القصير إلى الجثث التي ارتمت الى جانب الأسفلت، حاذر أن تتلطخ حذاؤه بالدماء. راقب الجثث. كانت ثمة حياة في جسد علاء، تراجع قليلا ، ثم أطلق النار على رأس الضحية .
غادر الأربعة المكان ، صعدوا سيارتهم التي لم تكن بعيدة ، عطفها النحيف بإتجاه الشارع ، صارت قريبة جداً من سيارة الضحايا المشرعة الأبوب ، وفي ما انطلقت سيارتهم مخلفة وراءها الصبي الصغير عند جثث إخوته والظلام يخيم من حوله على ذلك القفر ، قال الشاب بتردد من مقعده خلف الرجل القصير حيث يجلس جنب السائق:
– كان المفروض أن ما انخلي الصغير يشوف العملية !
مضت لحظة صمت .
ثم هز القصير رأسه من دون أن يلتفت كمن تعلم درساً .
بغداد