ابتسامة

لقد كان صرير الثلج من تحت اقدامه الثقيلة يبعث شعورا ً غريبا ً بالوحشة , وسط هذا الجو الرمادي , حيث تختنق الأشياء بالضباب , ودخان السيارات , وزفير العابرين , كأن كل الكون أدمن على التدخين , ولا يعلم أنه سبب ٌ رئيسي في نهاية ٍ ربما ستكون محسومة لعالم به الموت وسيلة رائعة للتعبير عن الذات.

 

إن بداية كل يوم تحت رؤى الأرض البيضاء المغطاة بالجليد لهو جدير بأن يكون نقيا ً , وهو ينازع باقي الألوان التي تهرب بكل اتجاه في تلك اللحظات من ساحة ذلك اليوم الجدي , وقد تحول به البشر إلى أدوات تتحرك لإداء هدف محدد , يصلون اليه في وقت محدد , وهم يضعون أيديهم في جيوبهم , وتختبئ آذانهم تحت قباعاتهم ذات الألوان الزاهية , لتعلن أمتعاضها من بلادة اللون الثلجي , وهو يغطي الصخور الصماء بلونها الأسود واطرافها الحادة.

     

أما هو فككل الناس أداة من تلك الأدوات , يسير من نقطة في غاية الدقة إلى نقطة في منتهى الدقة , لايعكر مسيره شيء , لا المواصلات , ولا التذاكر , ولا لقاء صديق , ربما سيعطله عما يروم أن يفعله , وبجيبه دفتر مواعيد (الترام) , الذي سوف يستقله. أي شيء يمكن أن يحدث ليس له قيمة بالنسبة إليه , لأن هدفه واضح! وقد سخر تفكيره لذلك الهدف البليد الذي يكرره كل يوم بشيء من الكلل. أما خياله ففي عالم آخر , يتوق به لدفء (صوبة شتوية) , وعليها أبريق الشاي بصوته الذي يعكر مزاج الأحاديث الممتعة , الفارغة من كل معنى بين أبناء العائلة الواحدة , وهم يتحدثون عن كل شيء الا المستقبل فهو شيء لايملكونه! وليس لهم الحق بأن يفكروا فيه , لأنه ببساطة شديدة يصنع من قبل أناس آخرون ! وقد دفعتهم الأقدار أن يكونوا صانعي مستقبل زاهر وهم لايملكون الا الذكاء. و في لحظة تسائل يعود بها أثناء المشي , إلى نفسه! هل يكفي الذكاء لبناء مستقبل ما؟ وأين ذلك الذي يسمى خيال , ذلك الطائر المحلق في فضائات من الأشكال , ليبني صورا ً رائعة لكل شيء , حتى المسافات الزمنية التي تلوح أمام عينينا , حقا  ً إنه عالم من الأبداع.

 

لايوجد شيئا ًاشد من برودة ذلك الطقس الكئيب , بأشجاره الحزينة , الا المشاعر الباردة , التي يحملها الراكبون بذلك (الترام) , وهم يذهبون لأعمالهم. فتذكر أيام التحاقه بوحدته العسكرية بعد أنتهاء الإجازة المقررة سلفا ً. أن تلك الوجوه الجميلة التي تحيطه في ذلك  (الترام) تحولت إلى سيوف حادة براقة, تشع ضوئا ً مميزا ً, وملئها قسوة من نام بلا حلم عاشه ليلة البارحة. كل شيء في وجوم ثابت كالصخر كإن على رؤوسهم الطير لايتحدث أحدهم لأحد ٍ بشيءٍ , سوى حديث العيون الخضر التي تملأ المكان ببهجة من الألوان المتنوعة. لقد كان يحدث نفسه عن عالم فضي وهو يلتهم الخضرة عبر النافذة المضببة بدخان أنفاس الراكبين. أما الصمت فمازال يسود! فلماذا لايسود وقد تحول البشر إلى أصنام فاغرة الوجوه , وهم يقرئون الجرائد بحثا ً عن متعة لقضاء وقت قد حُدد سلفا ً, من قبل شركة النقل , وهم لادخل في تحديده , ولايستطيعون تغييره بشكل من الأشكال.

 

 كل شيء رتيب سلفا  ً, إلا شيئا ًواحدا ً! كل شيء يعج بالصمت الجهوري , إلا شيئا ً واحدا ً, ربما هذا الشيئ سيغير العالم؟ وهو يتسائل محني الرأس , ينظر إلى الأرض مطرقا ً.

لقد كان ذلك الشيء يتحرك بشغف , وهو يضرب بيديه الناعمتين الصغيريتين على النوافذ الزجاجية , وقد طبع كفيه عليها , محدثة طبعة لكفين كإنهما تعويذة تبعد القلق عن وجوه الراكبين. لقد كان صوته حادا ً وهو يريد أن يتحدث لأحد ما , كإن بداخله شيء يريد أن يقوله! لقد كان ممتعضا ً في نفس الوقت الذي كان به سعيدا ً سعادة ً بلا حدود. إن عينيه رائعتين وهما مسحوبتان كإنما بتصنع للجانبين , لتحدد هويته التي لم يعرفها بعد!  ربما من أقاصي الشرق الآسيوي؟ صيني , أو كوري ,أو فليبيني. إنه طفل وديع وقد كسر الصمت بشغف كبير ليقول إنكم أيها البلهاء لاتستطيعون أن تصنعوا السعادة بأعمالكم عندما تذهبون لدوائركم , ولمعاملكم الجامدة , إلا من لهيب الآلآت, وأنتم تصنعون أدوات الرفاهية والسعادة لكل البشر. أن هناك شيئا آخر يمكن أن يجعل كل العالم سعيدا ًأيها البلهاء , فقط أنظروا الى دواخلكم , وابحثوا عن شيء مفقود أنتم بحاجة إليه, ليلون ملامح وجوهكم البائسة.

يضرب الزجاج تارة ً, ويضرب وجه أمه تارة ً أخرى , وأخيرا ً لم تصمد الفتاة الملتفة رقبتها الرقيقة بلفاف شتوي سميك بأن تداعبه , لتعلن الثورة على ذاتها , بأن هناك مايستحق أن تضحك من أجله! فداعبته وابتهج لذلك فانتقلت العدوى للآخرين! وهوا الذي تمنى أن يمسح لعابه الطفولي وهو يهدر على ثيابه الجميلة وقد تبتسم بوجه الفضي الذي لايمكن أن يُنسى. لقد كان أحد الواقفين صديقا ً قديما ً  له , لكن لم يشأ أن يحدثه بشيء وهو لم يشأ أن يحدثه أيضا ً؟ لكن صراخ الطفل جعل الوجوه تتقابل ولامفر على الأقل من السلام ولو ببرود.  لقد تحرك المكان وسط العدوى التي أحدثها الطفل , وأرتسمت الوجوه بملامح الابتسامة الممتلئة شوقا ً للحلم ,  وسط عالم الطفولة الزهي , الذي يمكن أن يغير كل شيء في هذا الكون , ويحول العالم لشيء أكثر جمالا ً وروعة. لقد داعب الطفل كل من كان راكبا ً في (الترام) تقريبا ً , وجعل تلك الأصنام تتحرك كإنها تلقت أرواحا ً من عالم سحري لايعلم مصدره! ونُفثت الروح بتلك الأطراف الباردة , لتصير دافئة بما تحمل من لهيب.

 

كل شيء تحول إلى حركة دائبة , وهي تشق جدار البلادة الذي لفه الضباب. إلا ذلك الطفل فقد صمت مذهولا ً كإنه أدى مهمته التي كان عليه أن يؤديها , فهو لايختلف عنهم بشيء! فله مهمة أيضا ً؟ ليتحول هذا العالم أجمل ببتسامته, وبذهابهم إلى معاملهم , ومدارسهم , ودوائرهم أكثر نشاطا ً. لقد صمت بعد أن شعر أنه الوحيد الذي كان شاذا ً بينهم , وأصبح  شاذا ً حتى بعد صمته أيضا ً. وعند نقطة الوصول ولما فُتح باب (الترام) كانت الشمس قد أشرقت عبر النوافذ الزجاجية , وهي تزيح الضباب بهدوء. لقد أنقضت مسافة الضباب ولم يشعر بها أحد , وسط قهقهات الطفل وابتسامته العريضة , وأشرقت الشمس في الأخير كأن شيئا ً لم يكن.  أدرك حينها أن ابتسامة طفل صغير يمكن أن تغير عالم لاتستطيع أن تغيره أصوات الأسلحة , وهي تمزق الأجساد لصناعة مستقبل جميل , لايلائم الانفرا ً يسيرا ً من أناس مجانين.

 

 

عماد رسن

 

 

 

عن عماد رسن

 

السويد

 

Imad_rasan@hotmail.com

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *