كنت أرتشف الشاي بتلذذ في مطبخ بيتي المطل على الكراج ، في ما كانت زوجتي ترفع أطباق الفطور من على المائدة ، كان البيت هادئاً ، وهو هكذا كلما كانت الصغيرات الثلاث في السرير، القيت نظرة كسلى على سيارتي في الكراج ، بدت منتشية هي الأخرى بيوم الإجازة ، سترتاح من الزحام ، والضجيج ، ورائحة الموت التي تملأ المدينة ، والمواكب السريعة التي تمرق الشوارع ، لفتت إنتباهي طابوقة على سقف سيارتي ، دققت النظر ، إنها طابوقة بالفعل تلوح أسفلها ورقة صغيرة ، شعرت بأن دقات قلبي تتسارع ، هرعت إلى الكراج ، رفعت الطابوقة ، أخذت الورقة ، قرات سطورها الأربعة على عجل ، كانت إنذاراً يمهلني يومين لترك داري وإلا فالموت مصيري وقد أعذر من أنذر، وجدت نفسي اتذكر للمرة الثانية في أقل من أربع وعشرين ساعة قصة غائب طعمة فرمان القصيرة التي تصور عجوزاً أمياً صبيحة يوم ما يجد على باب بيته كتابة ، يحار فيها حتى قرأها له عابر ، كانت كلمة واحدة : شيل . تذكرتها للمرة الثانية لإن جاري ، وهو من الطائفة الأخرى تلقى أمس تهديداً بالقتل ما لم يغادر داره ، لم يخطر ببالي أبداً أني سأكون في موقفه أبداً ، ربما بسبب ذلك الوهم المتأصل في الأنسان الذي يجعله يقول لنفسه : أنا ، لا ، لا يمكن أن يحدث لي شيء . صرفت عن ذهني هذه الافكار ، في أية حال أنا ، أعدت قرأءة الورقة بإمعان أكبر ، بدا خطها صارماً ، وفظاً ، فثارث ثائرتي ، قررت أن أتحدى هؤلاء الذين يهددون الأسر الآمنة ، ويجبرونها على ترك بيوتها راحلة نحو المجهول ، غير أني سرعان ما هدأت ، وانا أفكر بمصير زوجتي وصغيراتي لو أني انضممت إلى أكداس الجثث مقطوعة الرؤوس التي يعثر عليها في كل مكان ، ما الحل إذن ؟ بالتأكيد إنه عمي وفي الوقت نفسه والد زوجتي الذي ليس لي في بغداد غيره والذي يساعدني من دون كلل في كل النائبات التي مرت عليّ . خبأت الورقة عن زوجتي مثلما خبأت كل ما كان يجول في خاطري آنذاك ، قلت لها إنني ذاهب لعيادة أحد الأصدقاء وسأعود سريعاً ، استغربت لأني لم أحدثها عن هذا الأمر ، ولأني أخبرتها بأني سأقضي يوم إجازتي في المنزل ، لكنني تحجت بالنسيان ، و أبدلت ملابسي على عجل ، وقدت سيارتي متوجهاً لمنزل عمي في الناحية الأخرى من المدينة .
رحت أفكر وانا أقود سيارتي بالحال التي الت إليها ، قبل قليل كنت أعيش مستقراً لا عليّ ، ولا ليّ ، كما يقول الشاعر ، أما الآن فأنا مهدد ، أحاول أن أجد لي ولعائلتي مأوى ، ياله من عقاب على ذنب لم أرتكبه ، كريه جداً أن تتحمل أخطاء لم تجنها يداك ، لكن السؤال المهم هنا : كيف سيساعدني عمي ؟ إنه سيساعدني حتماً فأنا ابن أخيه ، وزوجتي ابنته ، ولكن كيف ؟ هل سيمكنه حشرنا وبناتنا الثلاثة في بيته المكتظ بالأبناء والبنات والأحفاد ، ولكن أين سنذهب بأغراضنا ؟ ألديه مال يسلفني إياه لكي أجر بيتاً أو شقة . بدت المسافة طويلة طولاً مسرفاً ، وأنا أعبر جسر أحزاني متوجهاً للضفة الأخرى لنهر لا يكثرت بما حوله .
بدت المدينة مغبرة هذا اليوم أكثر من أي يوم من أيامها السود ، على الرغم من أشعة الشمس التموزية التي كانت تندلق عليها شلالات من ضوء حارق ، ينعكس بقوة على الشوارع والأرصفة والعمارات فيجرح العين والقلب، التففت بإتجاه أقل الشوارع إزدحاماً ، ورحت اتأمل ، وأنا خلف مقودي حياتي الماضية بأسرها فترآءت لي سلسلة من أحزان ، وكوارث ، وآلام متواصلة، لم ينجح في كسر حلقاتها سعيي الدؤوب إلى الإبتعاد عنها قدر الأمكان ، ما زال العالم منذ أدركته يضيق من حولي ، والحياة تنحسروتذوي ، سائرة بوتيرة متسارعة من سيء إلى أسوأ ، فيما الموت يستولي كل يوم على مساحة مضافة من المدينة .
وصلت بيت عمي أخيراً ، ركنت سيارتي عند الباب ، بدا لي المنزل مقفراً كئيباً كهذا اليـوم المشـؤوم ، طرقت الباب وأنا أحس بالخجل لأني جئت بمشاكلي لاثقل بها على عمي ، وقفت انتظر برهة بدت لي دهراً فتح عمي الباب الداخلية وخرج مرتدياً ملابس الخروج ، ونظارته الطبية على عينيه ، مسرعاً بقامته المتوسطة ليفتح لي الباب ،
بادرته ، ونحن ما زلنا عند عتبة الباب الداخلية بأن لدي أمراً مهماً ينبغي أن أطلعه عليه ، شعرت من نظرته عبر عويناته الطبية أن نبرة صوتي وأنا أنطق هذه الكلمات حملت له إشارة بخطورة ما جئت إليه من أجله ، لكنه قال لي بأن لديه هو أيضاً أمر يريد أن يقوله لي . أدخلني مباشرة إلى غرفة الضيوف ، موفراً علي التحية التقليدية لأفراد الأسرة التي لم أكن لأطيقها اليوم . سألني ونحن نقعد على إحدى الأرائك عن الامر المهم ، فالتوى لساني ، لم أشأ أن اضنيه وأنا في هذا العمر الذي عبرت في الثلاثين ، وهو في هذا العمر الذي تخطى فيه الستين بأعبائي ، لكني كنت مضطراً ، عاد يسأل بنفاد صبر ، فزاد اضطرابي فتحدثت بجمل مبعثرة عن ورقة تهديد ، فأخبرني بأنه يعرف بالتهديد الذي تلقاه جاري ، طالباً أن أدخل في صلب الموضوع ، فقلت له إنني أنا الآخر تلقيت صباحاً الطرد ذاته . هنا جمد عمي لحظة ، ووهو ينظر إلي نظرة حائرة ، تركته للحظات ليستوعب ما قلت بعدها أخرجت له ورقة التهديد برهاناً على ما قلت ، راح يقرأ الورقة على مهل ، وضع عمي الورقة على طاولة صغيرة امامه ، واتكى قليلاً خالعاً عويناته وسألني بطريقة احسست أنها تضمنت اختباراً لي في هذا الموقف ، عن رأيي بما يجب ان أتصرف فأجبته – على نحو بدا كأن شخصاً غيري هو الذي يتحدث وليس أنا – الحل هو أن نسكن عندك في الأيام القليلة المقبلة إلى أن نتدبر أمرنا . ما إن انهيت جملتي حتى جعل عمي يضحك ضحكاً قوياً ، لم يسبق لي أن رأيته طيلة حياتي يضحك هكذا، رأيت الدموع تملأ عينيه من فرط الضحك ، استولت عليّ الدهشة ، من تصرفه ، وأحسست أيضاً بالإهانة ، وفيما كان يمسح الدموع من عينيه وهو يبتسم ويهز رأسه ، أخرج من جيب قميصه قصاصة صغيرة ، وأعطاني إياها مع إيماءة حثني فيها على قراءتها ، وما إن فعلت ذلك حتى جلجلت ضحكتي أنا الآخر، فعاد عمي إلى الضحك !